• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مسابقة كاتب الألوكة الثانية   مسابقة الألوكة الكبرى لتعزيز القيم والمبادئ والأخلاق   المسابقة الإلكترونية لجميع أفراد الأسرة   أنشطة دار الألوكة   مسابقة شبكة الألوكة (حياتنا توسط واعتدال)   أخبار الألوكة   إصدارات الألوكة   مسابقات الألوكة المستمرة   مسابقة الألوكة الكبرى للإبداع الروائي  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في محراب العلم والأدب: تحية إكبار وتقدير لشبكة ...
    د. مصطفى يعقوب
  •  
    بيان شبكة الألوكة إلى زوارها الفضلاء حول حقوق ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    كلمة شكر وعرفان لشبكة الألوكة من أبي محمد فواز ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    تهنئة بعيد الأضحى ١٤٤٠هـ
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    في ظلال الألوكة
    د. سعد مردف
  •  
    بطاقة تهنئة بعيد الأضحى
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    الألوكة وجامعة السويس ينظمان مؤتمرا دوليا بعنوان ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    نتائج مسابقة شبكة الألوكة: حياتنا توسط واعتدال
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    في حب الضاد شاركت الألوكة مجمع اللغة العربية ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    شبكة الألوكة تشارك في فعاليات اليوم العالمي للغة ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    إذاعات مدرسية مكتوبة - شبكة الألوكة
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    دار الألوكة للنشر في معرض الرياض الدولي للكتاب ...
    دار الألوكة للنشر
  •  
    الألوكة.. لغة سماوية
    خالد يحيى محرق
  •  
    اللقاء الرمضاني السنوي لشبكة الألوكة في بلدة رغبة
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    مسابقة شبكة الألوكة: حياتنا توسط واعتدال
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    ترشيح د. خالد الجريسي لانتخابات الغرفة التجارية
    محمد بن سالم بن علي جابر
شبكة الألوكة / الإصدارات والمسابقات / مسابقة كاتب الألوكة الثانية / المشاركات المرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية / قسم الدراسات والأبحاث / الدراسات الشرعية
علامة باركود

المشي في القرآن الكريم

المشي في القرآن الكريم
سمير علي محمد غياث

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 28/4/2012 ميلادي - 6/6/1433 هجري

الزيارات: 115354

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

المشي في القرآن الكريم

(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد:

فإنه ليس حرف في كتاب الله ولا كلمة ولا آية إلا ولها في مكانها التي هي فيه أسرار وحكم ومقاصد، علمها من علمها، وجهلها من جهلها؛ لذلك كثيراً ما ينبهنا الله تعالى إلى تدبر كتابه، وإلى التفكر في آيات هذا القرآن العظيم، كقوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [النساء: 82]، بل لقد نعى الله تعالى على المؤمنين عدم لين قلوبهم وخشوعها عند سماعها لهذا القرآن الكريم فقال سبحانه: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16] قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ إلا أربع سنين"[1].

 

ولهز القلوب أكثر وأكثر لتصحو وتستفيق من غفلتها نحو التدبر والتفكر في هذا القرآن العظيم، يضرب الله تعالى هذا المثل الذي "يتخلل القلب ويهزه؛ وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزل عليه: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].

 

وهي صورة تمثل حقيقة؛ فإن لهذا القرآن لثقلاً وسلطاناً وأثراً مزلزلاً، لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته. ولقد وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وجد، عندما سمع قارئاً يقرأ: ﴿ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 1 - 8] فارتكن إلى الجدار، ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهراً مما ألم به!

 

واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحاً لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيها اهتزازاً ويرتجف ارتجافاً، ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغنطيس والكهرباء بالأجسام أو أشد.

 

والله خالق الجبال ومنزل القرآن يقول: ﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ﴾.

 

والذين أحسوا شيئاً من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقاً لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي"[2].

 

فتشجيعاً مني على تدبرٍ أمثل لكتاب الله تعالى، قدمت هذا البحث المختصر، الموسوم بـ (المشي...في القرآن الكريم: من أنواعه وأغراضه وبعض دلالاته)، ولا أدعي من بعيد ولا من قريب أنني استوفيت كل ما يندرج تحت هذا العنوان، لكن لعل الله تعالى أن يمد في العمر ويفسح في الأجل، ويلهمني فهم كلامه الكريم أكثر وأكثر، فأستوفي الكلام عن هذا الموضوع، أو أن يقيض الله لهذه المهمة من رجال الإسلام أو نسائه من ينبري لهذه المهمة العظيمة.

 

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

كتبه/ سمير علي محمد غياث

14/ 1/ 1431هـ. صنعاء.

 

خطة البحث

قسمت هذا البحث إلى مقدمة وتمهيد وخمسة فصول وخاتمة كما يلي:

الفصل الأول: بين يدي البحث، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: تمهيد.

المطلب الثاني: تعريف المشي في اللغة العربية.

الفصل الثاني: أنواع المشي في القرآن الكريم، وفيه مبحثان:

المبحث الأول: مشي مأمور به، وفيه مطالب:

الأول: مشي لطلب الرزق الحلال.

الثاني: للتفكر في أحوال الغابرين.

الثالث: لضرب مثل للناس.

المبحث الثاني: مشي منهي عنه، وفيه مطالب:

الأول: المشي للنميمة.

الثاني: مشي الكبر والخيلاء.

الفصل الثالث: من أغراض ذكر القرآن الكريم للمشي، وفيه مطالب:

الأول: للمنِّ، وبيان القدرة الإلهية.

الثاني: لحكاية حجة للمجادلين في الحق.

الثالث: للرد على حجج المجادلين.

الرابع: لتجلية صورة المكذبين الهلعين المذعورين.

