• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    القيادة في عيون الراشدين... أخلاقيات تصنع
    د. مصطفى إسماعيل عبدالجواد
  •  
    حقوق الأولاد (3)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    جرعات سعادة يومية: دفتر السعادة
    سمر سمير
  •  
    التاءات الثمانية
    د. خميس عبدالهادي هدية الدروقي
  •  
    المحطة الثانية عشرة: الشجاعة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    البطالة النفسية: الوجه الخفي للتشوش الداخلي في ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حقوق الأولاد (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    مقومات نجاح الاستقرار الأسري
    د. صلاح بن محمد الشيخ
  •  
    تطوير المهارات الشخصية في ضوء الشريعة الإسلامية
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    المحطة الحادية عشرة: المبادرة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    تحليل محتوى المواقع الإلكترونية لحوادث انتشار ...
    عباس سبتي
  •  
    طلب طلاق وشكوى عجيبة
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
شبكة الألوكة / مجتمع وإصلاح / أسرة / فتيات
علامة باركود

السراب

أميمة أحمد العزيز

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 29/5/2011 ميلادي - 25/6/1432 هجري

الزيارات: 6772

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

بعد مرور حوالي الشَّهر على عملي في مشغلِ المنسوجات القطنية المتخصص في ألبسة الأطفال، كان الأستاذُ ماجد قد استحوذَ على اهتمامي، وكنتُ ألتفت لأعمالِه رغمًا عني، وأرقبه عندما يدخل لقسمِ الخياطة الذي أعمل فيه؛ حيث البناتُ يخِطْنَ ما يأتيهنَّ من أقمشةٍ فُصِّلتْ وجُهِّزتْ للخياطة، وهو يلاطفُ تلك البناتِ العاملات ويمازحهنَّ ويسمعُ لمطالبهنَّ، وكثيرًا ما يلبِّي هذه المطالب، لا أدري لِمَ لفت نظري؟ أو بالأحرى: ما هو التصرف الأول الذي جعلني ألتفت من خلالِه لأفعاله؟!

 

ولكنِّي على مدى شهرٍ كامل رأيتُ منه تصرفاتٍ كثيرة أعجبتني؛ فهو مهندسٌ مدني اختارَ التجارةَ مهنةً له بدل الهندسة، ربَّما لحبِّه لها؛ فأنشأ مشغلاً متكاملاً ذا أقسامٍ كثيرة تنتجُ ألبسةً للأطفال؛ حيث يبدأ العملُ من الخيوطِ ونسجها بماكيناتٍ حديثة، إلى أن تصلَ عبر أقسامٍ كثيرة لتصبحَ ألبسةً جاهزة تسوقُ عن طريقِ قسم التسويق، وهو إضافة لكونِه مهندسًا ومثقَّفًا وتاجرًا ناجحًا وغنيًّا، فهو من عائلةٍ راقية، وذو شخصيةٍ جذَّابةٍ وقوية، وأجمل ما رأيتُ فيه أنَّه أنشأ مسجدًا للمشغلِ تُصلَّى فيه صلاتا الظُّهرِ والعصر؛ الصَّلاتان اللتان تكونان في وقتِ العمل وهو من يؤمُّ المصلين من عمَّال وعاملات، حتَّى ليُهيأ لي أنَّه شجَّع من لا يصلِّي على الصلاةِ؛ لمهابةِ المنظر الذي يبدو أثناء اجتماع العمال جميعًا؛ حيث لا يكاد يُرى عاملٌ في مكانِه باستثناء - ربما - مَنْ هو مكابر تخلَّفَ عن الصَّلاةِ نهائيًّا، أو من يتوجَّبُ وجودُه حتى لا يبقى المشغل بلا مراقبةٍ.

 

ولكن ربما ما جعلني ألتفتُ إليه بدايةً هو ما حدثَ يومَ أنْ دخلتُ عليه في مكتبِه لطلبِ إجازةٍ لمرض مفاجئ أصاب أمي، وبعد أن شرحتُ له الأمرَ وطلبتُ الإجازة، ردَّ عليَّ بلا مبالاة ظاهرة: ليس هناك داعٍ لكلِّ هذه الأعذار لطلبِ إجازةٍ للذهاب لسوقٍ أو لمقابلة شخصٍ ما! كان ذلك الكلامُ صادمًا لي، ولم أدرِ سببَ هذه المعاملة غيرِ اللائقة مع تلطُّفه المعتاد مع كلِّ البنات، فاستشطتُ غضبًا دون أن أشعرَ، وقلتُ له بكلِّ توترٍ وقد احمرَّ وجهي من الغضب: لستُ مِمَنْ يقابلنَ أشخاصًا يا سيد ماجد، وليس من المعقول أن أجعلَ أمِّي عرضةً لأعذاري الكاذبة لألعبَ وألهو، ثُمَّ وإن كنتَ لا تودُّ إعطائي إجازةً فليس من حقِّك أن تتهمني وتكلمني بهذه الطريقة؛ ولذلك يا أستاذ ماجد ليس لي مصلحةٌ بالبقاءِ بهذا المشغلِ لأُهانَ وتُهان كرامتي بهذه الطريقة!

 

كان منظرُ الأستاذ غريبًا يومها وهو ينظرُ إليَّ بدهشةٍ واضحة على وجهِه وهو يسمعُ صراخي، فقامَ من وراء مكتبِه وهدَّأني، ثُمَّ اعتذر قائلاً: أرجوكِ آنسة ريم، اهدئي وهدِّئي من روعك؛ فأنا آسفٌ جدًّا عمَّا بدرَ مني من غيرِ قصدٍ، وأنا فعلاً لم أقصدِ الإساءةَ إليك، ولكني ظننتُها حجة من حججِ البنات، فأحببتُ ممازحتَك، ولكن لم أكن أدري أنَّ ذلك سيزعجك، أعتذرُ مرةً أخرى، وشفى الله والدتَك الكريمة، والآن اذهبي ولكِ إجازةٌ لباقي اليومِ وغدًا أيضًا.

 

طبعًا لم أعدْ أعرف وقتَها ماذا أقولُ بعد اعتذارِه المؤدَّبِ وكلامِه بكلِّ وقارٍ، فأسرني بلباقتِه، فلم أعدْ قادرة على الاستمرارِ بمعاتبتِه، ولم يكنْ منِّي إلا أن شكرتُه، وخرجت وأنا مرتبكة غايةَ الارتباك، كان ذلك حدثًا فاصلاً بعَلاقتِه معي، فكنتُ ألمس من خلالِ تصرفاته أنَّه بدأ يعاملني معاملةً مغايرة ومتميزة، وكنتُ أبرِّرُ لنفسي أنَّه ربَّما شعرَ بخطئه وأراد تصحيحَه، ولكن مع مرورِ الأيامِ والأشهرِ بدأتْ تصرُّفاتُه أكثر وضوحًا، وصار يميزني عن زميلاتي، ويسمعُ لآرائي ويأخذُ بها ولو بطريقةٍ غيرِ مباشرة، لا أدري مَن كان سبب التفاتِ أحدِنا للآخر؛ هل تصرفي كان السبب؟ وبالتالي كنتُ أنا مَن بدأت، أم هو؟ ولأنَّ الأمر أخذ منحى آخر، وأصبح يهتمُّ بي، لفت نظري أنه هو من بدأ، لكن هذا ليس مهمًّا الآن، فسواء كنتُ أنا البادئة أم هو فقد صرنا أكثرَ انتباهًا لبعضِنا يومًا بعد يوم، حتَّى إنَّ البناتِ انتبهنَ لهذا الموضوع!

 

•     •     •     •


في أحدِ الأيام دخل علينا الأستاذُ محمَّد مديرُ التسويق، واطَّلعَ على سيرِ العمل لإحدى "الطلبيات" المهمة، وحثَّنا على الجدِّ في العمل لإنهائها في وقتها؛ للمحافظةِ على سمعة المشغل - كما قال يومها.

 

وأثناء وجودِه في قسمنا دخل الأستاذُ ماجد فراقبَ ما يفعلُه مديرُ التسويق، وبعد أن تكلَّما لوقتٍ من الزَّمنِ - وكنَّا منهمكات في عملِنا ونحن نسمعهما - قال الأستاذ محمَّد: انتبهنَ يا بنات، أريدُ أن أطرحَ مشكلةً أمامكنَّ على الأستاذ ماجد؛ لعلَّنا نستكشفُ لها حلاًّ من خلال سماعِ آرائكن، فردَّ الأستاذ ماجد مهتمًّا: مشكلة! وما تكونُ تلك المشكلة؟


قال الأستاذ محمَّد: نعم، أستاذ ماجد هناك مشكلةٌ في التسويق، كما بدأتُ ألحظُ أنَّ تراجعًا بدأ يكبرُ في تسويقِ بضاعتنا، والبضاعةُ الكاسدة أخذتْ بالازديادِ.

 

ردَّ الأستاذُ ماجد وهو يُظهر تفهمَه: أوه نعم، بدأتُ ألحظُ ذلك، وكنتُ أنوي مناقشةَ ذلك معك ومع موظفي التسويق - هكذا بدأ النِّقاشُ في الأسبابِ والمشكلات والنتائج، واحتدَّ النِّقاشُ، وأعطتِ البناتُ أراءهنَّ وأفكارَهنَّ بذلك، حتَّى تجرَّأْتُ وأبديتُ رأيي قائلةً: أستاذ محمد، أنا لي رأيٌ قد يكون نافعًا في تطويرِ التسويق وتحسينِ وضعه.

 

فردَّ الأستاذ باهتمام: نعم، قولي ما رأيُك آنسة ريم؟

 

قلتُ وأنا أثقُ بنفسي: المشكلةُ بحسب رأيي هي عدمُ وجودِ قسمٍ للإعلان والترويج تابع لقسم التسويق، وكما تعلمون فإنَّ الإعلاناتِ في هذا العصر هي العاملُ الأساسي في الترويجِ للبضاعة.

 

ردَّ الأستاذ ماجد بتلقائيةٍ واهتمام: نعم، جيد، رأيٌ ممتاز آنسة ريم، لم ننتبهْ لأهميتِه من قبل، وأكيد آنسة ريم أنت لديكِ دائمًا آراء عملية ومميزة، وسنحاولُ عملَ ذلك بعد مناقشتِه - بإذن الله، وبعدها استمرَّ النِّقاشُ قليلاً ثُمَّ انصرف الأستاذان، وبدأ الهمزُ واللَّمزُ من العاملات، هنيئًا لك يا ريم، أصبحتِ مقربةً من الأستاذ، ربَّما ستصبحين في يومٍ قريب رئيسةً للقسم، لا أظنُّ ذلك، بل ربَّما سيقرِّبك الأستاذ منه وتصبحين سكرتيرةً له!

 

طبعًا هذا الكلام لم يكن شيئًا بالمقارنةِ مع كلامهنَّ عندما اتخذ الأستاذ قرارًا بإنشاء قسمٍ للدعاية والإعلان؛ حيثُ ازداد الكلامُ ووصل إلى الأستاذ ماجد، وكان لهذا الكلام وقعه وتأثيره الشَّديد على تصرفاتِه، التي بدَتْ جليًّا تتغير جذريًّا، فقد تحوَّلَ لشخصٍ مغاير تمامًا، وتغيرت معاملتُه لي، وبدأ يتحيَّنُ الفرصَ ليسيء لي ويسخر من كلامي ويحقِّر من آرائي، وكنتُ أبرِّرُ لنفسي أنَّه يهدفُ لزجرِ نفسِه ومجاهدتها؛ حتَّى لا يضعف ويعمل أعمالاً لا ترضي الله، وقد علمتُ عنه مخافتَه لربِّه - سبحانه - إضافة للحفاظِ على سمعتي أمامَ البناتِ العاملات، وكان ذلك التبريرُ يرضيني ويريحني كثيرًا، ولكنِّي أحيانًا كنتُ أتفاجأُ من تصرفاتِه التي لا تنمُّ عن أنه يبتعدُ لمجردِ رضا الله أو حفاظًا على سمعتي؛ لأنَّها فعلاً كانتْ تسيء لي!

