التربية الإبداعية والأسرة المسلمة (2 - 2)

التربية الإبداعية والأسرة المسلمة (2 - 2)

تحدَّثنا في المقال السابق عن أهمية التربية الإبداعية كما علَّمها لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من خلال مواقف متعدِّدة، وذكرنا أن هذه النوعية من التربية هي طوق النجاة لأمَّتنا التي يُراد لها التفكيك القِيمي، وتكريس حالة الذيلية الحضارية، وفي هذا المقال سوف نتطرَّق لبعض العقبات التي تقف أمام مثل هذه النوعية من التربية، وكيف يمكن أن نتجاوزَ تلك العقبات.

عقبات نكدة

والسؤال الذي يطرَح نفسه بقوة: ما هي العقبات التي تحول بيننا وبين أن نُبدع في تربية أبنائنا حتى يتسنَّى لنا الخروج من ذلك النفَق الذي جعلنا في مؤخِّرة الأمم؟

رغم كل تلك الثروات التي نمتلكها وتزخَر بها بلادنا فإن الواقع أن أبناءنا يتلقون تعليمًا رديئًا للغاية، تعليم يتلخَّص في جملة واحدة: كيف أستطيع أن أحصل على أعلى الدرجات في الاختبار؟ أما حقيقة العلم وحبُّه وحبُّ البحث العلمي، فهذا أمر لا يعرفه معظم أبنائنا.

الكثير من أبنائنا لا يتلقون تربيةً سويَّة، فضلاً عن أن تكون تربية إبداعية مميَّزة، فبين الإفراط والتدليل واللامبالاة من بعضٍ، وبين العصبيَّة والصراخ والعُنْف من آخرين - يتمزَّق الكثير من الأبناء، وتضيع كثير من الأُمنيات الطيبة.

العقبات النكدة كثيرة جدًّا، ولعل أبرزها انشغال الآباء ووقوعهم في دائرة الضغوط الجهنمية، بحيث لا يتاح لهم الوقت أو الجهد للتفكير بتمعُّن في مسألة التربية، فيجنحون للتدليل المُفرِط، أو يحاولون محاولات محبطة مغلَّفة بالأسى والإحباط في الوقت الذي يتم التخطيط بمنتهى الإبداع لآليات تربوية بديلة، ولكنها مخربة، فأهل الباطل يُبدعون في باطلهم، ويُزيِّنونه بكل وسائل الجذب، حتى يمتلكوا قلوب الأبناء ومشاعرهم، ويستلبوها قبل أن يستلبوا عقولهم أيضًا.

السعي المحموم لجلب الرزق ليس هو الذي يُسعد الأبناء؛ فحاجات الأبناء تتَّسع ولا يكادون يشعرون بالرضا، فيدخل الجميع في دائرة من اللهاث يَنسون فيها الهدف الأصيل للحياة، والهدف الأصيل للتربية.

تجسير الفجوة

لا بد أن نعترف أننا كأمَّة إسلامية تخلَّفنا كثيرًا جدًّا عن صدارة المشهد الحضاري، على الرغم من امتلاكنا للثروات المادية، وعلى الرغم من امتلاكنا لبناء قِيمي متكامل جاء به كتابنا العظيم، وطبَّقه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، ولعل الأمر المؤكد أنَّ تساهُلَنا في هذا البناء القِيمي هو الذي وضعَنا في هذه المنزلة؛ فالبشر هم أساس الحضارة، وإذا لم يخضع البشر للتربية وَفْق البناء القِيمي الذي جاء به الدين أصبحت الثروات كالهباء المنثور، وأصبح البشر في مؤخرة المجتمعات، حتى أصبح بيننا وبين الأمم الأخرى فجوة واسعة شاسعة، حتى إننا أصبحنا عالةً على الأمم الأخرى، ونحن بحاجة لتفكيرٍ إبداعيٍّ للعبور فوْقَ هذه الفجوة، أو لِنقُل بعبارة أدق: للقَفْز فوق هذه الفجوة، شيء يُشبه ذلك المركز الذي يُعلِّم النساءَ الأميَّات القراءة والكتابة، فبدلاً من أن يعلمهن الكتابة بالطريقة التقليدية علمهن الكتابة بلوحة مفاتيح الكمبيوتر؛ ليعبُرَ بهم من مرحلة الأميَّة الأبجدية لمرحلة استخدام الكمبيوتر والتعاطي مع شبكة المعلومات في خُطوة واحدة، نحن بحاجة لشيء يشبه ذلك، ولعل جميع العقول المفكرة مدعوة للبحث عن أفكار إبداعية ضرورية للقَفْز فوق وضعنا الحالي، تمامًا كما تغيَّرت أمة العرب من قبل في جيل واحد؛ من قبائل متشرذمة تعيش حياة بدائية تستهلك طاقتها في قضايا تافهة، وتمتلك مشاعرَ فظَّة غليظة، وتنظر لها القوى العالمية آنذاك ـ الفرس والروم ـ نظرة احتقار من عل - لأمة فتية شابة قوية واثقة بذاتها، ترسم لوحة تشكيلية جديدة للتاريخ.

وعلى الرغم مما سبق، فلا ينبغي للمرء أن يحقر من المعروف شيئًا، وإن لم ننتصر وفقًا لآلية الضربة القاضية، فلننتصر إذًا عن طريق آلية النقاط؛ فهذه الأم التي تقر في بيتها، وتجلس في هدوء ساعة مع طفلها ومعها صندوق ورقي صغير تطلق عليه صندوق التجارِب، تحاول أن تعلمه بطريقة عملية بعض دروس العلوم البسيطة التي تستطيع تنفيذها في منزلها، وتزرع في وجدانه حب العلم، هي خطوة على الطريق الصحيح، وتلك الأم التي تمسك بيد صغيرها كي يزرع في شرفته نباتًا، وتعلمه من خلال هذا النبات درسًا إيمانيًّا، وتزرع في قلبه حب الجمال، لهي خطوة على الطريق الصحيح، وذلك الأب الذي لا ينسى حق أبنائه الحقيقي عليه، فلا يمضي يوم دون أن يجالسهم، وينصت إليهم باهتمام، ويعلمهم برفق وابتسامة وصبر جميل، لهو خطوة على الطريق الصحيح، وما الطريق الطويل إلا خطوات صغيرة متتابعة، حتى يأتي أوان قفزة واسعة تغير الموازين بأمر الله تعالى.

نحن بحاجة إذًا لتغيير الوعْي، والسعي الحثيث للإبداع في العملية التربوية، والبدء بالذات، واعتبار أن قضيَّة التربية لا تقلُّ بحال عن قضيَّة الجهاد؛ فهي ثغر كبير لا بد من حراسته وتأمينه.

نحن بحاجة ماسَّة للانتقال من طور الكمون والسكون والتقولب في خندق الدفاع عن حضارتنا وقِيَمنا التي منها نستمد منهجَنا التربوي، إلى طور الحركة والدعوة المخططة الممنهجة لنمطِنا التربوي الأصيل والإبداعي، في آن واحد، لا يتحقق إلا في ظلِّ حضارتنا الإسلامية التي ربطت بين الأرض والسماء.