• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    تحليل محتوى المواقع الإلكترونية لحوادث انتشار ...
    عباس سبتي
  •  
    طلب طلاق وشكوى عجيبة
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
شبكة الألوكة / مجتمع وإصلاح / تربية / تهذيب النفس
علامة باركود

البحث عن الحياة

البحث عن الحياة
وليد سميح عبدالعال

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/6/2012 ميلادي - 28/7/1433 هجري

الزيارات: 21773

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

البحث عن الحياة


ما الذي حمل هذا الرجلَ الفَذَّ المسمَّى سلمانَ الفارسِيَّ على ما صنَع؟


أتُرَاه كان يَعلم ما سيجده، وما سيُعانيه، وما سيُلاقيه مِن الآلام، والمشاقِّ، وطول الأسفار، والبُعد عن الأهل والصِّحاب والأحباب؟


أتُراه ظنَّ أن الأمر سهل يسير، ما أن يبدأ فيه حتى يجد الهناءة والسعادة والراحة مِن كل عناء؟


ثُم:

أيُّ وَقود كان يحرِّك أعضاءه، ويُلْهِب عزْمه، ويقوِّي قلبه؟

 

وأيًّا ما كان الجواب، فالأمر المؤكَّد أنه كان يبحث عن الحياة الحقيقية.


•••


لقد بدأْتُ بالحديث عن سلمان، وما الحديث عنه بمقصودي؛ وإنما المقصود ما كان يبحث عنه سلْمان، والوَقود الذي تزوَّد به سلمان، والطريق الذي سار فيه سَلمان.

 

إنَّك واجدٌ مِن الناس مَن يكرِّس حياته للبحث عن شيء معيَّن، ويبذل فيه المال والوقت؛ بل وقد يَبذل مُهْجته وحياته؛ لأنه آمَنَ بأن هذا الشيء هو ما يُشبعه ويرضيه، ويَمنح ذاتَه السكينةَ والراحة، ويملأ نفسه بالسعادة والفرح.

 

وقد تختلف الأشياء التي يَبحث عنها الناس باختلاف مَشاربهم، وعلومهم، واتجاهاتِهم الفكرية والسياسية والدينية؛ فتجد الباحثَ في علوم الطبيعة والأحياء، والباحثَ في الرياضيات والفيزياء، والباحث في الطب والكيمياء، والباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، والباحثَ عن الفَنِّ والجمال في الأدب والشعر، أو غيرها من الفنون الغرْبِية الدَّخيلة علينا.

 

وربما كان البحثُ بحقٍّ أو بباطل، محرَّمًا، أو واجبًا، أو مكروهًا، أو مستحبًّا، أو مباحًا.

 

وبقَدْر ما أُوتي الإنسان مِن عقل وعلم وتجرِبة، وعزم وصبرٍ وحرص، يكون ما يحصِّله - بإذن الله - مما يريد، وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلق له، فالبعض خُلق ليكون طبيبًا فذًّا، والبعض خلق ليكون متخصِّصًا بالكمبيوتر، والبعض خُلق ليكون عالمًا أو فقيهًا، أو عابدًا زاهدًا، أو خلق ليكون مجاهدًا في سبيل الله، والبعض خلق ليكون أديبًا أو شاعرًا.

 

إذًا فكلٌّ في مَسْلك، وفي مشْرب مختلف، وكلٌّ يرى فيما يعمله ويبذل نفْسَه فيه الحقَّ والأهميةَ والنبوغَ.

 

ولكنهم على اختلاف مَنَازِعِهم وأهدافهم، يتَّفقون في مسألة واحدة كما قلنا، وهي أنَّهم جميعًا غَرَضُهم الأول والأخير عبْرَ هذه الرِّحلة الطويلة مِن الأحداث والبَذْل والتَّعب والكَدِّ - هو تحصيلُ الرِّضا والراحةِ والطُّمأنينة.

 

ولكنْ: كثيرٌ مِن الناس قد يصل لهذا الهدف، فيُرضي نفسه، ويستشعر أخيرًا هذه الراحةَ العجيبة، واللَّذَّة العميقة، والنشْوةَ اللاَّذعة بعد أنْ حقَّق مرغوبَه، ووصل لمطلوبِه.

 

ولكن: كمْ منهم يَعتريه بعدها الفتورُ والنَّقْص! بل كم منهم يُدْرِك - متألِّمًا - أنَّ ما حصَّله ليس بشيء، وأنَّ هناك مجاهِلَ لم يَعْلمها، ومفاوِزَ لم يقطعها!

 

بل كم منهم يَعرف بَعد طُول العناء والنَّصَب أنه كان يبحث عن سَراب، ويفتِّش عن وَهم!

 

وأيُّ ألَمٍ وأيَّةُ حسْرة يكادان يَفْتِكان بالقلب حين يعلم ذلك؟

 

بل ما ظنُّك بمن كان ضلالُه ووهمُه فيما يُبْعِد عن الدِّين، ويُوقع فيما حذَّر منه الرَّبُّ الحكيم؟ فيصير كما حكى الله في القرآن عن بعضهم:﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 103 - 104].


اشتبكَتْ هذه الخواطِرُ برأسِي، ودارت بخاطري على مَدى أيام طوال، حتى فاضت على الورق، وما كان مفتاحُ ذلك إلا القرآنَ، بل كان المفتاحُ آيةً واحدةً، ولكنها ليس كمثلها آيةٌ في كتاب الله، ولقد وقفْتُ أمامها طويلاً؛ متدبِّرًا وقْعَها، وكلماتِها، متسائلاً، متعجِّبًا!

 

نعم، إنها آية سورة العنكبوت:

﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].

 

يشُدُّنا التعبير في أول الآية بالواو، والنفي الاستفتاحي بالأداة (ما)، ثُم سرْعانَ ما نَرى بعدَ كلمات قليلة (إلاَّ)؛ لنعلم أنَّ في الأمْر حَصْرًا وقَصرًا لا يَدخله الاستثناء.

 

وأجِدُنِي لا أستطيع الاسترسالَ لبيان ذلك، حتى أعود لما قَبل هذه الآية؛ بل أجدني أرجع كثيرًا... إلى أول السورة؛ لأنَّ سِيَاقاتِ القرآن عجيبةُ الترتيب، فائقة الإحكام.

 

فأنت إنْ أردتَها منفصلةً تامَّةَ المعنى، وجدتَها كذلك، ووجدتَ فيها ما يَكفي ويشفي ويعظ، ويُفْهِم ويعلِّم، ويرقِّي ويُعجب، وإن أردتَها متصلةً متشابكةً تَردُّ الآخر للأول، والأولَ للآخر، وتوثِّق الارتباط بين القريب والبعيد، وجدتَها كذلك، ووجدتَ فيها ما يُبهر ويدهش، ويثير العقل، ويشبع النفس، ويطير القلب.

 

وأظن أنَّ المسلك الثاني أَولى وأكثرُ فائدةً من المسلك الأول، على ما في الأول من جلال وحُسْن وعلم.

 

ولْترجع معي إلى أوائل السورة، ولا يحملنَّك الطولُ على ترْك القراءة؛ فإنَّك واجدٌ - إن شاء الله - ما يسُرُّك ويدفع ملَلَك، وإنْ هي إلاَّ خواطِرُ وإشارات.

 

إنها سورة العنكبوت ذاتُ التسْعِ والسِّتين آيةً، التي يُذْهلك اسمُها المعبِّر عن مخلوقٍ ضعيف هَشٍّ، ويدفعُك هذا للتساؤل: لماذا سُمِّيَتْ بهذا الاسم العجيب؟!

 

والعنكبوت أنثى، وليس مذكَّرًا كما قد يَظُنُّ البعض، وإنَّ أول ما يرِد في ذهن الإنسان حينما يسمع هذه الكلمةَ معنيان: معنى التَّشَابُك، ومعنى الوهْي والضعف، وانْقُش في ذِهنك هذين المعنيَين، ودَعْهما الآن حتى نعود إليهما مرَّةً أخرى.

 

إن السورة تبدأ -كسُوَرٍ غيرِها- بحروف مقطعة تُعْجِز وتبهر، وتُثير التساؤل: ما معناها؟ وإلامَ ترمي؟ وأيًّا ما كان معناها، فإنها تَفْجأ المُعانِدَ وتبهَتُه، ويقشعِرُّ لها قلْبُ المسَلِّم المقرِّ بالعجز.

 

إذا استعرضتَ السورة بصورة كلية عامة، فإنك تجد معاني: الفتن، والجهاد، ودعوة الرسل لأقوامهم، وتكذيب أقوامهم لهم، وكلُّ ذلك في نطاق الاستدلال، والرَّدِّ على المُعاندين الذين جحدوا دعوة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فذكَّرتْهم السورة بما كان مِن أسلافهم وما أصابهم من العذاب، ثم يأتي الاستدلال بمِنَن الله ونعمه عليهم، ثم بيان حقارة الدنيا وأنها لهوٌ ولعب، وأن الفائز فيها مَن عاشها وهو ناظر لما وراءها من النعيم الأخروي.

 

وإذا علمتَ أنَّ مضمون السورة على ما ذُكر، فلَكَ أن تجزم أنها مكِّية خالصة.

 

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2].

 

إنَّ الخطاب أوَّلاً ينبِّه أهْل الإيمان، ويقرِّر مبدأ البلاء والاختبار والامتحان في هذه الحياة الدنيا.

 

﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 3].

 

﴿ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ﴾ [العنكبوت: 6].

 

﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ﴾ [العنكبوت: 8].


﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ [العنكبوت: 10].

 

﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 13].

 

آياتٌ تَتْرَى، تَقذِف في قلب العبْد شُعلاتٍ من اليقظة والانتباه، والخشية من السقوط وابتلاع الفتن، وترك جهاد النفس، والركون للدنيا.

 

وليكنْ لك عبرةٌ في السابقين من الأنبياء والصالحين؛ نوحٍ، وإبراهيمَ، ولوطٍ، وشعيبٍ ثم موسى.

 

نوحٌ وإبراهيمُ بدعوة التوحيد، وترْك عبادة الأصنام، ولوطٌ بدعوة قومه الذين اقترفوا فاحشة إتيان الذُّكْران التي ما سبقهم بها من أحد، وهي أمر مستقْبَح مذموم عند أحْقر الناس وأخسِّهم، إلا مَن مسَخَ الله فطرتَه، كما نرى اليوم (الشوَاذَّ) يطالبون بحقوقهم الجنسية في صراحة فاضحة، ولا حياءَ ولا خجل!

 

ثم موسى الذي ابتُلِي بشرِّ البَشَر؛ بل ابتُلي بطواغيت المال، والمُلْك، والسِّحر؛ قارونَ، وفرعونَ، وهامانَ، وهذه مِن أعظم فِتَن هذه الدنيا.

 

ثم نجد السورة تَسْرد علينا هذا المثَلَ الذي ضربه الله للناس بحكمته وقدرته، وبديعِ بيانه: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 41].

 

إن العنكبوت مخلوقٌ واهٍ ضعيف، وهي تَنسج مِن شباكها الرهيفة بيتًا، وما يُغْني ذلك البناء الواهن عنها من الضرر شيئًا، ولكنَّ الخيوط - مع ذلك - فيها مِن التلبيس والتشابك ما يَجعل الواقع فيها في تخبُّطٍ، واشتباك، وارتباك، ربما لا يستطيع منه فَكاكًا.

 

ألا ترى الدنيا هكذا؟

ثم تأمَّل العلَّة في ترْك الوقْف على قوله: ﴿ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾ [العنكبوت: 41]؛ إذْ لو وُقِفَ لكان المعنى أنَّ كل أحد يفقه هذه الحقيقة ويَحْذرها، وأن الدنيا واهية لمن رَكَن إليها، وكان قولُه: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102] للتحسُّر على مصيرهم، وهذا ليس الأوْلى.


بل الوَصْل أبْلغ؛ إذْ يُظْهر جهلَهم، ويبيِّن حمقهم؛ فإنهم لو فقهوا هذه الحقيقة، وأبصروا بقلوبهم، ورأوا بأعينهم هذا الوهن والضعف، ما رَكنوا إليه ولا لجؤوا.


إن الذين ركَنوا لمثل هذا السجن والقيد يعلمون وَهْيَه وضعفه، ولكن عَمِيت قلوبهم فلم يلتفتوا لنهاية الحياة وغايتها.


إنه الجهاد والعمل، وترْكُ الراحة، والبذلُ للنجاة من اللبس والفتَن، وما أشدَّ جهلَهم وحُمقهم؛ إذ لم يفقهوا ذلك!


وقد ذُكرت هذه الفاحشة العجيبة، فاحشةُ قوم لوط، في هذه السُّورة، وكفى بذكرها هُنا بيانًا واستدلالاً على قذارة الدنيا وقُبحها، على ما فيها من مُتَعٍ زائلة زائفة.


وظلَّ التعبير القرآني يمهِّد طويلاً، ويبيِّن رذالة أهل الباطل ومآلَهم، وأجْرَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حتى إذا عَلِمْتَ ذلك واستيقنْتَ منه، وبُرْهِنَ لك على فساد معتَقَدِ أهل الباطل، وجَحْدهم، وسفَهِهم، وحمقهم؛ جاء التعبير ليُظهِر أنَّ كل ذلك ما هو إلا لهذا السبب ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ [العنكبوت: 64].


وقدَّم الواو هنا، وكأنه يقول لك: أعلمتَ كلَّ ما سبق؟ أفقهت ما سردتُه عليك من أمثلة وقصص (لا يعقلها إلا العالمون)؟


إذًا فشَأْن الدنيا لَهْو، ليس إلا لهوًا، ولعبٌ ليس إلا لعبًا، والسِّياق هنا قُدِّم فيه اللهو على اللعب بخلاف سياقات القرآن في السُّور الأخرى؛ حيث قُدِّم اللعب على اللهو.


قال الرازيُّ في تفسيره:

"المسألة الثالثة: قال هناك: ﴿ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ﴾ [الأنعام: 32] – يعنى: في سورة الأنعام - وقال ها هنا: ﴿ إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ [العنكبوت: 64].

 

فنقول: لمَّا كان المذكورُ هناك مِن قَبْلُ - الآخرةَ وإظهارَهم للحسْرة، ففي ذلك الوقت يَبعد الاستغراق في الدنيا، بله نفس الاشتغال بها، فأخَّر الأبعد، وأما ها هنا لما كان المذكور من قبلُ الدنيا، وهي خدَّاعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها، والاستغراق فيها، اللهم إلا لمانع يمنعُه من الاستغراق، فيشتغل بها من غير استغراق فيها، ولعاصمٍ يعصمه، فلا يشتغل بها أصلاً، فكان ها هنا الاستغراقُ أقربَ مِن عدمه، فقدَّم اللهو"؛ انتهى.


فتقديم اللهو هنا أنسَبُ للسِّياق؛ إذ إنَّ السورة تُقبِّح في عمومها الدنيا، وما فيها مِن غرور، وعتَوٍّ، واستكبار، وفِتَن.

ثم:

﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].


وابتُدئتْ هذه الجملة الاستئنافية بالواو كذلك، وأُكِّدت بـ "إن" واللام؛ لنفْيِ أي شبهة أو شكٍّ في تلك الحقيقة المقرِّرةِ أنَّ الدار الآخرة هي الحيوان؛ أي: دار الحياة الحقيقية.


وإذا تصفَّحْتَ القرآن فلن تجده ذكَرَ الآخرة بصيغة (الحياة الآخرة)، وإنما يُقال عن الدنيا: (الحياة الدنيا)؛ فقد تكررت لفظة (الحياة) أو (حياة) في القرآن في اثنين وسبعين موضعًا، وكلُّها مقترنة بوصْف الدنيا (صيغة الدُّنُوِّ والسُّفول) إلا ستَّةَ مواضع؛ منها أربعة في مَعْرِض الذَّمِّ والتَّقبيح، وموضعان اثنان فقط في معرِض الثناء؛ ولكنه ثناء مخدوش!


الموضع الأول في قوله - تعالى -: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179].

 

والموضع الثاني في قوله - تعالى -: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].

 

ولا يَخفى عليك أنَّ تنكير اللفظتين مقصود ومُراد؛ فأنتم لكم في القصاص نوعُ حياةٍ في هذه الدنيا، وهو حفظ حياة الباقين مِن الناس برَدْع القاتل (على ما في الأمر مِن قتْل)، وهي كذلك حياة مكَدَّرة بألم فِراق مَن قُتل؛ بل ومن قَتل.

 

وفي الآية الأخرى مع وصف الحياة بأنها طيِّبة، فإن فيها تكاليفَ وعملاً وخوفًا ومشقَّةً.

 

نقول: إن الآخرة لم تقترن بكلمة الحياة في القرآن، فإما أن تُذكر وحْدَها (الآخرة)، وإما أن يُقال (الجنَّة)، أو (عند ربك)، أو نحوها.

 

فلما جاء هذا السِّياق، واحتاج الأمرُ لمقابلةٍ واضحة بيِّنة، وكان المطروحُ أن تقابَلَ الحياةُ الدنيا بوصف الحياة الآخرة؛ لم يَجْرِ الأمرُ بذكْر هذا اللفظ؛ لما فيه مِن المشابهة بالحياة الدنيا، ولو في الصيغة المستعمَلة، بل قُصد نفْيُ أيِّ شَبَهٍ على الإطلاق؛ لذا كانت لفظةُ (الحيوان) هي الأكملَ والأبلغَ والأنسب، وسبحان الذي جلَّتْ حكمتُه وعظمته وقدرته، وكمل بيانه!

 

ولذلك لا تجد هذه الكلمةَ في موضع آخر في القرآن، وما ذلك إلا لعزَّتِها، وغلُوِّها، وعلُوِّ قدْرها، وكأنها كذروة جبل، وهل للجبل إلا ذروة واحدة؟!

 

وأيضًا فالباحثون الحقيقيون عنها قلةٌ قليلة، فناسَبَ أن تفرد في القرآن، ولا تتكرَّر، والله أعلم.

 

قال القرطبي:

﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ أي: دار الحياة الباقية التي لا تزول، ولا موتَ فيها.

 

والحيوان: يقع على كل شيء حي.

 

وحيوان: عين في الجنة"؛ انتهى.

 

ويقول الزَّمَخشري في "كشَّافه":

﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ أي: ليس فيها إلا حياةٌ مستمرة، دائمة خالدة، لا موت فيها، فكأنها في ذاتها حياة.


والحيوان: مصدر حي، وقياسه حَيَيان، فقُلِبت الياء الثانية واوًا، كما قالوا: حَيْوَة، في اسم رجل، وبه سمي ما فيه حياة: حيوانًا [كما] قالوا: اشتر من الموتان، ولا تشتر من الحيوان.


وفي بناء الحيوان زيادةُ معنًى ليس في بناء الحياة، وهي ما في بناء "فَعَلان" من معنى الحركة والاضطراب، كالنَّزَوان والنَّغَصان واللَّهَبان، وما أشبه ذلك.


والحياة: حركة، كما أنَّ الموت سُكون، فمجيئه على بناءٍ دالٍّ على معنى الحركة، مبالغةٌ في معنى الحياة؛ ولذلك اخْتِيرَتْ على الحياة في هذا الموضع المقتضي للمبالغة"؛ انتهى.

 

والسؤال الذي يطرح نفسَه: لماذا ذكر كلمة الحيوان، وهي تدل على كائن حي؟


وفي ذلك يقول الرازي في تفسيره:

"المسألة السادسة: كيف أطلق الحيوان على الدار الآخرة، مع أن الحيوان نامٍ مُدْرِكٌ؟ فنقول: الحيوان مصدر حي كالحياة، لكنَّ فيها مبالغةً ليست في الحياة، والمراد بالدار الآخرة هي الحياة الثانية، فكأنه قال: الحياة الثانية هي الحياة المعتبرة.


أو نقول: لما كانت الآخرة فيها الزيادة والنمو، كما قال - تعالى -: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وكانت هي محلَّ الإدراك التام الحق، كما قال - تعالى -: ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ [الطارق: 9]، أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك"؛ انتهى.


ويا عجبًا كل العجب للمصدق بدار الحيوان، وهو يسعى لدار الغرور!


ثم تأمَّلْ حُسْنَ الوقف عند قوله: ﴿ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ حيث ترْكُ الوَصْل هنا أبلغ وأولى، وذلك في مقابلة آية (العنكبوت) السابقة التي كان الوصْلُ فيها أولى وأبلغ.


وحسن الوقف هنا ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾ [العنكبوت: 64] عَلِموا ذلك أم لم يعْلموه، جحدوا ذلك أم لم يجحدوه،أقَرُّوا به أم لم يقِرُّوه، استكبروا عنه وغضبوا منه أم لم يغضبوا؛ كل ذلك لا ينال مِن كونها هي الحيوانَ، وأنها الحياةُ الحقيقية الخالدة الباقية.


﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].


قال الأشمونِيُّ في "منار الهدى": "ولو وُصل لصار وصف الحيوان معلَّقًا بشرط أنْ لو عَلِموا ذلك؛ قاله السجاوندي"؛ انتهى.

 

وما أجْوَدَ الخَتْمَ بمعاني الجهاد مرَّةً أخرى! وفي هذا بيانُ حقيقة الدنيا، وأنَّ الفلاح فيها لا يكون بالقعود والرُّكون، والرِّضا والاطمئنان بها؛ بل سبيلُ الأنبياء والصالحين ودُعَاة الخير فيها: أنْ يَقُوموا بالله، ولله، وفي الله، وذلك هو تمام الإحسان، وهم المحْسِنون الذين نالوا مَعِيَّةَ الله الخاصَّة:

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾[العنكبوت: 69].


ألا ترى الآن سَلْمانَ - رضي الله عنه ؟


قد حَمَل زادَه القليل، وقطع كلَّ هذه المسافات على التَّعَب والنَّصَب؛ رمال ورياح، بعزيمة قوية، وقلب لا يَلِين للخطوب، ولا يَنثني عن تصميمه، مع أنَّه قلب رقيق شفَّاف، عَلِم هذه الحقيقةَ التي غَفَل عنها الناسُ أو أكثرُهم فما رأوها، أو رأوها مغبَّرةً مخدوشةً، كصُورة في مِرْآة مشدوخة.


فمَا أحلى أنْ يَرى الإنسان ويُبْصِر، بدون أن تكون على عينيه هذه الغشاوةُ اللجوج اللحوح، التي لا يستطيع لها زوالاً، فيُبصر ما حوله بلا شَوْب.. وبلا غُبَار.. وبلا زَيْف.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • موت المهاجر إلى ربه
  • لا يغير حتى يغيروا!
  • جريدة الزوراء مصدرا للبحث
  • الدعوة إلى البحث عن أسرار الوجود
  • البحث عن وطن! (قصة كتاب)

مختارات من الشبكة

  • مخطوطة مجموع فيه كتابان: شرح آداب البحث للسمرقندي وحاشية على شرح آداب البحث للسمرقندي(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • الجديد في عرض الباحثين لمشكلة البحث(مقالة - موقع الدكتور أحمد إبراهيم خضر)
  • الفارق بين نوع البحث ومنهج البحث في العلوم الاجتماعية(مقالة - موقع الدكتور أحمد إبراهيم خضر)
  • مصطلحات منهجية في كتابة البحوث والرسائل الأكاديمية(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • مراحل البحث العلمي في ميدان الترجمة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • تحديات البحث التربوي العربي: أبحاث التعليم المختلط نموذجا(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • ابدأ بالبحث عن نفسك قبل البحث عن وظيفتك(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • ملخص البحث: الإسلام والقيم الحضارية المعاصرة الديمقراطية نموذجا ( بحث تاسع عشر )(مقالة - الإصدارات والمسابقات)
  • ملخص البحث: تعامل الأسرة مع مدمن المخدرات (بحث ثالث)(مقالة - الإصدارات والمسابقات)
  • خطة البحث : تعريفها، أهدافها، عناصرها، شكلها، أدلة جودتها(مقالة - موقع الدكتور أحمد إبراهيم خضر)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب