المحطة الثامنة عشرة: الحكمة

المحطة الثامنة عشرة: الحكمة

تُعد الحكمة من أعلى مراتب الإيجابية، وهي لا تختص بالنبوة، بل هي أعم، قال ابن عباس رضى الله عنه: "ضمَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: "اللهم علِّمه الحكمة"، وتنمية الحكمة كأي مهارة مثل: الذكاء وبعض المهارات الاجتماعية قابلة للنمو والتدريب، وهي ليست سمة موروثة بالفطرة، ولكن بإمكان الفرد أن يكتسبها بالخبرة، هذه السمة لها اعتماد ديني وقرآني؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾[البقرة: 269]، عندما يكتسب الفرد الحكمة تعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة.

وهي أيضًا لها اعتماد علمي وفلسفي، ببساطة اختلف عليها الجميع في التعريف، ولكن اتفق عليها الجميع في اﻷهمية، فهي تساعد على تشريف اﻹنسان ورفع مكانته بين مَن حوله، وتجعل الفرد على صواب في أقواله وأفعاله، تساعد على علوِّ شأن صاحبها وإكمال عقله، تعمل على اتصاف صاحبها بالهيبة والوقار، وتجعل الفرد نافعًا وإيجابيًّا في أي مكان يذهب إليه، فهي أفضل شيء يَمنحه الخالق للعبد بعد اﻹيمان ومكارم اﻷخلاق، فهي من صفات اﻷنبياء والعلماء والصالحين.

ما تعريف الحكمة؟

يعرِّفها "ابن القيم" بأنها فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي، ويعرِّفها "القدماء": بأنها وضع الشيء في موضعه، وقيل بأن الحكمة في اللغة: هي العلم والعمل، يعرفها بعض علماء النفس: بأنها قدرة الفرد على فَهْم الطبيعة البشرية والخبرة في الحياة والاستبصار بالوسائل والغايات التي تؤدي إلى النجاح، ويعرفها "ابن سينا": بأنها صناعة نظر يستفيد بها الإنسان تحصيلَ ما عليه الوجود كله في نفسه، ببساطة الحكمة تعين صاحبها على إدراك الغايات واﻷسباب، فيحسن بذلك تقدير اﻷمور وَفق بصيرة مستنيرة تجعله يتجه نحو اﻷعمال الصالحة والصائبة، وعندما تعلو الحكمة بداخل الإنسان يتغيَّر اتجاهه نحو المسار الأفضل، ويصبح أكثرَ استبصار بنفسه والآخرين والحياة.

ما فوائد تنمية الحكمة؟

• تجعل الفرد قويًّا في علاقته الروحانية مع خالقه.

• تجعل الفرد يميل إلى الخير والحق.

• تجعل الفرد نجمًا اجتماعيًّا، فالناس تثق وتنجذب إلى أصحاب العقول الراجحة.

• تجعل الفرد صاحب بصيرة ثاقبة يركز على الغايات.

اﻵن تعالَ معي عزيزي القارئ لنتعرف على بعض سلوكيات من يمتلك الحكمة:

الحكيم قادر على إدراك المعاني واﻷسئلة العميقة في الحياة، يفكر ويتمهل قبل أن يتكلم، يُنصت كثيرًا ويتكلم قليلًا، يحاول فهم اﻵخرين، لا يصدر أحكام، يحاول البحث عن سبب يفسِّر به تصرفات اﻵخرين، يتقبل البشر كما هم، لا يحاول تغيير أحدٍ، لا يتسرع في التصرف، يعلم أن التسرع يؤدي إلى الندم، في النهاية لا يقارن نفسه بأحد، يتصرَّف حسب مبادئه متواضع، فضولي، منفتح الأفق، يقرأ على قدر ما يستطيع، يجرب أشياء جديدة حتى يكتسب الخبرة.

اسأَل نفسك عندما تحكم على شخص بأنه حكيم: لماذا تعتقد أنه حكيم؟ هل ﻷنه مثقف أم لأنه حلَّ لغز الحياة، أم ﻷنه رجل صالح، أم ﻷنه صاحب خبرة في الحياة؟

يقول "جيم رون": البحث عن الحكمة هو أحد الخطط للوصول إلى السعادة، لذلك فإن جزءًا كبيرًا من الحكمة يُكتسب، ويستطيع الفرد منا أن يتمثلها في سلوكه وفي ردود أفعاله، فالحكمة ليست مرتبطة بعمر معين.

ما التوصيات العملية التي تساعدنا بإذن الله في تنمية الحكمة؟

1- ممارسة التفكير التأملي: تشير بعض الدراسات النفسية إلى أن التفكير التأملي ينمي الحكمة، ووظيفة التفكير التأملي تحويل موقف مليء بالغموض والشك والالتباس إلى موقف واضح مستقر، إذًا علينا ممارسة التفكير التأملي في أحوالنا وأمورنا وسلوكياتنا ورؤيتنا، ومراقبة أنفسنا مع التمعُّن بعمق في اﻷمور، كل هذا بهدف تحسين حياتنا، ببساطة لا تعوِّد نفسك على التفكير السطحي، مارِس التفكير العميق في شؤون الكون والخلق، ومن هنا يُصبح العقل أكثر قدرة على تحليل اﻷحداث وفَهْمها بصورة واضحة.

2- خالِط وجالس أصحاب الحكمة: بمعنى تابع اﻷماكن التي يترددون عليها مع اﻹنصات الجيد لهم، ولكن تَحَلَّ بالصبر على تأملاتهم، فمنهم تُستمَدُّ بذورُ الحكمة.

3- سرْ على خطى اﻷنبياء: بمعنى معرفة سِيَر الأنبياء وجميع التفاصيل الدقيقة، ثم التدبر والتمعن والتفكر في جميع اﻷقوال واﻷفعال، ومحاولة اكتساب كل ذلك بجانب الاقتداء بهم، وهذا يلخِّص لنا الكثير من محاولات التجريب الخطأ.

4- تدرَّب على تحمُّل الغموض: بمعنى لا تلجأ إلى أسهل التفسيرات المتاحة لموقف معين، لمجرد أنك ليس لديك قدرة على تحمُّل الغموض، فالحكيم شغوف بالمعرفة مُنفتح على الآراء المتنوعة، لا يدع الأحداث الغامضة تمر عليه دون أن يُعمل فيها تفكيره.

5- العلم والمعرفة والثقافة: بمعنى التعلم المستمر واكتساب المعرفة، يغذي ينابيع الحكمة لدينا، بجانب الثقافة والاطلاع على أفكار الآخرين، وهضم ما نتعلَّمه، حتى لا يكون العلم مجرد معرفة عقلية ساكنة.

6- تنمية الذات من مؤشرات نضج الشخص الحكيم: بمعنى الذي ينمو ويتطور، بالطبع تزداد لديه الحكمة، بينما الذي يتوقف عن تنمية ذاته تتلاشى منه معرفته وحكمته بالتدريج، هكذا حال العلماء والأبطال وأصحاب المواهب، والاهتمام بتنمية شخصية الفرد في جميع اﻷبعاد الحياتية ينمِّيها، واكتساب الحكمة لا علاقة له بالعمر، ولكن بمحاولات الفرد نحو تطوير نفسه، من خلال الوعي والمعرفة والمفاهيم والتصورات والتوازن في الحياة والتعلم من الحياة، من هنا تزداد حكمتك.