عشرة النساء (5)

برنامج فقه الأسرة

الحلقة التاسعة والعشرين

(عشرة النساء 5)

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمد وعلى آله وصَحبِه أجمعين.

أمَّا بعدُ:

فمستمعيَّ الكرام، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بكم في حلقةٍ جديدة من حلقات برنامجكم "فقه الأسرة"، وفيها وفي حلقاتٍ تَلِيها نُواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن أحْكام العِشرة بين الزوجين، وسبَق ذكر ثماني مسائل في أحكام العِشرة بين الزوجين.

أمَّا المسألة التاسعة فهي:

أنَّه يستحب للزوجة أنْ تصبر على حالها مع زوجها، حتى لو كان في ذلك شيءٌ من التَّعب والمشقَّة؛ إمَّا لضيق ذات يده، أو لكونه بخيلاً، أو لكونه ذا خلقٍ سيِّئ، وكما يُنصَح الزوج باستحباب إبقاء الحياة الزوجية وتحمُّل تقصير الزوجة في بعض الأمور؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، فكذلك تُنصَح الزوجة بتقبُّل نقْص زوجِها والتعايُش مع حاله، رَغبةً في إبقاء عُرَى الزوجيَّة، وتلمُّسًا للمصلحة في تحقيق بعض المصالح في الحياة الزوجيَّة، ولا يلزم أنْ تجتمع كلُّ المقاصد المنشودة في الزواج؛ إذ إنَّ الكمال عزيزٌ، والحياة الزوجيَّة لا تنفصمُ عُراها بإخلال الزوج ببعض الواجب عليه، والحياة دارُ كبدٍ ونكدٍ، ولا بُدَّ من حُصول شيءٍ من المكدرات التي تُعكِّر صَفْوَ الحياة الزوجيَّة، وقد ضربت لنا أمَّهات المؤمنين - رضي الله عنهن أجمعين - مَثَلاً رائعًا في تحمُّل شظف العيش وقلَّة ذات اليد، حتى إنَّه ليَمرُّ ببيوت النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - شهران لا يُوقَد فيهما نار، وإنما يكتَفُون من الطعام بالأسودين: الماء والتمر، كما ذكرَتْه أم المؤمنين عائشة - رضِي الله عنها - ففي الصحيحين عن عروة عن عائشة - رضِي الله عنها - أنَّها كانت تقولُ: والله يا ابن أختي إنْ كنَّا لننظُر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلَّة في شهرين، وما أُوقِدَ في أبيات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نار، قال: قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء، إلا أنَّه قد كان لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جِيرانٌ من الأنصار، وكانت لهم مَنائح، فكانوا يُرسِلون إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ألبانها فيسقيناه.

وها هي الشريفة الحسيبة فاطمةُ بنت النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي الله عنها - تصبرُ على الحياة مع زوجها عليٍّ - رضِي الله عنه - رغم قلَّة الزاد واضطرارها للعمل بيَدِها، حتى أتت النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تشكو إليه ما تَلقَى في يدها من الرَّحى؛ رواه البخاري.

وفي أمَّهات المؤمنين وبنتِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي الله عنهن أجمعين - القدوةُ الحسَنة لبناتنا وأخواتنا.

مستمعيَّ الكرام، أمَّا المسألة العاشرة: فهي حقُّ الزوجة في المبيت:

فمن حقِّ الزوجة على زوجها أنْ يبيت عندها؛ لما في ذلك من تحصيل المودَّة وتطييب العِشرة.

فإذا كان للزوج زوجةٌ واحدةٌ، فقد ذهَب جمعٌ من أهل العلم إلى أنَّ للزوجة حقًّا في مَبِيت زوجها عندها، [ذهب الحنفيَّة في الرواية الأولى والحنابلة وابن عرفة من المالكيَّة إلى أنَّ المبيت واجبٌ للزوجة على زوجها يلزم به الزوج].

واستدلُّوا بأدلةٍ منها:

1) قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: ((يا عبدالله، ألم أخبرْ أنَّك تصومُ النَّهارَ وتقوم الليل؟)) قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((فلا تفعل، صُمْ وأفطِر، وقُم ونَمْ؛ فإنَّ لجسمك عليك حقًّا، وإنَّ لعينك عليك حقًّا، وإنَّ لزوجك عليك حقًّا))؛ أخرجه البخاري.

ووجهُ الاستدلال: قوله: ((إنَّ لزوجك عليك حقًّا))؛ حيث أثبَتَ أنَّ للزوجة حقًّا، والحقُّ يشمَلُ المبيت.

2) حُكم كَعب بن سور حيث كان جالسًا عند عمر بن الخطاب فجاءت امرأةٌ فقالت: "يا أمير المؤمنين، ما رأيتُ رجلاً قطُّ أفضل من زوجي، والله إنَّه ليبيت ليلَه قائمًا، ويظل نهاره صائمًا، فاستغفر لها، وأثنى عليها، واستحيت المرأة، وقامت راجعةً، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، هلا أعديت المرأة على زوجها؟ - أي: هلاَّ أحضرت زوجها وحكمت بينهما - فجاء، فقال لكعب: اقضِ بينهما، فإنَّك فهمتَ من أمرهما ما لم أفهمْ، قال: فإنِّي أرى كأنها امرأةٌ، عليها ثلاث نسوة، هي رابعتهنَّ، فأقضي له بثلاثة أيام ولياليهنَّ يتعبَّد فيهنَّ، ولها يوم وليلة، فقال عمر - رضِي الله عنه -: والله ما رأيك الأوَّل بأعجب إلَيَّ من الآخَر، اذهَبْ فأنت قاضٍ على أهل البصرة، وفي رواية: "فقال عمرُ: نعم القاضي أنت"؛ [أخرجه بن عبدالبر في "الاستيعاب" ج3، ص 286 – 290].

قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: "وهذه القضيَّة انتشرَتْ فلم تُنكر فكانت إجماعًا"؛ ["المغني" 7/231].

أمَّا إذا كان للرجل زوجتان أو أكثر فيجبُ عليه أنْ يعدل بينهن في القسم، فلا يجوز أنْ يبيت عند إحداهنَّ دُون الأخرى; لقوله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 19]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾ [النساء: 129]، وتمييزه لبعضهنَّ عن بعضٍ في المبيت ميلٌ يدع الأخرى كالمعلَّقة، وقد حكَى إجماعَ العلماء على هذا ابنُ رشدٍ وابنُ عرفة المالكي وابن قُدامة وابن تيميَّة - رحمهم الله تعالى.

ومن الأدلَّة على ذلك: قولُ عائشة - رضِي الله عنها -: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: ((اللهمَّ هذه قسمتي فيما أملكُ، فلا تَلُمنِي فيما تملك ولا أملك))؛ [أخرجه ابن ماجه والنسائي والترمذي].

وحديثُ أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: "كان للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تسعُ نسوةٍ، فكان إذا قسم بينهنَّ لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسعٍ"؛ رواه مسلم.

وحديثُ أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن كان له امرأتان يميلُ لأحدهما على الأخرى جاءَ يوم القيامة أحدُ شقَّيْه مائل))؛ [أخرجه ابن ماجه والنسائي وأبو داود، وصحَّحه الألباني في "إرواء الغليل"، 7/80 - 81].

ولنعلم أيُّها الإخوة أنَّ الفُقَهاء اتَّفقوا على أنَّ للزوجة حقَّها من القسم حتى لو كانت في حالٍ لا يمكن فيه مُعاشرتها؛ لوجود المانع الشرعي كالحيض والنفاس، أو لكونها مريضةً ونحوِ ذلك؛ لأنَّ القصد السَّكن والأنس، وذلك يحصل بِمَبِيته عندها، ولو لم يحصل وطءٌ.

وعِماد القسمِ الليلُ والمبيت; لأنَّ الليل يأوي فيه الإنسانُ إلى منزله، ويسكُن إلى أهله، وينامُ على فِراشه مع زوجته عادةً، ومَن معاشُه في الليل كالحارس ونحوه فإنَّه يقسمُ بين نسائه في النَّهار، ويكونُ النهار في حقِّه كالليل في حقِّ غيره.

نسأل الله تعالى بمنِّه وكرمه أنْ يَرزُقنا السعادة في الدُّنيا والآخِرة، ونسأله - جلَّ جلاله - أنْ يهب لنا من أزواجنا وذريَّاتنا قرَّة أعيُن، إنَّه سميع مجيب، وإلى لقاءٍ قادم - بإذن الله تعالى - نُكمل فيه ما يتعلَّق بأحكام العِشرة بين الزوجين وأهم مسائلها.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.