الخامس: لحكاية حادثة معينة.

الفصل الرابع: من دلالات ذكر المشي في القرآن الكريم، وفيه مبحثان:

الأول: دلالات إيمانية.

الثاني: دلالات تربوية.

الفصل الخامس: لطائف قرآنية (من آيات المشي) في القرآن الكريم.

ثم الخاتمة.


الفصل الأول

المطلب الأول:

تمهيد:

إن المشي نعمة من نعم المولى سبحانه وتعالى، ينعم بها على من يشاء من عباده، وقد قسم سبحانه هذه النعمة بين مخلوقاته كما قسم بينهم معيشتهم وجميع نعمه عليهم، ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ ﴾ كالثعابين ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ ﴾ كبني آدم ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ﴾ كالأنعام وغيرها، وهكذا ﴿ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ فهكذا أراد الله تعالى، وهكذا أتقن خلقه وأبدع صنعه ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [النور: 45].

 

لهذا كان يجب على كل إنسان أنعم الله عليه بهذه النعمة أن يشكر الله تعالى عليها؛ فلا يستغلها للذهاب إلى ما حرمه عليه ربه تعالى، بل يمشي إلى حيث يرضي ربه سبحانه، يمشي إلى المسجد فيكون له بكل خطوة حسنة، وتكفير سيئة، وهكذا كلما مشى إلى طاعة ربه ثبّت له تلك النعمة، وزاده من فضله تعالى، فمن خالف ذلك؛ بأن استعملها في الذهاب لنهب أموال الناس، والسطو عليهم، والإفساد في الأرض؛ فإنه عند ذلك لا يستحق أن يبقى له ذلك التكريم، ولا أن تدوم له تلك النعمة ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33]، هكذا حكم عليهم صاحب هذه النعمة، وهكذا (الجزاء من جنس العمل).

 

والمشي - أيها المسلم الكريم - زيادة على أنه نعمة من نعم الله تعالى؛ فهو كذلك آية من آياته الدالة على قدرته وعظيم حكمته.

 

يدل على ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه، في باب قوله: ﴿ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 34] عن أنس ابن مالك -رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا نبي الله يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة! قال: ( (أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة))؟! قال قتادة: بلى وعزة ربنا. رواه البخاري في صحيحه برقم (4760).

 

فالمشي آية من آيات قدرته تعالى وحكمته؛ فلهذا كله اعتنى الله سبحانه وتعالى بذكر هذه النعمة والآية في كتابه الكريم، الذي هو المعجزة الخالدة، فعند تتبع هذه الكلمة في القرآن نجد أنها قد ذكرت في أكثر من (20) موضعاً، وبتصاريف مختلفة.

 

أيها المسلم الكريم: أليس في هذا ما يشد الانتباه، ويوقظ القلوب والبصائر؛ لتغوص في هذا البحر العذب الزلال؛ متأملة ومتفكرة ومتدبرة؟..بلا والله.

 

إذاً: فما هي أسرار ذكر الله تعالى لهذه الكلمة والحقيقة (المشي)؟ وما دلالات تلك الآيات التي ذكرت فيها؟ وكيف أبدع القرآن في اختيار مواضعها وأماكنها؟

 

هذا ما سنحاول - مستمدين العون من الله تعالى- أن نلقي الضوء عليه في هذا البحث الذي بين أيديكم. والله ولي التوفيق.

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

المطلب الثاني

تعريف المشي في اللغة العربية

تأبى بعض معاجم لغتنا العربية أن تنشئ حداً لهذه الكلمة (المشي)؛ متعللة - بلسان الحال- بأن هذه الكلمة تعبر عن نفسها بمجرد النطق بها[3]، فيما نجد البعض الآخر يشير إلى بيان حقيقة هذه الكلمة، وقد اخترنا منها ما يلي:

قال الراغب:

"المشي: الانتقال من مكان إلى مكان بإرادة "[4].

 

وقال ابن فارس:

"الميم والشين والحرف المعتل أصلانِ صحيحان، أحدهما يدلُّ على حركة الإنسان وغيره، والآخَر النَّماء والزيادة.

 

والأوّل مَشَى يَمشِي مَشْياً. وشرِبْتُ مَشُوَّاً ومَشِيَّاً، وهو الدَّواء الذي يُمْشِي.-أي يُطلق البطن- والآخر المَشَاء، وهو النِّتاج الكثير، وبه سمِّيت الماشية. وامرأةٌ ماشية: كثُر ولدُها. وأمْشَى الرّجُل: كثُرت ماشيتُه"[5].

 

وفي المصباح المنير:

"مَشَى: (يَمْشِي) (مَشْيًا) إذا كان على رجليه - سريعاً كان أو بطيئا - فهو (مَاشٍ) والجمع (مُشَاةٌ) ويتعدى بالهمزة والتضعيف، و (مَشَى) بالنميمة فهو (مَشَّاءُ)، و (المَاشِيَةُ): المال من الإبل والغنم قاله ابن السكيت وجماعة، وبعضهم يجعل البقر من (المَاشِيَةِ)"[6].

 

هذه هي حقيقة هذه الكلمة في اللغة العربية، التي نزل بها هذا القرآن الكريم، نستفيد من معرفة ذلك أنه كلما مررنا في القرآن الكريم على هذه الكلمة (المشي)؛ فهذا هو معناها؛ إمراراً لها على ظاهرها، مالم تصرفها عن ذلك الظاهر قرينة بينة.

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

الفصل الثاني

أنواع المشي في القرآن الكريم.

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: مشي مأمور به، وفيه مطالب

لقد ذكر ابن القيم - رحمه الله- في كتابه الزاد[7]أن للمشي عشرة أنواع، لكننا هنا لسنا بصدد نقل ما ذكره ابن القيم؛ فبحثنا فقط: في القرآن الكريم، فما هي أنواع المشي في القرآن الكريم؟

 

إن كل من رزقه الله تعالى هذه النعمة فهو يمشي: فالصغير يمشي، والكبير يمشي، والحيوان يمشي، والرئيس والملك والجنود والعلماء...كل يمشي...لكن السؤال: إلى أين؟ يقول الحق سبحانه: ﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾ [الليل: 4]، فنعمة المشي واحدة، لكن مقاصد وأهداف المشاة شتى...هيا بنا نستعرض أنواع المشي التي ذكرها القرآن الكريم.

 

المبحث الأول

مشي مأمور به، وفيه مطالب

المطلب الأول

المشي السريع لذكر الله تعالى

"قال القتبي: السعي على وجه الإسراع في المشي كقوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ [ القصص 20].

 

والسعي: العمل، كقوله تعالى: ﴿ وسعى لها سعيها ﴾[ الإسراء 19]، وقال: ﴿ إن سعيكم لشتى ﴾ [الليل 4].

 

والسعي: المشي كقوله تعالى: ﴿ يأتينك سعيا ﴾ [البقرة 260]، وكقوله تعالى: ﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ [الجمعة 9]، وقال الحسن في قوله تعالى: ﴿ فاسعوا إلى ذكر الله ﴾ قال: ليس السعي بالأقدام ولكن سعي بالنية وسعي بالقلب وسعي بالرغبة"[8].

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

المطلب الثاني

مشي القصد والتوسط

من ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19].

 

أي: امش مشيًا مقتصدا ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطًا بين بين[9].

 

عن أنس بن مالك -رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ..."[10].

 

حين ننظر في الآية السابقة " لما قال: ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ﴾ وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالفه غاية الاختلاف، وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهداً؛ فقال: ﴿ وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ ﴾ أي كن وسطاً بين الطرفين المذمومين

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

المطلب الثالث

المشي لطلب الرزق

يقول الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].

 

"إنه من تسخير الله تعالى للأرض أن جعلها كفاتا للإنسان في حياته؛ بتسهيل معيشته منها وحياته على ظهرها، فإذا مات كانت له أيضاً كفاتاً بدفنه فيها.

 

ويقول: لو شاء الله لجعلها حديداً ونحاساً، فلا يستطيع الإنسان أن يحرث فيها، ولا يحفر ولا يبني، وإذا مات لا يجد مدفنا فيها.

 

ومما يشير إلى هذه المعاني كلها قوله تعالى: ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾"[11].

 

"والأمر في قوله تعالى: ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾ للإباحة، ولكن التقديم لهذا الأمر بقوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ﴾ فيه امتنان من الله تعالى على خلقه، مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيهاً وحثا للأمة على السعي والعمل والجد، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب؛ لتسخيرها وتذليلها؛ مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها.

 

كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾"[12].

 

ثم في " قوله تعالى: ﴿ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ بعد المشي في مناكب الأرض وتطلب الرزق، وما يتضمن من النظر والتأمل في مسببات الأسباب وتسخير الله لها، كقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ﴾ بعد ذكر ﴿ خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا ﴾، أي: الأصناف، وتسخير الفلك والأنعام والبحر والبر، فيه ضمناً إثبات القدرة على البعث، فيكون المشي في مناكب الأرض، واستخدام مناكبها، واستغلال ثرواتها، والانتفاع من خيراتها، لا لطلب الرزق وحده، وإلا لكان يمكن سوقه إليهم، ولكن للأخذ بالأسباب أولاً، وللنظر في المسببات والعبرة بالمخلوقات والتزود لما بعد الممات، كما في آية "الجمعة": ﴿ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾. أي: عند مشاهدة آيات قدرته وعظيم امتنانه.

 

وعليه فقد وضع القرآن الأمة الإسلامية في أعز مواضع الغنى والاستغناء، والاستثمار والإنتاج، فما نقص عليها من أمور دنياها إلا بقدر ما قصرت هي في القيام بهذا العمل، وأضاعت من حقها في هذا الوجود.

 

وقد قال النووي في "مقدمة المجموع" إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجياتها حتى الإبرة؛ لتستغني عن غيرها، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج، وهذا هو واقع العالم اليوم؛ إذ القدرة الإنتاجية هي المتحكمة وذات السيادة الدولية.

 

وقد أعطى الله العالم الإسلامي الأولوية في هذا كله، فعليهم أن يحتلوا مكانهم ويحافظوا على مكانتهم ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معاً. وبالله التوفيق"[13].

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

المبحث الثاني

المشي المنهي عنه، وفيه مطلبان

المطلب الأول

المشي بالنميمة

قال الله تعالى: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11].

 

"يقول تعالى: كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم والخلق العظيم ﴿ فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ﴾...ثم قال تعالى: ﴿ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ ﴾؛ وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلها"[14].

 

وفي قوله تعالى: "﴿ هَمَّازٍ مَشّاءٍ بِنميمٍ ﴾ ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه الفتّان الطعان، قاله ابن عباس وقتادة.

 

الثاني: أنه الذي يلوي شدقيه من وراء الناس، قاله الحسن.

 

الثالث: أنه الذي يهمزهم بيده ويضربهم دون لسانه، قاله ابن زيد، والأول أشبه لقول الشاعر:

تُدْلي بِوُدٍّ إذا لاقيتني كذباً ♦♦♦ وإن أغيبُ فأنت الهامز اللُّمَزة.

 

﴿ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11] فيه وجهان:

أحدهما: الذي ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض، قاله قتادة.