 

•     •     •     •


دخَل علينا يومًا في إحدى زياراتِه التي قلَّتْ إلى حدٍّ ما، وبدأ يلاطِفُ هذه ويمازح تلك ويسمعُ لأخرى، حتَّى اشتكتْ واحدةٌ من طول الدَّوامِ، خاصَّةً أنَّنا في الشتاءِ، وسرعان ما يأتي الليلُ، وما لبثتُ أن انضممت إلى البنات، وكانت تلك الشكوى تهمني كثيرًا لبُعد بيتي عن المشغلِ، فقرَّرتُ المشاركةَ وقلت: نعم يا أستاذ، فعلاً لنأتي إلى المشغلِ قبل ساعةٍ ونغادر قبل ساعة؛ فمعظمنا بيوتُهنَّ بعيدةٌ، وتأخيرنا يضايقنا كثيرًا، فما أن سمعني - وهو من كان يردُّ بلطفٍ ويسمع الجميعَ - حتَّى استشاط غضبًا، ونظر إلي بازدراء، ثُمَّ قال ساخرًا - وهو يوجه النَّظرَ إلي: لماذَا لا تحدِّدْنَ موعدَ العمل وساعاته، ومن أوظِّفُ، ومن أطرد، أو حتَّى رواتب العمال، ثم حاول التظاهرَ بتوجيهِ الكلام للجميع، فقال: الأفضلُ أن تعدنَ لعملكنَّ، وتعملنَ بجدٍّ؛ حتَّى لا تُطردْنَ، ثم خرج!

 

يا إلهي، كم كان مَوقفًا مُخزيًا، وكم كان موقفًا صعبًا خاصَّةً لما هجم البناتُ عليَّ بكلامهنَّ القاسي وهنَّ ينظرنَ إلي باشمئزاز وبنظراتٍ حاقدة، وكان مما قيل يومها قول إحدى البنات: هلاَّ بقيتِ صامتةً حتَّى يُستجابَ لطلبنا، كنا قد اقتربنا من هدفنا لولا تدخلك الفج وأنت تتحدَّثين وكأنَّهُ موظفٌ لديكِ، فأجهضتِ كلَّ ما بنيناه!

 

ساعتها لم أعدْ أرى أمامي، وغضبتُ غضبًا لم أغضبْه من قبل، وربَّما ليس بسببِ كلامِها وإنَّما كان حجةً لأفرغَ غضبي من التصرُّفاتِ الغريبة وغير المفهومة التي بدأتْ تظهرُ من الأستاذ ماجد، صرتُ أصرخُ بهنَّ جميعًا وألومهنَّ على كلامهنَّ وأقول: تبًّا لكنَّ جميعًا، كم أنتنَّ ظالمات منافقات، فأنتنَّ تعرفنَ أنَّ ذلك الكلام عارٍ عن الصِّحة، وأنِّي لم أتفوه بشيءٍ أكثر مما طلبتنَّ، ولكنَّ أستاذكنَّ هو من يكرهُ كلامي، فما ذنبي أنا، وأنا أكثركنَّ حاجةً لتغيير موعد الدوام؟ واستمررتُ بالصُّراخِ حتَّى هدأتني صديقتي مها، التي طلبتْ منِّي أن أترفَّعَ عن الردِّ على كلامهنَّ، ثم دافَعَتْ عنِّي ولم تنبسْ واحدةٌ منهنَّ ببنت شفة لمعرفتهنَّ بخطئهنَّ.

 

•     •     •     •


عدت حزينةً ولم أشأ أن أذهبَ للبيتِ، فدخلتُ حديقةً تجاور بيتَنا، وكم كانت دهشتي كبيرةً لما رأيتُه في الحديقةِ وهو يمرُّ أمامي من على بُعدٍ، وكأنَّهُ يريدُ أن يريني نفسَه، وجلس مقابلاً لي على الجهةِ اليسرى وراء شجرةٍ كانت تتدلَّى على كرسي جلس عليه، ولم أعد أرى وجهَه وكأنَّه قاصدٌ ذلك، ولكني بقيتُ أرى جسدَه بكلِّ سهولةٍ وبشكلٍ متواصل بسبب جلوسِه بهذه الوضعية، لما شعرتُ بتواصلِ جلوسِه استحييتُ وقمتُ وعدت إلى بيتي وسطَ دهشةٍ وتساؤلات كبيرة تدور في خُلدي، فكيف جاء ولماذا؟ وهل يعرفُ بوجودي وجاء لأجلي؟ يعني هل ما زال يهتمُّ بي؟ وإن كان كذلك، إذًا لما يصنعُ معي ما يصنع في المشغل؟ أم ما حدثَ صدفة وهو لم ينتبه لي أصلاً؟ ولكنِّي حاولتُ تجاهلَ التساؤلات وأكملتُ باقي يومي.

 

•     •     •     •


في اليوم التالي شعرتُ بأنَّ شيئًا يشدني نحو الحديقةِ، ربَّما كان ذلك لأتأكَّدَ من شكوكي، فذهبتُ وكم كان ذهولي كبيرًا لما رأيتُه يأتي من الطَّرفِ الآخر ويجلسُ على نفس الكرسي، فانشرح صدري، وكأنَّ هدفًا لي تحقَّقَ، فقرَّرتُ إطالةَ جلستي لأرى هل سيذهب، ولكنِّي جلستُ وهو جالسٌ لا يتحرك، فقلتُ لنفسي: يا بنت قومي، فإنَّ أمرَك سيكشفُ وسيعرف أنَّك تبقينَ لأجلِه، خاصَّةً أنه يستطيع أن يراني ولا أراه، فربَّما يكشفُ نظراتِي تجاهه، فقمتُ ورجعت لبيتي، وقلت لنفسي: لأبتعد لأيامٍ حتَّى أبعدَ عن نفسي الأوهامَ، وبعدَ عدةِ أيامٍ عدتُ لنفسِ الكرسي، وما هي إلا لحظات وإذا به يجلسُ على كرسيِّه، فأسقط في يدي، ولم أعد أفهم ما يجري، كيف يعرفُ بمجيئي هل يبقى في الحديقةِ أم ماذا؟ فعزمتُ على المجيء بساعةٍ غير محدَّدةٍ في يوم جمعة يوم العطلة، فذاك يومٌ لا يراني فيه، كما هو الحال وأنا عائدة من عملي في أيام العمل، وفعلاً أتيتُ يوم الجمعة بعد العصرِ مباشرةً، وجلستُ على الكرسي وثواني وجلسَ على كرسيِّه، ربَّاه! ماذا يحدثُ لي لم أعد أفهم، الغريب أنَّ ذلك أصبحَ عادة وكأنَّنا نتواعدُ وصِرْتُ بلا قرارٍ، مسلوبة الإرادةِ كل يوم أو يومين أو عدة أيام على حسب ضعفي، أذهبُ وألتقي معه دون كلامٍ ودون أيِّ فعلٍ، فقط أشعرُ به ويشعر بي حتَّى صرتُ أتفنَّنُ اللقاء؛ فكنت أغيِّرُ مكاني فأجده يقابلني في المكانِ الجديد، وأعود للكرسي فيعود لكرسيه وأذهبُ لآخر فيفعل وهكذا، في يومٍ مثَّلْتُ أنِّي ذاهبةٌ لبيتي لأرى هل سيغادرُ، وعدتُ بعد ثوانٍ معدودةٍ فلم أره في مكانه، هل كان ذلك لعبًا، مواعيد، لقاءات، أم ماذا؟ لا أدري ولكن ذلك حدث فعلاً.

 

•     •     •     •


جاء اليوم الذي لم أعدْ أحتملُ، واحتجتُ لمن أتحدث إليه وأبث ما في نفسي ليسمعني، فلم أجد إلا مها صديقتي في المشغلِ، فقصصتُ عليها كلَّ ما يجري معي، كنتُ أعلم أنَّها ستصفني بالجنونِ وستشفقُ على حالي، ولكنِّي لم أجد سبيلاً غيرها فهي صديقتي وهي من تفهمني، كان باديًا عليها علاماتُ الإشفاقِ وعدمُ التصديقِ ونظرات الاتهام لي بأني أعيشُ في وهمٍ، كان معها حقٌّ؛ فهي ترى تصرفاتِ الأستاذ ماجد معي واحتقاره لي واهتمامه بكلِّ البناتِ سواي، ولكنَّها سمعتني بكلِّ حبٍّ لأنَّها صديقتي، ولم تعرفْ ماذا تقول، ولكنَّها في النهايةِ قالت لي: ريم، أنت واعيةٌ وتعرفين الفرقَ بينك وبينه، فلا أريدُ أن أُدخلَ إلى قلبِك اليأس، ولكنَّها الحقيقةُ، فهو له عالمه وأنت لكِ عالمك، فهو على خلافٍ معكِ، فعليك ألا تنجرّي لهذا الأمرِ، وحكِّمي عقلَك، يومها سكتُّ وقلتُ لنفسي لن تصدقني وربَّما خسرت كلامي وفضحت نفسي، ولكنِّي مع الأيامِ - وكونها صارت تعرفُ بقصتي - قرَّرتُ الاستمرارَ بالتحدُّثِ إليها؛ لأخفِّفَ عن نفسي وكنتُ أحدِّثها عن أيِّ شيء يحدثُ معي، حتَّى إنِّي دعوتُها يومًا لتذهبَ معي للحديقةِ لعلَّها ترى بنفسِها، ولكنَّه يومها وكما توقعتُ لم يأتِ ولم أره مطلقًا، وقلتُ لها: إنَّ هذه المرة الوحيدة التي لم يأتِ فيها، ولكنَّها ربما لم تصدقني.

 

•     •     •     •


ضاقت بي الدُّنيا؛ لأني لم أعد أستوعبُ ما يجري لي، كانت تصرفاتُ الأستاذ معي لا تتغير؛ في الصَّباحِ لا يكترث بي، فهو يحدِّثُ البنات ويسمعهنَّ، مع استمرارِ تجاهلِه المتعمَّد لي، مع أنَّه كان يفعلُ أشياءَ كنتُ أقترحُها دون أن يُظهرَ أنَّها نتيجة اقتراحاتي، حتَّى تغيير الدَّوامِ الذي أخَّره لكن بعد فترة من اقتراحي، وبرَّرَ تغييرَه أنَّه استجابةٌ لطلبِ تلك البنت التي كانت أولَ من تحدَّثتْ عن هذا الأمرِ، مع أنَّ تغييرَه تَمَّ كما اقترحتُ؛ أن نأتي قبلَ ساعةٍ ونغادر بعد ساعة.

 

•     •     •     •


كان لقائي به في الحديقةِ العامل الأبرز في صبري على ما يحدث في المشغل، وكنتُ أقول لنفسي: هي فترة وتمضي، فهو لا يريدُ الإساءةَ لسمعتي، وكنت مرتاحةً لذلك، وتفاديًا أيضًا لضعفٍ قد يحدثُ لي لو أنَّه عاملني بطريقةٍ أفضل، ولكنَّ صبري هذا نفدَ بسببِ حادثةٍ كانت هي القشَّة التي قصمتْ ظهرَ البعير، كان ذلك لما أُصبتُ بالزائدة الدودية، وعملتُ لها عمليةً لاستئصالِها، يومها كم تمنيتُ - لما علمتُ أنَّ بعضَ البناتِ وبعض العمال سيأتون لعيادتي - أن يأتي هو معهم، وكم خابَ ظنِّي لما دخلوا الواحد تِلو الآخر لغرفتي وأنا أنتظرُ أن أراه في هذه المناسبةِ، لكنَّهم دخلوا جميعًا ولم أرَه بينهم، وجلسوا وتكلَّموا وانتظرتُ لأعرفَ ما سببُ عدم مجيئه، والذي عرفتُه من الأستاذ محمد عندما قال في سياقِ كلامِه: وطبعًا يا أخت ريم أتينا ممثَّلين عن جميعِ العمال، فلا يُمكن أن يأتوا جميعًا وكان الأستاذ ماجد ينوي المجيء - هنا انتبهتُ للكلامِ وكُلِّي آذانٌ صاغية - ولكنَّه غيَّرَ رأيَه وقال: إنَّنا نمثِّله وسيطمئنُّ عليكِ بعد عودتك للمشغل - بإذن الله، مثَّلتُ أنِّي غيرُ مكترثة به، وقلت: أهلاً بكم جميعًا.

 

•     •     •     •


لما عدتُ للمشغلِ وأنا بطريقي لقسمِ الخياطة تفاجأ الأستاذ ماجد بي في الممر الموصل للقسم، فلاحظتُ على وجهِه ملامحَ السُّرور والبشاشة لرؤيتي، فقال بلهفة:

ريم - لم يقل: آنسة - حمدًا لله على سلامتِك، قلقتُ عليك والحمدُ لله أنَّك بأحسن حال، وكعادتي أو كعادةِ كلِّ أنثى ضعيفةٍ كأنَّه لم يفعلْ معي شيئًا من قبل، ولأنِّي ما نويتُ معاملتَه إلا كما أنا دون تكلُّفٍ، قلت: شكرًا أستاذ ماجد لا داعي للقلقِ والحمدُ لله أنا بأفضل حال، فردَّ علي: نعم، الحمد لله أنَّنا رأيناك من جديد، فالمشغلُ بحاجةٍ لمجهودِك، وهنا جاء الأستاذ محمد فسلَّم عليَّ واطمأنَّ وهنَّأني بالعودةِ فشكرتُه، ولكن كم كانت صدمتي كبيرة وحزني أكبر لما تحوَّل الأستاذ ماجد وغيَّر لهجتَه وقال لي بكثيرٍ من اللا مبالاة: أرجو يا آنسة ريم أن تعودي لعملِك بجدٍّ، فأظنُّ أنَّك أخذتِ أكثر مما يلزم من العطلةِ والإجازة الصحية، وعليك أن تتداركي الأمرَ، وتجدِّي لتعوِّضي ذلك، وأرجو ألا تكوني كما كنتِ من قبل، فأنا لا أحبُّ قلةَ الاهتمامِ في العمل، ولم يترك لي مجالاً لأردَّ وتركني وانصرف، نظرتُ للأستاذ محمَّد وقلتُ له: هل أنا فعلاً كنتُ غيرَ مهتمة بعملي؟ ارتبك الأستاذ محمد ولم يدرِ بم يردُّ؟، ثم قال: لا عليكِ، فربَّما الأستاذ مجهد قليلاً أو متوتر من أمرٍ ما، عودي لعملِك ولا تنشغلي بهذا الكلام.

 

•     •     •     •


لَم أطق يومها الاستمرارَ بالعمل، وخرجتُ منه ربَّما بعد ساعتين فقط، وذهبتُ إلى الحديقةِ أفكِّر بما جرى، ولماذا تعاملَ معي هكذا، كان بغايةِ اللهفة لما كنَّا وحدنا، وما إن جاء الأستاذُ محمد غيَّر حديثَه ونبرتَه تمامًا، وما زادني توترًا مجيئه إلى الحديقةِ مباشرة بعد وصولي، رغم أنَّ الدوامَ لم ينتهِ بعدُ، مع أنَّه شديدُ الحرصِ على العملِ ولا يتساهل في تركِه، وجلس على الكرسي المقابلِ لي، وبقينا هكذا حوالي السَّاعة، لم أغادر لا أنا ولا هو، لكنَّ مكوثي لم يكُن لأنِّي أريدُ البقاءَ، بل لأنِّي لم أعد أستوعبُ ما الذي يجري لي، وما الذي ينبغي أن أفعلَه، ثم تداركتُ الأمرَ وقُمت عائدة إلى بيتي، وأمضيت ذلك اليوم غارقة في التفكيرِ بأسرار ما يحدثُ لي.

 

•     •     •     •


في اليوم التالي دخل علينا الأستاذ ماجد هادئًا لا يبدو على وجهِه أيُّ نيةٍ بعملِ شيءٍ ما، ثم نظر إليَّ وقال: ماذا يا آنسة ريم؟

 

فارتبكتُ وقلتُ: ماذا أستاذ ماجد، هل تريدُ شيئًا ما؟

 

فردَّ علي باستهزاء: هل تقاسمتُ معك المشغل؟ أم هل أصبحتِ مديرةً له؟ أم ربما فوضتُك لتعملي ما تشائين فيه؟

 

تفاجئتُ بكلامِه وقلت: لم أفهمْ ما تقصد أستاذ.

 

فردَّ بنفسِ طريقته: وكيف ستفهمين وأنت غارقة في غرورِك وكبريائك الزَّائفين، ثم استشاط غضبًا فجأة وقال: قولي لي هل أنت عاملةٌ هنا لأحاسبَك على أفعالِك؟ أم هل أنت صاحبة العملِ لتعملي ما يحلو لك؟ لِمَ خرجتِ البارحة دون أي إذنٍ؟ هل تظنِّين نفسَك فوقَ الجميعِ؟

 

فأجبتُه وقد غلا الدَّمُ في عروقي: لا أسمحُ لك أن تكلِّمني بهذه الطَّريقةِ.

 

فقاطعني قائلاً: علِّميني ما أقولُ وكيف؟

 

فقاطعتُه أيضًا وقلت: لا ينبغي لك أن تكلِّمني بهذه الطريقة غيرِ اللائقة، فأنا كنتُ متعبةً وخرجتُ، ولم أكن قادرةً على أخذِ الإذن فغادرت مباشرة، هذا كلُّ ما حدث، فليس ثَمَّة مبرِّر لهذه الألفاظِ وهذه الطريقة.

 

فقال - وهو ما زال منفعلاً -: اسمعي، إن كنتِ تريدين لقمةَ العيشِ فعليكِ أن تُراعي قوانينَ العمل، وتتأدَّبي مع أربابِه وإلا...

 

فقاطعتُه قائلة: أنا مؤدبة ولستَ من تحدِّدُ ذلك، وإن كان مشغلُك سيهينني بهذه الطَّريقةِ فلا أريدُه، ومن هذه اللحظةِ أنا مستقيلة، هنا أيضًا فاجأني بتصرفِه حين ردَّ بكلِّ برود: ذلك أفضلُ؛ لأنِّي لا أريد بمشغلي من لا يحترمُه.

 

•     •     •     •


خرجتُ من المشغلِ وأنا أبكي، ولم أقدرْ أن أعودَ إلى البيت وأنا بهذه الحالةِ؛ حتَّى لا تراني أمِّي فتنتكس في مرضِها، وعزمتُ على الذهابِ للحديقةِ، ولكنِّي غيرتُ رأيي فلم أعد أحبها؛ لأنها جمعتني بهذا الذي حكمَ عليَّ بالغرور، ربَّما فقط لأنِّي فكرتُ فيه لحظةً ما، فهو أعلى من ذلك، فأراد أن يوقفني عند حدِّي، حتَّى لا أرفع سقفَ أحلامي كثيرًا؛ ولذلك توجهتُ لحديقةٍ أبعد قليلاً، وطول الطَّريقِ أردِّدُ: أنا أكرهُك، أنا أكرهُك، وكنتُ أعني ما أقول؛ لأنَّه أهانني ولعب بمشاعري، وانتقص من قيمتي بكلامِه.

 

ولما وصلتُ الحديقةَ جلستُ والدُّموعُ في عيني، فأخرجتُ منديلاً من حقيبتي لأمسحَ دموعي، ولما رفعتُ نظري فإذا بي أراه يجلسُ في الجانبِ الآخر من الحديقة بعيدًا عنِّي، ولكنِّي أراه جيدًا ينظر إليَّ ويراقبني، يا إلهي، حتَّى لهذه الحديقةِ يتبعني، لم أعد أحتملُ وجودَه وأودُّ التخلُّصَ منه، فما الذي يريدُه مني هذا الرجل؟

 

•     •     •     •


ذهبتُ في اليوم التَّالي إلى بيتِ مها، وفي طريقي رأيتُه عند موقف (الباصات)، فوقف أمامي بصورةٍ تدلُّ على أنَّه يقصدُ ذلك ليريني نفسَه، فتظاهرتُ بعدم اهتمامي وركبتُ (الباص)، وذهبتُ وتكلَّمتُ مع مها عن كلِّ ما يجري وعن ملاحقتِه لي، بالرَّغمِ من كلِّ ما رأينه في المشغلِ، ورغم طردِه لي بطريقةٍ غيرِ مباشرة، بدأتُ أشعرُ أنَّ مها وكأنَّها تصدِّقني ولكنَّها في نفسِ الوقت كانت صارمةً معي كثيرًا، وقالت: ريم، دائمًا كنتُ أعتبرك عاقلةً وتبتعدين عن كلِّ ما يؤذيك، والآن أراك تضعفينَ، ومن خلال كلامِك أشعرُ براحةٍ تبدو ظاهرةً على وجهِك لَمَّا تتحدثين عن ملاحقتِه وهذا خطير؛ فأنت وأنا نرى ما يقومُ به من تهميشِك وإهانتِك وآخرها كما قلتِ: طردك، فهل تضعفين لمجردِ أنَّه يلاحقُكِ في الخفاء؟ فانبذيه واجعليه وراءَ ظهرِك.

 

فتنهَّدتُ من قولها وقلت: كلامك أتفهَّمُه جيدًا، وأدرك ما تقولينه، وصدِّقيني أنا مقتنعةٌ جدًّا بضرورةِ التخلصِ منه، بل وأسعى لذلك، ولكنَّه هو من لا يتركني ويدعني وشأني، فأنت رأيتِ أنِّي تركته هو ومشغلَه، ولكنَّه لم يتركني وأصبح كظلِّي؛ يلاحقني أينما ذهبتُ، ولذلك فالفضولُ يقتلني لأعرفَ ما الذي يريده.

 

فقالت: بعد أن مسحتْ على شعري: حبيبتي، أنا أعي ما تقولينَهُ، ولكنَّ الفضولَ هذا الذي تتحدثين عنه هو من سيجرُّكِ إلى الهلاكِ - لا سمح الله - إن استمررتِ لاهثة وراءَه، فدعكِ من هذا الشَّاب ومن أهدافِه، وعيشي حياتَك حتَّى لا تندمي، ثم أسألُك ما نهايةُ ذلك وما فائدته؟ وهل تستفيدين من تصرُّفاتِه؟ فأجبتُها والضِّيقُ بدأ يعشعشُ في صدري: سألتُ نفسي هذه الأسئلةَ، وأعلم أنَّ عَلاقتي هذه غيرُ مجدية، ولكنَّه فرضَ نفسَه عليَّ ولا يمكنني حين أراه أن يمرَّ ذلك دون انتباهٍ منِّي، فهو ربَّما مجرد أمرٍ قُدِّر عليَّ، وعليَّ تحمُّلُه.

 

ففاجأتني مها بسؤالها: ريم، دائمًا تتكلمين عنه بالمراقبةِ واهتمامك واهتمامه، والآن تقولين: فرض عليكِ، فأسألك: هل تحبِّينَه؟ أم أنَّ مراقبتك لأعماله مجرد فضول واهتمام؟ أتحبينه ريم؟ فأجبتُها وأنا لا أدري ما أقول:

ليتني أعرفُ ماهيةَ مشاعري، ولكن لأقول لك شيئًا: كيف يمكنُ أن يكونَ حبًّا وأنا أتعاملُ مع خيالٍ؟ مع وهم هو حقيقة؟ وهم...

 

فقاطعتني وقالت: ما دمتِ تُدركين ذلك، لِمَ تستمرين بهذا الطَّريق الوهمي؟

 

قلت لها: لستُ أنا من ألاحقه، ولكنَّه يجبرني بملاحقتِه على زيادة الاهتمامِ بمعرفة أهدافِه، ثم سكتنا بعدَها، فربَّما لم تعرفْ مها ما الذي يمكنُ أن تقولَه وأنا بهذا التخبطِ، فقامت وعملتْ لنا شايًا، جاءت مها بالشَّاي وصبتْهُ بكوبين وأنا شاردة لا أتفوَّهُ بكلمةٍ، ثُمَّ بدأت تتكلمُ عن الشاي وفوائده، ولا أعرفُ ماذا أيضًا وأنا لا أسمعُها، ثُمَّ نادتْ عليَّ: ريم، ريم، ريم، ما بكِ هل أنتِ بخيرٍ؟ انتبهتُ لها أخيرًا وقلتُ: نعم، نعم، أنا معك.

 

• ريم، هل يمكنُ أن تحكي لي ما في قلبك، ولا تتردَّدي ولا تستثقلي ذلك؟

• ليس هناك شيء مهمٌّ، دعكِ من هذا ولنفتحْ موضوعًا آخر.

• لا يا ريم فهذا الموضوعُ هو المهمُّ الآن، وقولي ما عندك.

 

تنهَّدتُ تنهيدةً طويلة ثم قلت: هناك شيء خطرَ ببالي بعدما حدثَ لي مؤخَّرا من لقائي بالأستاذ، وتكلُّمِه معي بوجه ونحن وحدنا، ووجهٍ آخرَ لَمَّا انضمَّ إلينا الأستاذ محمد، ثم طرده لي وبقائه بعدها يلاحقُني، ولكنَّ هذا الخاطرَ يشعرُني بالعار، لذلك أتردَّدُ بالتحدُّثِ فيه إليكِ، فشجعتني مها حين قالت:

تكلَّمي بما شئتِ، فأنا أكثرُ من يفهمُكِ وأعذرك بكلِّ ما تفكِّرين فيه، حتَّى إنِّي صرتُ أحبُّ سماعَك ولو للتَّخفيفِ عمَّا في داخلِك، فلا تخشي من شيءٍ قد نقع فيه جميعًا.

 

فقلت: قلتُ لكِ إنِّي أريدُ التخلُّصَ منه، ولكن بعدما حدث من ظهورِه بوجهين ازددتُ إصرارًا على ذلك.

 

فقاطعتني وقالت: هذا طبيعي تجاهَ شخصٍ يلعبُ بك وينافق في عَلاقتِه معك.

 

فقاطعتُها وقلت: ليس ذلك ما قصدتُ، فهذا كان من قبلُ، ولكن هناك تفسيرًا آخر جعلني أحتقرُ نفسي، وجرحني أيضًا، وجعلني أكرهه وأكره فعلَه؛ وهو أنَّه فعلاً يهتمُّ بي وأمثِّلُ له شيئًا مهمًّا، ويودُّ دائمًا أن أكونَ معه ويرافقني بكافَّةِ ساعاتِ يومِه.

 

نظرتْ إليَّ مها باستغرابٍ ثم قالت: وهل هذا التفسيرُ يجعلُكِ تكرهينَهُ وتصمِّمين على التخلص منه؟

 

فقلتُ لها: ليس ذاك، فأنا لم أكملْ حديثي، هو فعلاً يرغبُ في وجودي معه، ولكن في الخفاءِ دون أن يكشفَه أحدٌ، ودون أن يعيِّرَه أحد؛ يريدني معه في الحدائقِ، في الأماكن العامَّةِ التي تخفيه بحيث ينظرُ إلي ويشعرُ بي، وأن أقاسِمَه نفسَ المشاعرِ ويقبل بأن أكشفَه، ولكن في الوقت نفسه لا يقبلُ أن يعرفَ أحدٌ أنَّه مهتمٌّ بي، ولو حدث أنَّ أحدًا هدَّد كشفَ سرِّه فإنَّه يجاهدُ بكلِّ الأساليب، لدرجةِ أنَّه يقبلُ إهانتي أمامَهم؛ كي لا يشعروا بذلك.

 

تعرفين ما يعني هذا؟ وما يعني ذاك؟؛ يعني: أنِّي بالنسبةِ له ذنبٌ ابتُلِيَ به، ولم يعد يقدِرُ على مقاومتِه، يودُّ أن يرتكبَه طوال اليوم ولكن بشكلٍ مستترٍ ولا يشرِّفُه أبدًا أن يُكشفَ أو أن يُفتضحَ، فهو يبذلُ قصارى جهدِه ليُخفيَ ذنبَه الذي لم يعدْ يقدرُ على تركِه، ولو استطاع لتركَهُ دون ترددٍ.

 

فقالت مها: أنت تبالغين في هذا التفسيرِ.

 

قلت لها: لا يا مها لستُ أبالغ، وهذا التفسير هو حقيقة واقعة أشعرُ بها وأراها، وهذا ما جرحني وشعرتُ أثناءَه بالعارِ، وكرهتُ نفسي بسببِه؛ لأنَّ ذاك الرَّجل لا يتشرَّفُ بأن يعترفَ للنَّاسِ بأنَّهُ مهتمٌّ بي، فَمَنْ أنا أمامه! فهو الغنيُّ المتعلِّمُ ابنُ العائلةِ الرَّاقية، ومن أنا! فأنا مجرَّد خياطة عاملة في مشغلِه من أسرةٍ فقيرة بسيطة، لا يشرِّفُه نسبُها.

 

هنا انفجرتُ باكية، فاقتربتْ منِّي مها وضمَّتْنِي إلى صدرِها، وقالت: دعكِ من هذا الرَّجلِ، اتركيه وليفعلْ ما يشاءُ ولا تبالي به، حتَّى ولو كانت كلُّ كلمةٍ تقولينها صحيحة، حتى ولو كان يهتمُّ بكِ، فمثلُ هذا الاهتمام لا يشرِّفُكِ.

 

•     •     •     •


بعد أسبوعين من هذا الكلامِ طلبتُ من مها - وكأنِّي طفلةٌ أودُّ أن أثبتَ أنَّ خيالاتي صحيحة - بأن تذهبَ للحديقةِ بعد أن أكونَ ذهبتُ وجلست، واتفقتُ معها على طريقةٍ بحيث لا يكشفُنا فيها، وقلتُ لها: سأذهب لوحدي، حتَّى لا يكشف مجيئَها وهو يراقبني، ثُمَّ أخبرتها أني سأتصلُّ بها برنَّتينِ للجوَّالِ عندما أراه يجلسُ على كرسيِّه، فلمَّا قلتُ ذلك صرختْ بوجهي وهي تلومني: ماذا؟! هل ما زلتِ تذهبين إلى الحديقة؟! هل ما زلتِ مستسلمة لهذا الأمرِ؟ فرددتُ عليها بألَمٍ يقطِّعُ قلبي:

قلتُ لنفسي: في النِّهايةِ هي مجرَّدُ لقاءات بعيدة لا كلامَ فيها ولا حُرْمة، ولماذا لا أستمرُّ فيها؟ على الأقلِّ أشعرُ بأنَّ هناك من ينتظرني، من يهتمُّ بوجودي، ولو كان وهمًا، ولكن ما يهمُّك في هذا الأمرِ؟ فأنا أدعوك لتذهبي فقط لتصدقي ما أقولُه.

 

فردَّتْ: ريم، أنا أصدِّقُكِ، ولكن هذا يضرُّكِ ويؤذي مشاعرَك، فلن تسلمي من أضرارِه.

 

فقلت بحزمٍ: قلتُ لكِ: إنِّي سأنهي ذلك قريبًا بإذنِ الله، ولكنِ اصبري عليَّ.

 

والآن هل توافقين على الذهاب، فلمَّا رأتْ رجائي لها وحبِّي لأنْ تذهبَ معي سكتتْ قليلاً ثم رقَّ قلبُها لحالي، وقالت: نعم.

 

•     •     •     •


في اليوم التالي ذهبتُ وكنت على يقينٍ أنَّه سيأتي؛ لأنِّي صرتُ أحفظُه، فلما جاء اتصلتُ بها، فاقتربتْ وراقبتْهُ من مكانٍ بعيد قليلاً، ولَمَّا التقتْ بي بعدها رأيتُ في وجهِها تعابيرَ غيرَ التعابيرِ التي كنتُ أراها، وكأنَّها تأكَّدتْ مما كنتُ أرويه لها، حتَّى إنَّها أكَّدتْ لي أنَّه كان ينظرُ إليَّ باستمرارٍ والأسى بادٍ على وجهِه، كان ذلك مؤلِمًا بالنسبةِ إلي، ولكن معنى الذَّنبِ كان مسيطرًا عليَّ، وكنت أتألَمُّ لهذا المعنى بأن أكونَ الذَّنب الذي لا ينبغي أن يعرفَه أحدٌ، فقرَّرتُ أن أخلِّصَه من ذلك الذَّنبِ، وكنت قد اتصلتُ بأخي خالد بالكويت وكلمتُه بموافقتي للالتحاقِ به لأعملَ معه بعد أن رفضتُ ذلك لسنين، وفعلاً سافرتُ وربَّما لم أتفاجأ لَمَّا رأيتُه في المطارِ كأنَّه يودِّعُني، فقد اعتدتُ على مراقبتِه لي في كلِّ مكانٍ، وليس في الحديقةِ وحدها!

 

•     •     •     •


مضتِ الأيامُ والشُّهور وأنا في الكويت، واتصالاتي لم تنقطعْ بمها وكنتُ أحدِّثُها عبر الإنترنت وأسألها عن كلِّ شيءٍ، وأستحيي أن أسألَها عن الأستاذ ماجد، فكانت تفهمني وتمدني بأخبارِه عامَّة وأخبارِه مع البناتِ خاصَّة، وتصرفاته التي لم تتغيرْ أبدًا ولباقتِه وذوقِه الرَّفيع معهنَّ جميعًا، وعمله المجد كما هو دائمًا، حتَّى إنَّها قالت لي مرة: إنَّها لو لم تعرفْ ما كان يحدثُ معي لما تخيَّلتْ أنَّ هناك شيئًا ما يخبِّئه، فهو طبيعي لا يبدو عليه أنَّه فَقَدَ حبيبًا أو حتَّى رفيقًا كان يهتمُّ به.

 

•     •     •     •


بعد شهور من وجودي في الكويت تقدَّم لي خاطبٌ مناسب جدًّا ووافقتُ عليه، وتَمَّتِ الخطوبةُ بسرعة، واتَّفقنا على الزَّواجِ، وما هي إلا أسابيع وتزوجْتُ.

 

كلَّمتني مها - لَمَّا رأيتها - عن لحظةِ معرفةِ الأستاذ ماجد بزواجي، حيثُ قالت: دخل الأستاذ ورآنا نتكلَّمُ عن زواجِك، ونحن مهتمين بذلك فقال: ما لي أراكنَّ مسرورات؟ وكأنِّي أسمعُ بزواجِ إحداكن، فردت واحدةٌ من البنات: نعم يا أستاذ صحيح، والعروسُ هي ريم، فردَّ مستغربًا: ريم! من ريم؟ فردتْ أخرى: ريم زميلتُنا السَّابقة، تزوَّجتِ البارحة من رجلٍ سوري تعرَّفتْ عليه في الكويت، (فلو رأيتِ يا ريمُ كم تغيَّر وجهُه).

 

وقال: هل ريم تزوَّجت؟ يعني ريم تزوجتْ فعلاً؟

 

فرددْنَ عليه: نعم تزوَّجتْ، وهي الآن تقضي شهرَ العسل.

 

فصرخ بنا جميعًا بشكل مفاجئ:

ماذا نفعل إذًا؟ هل نجعلُ هذا اليومَ عطلةً احتفالاً بزواج صديقتِكنَّ؟ وهل انتهى عملُكنَّ لتجلسنَ وتثرثرن بهذه الطريقة؟ هيا ولتعد كلُّ واحدةٍ لعملها، ولا يهمُّنا إن تزوَّجتْ ريم أم لم تتزوج! ثُمَّ خرج وعاد إلى عملِه واستمرَّ في حياته بشكلٍ طبيعي.

 

•     •     •     •


والآن يا أمل أنتِ أختي الصُّغرى التي أحبُّها وأخاف عليها، وأنت ترين أنَّني متزوجة وسعيدة ولدي طفلان وأحبُّ زوجي، فلا أقصُّ هذه القصةَ لأفضحَ سرًّا لديَّ أو لأنَّني ما زلتُ أتذكره، بل لأنِّي كنتُ أسعى وراء شيءٍ أرتوي منه لعطش ظننتُ أنَّه يقتلني، ولكن لما سعيتُ وراءه واقتربتُ وجدتُه سرابًا لا يروي ظمأً، والآن أراك تمرين بوهمٍ مماثل، فأرجو أن تفهمي ما قصدتُه.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • العودة
  • عذابات السراب ( قصيدة )
  • إلى الراكضين خلف السراب

مختارات من الشبكة

  • الشفق في ديوان أخاديد السراب للشاعر إبراهيم عمر صعابي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • المستقبل السراب(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أفق يا متبع السراب(مقالة - آفاق الشريعة)
  • قتلى السراب(مقالة - المسلمون في العالم)
  • عاشقة السراب(مقالة - موقع الدكتور وليد قصاب)
  • عبر من التاريخ (قصيدة)(مقالة - موقع د. محمد منير الجنباز)
  • التحفيز وسراب النجاح(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • سراب (قصة قصيرة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الشيوعية والسراب الكبير (PDF)(كتاب - موقع الشيخ د. أسامة بن عبدالله خياط)
  • أحلامنا بين الحقيقة والسراب️(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
2- تصحيح
أميمة 20-06-2011 08:19 AM

شكرا أخي حسام على تعليقك ولكني وجدت نفسي مضطرة للرد والتصحيح
أعتقد أن من يقرأ ربما عليه من السهل أن يعرف أنها ليست بالقصة الحقيقية وإلا لما كتبت وأحببت تخيل قصة لأوصل رسالة والدليل يا أخي أني لست أما على الإطلاق

1- ثناء
حسام المسيلي - الجزائر 04-06-2011 02:22 PM

سلام الله أختي، فرأت بعناية كل شاردة وواردة في نص حياتك الذي سردته، أقدر لك نصحك، ونعم القرار الذي اتخذته فقط أرجو أن تتوجي هذا القرار بنسيانه التام، ببساطة لأنك أم وأنا على يقين من أن قرارك بيدك
تحياتي وأملي بدوام سعادتك.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 22/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب