مختصر الدروس في تزكية النفوس (22)

مختصر الدروس في تزكية النفوس

الدرس الثاني والعشرون

( السماحة )

التعريف: لغة: السماحة مأخوذة من مادة (س م ح)، وتعني: السلاسة والسهولة.

واصطلاحًا: بذْل ما لا يجب تفضُّلاً، أو هي: الجُود عن كرَمٍ وسَخاءٍ.

مكانة سماحة النفس في الإسلام:

لقد أَوْلى الإسلام سماحة نفس المسلم من العناية والاهتمام الشيءَ الكثير؛ كما دلَّت عليه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، فأكَّد على التزام العفو والمسامحة، وتجنُّب الإساءة والضرر؛ فقال سبحانه: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الجاثية: 14]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109].

وعن ابن عباس قال: سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الأديان أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الحنيفيَّة السَّمحة))[1]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله يحبُّ سَمْح البيع، سَمْح الشراء، سمْح القضاء))[2]، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا بعَث أحدًا من أصحابه في بعض أمره، قال: ((بشِّروا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا))[3].

مواقف مشرقة من السماحة:

1- عن أبي رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: استَسْلَف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بَكْرًا، فجاءته إبل من الصدقة، قال أبو رافع: فأمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أقضيَ الرجل بَكْرَه، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملاً خيارًا رباعيًّا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أعطِه إيَّاه؛ فإن خيارَ الناس أحسنُهم قضاءً))[4].

2- عن أبي هريرة أن رجلاً أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتقاضاه، فأغلَظ له، قال: فهمَّ به أصحابه، فقال: ((دعوه؛ فإن لصاحب الحقِّ مقالاً))، قال: ((اشتَروا له بعيرًا، فأَعْطُوه إيَّاه))، قالوا: لا نجد إلا سنًّا أفضلَ من سنِّه، قال: ((فاشتَروه فأعطوه إيَّاه؛ فإن من خيركم أحسنَكم قضاءً))[5].

3- الناظر في أخلاق قادة الفتوح الإسلامية، من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأُمرائه، ووُلاته وتلامذتهم، يَراهم أحرص الناس على الرِّفق والسماحة في تنفيذ العهود والمصالحات؛ مما جعل المُعاهدين والمصالحين، يتعاونون مع المسلمين في صِدقٍ وإخلاص، فساهَم ذلك إلى سرعة انتشار الإسلام أكثرَ المعمورة من الأرض، وهذا الأمر يُبرز لنا جانبين:

أولاً: إن هذه المبادئ والأخلاق تَنقُض الفكرة المُتعنِّتة الجاحدة بأنَّ الإسلام إنَّما فتَح البلدان بحد السيف، ونهَب الثروات والخيرات، واغتصَب الحُرمات، أو أنَّ هذه الفتوحات إنَّما هي إكراه الناس بقوة السلاح للدخول في الإسلام، والدليل على ذلك: مصالحات أبو عبيدة ابن الجراح - رضي الله عنه - لأهل الشام.

فقد صالَحهم على:

1- الإبقاء على معابدهم من البِيَع والكنائس داخل المدن وخارجها، مَصونة، لا يُهدَم منها شيءٌ.

2- وصالَحهم على حقْن دمائهم وحِفظ حياتهم.

3- وصالَحهم على الدفاع عنهم وحمايتهم من عدوٍّ يهمُّ بالاعتداء عليهم، وأن مَن قاتَلهم أو ناوَأهم، وجَب على المسلمين أن يُقاتلوه دونهم، ويَدفعوه عنهم بقوة السلاح.

ثانيًا: أنَّ هذه المصالحات التي تعتمد على الرحمة، والتي قامت على الرِّفق بأهل الذمة، كان لها أثرها الخطير الذي استهدَفه الإسلام من فتوحاته.

مظاهر سماحة النفس:

1- تَقبُّل أحكام القضاء والقدر بالرضا والتسليم؛ قال تعالى: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].

2- طلاقة الوجه، واستقبال الناس بالبِشر، يقول جرير بن عبدالله البَجَلي - رضي الله عنه -: ما حجَبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أسْلَمت، ولا رآني إلا تبسَّم في وجهي[6].

3- مبادرة الناس بالتحية والسلام، والمصافحة وحُسن المحادثة.

4- حُسن المصاحبة والمعاشرة، والتغاضي عن الهَفوات وتجاوز الزَّلات.

5- الابتعاد عن التكلُّف والتعقيد، وتقبُّل الواقع كما هو، لا كما يتخيَّله.

6- التنازل عند المخاصمة، وعدم التدقيق في محاسبة الناس الآخرين، بل الموضوعية والإنصاف في الأحكام.

وسائل الحصول على سماحة النفس:

1- أن يتأمَّل المسلم الترغيبات التي رغَّب الله مَن يتحلَّى بهذا الخُلق، والفوائد التي سيَجنيها صاحبها عاجلاً أو آجلاً.

2- الحذر من الوقوع في دائرة النَّكد والهموم والأحزان، وما يَجلبه عليه من مضارَّ ومتاعبَ وخسائرَ مادية ومعنوية.

3- التخلُّق بخُلق السكينة واللين والاعتدال، في مقابلة الأحداث والمواقف، والابتعاد قدْر المستطاع عن الشَّطط والتهوُّر.

4- توطين النفس على الرضا بقضاء الله وقدره، وأنَّ الأمور تمشي بمقادير مرسومة، ووَفْق الحكمة الإلهيَّة.

5- أن يأخذ العفو من الناس؛ أي: ما سمَحت به نفوسهم، وما سهُل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يُكلِّفهم ما لا تَسمَح به طبائعهم، ويشكر من كلِّ أحدٍ ما قابَله به؛ من قولٍ وفعلٍ جميلٍ، أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويَغض طرْفه عن نقْصهم.

يقول الشافعي:

وكنْ رجلاً على الأهوالِ جَلْدًا وشِيمتُكَ السَّماحة والوفاءُ وإنْ كَثُرتْ عيوبُكَ في البَرايا وسَرَّكَ أنْ يكونَ لَها غِطاءُ تَسَتَّرْ بِالسَّخَاء فكلُّ عَيبٍ يُغطِّيه كما قيلَ السَّخاءُ ولا تَرْجُ السَّماحةَ من بخيلٍ فما في النارِ للظْمَآنِ مَاءُ

ثمار سماحة النفس:

1- خُلق يحبُّه الله ورسوله، فيُضفيها الله على وجوه المؤمنين؛ لتكون لهم علامة مميزة في الدنيا والآخرة.

2- صاحب السماحة محبوب لدى أهله وعشيرته ومجتمعه، يُكثِر، فيَكثُر عليه الخير.

3- السماحة في البيع والشراء باب عظيم من أبواب كسْب الرزق وتكثيره.

4- نيْل السعادة وهناءَة العيش وراحة البال، وقلة المخاصمات.

5- السماحة في التعامل مع أصحاب الديانات الأخرى، تَجلب لهم الطُّمَأْنينة والأمن؛ مما يؤدي إلى حبِّهم للمتسامحين معهم ومُعاونتهم، ثم الدخول في هذا الدين.

المراجع:

1- لسان العرب؛ لابن منظور (3/ 99).

2- التعريفات؛ للجرجاني ص (160).

3- الأخلاق الإسلامية؛ للميداني.

4- تيسير الكريم الرحمن؛ للسعدي ص (313).

5- موسوعة الأخلاق الإسلامية: الدُّرر السنيَّة، سماحة الإسلام.