الثاني: هو الذي يسعى بالكذب، ومنه قول الشاعر:

ومَوْلى كبيْتِ النمل لا خير عنده ♦♦♦ لمولاه إلا سعيه بنميم"[15]

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

المطلب الثاني

مشي التكبر والخيلاء، والرقص

من ذلك قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37].

 

إن "الإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده؛ تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان، أو قوة أو جمال، ولو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله؛ لطامن من كبريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هوناً لا تيهاً ولا مرحاً.

 

والقرآن يجبه المتطاول المختال المرح بضعفه وعجزه وضآلته: ﴿ إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً ﴾ فالإنسان بجسمه ضئيل هزيل، لا يبلغ شيئاً من الأجسام الضخمة التي خلقها الله"[16].

 

قال سبحانه: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 27 - 29].

 

قال الشوكاني رحمه الله: "وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلا عليها أو على ما هو معتمد عليها: تأكيداً وتقريراً"[17].

 

"وأصل المرح في اللغة: شدة الفرح والنشاط، وإطلاقه على مشي الإنسان متبختراً مشي المتكبرين؛ لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادة"[18].

 

"ويروى أن سبأ دوخ الارض بأجناده شرقا وغربا وسهلا وجبلا، وقتل سادة وسبى - وبه سمى سبأ - ودان له الخلق، فلما رأى ذلك انفرد عن أصحابه ثلاثة أيام ثم خرج إليهم فقال: إنى لما نلت ما لم ينل أحد رأيت الابتداء بشكر هذه النعم، فلم أر أوقع في ذلك من السجود للشمس إذا أشرقت، فسجدوا لها، وكان ذلك أول عبادة الشمس، فهذه عاقبة الخيلاء والتكبر والمرح، نعوذ بالله من ذلك"[19].

 

وقوله تعال: ﴿ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37] فيه وجهان، كما يقول الماوردي:

"أحدهما: إنك لن تخرق الأرض من تحت قدمك ولن تبلغ الجبال طولاً بتطاولك زجراً له عن تجاوزه الذي لا يدرك به غرضاً.

 

الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى له، ومعناه كما أنك لن تخرق الأرض في مشيك ولن تبلغ الجبال طولاً فإنك لا تبلغ ما أردت بكبرك وعجبك، إياساً له من بلوغ إرادته"[20].

 

قال الشنقيطي: "وأجود الأعاريب في قوله: ﴿ طُولاً ﴾ أنه تمييز محول عن الفاعل، أي لن يبلغ طولك الجبال. خلافاً لمن أعربه حالاً ومن أعربه مفعولاً من أجله. وقد أجاد من قال:

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا
فكم تحتها قوم همُ منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة
فكم مات من قوم همُ منك أمنع

 

واستدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِى الاٌّرْضِ مَرَحًا ﴾ [17/37]، على منع الرقص وتعاطيه؛ لأن فاعله ممن يمشي مرحاً"[21].

 

"ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء، أدب مع الله، وأدب مع الناس، أدب نفسي وأدب اجتماعي.

 

وما يترك هذا الأدبَ إلى الخيلاءِ والعجب إلا فارغٌ صغير القلب صغير الاهتمامات، يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه"[22].

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

الفصل الثالث: من أغراض ذكر

القرآن الكريم للمشي

المطلب الأول

للمنِّ، وبيان القدرة الإلهية

كما في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [النور: 45].

 

قال القرطبي -رحمه الله-: " المشي على البطن للحيات والحوت، ونحوه من الدود وغيره، وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى، والأربع لسائر الحيوان.

 

وفي مصحف أُبي " (ومنهم من يمشى على أكثر)، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان كالسرطان والخشاش، ولكنه قرآن لم يثبته إجماع، لكن قال النقاش: إنما اكتفى في القول بذكر ما يمشى على أربع عن ذكر ما يمشى على أكثر، لان جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهى قوام مشيه، وكثرة الارجل في بعضه زيادة في خلقته، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها.

 

قال ابن عطية: والظاهر أن تلك الارجل الكثيرة ليست باطلا بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان، وهى كلها تتحرك في تصرفه.

 

وقال بعضهم: ليس في الكتاب ما يمنع من المشى على أكثر من أربع، إذ لم يقل ليس منها ما يمشى على أكثر من أربع.

 

وقيل فيه إضمار: ومنهم من يمشى على أكثر من أربع، كما وقع في مصحف أبى.

 

والله أعلم"[23].

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

المطلب الثاني

لحكاية حجة للمجادلين في الحق

كما قال سبحانه في سورة الفرقان: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 7].

 

" ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ ﴾ ما لهذا الذي يزعم الرسالة وفيه استهانة وتهكم ﴿ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ﴾ كما نأكل ﴿ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ لطلب المعاش كما نمشي، والمعنى إن صح دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا؛ وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات؛ فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأحوال نفسانية، كما أشار إليه تعالى بقوله ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [الكهف: 110]"[24].

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

المطلب الثالث

للرد على حجج المجادلين

كما قال تعالى في رد الشبهة السابقة: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20].

 

"لقد توسلوا إلى إبطال رسالته صلى الله عليه وسلم بثبوت صفات البشر له، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا: ﴿ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ﴾ [سورة الأنبياء: 5]، وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام؛ إذ هم من البشر، ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس، وقد قال موسى: ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً ﴾ [سورة طه:59]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قريشاً في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم"[25].

♦♦ ♦♦ ♦♦

المطلب الرابع

لتجلية صورة المكذبين الهلعين المذعورين

فهم هلعون مذعورون إن مُسَّت آلهتهم بسوء﴿ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ* فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ﴾ [الصافات: 91 - 94].

 

" قال السدي: دخل إبراهيم، عليه السلام إلى بيت الآلهة، فإذا هم في بَهْوٍ عظيم، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم، إلى جنبه [صنم آخر] أصغر منه، بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه، حتى بلغوا باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما وضعوه بين أيدي الآلهة، وقالوا: إذا كان حين نرجع وقد بَرَكَت الآلهةُ في طعامنا أكلناه، فلما نظر إبراهيم، عليه والسلام، إلى ما بين أيديهم من الطعام قال: ﴿ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ﴾؟!، وقوله: ﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾ قال الفراء: معناه مال عليهم ضربا باليمين، وقال قتادة والجوهري: فأقبل عليهم ضربا باليمين.

 

وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى؛ ولهذا تركهم جذاذاً إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، كما تقدم في سورة الأنبياء تفسير ذلك.

 

قوله هاهنا: ﴿ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ﴾: قال مجاهد وغير واحد: أي يسرعون."[26].

 

وهم كذلك هلعون مذعورون إذا ذُكّروا بالله سبحانه واليوم الآخر، فتراهم يسرعون المشي ليفروا من ذلك الذي يذكرهم بربهم تعالى: ﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ﴾ [المدثر: 50 - 51].

 

 

"والحُمُر: جمع حمار، وهو الحمار الوحشي، وهو شديد النفار إذا أحس بصوت القانص وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس"[27].

 

وهكذا لا يزال معهم هذا الهلع والذعر حتى تنزل بهم العقوبة الإلهية، والبطش الرباني، من الذي يمهل ولا يهمل﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ﴾ [الأنبياء: 11 - 12] أنظر إليهم يركضون ويهربون ويسرعون إلى هناك، إلى أين أيها الظلمة؟ إلى أين يا من أهلكتم الحرث والنسل؟ إلى أين يا أصحاب الزعامات والشارات والجنود المجندة؟ ﴿ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ﴾ [إبراهيم: 44]، كنتم تتكبرون وتتبخترون وتغترون، والآن تفرون؟! مِن مَن؟ وإلى أين؟ هيهات هيهات ﴿ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 13].

 

ولا يزال يطاردهم هذا الهلع والذعر حتى حين يبعثون من قبورهم، لقد جبلوا عليه، فلا يستطيعون نسيانه حتى في ذلك اليوم العصيب، ﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ [المعارج:43]، ﴿ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ [القمر: 8].

 

من شب على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فإياك ثم إياك أيها الأخ المسلم أن تشب على هذه الصفة الذميمة المقيتة؛ فتفر من المواعظ ومجالس الذكر، وحلق العلم.

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

المطلب الخامس

لضرب المثل للناس

قال الحق سبحانه في سورة الملك: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22].

 

"هذا مثل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين:كافر ومؤمن.

 

والذي انقدح لي: أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله: ﴿ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾...

 

فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض، وأعطف على بعض القبائل من بعض، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة، ولكل قبيلة إله أو آلهة فتقسم الحاجات عندها، واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم، وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في أنهم مضرب المثل الأول، وكذلك حال أهل الإشراك في كل زمان.ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قوله: ﴿ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [يوسف:39].

 

وينور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153] وقوله: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف:108]، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبّه به الإسلام بالسبل المتفرقة المشبّه بها تعداد الأصنام، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبهاً بالسبيل، وسالكه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف:108].

 

فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية فقوله: ﴿ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ ﴾ تشبيه لحال المشركين في تقسم أمره بين الآلهة طلباً للذي ينفعه منها الشاك في انتفاعه بها، بحال السائر قاصداً أرضاً معينة ليس لها طريق جادة؛ فهو يتتبع بُنَيّات الطريق الملتوية، وتلتبس عليه ولا يوقن بالطريقة التي تبلغ إلى مقصده فيبقى حائراً متوسماً، يتعرف آثار أقدام الناس وأخفاف الإبل؛ فيعلم بها أن الطريق مسلوكة أو متروكة.

 

وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى، مبنية عليه بقوله: ﴿ مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ ﴾ بتشبيه حال المتحيّر المتطلب للآثار في الأرض بحال المكب على وجهه، في شدة اقترابه من الأرض.

 

وقوله: ﴿ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً ﴾ تشبيه لحال الذي آمن برب واحد، الواثق بنصر ربه وتأييده، وبأنه مصادف للحق، بحال الماشي في طريق جادة واضحة، لا ينظر إلا إلى اتجاه وجهه فهو مستوٍ في سَيرِه"[28].

♦♦ ♦♦ ♦♦

المطلب السادس

لحكاية حادثة معينة

من ذلك قوله تعالى: ﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ﴾ [طه: 40].

 

فهذا إخبار من الله عن حادثة معينة، قال ابن كثير: " وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع، فأباها، قال الله عز وجل: ﴿ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ ﴾ فجات أخته وقالت:

﴿ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ﴾ [القصص: 12]. تعني هل أدلكم على من ترضعه لكم بالأجرة؟ فذهبت به وهم معها إلى أمه، فعرضت عليه ثديها، فقبله، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، واستأجروها على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة أغنم وأجزل؛ "[29].

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

الفصل الرابع: الدلالات الإيمانية والتربوية من ذكر المشي في القرآن.

المبحث الأول

من الدلالات الإيمانية لذكر المشي في القرآن الكريم

وفيه مطلبان

المطلب الأول

في قوله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ﴾

الدلالة الإيمانية التي يشير إليها قول الحق سبحانه في سورة الفرقان: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].

 

فقوله عز وجل: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ﴾ أي: أفاضل العباد، وقيل: هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل، وإلا فالخلق كلهم عباد الله[30].

 

"عن زيد بن أسلم قال: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ [الفرقان: 63] فما وجدت في ذلك شفاء فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: «هُم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض». فهذا رأي لزيد بن أسلم أُلهمه يجعل معنى ﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ ﴾ أنه استعارة للعمل في الأرض كقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾ [البقرة: 205]، وأن الهوْن مستعار لفعل الخير؛ لأنه هون على الناس كما يسمى بالمعروف"[31].

 

"وجوز الزجاج أن يكون قوله: ﴿ يَمْشُونَ ﴾ عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس فعُبّر عن ذلك بالانتقال في الأرض وتبعه ابن عطية"[32].

 

لكن الأصل إمرار اللفظ على ظاهره، حتى يأتي دليل صحيح صريح يصرفه عن ذلك الظاهر، فظاهر الخطاب هنا أنه مدح لمِشيةٍ بالأرْجُل، وهذا الذي عليه جمهورُ المفسرين[33].

 

لكن لنا أن نقول: أن هذا الاختلاف في تفسير المشي هنا، إنما هو من اختلاف التنوع لا التضاد، فيجوز أن يكون تفسير المشي هنا يحتمل كل ما ذُكِر، فهم في معاملتهم مع إخوانهم ظاهراً وباطناً هينين لينين كما وصفهم ربهم: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54].

 

إن هذا الهَون في المشي الذي تتصف به هذه الجماعة المؤمنة "ناشئ عن التواضع لله تعالى والتخلق بآداب النفس العالية وزوال بطر أهل الجاهلية فكانت هذه المشية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية. وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاماً يتبختر في مشيته فقال له: "إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله"[34].

 

إن هؤلاء عباد الرحمن "وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63] لا عن ضعف ولكن عن ترفع؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع"[35].

 

"قال الحسن: لا يجهلون على أحد وإن جهل عليهم حلموا. وقال مقاتل بن حيان: ﴿ قَالُوا سَلَامًا ﴾ أي قولاً يسلمون فيه من الإثم"[36].

 

فهذه الآية تنبيه من الله وتحريض للمؤمنين، إنهم أرادوا تكريم الله تعالى لهم، وإضافتهم إلى نفسه تعالى أن يكونوا متصفين بهاتين الصفتين: ﴿ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾.

♦♦ ♦♦ ♦♦


المطلب الثاني

في قوله تعالى: ﴿ويجعل لكم نوراً تمشون به﴾.

وموضع آخر، فيه دلالة إيمانية، في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].

 

فـ" في قوله: ﴿ تَمْشُونَ بِهِ ﴾ إعلام بأن تصرفهم وتقلبهم الذي ينفعهم إنما هو النور، وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم ولا نافع لهم، بل ضرره أكثر من نفعه.

 

وفيه: أن أهل النور هم أهل المشي في الناس ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع، فلا مشي لقلوبهم ولا لأحوالهم ولا لأقوالهم ولا لأقدامهم إلى الطاعات، وكذلك لا تمشي على الصراط إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم.

 

• كما قال تعالى في الآية الأخرى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، فهم ينيرون لأنفسهم وللناس، لا كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها -.

 

وفي قوله ﴿ تَمْشُونَ بِهِ ﴾ نكتة بديعة، وهي أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم كما يمشون بها بين الناس في الدنيا، ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدماً عن قدم على الصراط، فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه"[37].

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

المبحث الثاني

من الدلالات التربوية لذكر المشي في القرآن

وفيه مطلبان

المطلب الأول

في قوله تعالى: ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾

من ذلك قول الحق سبحانه حاكياً نصائح لقمان الحكيم لابنه: ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19].

 

فيأتي هذا الإرشاد التربوي من لقمان الحكيم لابنه بعد إرشادات سابقة، فـ"بعد أن بيَّن له آداب حسن المعاملة مع الناس قفاها بحسن الآداب في حالته الخاصة، وتلك حالتا المشي والتكلم، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه.

 

والقصد: الوسط العدل بين طرفين، فالقصد في المشي: هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال: قصد في مشيه. فمعنى ﴿ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾ ارتكب القصد.

 

والغض: نقص قوة استعمال الشيء. يقال: غض بصره، إذا خفض نظره فلم يحدق...فغض الصوت: جعله دون الجهر"[38].

♦♦ ♦♦ ♦♦

المطلب الثاني:

في قوله تعالى: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾.

وموضع آخر في سورة القصص، يقول تعالى في قصة موسى مع ابنة ذلك الرجل الصالح: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا... ﴾ [القصص: 25].

 

إن وصف الله تعالى لمشية تلك الفتاة المحتشمة بقوله أنها ﴿ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ لم يأت هكذا دون فائدة أو دلالة، بل له دلالة تربوية حكيمة، تجعل هذه الفتاة مثالاً رائعاً للمرأة الموافقة لفطرتها، التي لم تتعود أصلاً لمثل هذا الخروج من بيتها، ولكن لما أحوجتها الضرورة خرجت بتلك الصفة الطيبة الكريمة، فليكن لكِ يا فتاة الإسلام في تلك الفتاة المثل الرائع، والقدوة الحسنة.

 

"والمعنى: أنها مستحيية في مشيها، أي تمشي غير متبخترة ولا متثنية ولا مظهرة زينة. وعن عمر بن الخطاب أنها كانت ساترة وجهها بثوبها، أي لأن ستر الوجه غير واجب عليها ولكنه مبالغة في الحياء. والاستحياء مبالغة في الحياء "[39].

 

" قال عمرو بن ميمون: ولم تكن سلفعاً - جريئة على الرجال - من النساء، خرَّاجة ولاجة"[40].

 

قال ابن الجوزي - رحمه الله-: " وفي سبب استحيائها ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه كان من صفتها الحياء فهي تمشي مشي من لم يعتد الخروج والدخول.

والثاني: لأنها دعته لتكافئه وكان الأجمل عندها أن تدعوه من غير مكافأة.

والثالث: لأنها رسول أبيها"[41].

 

زاد الإمام الرازي: "لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة؛ يستحيي لا سيما المرأة"[42].

 

وهكذا يأتي التوجيه الإلهي التربوي للنساء عن كيفية المشي الذي يناسب طبيعة المرأة وفطرتها، فيقول سبحانه في آية النور: ﴿ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ﴾ [النور: 31].

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

الفصل الخامس: لطائف قرآنية (من آيات المشي)

اللطيفة الأولى: في قوله تعالى: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11] وهي:

أن " تقدم همّاز على مشاء بنميم كان بالرتبة؛ لأن المشي مرتب على القعود في المكان، والهمّاز هو العياب، وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه، بخلاف النميمة"[43]، فإنها تفتقر إلى حركة وانتقال للتحريش بين فلان وفلان.

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

اللطيفة الثانية: في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 20] وهي:

أنه استنبط بعض العلماء من ذلك أن " من آداب الداخل في السوق: أن يكون ماشياً على رجليه، لا راكباً، كما وصف الله تعالى الرسل - عليهم السلام"[44] في هذه الآية.

♦♦ ♦♦ ♦♦

 

اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].

 

فإنه " لما سبحانه وصف الكفار في هذه السورة - الفرقان - بما وصفهم به من الفظاظة والغلظة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعداوتهم له، ومظاهرتهم على خالقهم، ونحو ذلك من جلافتهم وختم بالتذكر والشكر، وكان التقدير: فعباد الشيطان لا يتذكرون ولا يشكرون، لما لهم من القسوة عطف على هذا المقدر أضدادهم واصفاً لهم بأضداد أوصافهم، مبشراً لهم بضد جزائهم.

 

فقال: ﴿ وعباد الرحمن ﴾ فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان كل الخلق عباده، وأضافهم إلى صفة وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أؤلئك تبشيراً لهم، ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبين عن السجود إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بأمر كبير، فقال: ﴿ الذين يمشون ﴾ وقال: ﴿ على الأرض ﴾ تذكيراً بما هم منه وما يصيرون إليه، وحثاً عل السعي في معالي الخلاق للترقي عنه، وعبر عن حالهم بالمصدر مبالغة في اتصافهم بمدلوله حتى كانوا إياه، فقال:﴿ هوناً ﴾ أي ذوي هون، أي لين ورفق وسكينة ووقار وإخبات وتواضع، لا يؤذون أحداً ولا يفخرون، رحمة لأنفسهم وغيرهم، غير متابعين ما هم فيه من الحرارة الشيطانية، فبرؤوا من حظوظ الشيطان، لأن من كان من الأرض وإليها يعود لا يليق به إلا ذلك..."[45] والله أعلم.

♦♦ ♦♦ ♦♦

الخاتمة

﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾[46]

إن هذا الكتاب العظيم، المعجز الفذ؛ لينطوي على أسرار لا تنتهي، وعلوم ومعارف لا تنضب، وحِكَم في كل زمان تتجدد، ولا يزيدها كر الليالي والأيام إلا جلاء ونصوعاً، ولا تقدُّم البشرية العلمي والتكنلوجي إلا اشتهاراً وذيوعاً، لماذا؟ لأنه ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].

 

وها قد قمنا بهذه الجولة السريعة - في هذا البحث- عرفنا فيها كيف اعتنى القرآن الكريم بحقيقة هذه النعمة (المشي)، وكيف درس هذه الحقيقة التي كم نقرأها في آي هذا القرآن فلا نلقي لها بالاً، وزاد يقيننا أن هذا القرآن العظيم هو الحق المنزل من عند الحق سبحانه..

 

بل زدنا يقيناً بإعجاز هذا القرآن، وعجيب أسلوبه، ودقة ألفاظه، وعمق دلالاته وأسراره، وتنوع عجائبه ودروسه ومواعظه.

 

وما هذا العمل إلا دعوة لكل مسلم أن يجعل لنفسه مع هذا الكتاب جلسات تأمل، ووقفات تفكر، وسيجد فيها بلا شك حلاً لكل مشاكله الخاصة والعامة ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9].

 

اللهم ألهمنا تأويل كتابك، وفهم مرادك، وجلِّ لنا من أسرار هذا القرآن الكريم ما تنور به قلوبنا، وتهدي به بصائرنا، واجعلنا اللهم ممن يقيم حروفه وحدوده، واجعلنا اللهم به من أهلك وخاصتك.

 

والحمد لله رب العالمين



[1] أخرجه مسلم في صحيحه برقم (3027).

[2] في ظلال القرآن (6/ 3532) ط: دار الشروق.

[3] أنظر مثلا: الصحاح للجوهري مادة (مشا)، ولسان العرب لابن منظور مادة (مشي).

[4] مفردات ألفاظ القرآن (2 / 377) للراغب الأصفهاني.

[5] مقاييس اللغة (5 / 325) المؤلف: أبي الحسين أحمد بن فارِس بن زكَرِيّا. المحقق: عبد السَّلام محمد هَارُون. الناشر: دار الفكر. الطبعة: 1399هـ - 1979م.

[6] المصباح المنير (1 / 296). لأحمد بن محمد بن علي الفيومي المقري. دراسة و تحقيق: يوسف الشيخ محمد. ط: المكتبة العصرية.

[7] زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 161). لابن القيم. ط: الرسالة - مكتبة المنار الإسلامية - بيروت - الكويت. الطبعة الرابعة عشرة: 1407 - 1986. تحقيق: شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط.

[8] بحر العلوم: (3/ 426).

[9] تفسير ابن كثير (6/ 339) دار طيبة.

[10] أخرجه مسلم برقم (2330).

[11] أضواء البيان (8/ 238).

[12] السابق.

[13] أضواء البيان: (8/ 239- 240).

[14] تفسير ابن كثير (8/ 190).

[15] النكت والعيون: (6/ 63-64). أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري. دار النشر: دار الكتب العلمية -بيروت / لبنان -.تحقيق: السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم.

[16] في ظلال القرآن: (4/ 2228).

[17] فتح القدير: (3/ 326) للشوكاني.

[18] أضواء البيان: (3/ 156).

[19] تفسير القرطبي: (10/ 262).

[20] النكت والعيون: (3/ 244) لأبي الحسن الماوردي.

[21] أضواء البيان: (3/ 157).

[22] في ظلال القرآن: (4/ 2228).

[23] تفسير القرطبي: (12/ 292).

[24] تفسير البيضاوى (4 / 207).

[25] التحرير والتنوير (19 / 30) بتصرف يسير.

[26] تفسير ابن كثير (7 / 25-26) دار طيبة.

[27] التحرير والتنوير (29 / 306).

[28] التحرير والتنوير (29 / 41- 43).

[29] تفسير ابن كثير (5 / 284) دار طيبة.

[30] تفسير البغوي (6 / 93).

[31] التحرير والتنوير (19 / 89).

[32] التحرير والتنوير (10 / 189-190).

[33] انظر التحرير والتنوير ( 19 / 88).

[34] التحرير والتنوير (19 / 88).

[35] في ظلال القرآن (5/ 2578)

[36] زاد المسي ر (6 / 101). لابن الجوزي.

[37] اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية (1 / 9-10).

[38] التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور (21 / 111). المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي. الناشر: مؤسسة التاريخ العربي، بيروت- لبنان. الطبعة: الأولى، 1420هـ/2000م.

[39] التحرير والتنوير: (20/ 42).

[40] تفسير القرطبي: (13/ 270).

[41] زاد المسير: (6/ 214).

[42] تفسير الرازي: مفاتيح الغيب (24/ 206).

[43] بدائع الفوائد: (1/ 66). لابن القيم، بتصرف يسير.

[44] البحر المديد: (5/ 184).

[45] نظم الدرر: (5/ 334).

[46] [الطارق: 13، 14].





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الحواس في القرآن الكريم
  • صحة الإنسان في القرآن والسنة
  • المشي يزيل الهموم ويبدد الأحزان

مختارات من الشبكة

  • المشي إلى الجمعة خطوات في سبيل الله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المشي إلى الجماعات يكفر الذنوب والسيئات (بطاقة دعوية)(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • صحتك في المشي.. لماذا؟(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • صحتك في المشي.. كيف؟!(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • آداب المشي ولبس النعال (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المشي صحة وعبادة(مقالة - موقع د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر)
  • المشي إلى المسجد في الفجر والعشاء ينير للعبد يوم القيامة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من فضائل الذهاب إلى المسجد: المشي إلى المساجد يكفر السيئات ويرفع الدرجات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أدب المشي إلى الصلاة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فوائد رياضة المشي(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 


تعليقات الزوار
6- المشي فى القرآن الكريم
الزمخشري - مصر 11-08-2012 09:36 PM

بحث جيد فى بابه قدم فيه الباحث ما أمكنه من حيث المطلوب فى التفسير الموضوعى وأساسياته متذرعا بجمع الآيات فى الباب والاستشهاد ما أمكن بأقوال المفسرين وبياناتهم ولى بحث فى طريقه الى التحكيم ثم النشر فى إحدى المجلات العلمية المعترف بها وسوف يرى النور قريبا بإذن الله تعالى وتوفيقه.

5- هذا ظننا بك
أبو عمر غياث - اليمن 02-05-2012 05:55 PM

بارك الله فيك أخي الفاضل (سمير) على هذا البحث القيم

وكان هذا الظن بك

نسأل الله تعالى أن ينفع به أمة الإسلام

وأن يكون لبنة في صرح مستقبلك الشامخ

وإلى الأمام دوما

4- بحث علمى مكتمل الأركان
وليد فتحى عبدالحميد - مصر 29-04-2012 01:35 PM

جزى الله الباحث الكريم " سمير على غياث " خير الجزاء على ها البحث العلمى الدقيق وقد استوعب الباحث موضوع البحث وأفاد وأجاد ونتمنى له مزيدا من التقدم والإبداع والحمد لله رب العالمين .

3- رائع
ماجد - اليمن 29-04-2012 11:56 AM

ما شاء الله بحث رائع جدا وموضوع شيق وأسلوب علمي مؤصل نبارك للأخ الباحث على هذا الجهد الموفق ونسأل الله أن يجعله في ميزان حسناته.

2- بورك فيك
محمد العبدلي - اليمن 29-04-2012 09:34 AM

جزاك الله خيرا وبارك فيك أخي سمير ونفع بك الإسلام والمسلمين، ما شاء الله بحث طيب ورائع ومختصر، وفقك الله لخدمة كتابه.

1- صنعاء
الذريبي - اليمن 29-04-2012 08:58 AM

بحث "المشي في القرآن الكريم" بحث رائع جدا، فقد سار فيه الباحث بخطوات راسخة بدأه بجمع آيات القرآن في هذا الموضوع، ثم تقسيم الموضوع إلى أبواب وفصول، ثم سار فيه بتأويل تلك الأيات معتمدا في ذلك على كلام أئمة التفسير... مع عزوه لكل قول كاتبه.. فنبارك له هذا البحث الموضوعي ل"المشي في القرآن الكريم" ونشكر شبكة الألوكة على اهتمامها بالبحث والباحثين.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب