• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / مجتمع وإصلاح / تربية / تهذيب النفس
علامة باركود

استعلِ بدينك

استعلِ بدينك
عراقي محمود حامد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 13/11/2011 ميلادي - 16/12/1432 هجري

الزيارات: 20274

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

استعلِ بدينك

 

يقول تعالى في مُحكم التنزيل: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8]، ويقول: ﴿ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].

 

قال أبو السعود: "أي: إنْ كنتم مؤمنين فلا تهِنوا ولا تحزَنوا؛ فإنَّ الإيمانَ يُوجب قوةَ القلب والثقةَ بصنع الله - تعالى - وعدم المبالاة بأعدائه، أو إنْ كُنتم مؤمنين، فأنتم الأعلَوْن؛ فإن الإيمانَ يقتضي العلوَّ لا محالةَ، أو إن كنتم مصدِّقين بوعد الله - تعالى - فأنتم الأعلَوْن"[1].

 

عزيزي القارئ:

من المعروف تاريخيًّا أن العرب قبل الإسلام لَم يكونوا شيئًا يُذكر؛ إذ كانوا على هامش الحياة أضعف أُمَم الأرض، وأكثرها تخلفًا وتفرُّقًا وجهْلاً؛ وفي ذلك يقول جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - في حواره مع النجاشي: "كنَّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منَّا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا نعرف نسبه، وصدقه وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله؛ لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجِوار، والكف عن المحارم والدِّماء، ونَهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذْف المحصنات، فصدَّقناه وآمنَّا به، واتبَعْناه على ما جاءه من ربه، فعبدنا الله وحْدَه ولَم نُشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا..."[2].

 

فعندما اتَّبعوا دينَ الإسلام توحدوا بعد التفرُّق، واجتمعوا بعد التَّشرذُم، وتعلموا بعد الجهْل، حتى أصبحوا قادة الدُّنيا وسادتها، ومعلمي البشريَّة وساستها؛ بما تحقق لهم من موعود الله الصادق بالعزة والنَّصر والتمكين.

وصاروا خير أمَّة أُخرجتْ للناس، مشاعل هداية للضالين، وحداة للحائرين، ودالين الخلق إلى ربِّ العالمين، ففتحوا - بفضل الله - الفتوحات، ومصَّروا - بقوته - الأمصار، ورحم الله الشاعر هاشم الرفاعي إذ قال:

مَلَكْنَا هَذِهِ الدُّنْيَا قُرُونًا
وَأَخْضَعَهَا جُدُودٌ خَالِدُونَا
وَسَطَّرْنَا صَحَائِفَ مِنْ ضِيَاءٍ
فَمَا نَسِيَ الزَّمَانُ وَلاَ نَسِينَا
حَمَلْنَاهَا سُيُوفًا لاَمِعَاتٍ
غَدَاةَ الرَّوْعِ تَأْبَى أَنْ تَلِينَا
إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْأَغْمَادِ يَوْمًا
رَأَيْتَ الْهَوْلَ وَالْفَتْحَ الْمُبِينَا
وَكُنَّا حِينَ يَرْمِينَا أُنَاسٌ
نُؤَدِّبُهُمْ أُبَاةً قَادِرِينَا
وَكُنَّا حِينَ يَأْخُذُنَا وَلِيٌّ
بِطُغْيَانٍ نَدُوسُ لَهُ الْجَبِينَا
تَفِيضُ قُلُوبُنَا بِالْهَدْيِ بَأْسًا
فَمَا نُغْضِي عَنِ الظُّلْمِ الْجُفُونَا
وَمَا فَتِئَ الزَّمَانُ يَدُورُ حَتَّى
مَضَى بِالْمَجْدِ قَوْمٌ آخَرُونَا
وَأَصْبَحَ لاَ يُرَى فِي الرَّكْبِ قَوْمِي
وَقَدْ عَاشُوا أَئِمَّتَهُ سِنِينَا
وَآلَمَنِي وَآلَمَ كُلَّ حُرٍّ
سُؤَالُ الدَّهْرِ: أَيْنَ الْمُسْلِمُونَ؟

 

فالنَّاظر في واقع أمَّتنا المعاصر مُقلبًا نظره يَمينًا وشمالاً، متأمِّلاً حالَها وما وصلت إليه من تأخُّر حضاري مُزْرٍ، حتى إنَّه ليقول: إنَّ بيننا وبين الغرب الكافر والشرق الملحد مئات السنين، حتى نصلَ إلى ما وصلوا إليه، ويعجب أشدَّ العجب كيف سقطنا هذه السقطة المروعة في هذه الهوة السحيقة؟!

 

أَمَا كنا سادة العالم يومًا ما، بل مئات من السنين؟! أين راحت حضارتنا؟! وأين غَارَ تراثنا العلمي الهائل في شتَّى فنون العلم؟! وأين أثرُه فينا الآن؟! أين بغداد حاضرة العالم؟! أين الأندلس جنَّة الله في أرضه؟! وأين جامعة قرطبة العريقة؟! أين القدس التي فتحها الفاروق، واستردَّها صلاح الدين؟! أين الممالك التي فتحها الأجداد حتى رويت الأرض بدمائهم الطاهرة الذكية؟! أين كنوز كسرى وقيصر وإمبراطوريتهما بعد أن سكبت تحت قدمي الفاروق؟! لماذا نهض أجدادنا وتخلفنا؟ لماذا انتصروا وهزمنا؟ لماذا عزُّوا وذللنا؟

 

ما من شك أننا مصدر حضارة الشرق والغرب بعد أنْ أخذوها منَّا على حين غفْلة، لا أشك أبدًا ولا أرتاب أنَّنا كنا نعيش أزهى عصور التقدُّم في كل مجالات الحياة، بينما كانتْ أوربا تخبط في ظلام الجهل، لن أكثر الحديث عن ماضينا التَّليد الذي يحق لنا أن نفخر به، لكن مسؤوليتنا عظيمة في العمل على استرداد كل هذا، أو على الأقل بعضه.

وأرى أن من أهم أسباب انتصار آبائنا وأجدادنا من صحابة نبيِّنا والتابعين لهم بإحسان، ونهضتهم وتقدمهم وعزهم - هو: "الاستعلاء بالدِّين".

فما من شك أبدًا أننا ندين بدين الحقِّ الذي مِنْ أجله خلق الله السماوات والأرض، ومن أجله أنزل الله الكُتُب وأرسل الرُّسل، ومن أجله سيكون الحساب والعرْض، ومِنْ أجله خلق الله الجنة والنار، وبه انقسم الناس فريقَيْن: فريقًا في الجنة، وفريقًا في السعير.

 

لذلك كانت نعمة الهداية للدين الحق أَجَلَّ نعَم الله عليك؛ إذ هو الدين الذي أنزله الله، وأكمله وارتضاه لعبيده؛ قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

 

إنه دين الإسلام؛ ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وهو الدين الوحيد الذي أنزله الله - تعالى - وأرسل به الرُّسل؛ كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الأنبياءُ إخوة من عَلاَّتٍ، وأمهاتهم شتَّى، ودينُهم واحد))[3].

 

ولم يأتِ نبي إلا بالإسلام من لَدُن أبينا آدم إلى خاتم النبيِّين والمرسلين محمد الأمين - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكانت أصولُ دعوة الرُّسل واحدة وعقيدتهم ثابتة، إلا أنَّ الشرائع قد تتفاوت بحسب الزَّمان والمكان، حتَّى جاء آخرهم وجودًا، ومقدمهم وإمامهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - والذي قد بشروا به، وأخذ عليهم الميثاق أنْ يؤمنوا به، وأن ينصروه إن جاءهم، فنسخَ كل هذه الشرائع، وقال بصريح المقال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يَموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار))[4]، ((وجعل الذُّل والصَّغار على مَن خالف أمري))[5].

ولم يلحق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالرفيق الأعلى إلا بعد أن أدَّى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وتركها على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها.

 

نماذج من زمان العزة والاستعلاء:

لأجل هذا الحق وتلك الحقيقة استعلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بهذا الدِّين الذي أكرمه الله به، وعاش مجاهدًا في سبيل نشره، وقام به خير قيام منذ أنْ أمر بالبلاغ، واختار أنْ يعيش عيشة الكفاف حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعًا من شعير لأهله، وهذا من أقوى الأدلَّة على صدقه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنه لم يُرِد بهذا الأمر إلا وجه الله - تعالى - وتأدية لِما حمل من الرسالة.

 

ومع أنه قد توالت عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - المِحَن والشَّدائد، ثم الإغراءات والعروض لتُثنيه عن هذا الأمر إلا أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قَابَل ذلك كله بلين الدعوة والحكمة، وأعلنها مرارًا كما أمره ربه؛ ﴿ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 90].

 

ومن ذلك ما عَرَضه عتبة بن ربيعة؛ حيث قال يومًا وهو جالس في نادي قريش والنبي - عليه الصلاة والسلام - جالس في المسجد وحْدَه: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أمورًا؛ لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيَّها شاء ويَكُف عنَّا، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحابَ رسول الله يزيدون ويكثرون.

فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقُم إليه فكلِّمه.

فقام إليه عُتبة حتى جلس إلى رسول الله، فقال: يا ابنَ أخي، إنَّك منا حيث قد علمت من السَّعة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنَّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم وسفَّهت به أحلامهم، وعِبْت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم؛ فاسمع منِّي أعرض عليك أمورًا تنظر فيها؛ لعلك تقبل منَّا بعضها.

فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قل يا أبا الوليد أسمع)).

قال: يا ابن أخي، إنْ كنت إنَّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريدُ به شرفًا سوَّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا في أموالنا حتى نُبرئك منه؛ فإنه ربَّما غلب التابع على الرجل حتى يُداوَى منه.

حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه، قال: أَقَدْ فَرَغْتَ يا أبا الوليد؟

قال: نعم.

قال: فاسمع مني.

قال: أفعل.

قال: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ [فصلت: 1 - 4]، ثم مضى رسول الله فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبةُ منه أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، ثم انتهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى السجدة منها فسجد.

ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك)).

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله، لقد جاءكم أبو الوليد بغَيْر الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: "ورائي أنِّي والله لقد سمعت قولاً ما سمعت مثله قطُّ، والله ما هو بالشِّعر ولا السِّحر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله، ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكه مُلْكُكُم وعزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعد الناس به".

قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.

فقال: هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما بدا لكم[6].

 

والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لو كان يُريد أن ينشر دينه بالسَّيف والمُلك، لذهب إلى النجاشي في الحبشة؛ إذ قد آمن به، واتَّبعه وصار رَهْن أمره، ثم مِن الحبشة؛ حيث المُلك والجُند ينشر دينه بالقُوَّة، ويرجع إلى من آذوه؛ ليُؤدبَهم، أو يرسل للنجاشي ليأتي بجيش يكسر به أنوف أهل مكة، ويستذلهم، ويفتحها عَنْوَةً، وينشر دينه بقوة الحديد والنَّار.

أو يقبل أن يكون مَلِكًا على قريش، ثم يُرغمهم على الدُّخول في هذا الأمر، أو يَقبل ما يجمعون له من مال؛ ليستعين به على تأليف قلوبهم للدُّخول في هذا الدِّين، فإنْ أَبَوا غَدَرَ بهم وقاتلهم بمالهم.

 

ولَم يفعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - شيئًا من هذا، أولاً: لأنه رسول الله، ولا يفعل إلا ما يأمره به مولاه، فهذه ليست صفات أنبياء الله، ولا هي من سنن الله في نشر دينه، وثانيًا: لأنه يريد رجالاً يصدقون بموعود الله، ويوقنون بنصْره عن كمال محبة، وسماحة بذل، وقوة اقتناع، متحملين كلَّ ما يلاقونه في سبيل هذا الدِّين، باذلين المُهجَ رخيصة لرفعته، وليحملوا الراية من بعده، معتزِّين به، فاتحين به قلوب العباد.

 

وقد ربَّى النبي صحابته على هذه العزة؛ لذلك لما وافق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على شروط صُلْحِ الحديبية، قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ألسنا على الحقِّ وهم على الباطل؟

قال: ((بلى)).

فقال: أليس قتلانا في الجنَّة، وقتلاهم في النار؟

قال: ((بلى)).

قال: فعلامَ نعطي الدَّنِيَّة في ديننا؛ أنرجع ولما يَحكم الله بيننا وبينهم؟

فقال: ((يا ابن الخطاب، إنِّي رسول الله، ولن يُضيعني الله أبدًا...))[7].

 

والفاروق المُلهَم المُحدَّث - رضي الله عنه - الذي خرج يومًا إلى الشام ليَلْقى أبا عبيدة بن الجراح، وكان عمر بن الخطاب يركبُ ناقته، وفي الطريق مرَّ على مخاضة، فأشفق على ناقته، فنزل مِن على ظهرها وجرَّها، وخلع نعليه، ووضعهما على عاتقه وأخذ بزمام النَّاقة، ونظر أبو عبيدة بن الجراح، فتعجَّب لحال عمر، وقال له: يا أمير المؤمنين، أأنت تصنع ذلك؟ والله، لا أحب أنَّ القوم قد استشرفوك وأنت على هذه الحالة، فقال عمر: "أَوَّهْ يا أبا عبيدة، لو قالها أحدٌ غيرك، لجعلته نكالاً لأُمَّة محمد"، ثم قال: "يا أبا عبيدة، والله، لقد كنَّا أذل قومٍ، فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العِزَّة في غيره أذلنا الله".

 

• وكان بلال - رضي الله عنه - يأبى على مُعذِّبيه الذين فعلوا به الأفاعيل، حتى إنَّهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدَّة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله، فيأبى عليهم ويقول: أحَدٌ، أحَدٌ، ويقول: والله، لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها، لقلتها.

• وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذَّاب: أتشهد أنَّ محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرْبًا إرْبًا، وهو ثابت على ذلك.

• وعبدالله بن حُذَافة السهمي أحد أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لما أسرته الرُّوم، جاؤوا به إلى ملكهم، فقال له: تنصَّر وأنا أُشْرِكُك في مُلكي، وأُزوِّجَك ابنتي، فقال له: "لو أعطيتني جميعَ ما تَملك، وجميع ما تَملكه العربُ على أنْ أرجعَ عن دين محمد طرفةَ عين - ما فعلت، فقال: إذًا أقتلك، قال: أنت وذاك، فأَمَر به فصُلِب، وأمر الرُّماة فرموه قريبًا من يديه ورجليه، وهو يَعْرِض عليه دينَ النصرانية، فيأبى، ثم أمر به فأُنزِل، ثم أمر بِقِدْر، وفي رواية: ببقرة من نحاس، فأُحميت، وجاء بأسير من المسلمين، فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظام تلوح، وعرض عليه فأبى، فأمر به أن يلقى فيها، فرُفِع في البَكَرَة ليُلقى فيها فبكى، فَطَمِع فيه ودعاه، فقال له: إني إنَّما بكيت لأن نفسي إنَّما هي نفس واحدة تُلْقى في هذه القِدر السَّاعة في الله، فأحببت أن يكون لي بعدد كلِّ شعرة في جسدي نفسٌ تعذب هذا العذاب في الله.

 

وفي بعض الرِّوايات: أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أيامًا، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير، فلم يَقْربه، ثم استدعاه، فقال: ما منعك أن تأكل؟ فقال: أما إنَّه قد حل لي، ولكن لم أكن لأُشْمِتك فيَّ، فقال له الملك: فَقَبِّلْ رأسي وأنا أُطلقك، فقال: وتطلق معي جميعَ أُسَارَى المسلمين؟ قال: نعم، فقبَّل رأسه، فأطلقه وأطلق معه جميعَ أُسَارى المسلمين عنده، فلما رجع، قال عمر بن الخطاب: حَقٌّ على كل مسلم أنْ يقبِّل رأس عبدالله بن حذافة، وأنا أبدأ، فقام فقبّل رأسه.

 

• ولله در الصحابي عاصم بن ثابت الذي أقسم ألاّ يَمسَّ مشركًا، ولا يَمسَّه مشركٌ، فأبرَّ الله قسمه حيًّا وميتًا بأن منع المشركين من مسِّه بالنَّحْل والسيل.

 

ونحن إذا نظرنا إلى قضية الفارق الحضاري بين المسلمين وأعدائهم، نَجد أنه كان هائلاً جدًّا لصالح الأعداء حين التقى المسلمون مع الفُرس ومع الرُّوم، ومع ذلك لم يكن عائقًا أبدًا في طريق دعوتهم، ولم يقيموا له أدنى اعتبار، واعتصموا بالله، واعتزُّوا بدينه.

 

• وانظُر إلى رِبْعِيِّ بن عامر وهو يدخل بكلِّ عزة الإيمانِ على رُستم في أبَّهته وطنافسه وبذخه، فينظر إلى ذلك كله باحتقار بالغ، بل ويتعمَّد إعلانَ ازدرائه له وتحقيره، فيخزِّق بسن رمحه سجاجيدهم، ويربط حماره القصير الأرجل في بعض ما يعتزُّون به من فراشهم، ثم يقول لرستم حين سأله: ما الذي أتى بكم إلى بلادنا؟: "الله ابتعثنا؛ لنخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضيق الدُّنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام".

 

• وهذا خالد بن الوليد يقول لأعدائه، وقد تَحصَّنوا منه في حصون منيعة: "أين تذهبون منَّا؟ والله، لو كنتم في السحاب، لأصعدنا الله إليكم، أو لأمطركم علينا".

 

وقد يقول قائل: كان هذا على عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته، فلنأخذ نماذجَ من بعد عصر الصَّحابة:

• كان الخليفة هارون الرشيد يَحج عامًا، ويغزو عامًا، ويخاطب السحابة، ويقول: سيري أينما شئت أن تسيري، فسيأتيني خراجك.

يقول السيوطي: "وفي سنة سبع وثمانين ومائة أتاه - أي: الرشيد - كتاب من ملك الرُّوم "نقفور" بنقض الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين وبين الملكة "إيريني" ملكة الروم.

وصورة الكتاب: "من "نقفور" ملك الروم إلى "هارون" ملك العرب: أمَّا بعد، فإن الملكة التي قبلي كانت أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق[8]، فحملت إليك من أموالها أحمالاً، وذلك لضعفِ النِّساء وحُمقهن، فإذا قرأت كتابي، فارْدُد ما حصل قبلك من أموالها، وإلا فالسيف بيننا وبينك".

 

فلما قرأ الرشيد الكتاب، استشاط غضبًا حتى لم يتمكَّن أحد أن ينظر إلى وجهه دون أن يُخاطبه، وتفرق جلساؤه من الخوف، واستعجم الرأي على الوزير، فدعا الرشيد بدَوَاة وكتب على ظهر كتابه:

"بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الرُّوم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه".

ثم سار ليومه، فلم يزل حتى نازل مدينة هرقل، وكانت غزوةً مشهورةً وفتحًا مبينًا، فطلب "نقفور" الموادعة، والتزم بخراجٍ يَحمله كل سنة، فأجيب، فلما رجع الرشيد إلى الرقة نقض الكلبُ العهد لإياسه من كرَّة الرشيد في البَرد، فلم يجترئ أحد أن يُبلِّغ الرشيدَ نقضه، بل قال عبدالله بن يوسف التيمي:

نَقَضَ الَّذِي أَعْطَيْتَهُ نَقْفُورُ
فَعَلَيْهِ دَائِرَةُ الْبَوَارِ تَدُورُ
أَبْشِرْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ
غُنْمٌ أَتَاكَ بِهِ الْإِلَهُ كَبِيرُ

 

وقال أبو العتاهية أبياتًا وعرضت على الرشيد، فقال: أَوَقَد فعلها؟ فكَرَّ راجعًا في مشقة شديدة حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى بلغ مُراده وحاز جهاده.

وفي ذلك يقول أبو العتاهية:

أَلاَ نَادَتْ هِرَقْلَةُ بِالْخَرَابِ
مِنَ الْمَلكِ الْمُوَفَّقِ لِلصَّوَابِ
غَدَا هَارُونُ يُرْعِدُ بِالْمَنَايَا
وَيُبْرِقُ بِالْمُذَكِّرَةِ الْقِضَابِ
وَرَايَاتٍ يَحُلُّ النَّصْرُ فِيهَا
تَمُرُّ كَأَنَّهَا قِطَعُ السَّحَابِ [9]

 

• وكان السبب في غزو المعتصم عموريَّة أنَّ ملك الرُّوم خرج إلى بلاد المسلمين، فنَهَب حِصنًا من حصونهم، يقال له: "زبطرة"، وقتل مَن به من الرِّجال وسبى الذُّرِّيَّة والنِّساء، فيقال: إنه كان من جملة السبي امرأة هاشِميَّة، فسُمعت وهي تقول: وامعتصماه، فبلغ المعتصم ما فعله ملك الرُّوم بالمسلمين، فاستعظمه وكبر عليه، وبلغه ما قالت الهاشمية، فقال وهو في مجلسه: لبَّيكِ، لبيكِ، ونَهَضَ من ساعته، وصاح في قصره: الرحيلَ، الرحيل، ثم ركب دابَّته، وأمر العساكر بالخروج، وتَجهَّز تَجهُّزًا لم يتجهز بمثله خليفة.

فلما اجتمعت عساكره، وفَرَغَ من تجهيزه، وعزم على المسير، أحضر القُضاة والشُّهود، فأشهدهم أنه قد وقف أملاكَه وأموالَه على ثلاثة أثلاث: ثلث لله - تعالى - وثلث لولده وأقاربه، وثلث لمواليه، ثم سار فظفر ببعض أهل الرُّوم، فسأله عن أحصن مُدنِهم وأعظمها وأعزِّها عندهم، فقال له الرُّومي: إن عموريةَ هي عينُ بلادهم، فتوجه المعتصم إليها، وجمع عساكره عليها، وحاصرها ثم فتحها، ودخل إليها، وقتل فيها وفي بلادهم، وسبى وأسر وبالغ في ذلك، حتَّى هدم عمورية وعفَّى آثارها، وأخذ بابًا من أبوابها، وهو بابٌ حديد عظيم الحجم، فأحضره إلى بغداد، وهو الآن على أحد أبواب دار الخلافة يسمى باب العامَّة، وكان قد صحبه أبو تمام الطائي، فمدحه بقصيدته البائية التي أولها:

السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ ♦♦♦ فِي حَدِّهِ الْحَدُّ بَيْنَ الْجِدِّ وَاللَّعِبِ

 

وفيها يقول للمعتصم:

خَلِيفَةَ اللَّهِ جَازَى اللَّهُ سَعْيَكَ عَنْ
جُرْثُومَةِ الدِّينِ وَالْإِسْلاَمِ وَالْحَسَبِ
بَصُرْتَ بِالرَّاحَةِ الْكُبْرَى فَلَمْ تَرَهَا
تُنَالُ إِلاَّ عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ

 

• وكان صلاح الدين الأيوبي كالوالهة الثَّكْلى، فقدت وحيدَها، يتململ في فراشه، ويتقلب فيه، ولا يَجد النومُ سبيلاً إلى جفنه، يقول لوزيره ابن شداد: "أَمَا أُسِرُّ لك حديثًا؟ إنِّي أتمنى أن يفتح الله علي بيت المقدس، ثم أركب البحر أقاتلُ في سبيلِ الله كلَّ مَن كفر بالله حتى يظهرني الله أو أموت".

• ولما حاصر محمد الفاتح السلطان العثماني العظيم مدينةَ القُسطنطينيَّة، واستعصت عليه بعض الوقت، وقف أمام أسوارها، وقال: "حسنٌ، واللهِ ليكونَنَّ لي فيك قصر أو قبر"، وكان له ما أراد، وفتحها الله عليه بعد أن تأبَّت على قادة كُثر قبله.

• ونأتي إلى السلطان البطل عبدالحميد الثاني الذي حكم الدولة العثمانية بين (1876 - 1909م).

حاول اليهود إغراء السُّلطان الصالح عبدالحميد، الذي كان قد وَصَلَ إلى الخلافة في وقت كادت الماسونية تأخذ بخناق الدَّولة.

قال له هرتزل المفاوض اليهودي: "مثلاً، لو رَضِيَ مولانا، وباع لنا الأراضي التي ليس لها مالكون في فلسطين بالثَّمن الذي يقدره".

فغضب السلطان، وقال: "إن أراضي الوطن لا تُباع؛ إنَّ البلاد التي امتلكت بالدِّماء لا تباع إلا بالثمن نفسه".

ولم ييئس هرتزل وقابل السلطان مرة ثانية سنة (1901م)، وفي هذه المرة عرضوا على السلطان نفسه مائة وخمسين مليونًا من الجنيهات الذهبية الإنجليزيَّة، فقال: "إنَّكم لو دفعتم ملء الأرض ذهبًا، فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملَّة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلن أُسوِّد صحائفَ المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين".

ولقد كانت المقابلة هذه المرة مع (قره صو) المحامي اليهودي الماسوني الذي أشرف على محفل سالونيك.

ولقد نَقَلَتْ بعضُ المصادر أنَّ السلطانَ صاح في وجه هرتزل: "اخرج من وجهي يا سافل"، وصاح بالحاجب الذي أدخله قائلاً: "أما كنت تعلم ما يريده هذا الخنزير مني؟!".

فطار "هرتزل" مع "قره صو" إلى إيطاليا وأرسل "قرة صو" برقية إلى السلطان كتب فيها: "ستدفع ثمن هذه المقابلة من نفسك وعرشك".

 

يقول هرتزل في مُذكِّراته: "ونصحني السلطان عبدالحميد بألاّ أتخذ أية خطوة أخرى في هذا السبيل؛ لأنَّه لا يستطيع أن يتخلى عن أي شبر واحد من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكًا له، بل هي لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها، وروت التربة بدماء أبنائها، وقال عبدالحميد: إنَّ عَمَلَ الْمِبْضَعِ في بدني لأهونُ عليَّ من أن أرى فلسطين تقتطع من إمبراطوريتي، ثم قال: وفِّر نقودك يا "هرتزل"، فعندما يذهب عبدالحميد ستأخذون فلسطين مجانًا".

وقد كان، رَحِمَك الله أيُّها البطل.

 

وأخيرًا وليس آخرًا "الدكتورة: مروة الشربيني" التي أطلق عليها "شهيدة الحجاب"، والتي ما راحت ضحية الحجاب كما يقول البعض، بل سطَّرت بدمائها أسمى آيات البطولة والعِزَّة في زمن القزامة والهوان لامرأة مسلمة أَبِيَّة شريفة، مُستبسلة في التمسُّك بدينها الذي بوَّأها هذه المنزلة، نحسبها من الشهيدات - رحمها الله - إذ كشفت سوءة الدِّيمقراطية المزعومة وعَوَار الحرية الموهومة، وأماطت اللثام عن الخديعة الكبرى المسماة بـ"حقوق الإنسان".

فلله درُّها! أحسب أنَّها تود أن ترجع إلى الدنيا؛ لتُقتل مرَّات في سبيل الله، رفع الله قدرها، وأكرم نُزلها، وأَلْهَم أهلها الصبر والسلوان والعزاء الجميل.

انظر - هداني الله وإياك سواء السبيل - ما في هذه النماذج من عزة واستعلاء، وغيرها الكثير والكثير مما يضيق به المقام.

وهذه هي العزة التي جعلها الله لعباده المؤمنين، ليست تَفاخُرًا وخيلاء ولا كبرًا وتعاليًا، إنَّما هي من باب تعظيم ما عظَّم الله، وإظهار عظمة هذا الدين وشموخه.

 

نداء من سويداء القلب:

أيها الحبيب، يَجب أن ترفع رأسك مفتخرًا بهذا الدين الذي شرَّفك الله بالانتساب إليه وتُردد دائمًا:

وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا
وَكِدْتُ بِأَخْمُصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ: يَا عِبَادِي
وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا

 

ارفع رأسك؛ لتعانق كواكب الجوزاء، أو إنْ شئت فقل: لتنزل كواكب الجوزاء؛ لتتوج رأسك.

ارفع رأسك أيُّها العملاق الكبير والعبقري الفذ، فأنت مُتفرِّد في هذا الكون، بل أنت اصطفاء الله من هذا الكون، فقد اصطفاكَ واجتباكَ لحمل هَمِّ هذا الدين وتبليغه، ويا لَهُ من شرف؛ إذ هو ميراث الأنبياء.

قم أيها المسلم، ودثِّر العالم كله بعزٍّ واستعلاء، دثِّره ببُردتك ذات العبق المحمدي الطاهر.

قم وأحسن فهم دينك، وقف على جوانب عظمته؛ لتعلمَ أنه رحمة للعالمين.

قم وضُمّ العالم كلَّه إلى صدرك، وأسمعه خفقاتِ قلبك الذي وحَّدت به ربَّك - جل وعلا.

قم؛ فالعالم ينتظرك وقد اكتوى بخزعبلات النصارى المغضوب عليهم، وتحريف اليهود الضالين.

قم؛ فليس غيرك يستطيع وقف إرجاف المرجفين، وكبت الحاقدين، وتصفيد العَلمَانيين، وتأديب المنافقين، ودحر الكافرين، وقَصْم ظهور الظالمين المعتدين الغاصبين، ورفع الظلم عن إخوانك المستضعفين، وأمَّهاتك العجائز، وآبائك الشيوخ المضطهدين، وتهذيب الشاردين من أبناء دينك المساكين.

 

انهض أيها الأسد، كفاك سباتًا، فقد حان أن تزأر باحثًا عن عرينك السليب، منافحًا عن عِرضك الذي انتهك، منطلقًا من أغلالك، جامعًا لشتات مُلكك الذي تبعثر؛ ليعيش العالم كله تحت حكمك في أمان، ولِتُحقِّق لهم الرخاء والسلام كما كان.

 

لِمَ الهزيمة، وقد وُعِدت بإحدى الْحُسْنَيين: إمَّا النصر لتحيا حياة الشرفاء، ولتنقذ غيرك من غياهب الظلمات، وإما الشهادة؛ لتسابق إلى موعود ربك؟!

لِمَ الخوف، وقد أيقنت بأن ما أخطأك لَم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما عند الله خير وأبقى؟!

لِمَ الخجل والتخاذُل، وليس في دينك من مَعرَّة، ولا ما يُستحيا منه، فهو حق أبلج؟!

اعتزَّ بدينك في نفسك؛ فدينك أغلى ما تَملك، أظهر هُوِيَّتك للعالم، واشمخ بأنفك، فأنت المسلم الذي أسلم لله ظاهرًا وباطنًا.

 

ثِقْ - أيُّها الموفَّق - أن من رَام هدًى في غير الإسلام، ضلَّ، ومَن رام إصلاحًا بغير الإسلام، زلَّ، ومَن رام عِزًّا في غير الإسلام، ذَلَّ، ومن أراد أمنًا من دون التوحيد، ضاع أمنه واختلَّ.

استعلِ عن سفاسف الأمور من اتِّباع غير سبيل المؤمنين ومُحاكاة الكافرين والفاسقين، واعتز باتباعك لسيد الأنبياء والمرسلين، فالمرء يُحشر مع مَن أحب، واعلم أنَّه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

استعل بدينك عن المعاصي والمنكرات، ولا تكن حجر عثرة في سبيل نهوض الأمة واسترداد مجدها وعزها.

 

اعتز بدينك، وكنْ على يقين أنَّه الحق؛ لأنَّ الذي أنزله هو الحق، وما زال وسيظل محفوظًا بحفظه – تعالى - مهما تمالأ عليه الأعداء من كلِّ حَدَبٍ وصَوْب، ولن يترك الله بيتَ وَبَرٍ ولا مَدَر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز به الله الإسلام وأهله، وذلاًّ يذل به الله الشرك وأهله.

 

استعلِ بدينك، وقل لمن عاداه: تزعمون أنَّ القرآن من وضع محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا أتحداكم أن تأتوا بسورة من مثله، والتحدي قائم إلى يوم القيامة.

قل لهم: أين الفرقان الجديد؟ ابحثوا عنه في أماكن النفايات، وحنايا المزابل.

 

استعل بدينك، فدينك دين جذب؛ لأنَّه الحق وحْدَه، وكل لحظة يدخل الناس فيه أفواجًا، واسأل الإحصائيَّات، حتى في قلاع الكفر ومدن الإلحاد.

اقرأ لمن دخلوا في الإسلام حديثًا، ستعلم أنَّهم ما ولدوا إلا لحظة إسلامهم.

 

اقرأ شهادات الأعداء للإسلام من زمن الوليد بن المغيرة إلى الآن، والحق ما شهدت به الأعداء.

مع كل هذه الهجمات على هذا الدِّين، إلاَّ أن الله ينصره ولو بالرجل الكافر أو الفاسق؛ لأنه دينه.

والحذرَ الحذر من بُنَيَّات الطريق، ومن دعاة التنازلات والتلفيق، فهي بضاعة بائرة، وسلعة خاسرة؛ ((ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة))[10].

 

وأنتِ أختاه، أَمَا لك في ندائي من نصيب؟

كل ما ناديت به أَخِي، فهو لكِ نداء، ومع ذلك أخصُّك بهذه الهمسات:

حافظي على شرع الله عقيدةً وعملاً، إنْ أردت النعيم المقيم والفوز العظيم.

استعلي بدينكِ على ما في هذا العصر من إغراءات ومتناقضات.

اعتزِّي بدينك، وافخري بحجابك، واعلمي أنَّك به مَلِكة أدنى أن تُعْرَفِي بالإسلام والحياء والحرية والعِفَّة.

اسمعي لمن يدعوك إلى طريق الله، واحذري من شياطين الإنس والجن؛ فإنَّهم دعاة على أبواب جهنم، يُريدون إفسادك يا نصف المجتمع؛ ليُفسدوا بك النِّصف الآخر.

 

استعلي على من يريد خداعك مرة باسم الحرية، ومرة باسم المساواة، وارْضَيْ بما قضى الله لكِ وقَسَم، واقتفي أثر أمهاتك الطاهرات زوجات نبيك العظيم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنْ فعلتِ وكنت من أهل الجنة، فأنتِ أنتِ:

حَصَانٌ مِثْلُ مَاءِ الْمُزْنِ فِيهِ
كَتُومُ السِّرِّ صَادِقَةُ الْمَقَالِ
وَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ فَقَدْنَا
لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ
وَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ
وَلاَ التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلاَلِ

 

تمسَّكي أختاه، ولا تخلعي حجابك؛ لتغطي به مصحفك، فإن فعلتِ ضللتِ وأضللت، وكنت حَجَر عَثْرة في سبيل عودة أمتك إلى سالف عزِّها.

أختاه، إنَّما هي أيام قلائل، وما عليك إلا أن تحتسبي الأجر؛ إذ هو على قدر نَصَبِك، ولا تُشمتي الأعداء بأُمَّتكِ.

وليكن لكِ في "مروة الشربيني" ومثيلاتِها من فتيات القُدس وغيرهن القُدوة الصالحة للمسلمة المعتزة بدينها.

 

وأخيرًا أُردد:

عُبَّادُ لَيْلٍ إِذَا جَنَّ الظَّلاَمُ بِهِمْ
كَمْ عَابِدٍ دَمْعُهُ فِي الْخَدِّ أَجْرَاهُ!
وَأُسْدُ غَابٍ إِذَا نَادَى الجِهَادُ بِهِمْ
هَبُّوا إِلَى الْمَوْتِ يَسْتَجْدُونَ رُؤْياهُ
يَا رَبِّ فَابْعَثْ لَنَا مِنْ مِثْلِهِم نَفَرًا
يُشَيِّدُونَ لَنَا مَجْدًا أضَعْنَاهُ


[1] "تفسير أبي السعود"، (1/ 459).

[2] أخرجه أحمد في مسنده، (4/ 286)، حديث (1766)، وصححه الألباني في تحقيقه لـ"فقه السيرة"، ص (115).

[3] أخرجه مسلم (4362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[4] أخرجه مسلم (218) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.

[5] صححه الألباني في "صحيح الجامع"، (5142).

[6] أخرجه البيهقي في "الاعتقاد"، (1/ 282)، حديث (252)، وحسنه الألباني في تحقيقه لـ"فقه السيرة" ص: (106).

[7] جزء من حديث أخرجه البخاري (2945) من حديث سهل بن حنيف - رضي الله عنه.

[8] الرخ والبيدق: حَجَران من حجارة الشِّطْرَنج، الرخ: القلعة، والبيدق: هو هذا الجندي في المقدمة، وهو يقصد أن البيدق ضعيف، والرخ أقوى.

[9] "تاريخ الخلفاء" (1/ 249).

[10] جزء من حديث أخرجه الترمذي (2374) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (2450).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • دين القوة والعزة
  • مقومات عزة المسلمين (2)
  • أين عزة المسلمين؟ (1)
  • تـاج العـزة
  • كيف تعود عزة المسلمين إليهم؟ (1)
  • كيف تعود عزة المسلمين إليهم؟ (2)

مختارات من الشبكة

  • الدين المؤجل والمعجل ودين الله ودين الآدمي(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حاجة الشباب إلى الإيمان(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • ديننا دين الذوق والنظافة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فوائد وأحكام من قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين...}(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه...}(مقالة - آفاق الشريعة)
  • جواب شبهة: نقصان الدين قبل نزول آية الإكمال واختلاف العلماء على مسائل الدين مع كمالها(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من تداين بدين وهو ينوي وفاءه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مختارات من كتاب: الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان للعلامة بكر أبو زيد(مقالة - آفاق الشريعة)
  • سلامة الإنسان في دينه وبدنه في ضوء قول الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • يكرمون المرأة في يوم ويهينونها سائر الأيام وليس لها كرامة إلا بدين الإسلام(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
2- فعلا لنستعل كلنا بديننا
إسلام أحمد جاد - مصر 20-11-2011 02:30 PM

أجاد الكاتب في مقاله رغم كثرة الاستشهادات التي جاء بها ورغم أنها أورثت المقال طولا إلا أنها كانت مفيدة من حيث إنها تصب في نفس المعنى وتعضده وقد وفق أيضا في عرضها مرتبة ترتيبا زمنيا متسلسلا مراعيا أيضا الدقة اللغوية وخلوها من الأخطاء ولا يبقى إلا العمل بها

1- صرخة مكلوم
صابر القاضي - مصر 20-11-2011 11:49 AM

إنها صرخة مكلوم يحمل هَمَّ هذه الأمة.
أما آن الأوان بعد أن نفتح لها القلوب قبل الآذان؟
ولنعلم جميعًا أن نصر الله قريب وأنه آتٍ لا محالة لكنه مشروط بقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} فهل نصرنا الله حقًا؟ واعلموا إخواني أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب