• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مسابقة كاتب الألوكة الثانية   مسابقة الألوكة الكبرى لتعزيز القيم والمبادئ والأخلاق   المسابقة الإلكترونية لجميع أفراد الأسرة   أنشطة دار الألوكة   مسابقة شبكة الألوكة (حياتنا توسط واعتدال)   أخبار الألوكة   إصدارات الألوكة   مسابقات الألوكة المستمرة   مسابقة الألوكة الكبرى للإبداع الروائي  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في محراب العلم والأدب: تحية إكبار وتقدير لشبكة ...
    د. مصطفى يعقوب
  •  
    بيان شبكة الألوكة إلى زوارها الفضلاء حول حقوق ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    كلمة شكر وعرفان لشبكة الألوكة من أبي محمد فواز ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    تهنئة بعيد الأضحى ١٤٤٠هـ
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    في ظلال الألوكة
    د. سعد مردف
  •  
    بطاقة تهنئة بعيد الأضحى
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    الألوكة وجامعة السويس ينظمان مؤتمرا دوليا بعنوان ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    نتائج مسابقة شبكة الألوكة: حياتنا توسط واعتدال
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    في حب الضاد شاركت الألوكة مجمع اللغة العربية ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    شبكة الألوكة تشارك في فعاليات اليوم العالمي للغة ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    إذاعات مدرسية مكتوبة - شبكة الألوكة
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    دار الألوكة للنشر في معرض الرياض الدولي للكتاب ...
    دار الألوكة للنشر
  •  
    الألوكة.. لغة سماوية
    خالد يحيى محرق
  •  
    اللقاء الرمضاني السنوي لشبكة الألوكة في بلدة رغبة
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    مسابقة شبكة الألوكة: حياتنا توسط واعتدال
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    ترشيح د. خالد الجريسي لانتخابات الغرفة التجارية
    محمد بن سالم بن علي جابر
شبكة الألوكة / الإصدارات والمسابقات / مسابقات الألوكة المستمرة / مسابقة كاتب الألوكة الأولى / المشاركات التي رشحت للفوز في مسابقة كاتب الألوكة الأولى
علامة باركود

ثقافة العنف وشرعنة الممارسات الأمريكية

أحمد عمر عطا الله روبي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/7/2009 ميلادي - 25/7/1430 هجري

الزيارات: 15023

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ثقافة العنف وشرعنة الممارسات الأمريكية

(مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة)

 

يشير مصطلح العُنف إلى السلوك المدمر أو المؤذي الذي يقوم به فرد أو جماعة ضد أخرى، فيما يخص مفهوم السلوك ينبغي أن تتسع أذهاننا؛ لنرى الخطاب في تجاور مع الأفعال، وفيما يخص مفهوم التَّدمير ينبغي أن نستحضر طبيعة تشكيل الإنسان؛ لتبيت الانتهاكات الشَّخصية التي تتجاهل الآخر ماديًّا أو معنويًّا مظهرًا من مظاهره.

 

إن إدراج الشخصية ضمن الصياغة تعني إعطاء إضاءة شاملة لآفاق العُنف؛ لأنها أكثر من مُجرد الجسد والروح، إنَّه يؤكد على أن الأعمال التي تعود سلبًا على الشخصيَّة هي بالأصالة أعمال عنيفة، بالمعنى الذي يحدو بأي سلوك - شخصي أو مُؤسسي - يتسم بطابع تدميري - مادي أو معنوي - ضد آخر، إلى استحقاقه بجدارة هذا الوصف، ومن الأهمية بمكان الانتباه إلى حالات حضوره، فهو تارة ظاهر جلي، وتارة أخرى يتوارى عن الفاحصين، وفي هذه الحالة الأخرى قد يبدو شخصيًّا، حين يقنع بإزعاج الآخر نفسيًّا، وقد يبدو مؤسسيًّا حين تنتهك به البنى الاجتماعيًّة المكرسة هوية مجموعات الأشخاص.

 

أما مصطلح الشرعنة، فيشير إلى عمليَّات مركبة تصطنعها الذات؛ بغية إضفاء صبغة من المعقولية على السُّلوكيات الصَّادرة عن الفرد أو الجماعة، هذا يعني أنه مرتهن إلى حد كبير بالنَّمط الثقافي السائد المهيمن، بعبارة أخرى تبدو شارحة ومُتوجهة صوب العنف في آن: يترافق العنف مع المعتقدات، التي تتكئ على الخطاب والممارسات الاجتماعية الناجمة عن سوء التكيُّف مع ضغوطٍ ما، خذ على ذلك مثالاً: تسوية بعض الأدبيَّات بين الغضب والعنف، يبدو الخطاب الثقافي هنا مفسحًا المجال أمام الربط بدقه وحنكة، بين العاطفة والتَّوجهات نحو عمل لا أخلاقي، ذلك حين يستلب العُنف من سمته الفطرية أو المكتسبة، ويمنحه عضويَّة ميدان الاستجابات لمؤثر، بيد أنَّ هذه الدقة والحنكة لم تُمانع، في سبيل تحقيق أهداف الخطاب، من أن تنطوي على مغالطات؛ تكشفها المفاصلة المستقرة في أذهان المفكرين بين الغَضب والعنف؛ لأنَّها تحدد في صرامة أن الأول مُجرد عاطفة، أمَّا الآخر فهو سلوك، أو لنقل: أحد السبل - ليس وحيدًا إذًا - في التعبير عن هذا الغضب.

 

المصطلح الثالث في العنوان - وأقصد أمريكا - غني في مستواه المبذول عن عمليَّات التقريب السَّاذجة لمفرداته؛ لكن الذي يلوح لي في حاجة إلى التقريب حقًّا إنَّما هو شبكة العلاقات التي تَجمع بين هذه المصطلحات، لا لمجرد الخلوص إلى التصوُّر الأوَّلي البسيط، الذي تهتدي أقلامٌ كثيرة اليوم إلى عناصره، في هيئة مُتواترة كادت لتكرارها ووضوحها أن تكونَ حقيقة مُستقرة، وأعني أن أمريكا باتت معملاً خصبًا لإنتاج العُنف؛ بل وتصديره ودفع المجتمعات الأخرى إليه، وإنَّما لنتصل على نحو من الأنحاء بالنُّصوص المضمرة الكائنة هناك في أعماق العقل الأمريكي، تلك التي نتمكن بواسطة تحليل محتواها من امتلاك رؤية تتجلى بها أهدافنا، كما تتضح معالم خطواتنا، أثناء الالتقاء والاقتراب أو في مراحل الانفراج والمفارقة.

 

في ظني أنَّ الهدف الذي ترمي إلى تحقيقه كلماتي تلك قد اتَّضح جليًّا؛ وقبل أن نتوجه إلى النموذج الأمريكي، يُمكن أن يتم توصيف الرُّؤية المؤسِّسة لمقاربتي بعبارات متآزرة، ينبغي هضم مضامينها: إنَّ أنْماط العُنف هي مُعتقدات مفصح عنها في صورة رمزية اعتباطيَّة، وهي لذلك تتَّخذ الوسيط اللغوي أو الممارسة السُّلوكية مجليات، بالمعنى الذي يُمكننا عند تفحصها من بعض الوُجوه أن نفك شفراتها المختزِنة لأمارات السَّيطرة الاجتماعيَّة، ونحدد في الوقت ذاته ملامح الثَّقافة السائدة تجاه العنف، مستحضرين أنَّها تعتمد بصورة كلية على السيطرة لا في حضورها الواسع، وإنَّما بوصفها قوة استغلال، في الحين الذي تحتفي بالثنائية والهرمية والعزلة، وتكرس ذلك الفصام السخيف بين طاقات العقل وآفاقه في جهة، ومتطلبات الجسد ومقوماته في جهة أخرى.

 

إذا اتَّفقنا على ذلك يُمكن أن نتَّجه على سبيل التمثيل نحو نموذج القُوات المسلحة الأمريكية، ولنظل متذكرين أن الخطاب هنا يشملها بوصف المؤسسة، ويتغيَّا الاقتراب من أنماط العنف وبِنَى الثقافة التي تتأسس عليها، إنَّها نموذج ثرّ جدًّا في الحقيقة للمنظومات المتساوقة التي تتجانس مخرجاتها، فهناك تثمن الخطاباتُ التدميرَ والقتلَ، سواء أكان هجوميًّا أم دفاعيًّا، وتطمح الممارسات إلى التفعيل النَّشط لأطروحاتها، عاكسة بذلك العقيدة المترسخة من جهة، والمنحى التبريري من جهة أخرى، إنَّ كلاًّ يبدو سطحيًّا إلى الآن؛ لنتجه صوب ما لا يحيل في ظاهره إلى العنف؛ لنرى ما بوسع منظورنا فعله، هذه المرة سنُعنى بالموارد والقرارات الثَّقافية وتريليونات الدولارات التي تدعم هذه البنية التحتية عبر الزمن؛ فهناك أنظمة النقل والاتصال المعقدة، وأيضًا عمليَّات التجسس الكمبيوترية المعنية بالاستطلاع والمراقبة، هذا إضافةً إلى التخطيط الإستراتيجي والتعبوي والتكتيكي.

 

من ناحية ثانية، يجب توفير الغذاء بكميَّات مُناسبة، وأيضًا خياطة الألبسة الخاصة، والتعاقد الدائم مع المصانع في سبيل ذلك، وأيضًا بناء الثكنات والمجمعات للتدريب والقتال.

 

من ناحية ثالثة، تُصنع الأسلحة الحربية والذَّخائر باستخدام أطنان من الخامات المعدنيَّة، التي يجب استخراج والتنقيب عنها وتنقيتها، وتطول القائمة بالحديث عن الطائرات والقنابل والزَّوارق الحربيَّة وحاملات الطَّائرات.

 

من جهة رابعة، يُجنَّد الملايينُ من البشر، أو يتطوعون في مدرسة الحرب للتَّدريب والقيادة والترقية، أو للعناية الطبية بالمشوهين، لقد يعسر على الدارسين والمحللين السياسيين تفهم مثل هذه المفردات الفائتة، التي لم نذكر بعضها اختصارًا؛ إلا في ضوء من فكرة صناعة الحرب وافتعال أسبابها، بلفظ آخر يحمل زعمًا أنَّها مُؤسسة مسؤولة عن تكريس ثقافة العنف في المجتمع الأمريكي.

 

إنَّ هذا الزَّعم يتأكد حينما نطالع خطابها الثقافي، الوعظي أحيانًا، الذي يركز على بعض القناعات، ويمجد بعض المبادئ؛ بغيةَ غرسها في الكوادر البشرية، على سبيل التمثيل إنَّه يتعمد وصف الحرب بأنَّها وسيلة فعالة، ورُبَّما أكيدة لحسم الصِّراع، منطلقًا من أن هذه القناعة تتماشى مع مرامي الفرد أو الأُمَّة المترسخة عقديًّا، أو بحسب تعبير فان كريفيلد Van Creveld: "إن الحرب على المستويين الفردي والجماعي كليهما شأن الفؤاد بصفة أساسيَّة".

 

وفي خمس صفات هي الأشهر، والأكثر تردادًا على أسماع من ينتمي إلى هذه المؤسسة، هي: الشَّرف والواجب والشَّجاعة والإخلاص والعزم، تتبدى شارات العُنف؛ من حيث إنها ترتب الأولويات؛ خاصَّة حين شخوصها في ميدان الصراع؛ على نحو تُنحي به أدواتُ التدمير التفكيرَ في الخسائر الفادحة جانبًا، حتَّى لو كانت هذه الخسائر ستشمل الأحبة والأصدقاء، أو لنقل من هم خارج ميدان الصِّراع، من نساء وأطفال هذا الفرد نفسه، وحتى لو كانت ستشمل كميات الموارد الهائلة التي كان من الممكن أن تُسهم في تأمين مستقبل اقتصادي على نحو أفضل، لأمريكا أو للبشرية التي تزعم أمريكا أنَّها مسؤولة عن مستقبلهم، حينئذ يمكن أن تكون الشَّجاعة رديفة للامبالاة بمصير الآخرين، ويغدو الواجب نقيضًا لما تمليه أخلاقيَّات المهنة، ويبيت الإخلاص تماديًا في الإقدام وعدم التَّراجُع حتَّى في حالة الانحراف.

 

وفي هذه الأثناء لن تعدم أن تسمعَ ممن يدفع بعجلة الصِّدام تبريرًا للتوجهات بقوله: إنَّ الحرب وحدها هي التي بواسطتها يمكن توظيف عائدات الضرائب على نحوٍ مُرضٍ للسياسات.

 

إذًا؛ فبنية العُنف بهذا الفهم لم ترتبط برد الفعل أمام انتهاكات أو تجاوزات، وإنَّما ترتبط بالحاجة الملحة الدَّائمة لإنتاج العدو الدافع بالحلم الأمريكي الاجتماعي نحو الواقعية والتحقيق، وهكذا يُمكننا من خلال هذا النَّموذج - نموذج القوات المسلحة، بوصفها بنية خطاب تحتية - أن نرى التأثير المتنوع والعميق للمعتقدات، ونبصر التفاعلات الثقافية التي تُسوِّغ لأغراض العنف المقبول ضمن أنماطه المتنوعة.

 

هل لهذا الذي طرحنا علاقة بالتقدُّم العلمي والتكنولوجي الذي شهدته أمريكا في العقود الفائتة؟ في صياغة أخرى: هل الخطاب الثقافي المتَّخذ من العُنف متهمًا بريئًا لم تثبت بعد إدانته - ناتج من مُنتجات المدنيَّة الحديثة التي أقامت الجسورَ المتينة بين الإنتاج والاستهلاك؛ من حيثُ كونها ذات صيغة مادية جافَّة تربط بينهما في هيئة معادلات حتميَّة الوُقوع؟

 

إنَّ الذي نطمئن إليه في هذا الشأن هو أن التقدم العلمي من حيث هو، لا ينطوي على منشطات لهذه السلوكيات، ربَّما يسعفنا في ذلك استذكار قرون الهيمنة الإسلاميَّة في الميدان نفسه، ولا أريدُ أن أكون هنا مؤرخًا، ولا تكرار ما قد قيل، فقط أشير إلى أنَّ الهيمنة لم تكن مصحوبة في أكثر الحالات بآليَّات خارجية تُحاول فرضها قسرًا، وينهض نموذج الأندلس بشرح ذلك، فبينما كانت تعاني أحيانًا من الضَّعف السياسي والحربي، كانت أوروبا تجلس من كتبها المؤلفة أو المنقولة عن المشرقيِّين مَجلسَ التلميذ من الأستاذ، بيد أن الأمر يختلف غير قليل في حالة أمريكا، فقد حددت أوليات مدنيتها المؤلهة للآلة ملامحَ النهاية التي تتخذ من العواطف والأحاسيس غرضًا، وهو أمر رُبَّما نلتقي بإرهاصات لدق نواقيس الخطر إزاءه عند مُفكرين وفلاسفة ثائرين بارزين في القرن التَّاسع عشر وأوائل القرن العشرين، من أمثال كارل ماركس Karl Marx، وفريدريك نيتشه Friedreich Nietzsche، وسيغموند فرويد Sigmund Freud، الذين وجهوا انتقادات لاذعة إلى الجمود الاجتماعي الميكانيكي والافتتان بالتقدم العلمي والربح المحض.

 

لندع حديث التقدُّم العلمي من هذا الوجه، ونقترب أكثر من المجتمع الأمريكي الذَّائق على مدى عُقُود ويلات الحروب، التي خاضتها جيوشه الغازية؛ لنتمكن من التعرُّف على علية إعادة إنتاجها وعدم الكف رَغم كارثيَّة الأحداث، هنا يبرز نَموذج مُحاربي فيتنام في حُضُورهم الاجتماعي؛ لقد شعروا حين عودتهم - ولْنستحضر أنَّهم لم يتذوقوا النَّصر التام الذي كان يُخايلهم - بالتغير الجذري في شخوصهم وفي مُجتمعهم الذي غادره قبل الحرب؛ الأمر الذي دفعهم إلى القناعة بعدم تَمكنهم من تحقيق التَّوافق المجتمعي، فكفاحهم من أجل مَعرِفة معنى تجربة الحرب أدَّى بهم إلى حساسية مفرطة تُجاه بعض المعاني الضَّخمة مثل: المساواة، والعدالة، والإنصاف، كذلك الخداع والزيف والكذب، كذلك استخدام القُوة ومبادئ الأخلاق.

 

من ناحية أخرى ولَّدت حقائق الحرب، بتداعيات الموت والحياة، والارتباط الوثيق مع رفاق السِّلاح، وممارسة اتِّخاذ القرارات الحاسمة، والكفاح اليومي للبقاء، أقول: ولَّدت لديهم أسئلة فلسفية ونفسية من الصَّعب على عائلاتهم وأصدقائهم اللاَّهين في الوطن فهمها، فاجتهادُهم لصياغة مَعانٍ كانت مَراكز صناعة الخطاب لم تزلْ تبثه في صُدُورهم؛ والخوف مِن إلصاق الصِّفات السلبيَّة بهم، إذا ما اكتشف الآخرون فظائعَ حرب العصابات، أدَّى إلى عزلة نفسيَّة لدى المحاربين، لقد خافوا ألا يفهمهم أحد، وألا يفهم أحد ما الحرب، وبهذا تناقضت حاجه التواصل مع إخوانهم من النَّاس، مع الحاجة لحماية أنفسهم من الوهن العاطفي.

 

لم يكُن هذا داعيًا إلى إعادة فحص الملفات للوصول إلى نتائج مُضادة، ولم يؤثر كون النَّاجين منهم خالجهم شعور بالذَّنب، تسبب في اتِّهام النفس بأن نجاتها كان عوضًا عن هلاك الآخرين، وفُقدان قيمة حياتهم حين تراءت لهم الجماجم وحدَها هي المصعد نحو التَّرقي؛ بل على العكس من ذلك كان الخطاب دائمًا يتولى الترويج لأفكار تعمل على تخدير المشاعر والعَواطف، رُبَّما يحضر في هذا السياق المصطلح الذائع الشهير للجنرال فون برنهاردي General Von Brenharidi الذي دَشَنَه في عام 1912م، وأقصد مصطلح: "العدوان الضروري بيولوجيًّا"، الذي انطوى على تمرير أنَّ الحروب لا تظلم أحدًا بانتخابها لهذا واطِّراحها لذاك، أو لنقل: إنَّ الحرب لا تقسو على كائن؛ بالنظر إلى أن هذا المفهوم يبدو مستلهمًا فكرة نظريات التطور التي نقلها هربرت سبنسر Herbert Spencer إلى ميدان علم الاجتماع؛ حين زعمت تارة أنَّ البقاء للأصلح، وحين فُسِّرت أخرى بأنَّ البقاء للأقوى، ولا يعنينا هنا مَرجعيَّة المفهوم، بقدر ما يعنينا أنَّه ظل سنين يعتمل داخل أجهزة الثَّقافة الغربيَّة بشكل عام، تعيد بلورته وإخراجه في صيغ متنوعة، على نحو تسكِّن به الوخز الذي يجده المحارب في عواطفه، ويلهي المحارَب عن فهم طبيعة الصِّراع.

 

إن النَّزعة المؤسسة في تحليل العُنف بوصفه طبيعيًّا أو ضروريًّا من النَّاحية البيولوجيَّة، بالقسمة المنطقية العادلة - ينبغي أن تقصى بعيدًا عن الدَّرس النزيه، تمامًا كما أقصى الغرب نفسه النَّزعة المشاطرة لها، وأعني تلك التي تتعاطى في تقييمها المعرفي لسبب السلوك العنيف من جهة أنه تلقائي أو عفوي.

 

رُبَّما يكون الوقت الآن مناسبًا للولوج إلى الخطاب الأمريكي من ناحية كونه يَجنح نحو التَّبرير لممارسات الإدارة الأمريكيَّة، سنلتقي أثناء ذلك بمصادقة على الحرب من باب أنَّها تستهدف وقف العُنف، فقد تعذَّر بحسب اعتقادها ضبطه بالوسائل السلميَّة، من أجل هذا يتمتَّع هذا الأسلوب العَنيف بشعبية كبيرة، وينتشر انتشارًا هائلاً حتى في أوساط من يكره العنف، سنلتقي أيضًا بمصادقة عليها من باب أن لا جدوَى من تجنُّب الاعتداء على الآخر، إنَّ القضية هنا منكسة لو تأملنا، فهو يسائل حالة الكف عن الحرب، أو لنقل بالمصطلح الإسلامي الأصيل: التروك، في حين لا يعبأ بالممارسات، هذا مع مراعاة أن التَّرك هو الآخر مُمارسة، على هذا النحو يُمكن أن تضيع الفواصل الحاسمة بين العُنف المدان والعنف المشروع، ولنتخذ من الإكراه بوصفه أحدَ أدوات العنف نموذجًا شارحًا.

 

إن استخدامَ الإكراه من قبل الفرد أو الجماعة قد يعد عنفًا أو سلوكًا عنيفًا عندما لا يكون مشروعًا بوساطة الأعراف الاجتماعيَّة والقيم المسوَّدة؛ لكن نعتَ شخصٍ بأنَّه عُدواني يُمارس الإكراه كفيلٌ بتبرير الفعلِ ذاته معه، خاصَّة في حالة أنَّ هذا الشخص لم تُجدي معه الوسائل السلمية الأخرى، ورَغْم أن القيم والأعراف الاجتماعيَّة نفسها هي التي حددت في تعسُّفٍ المعاييرَ التي تَمخض عنها النعت الفائت، فإنَّ قَبول السُّلطة من المجتمع كان يستلزم مُجاراتها، فإذا كانت العناصر التي تُمكننا من تحديد عُدوانية فعل هي توفر القسرية، وتحقق نية المصادرة للآخر، واتِّصاف الفعل بأنَّه غير معياري؛ فإن ثلاثتها قد توحدت في حالتنا تلك في رغبة المجتمع وتوجهاته فحسب.

 

لا بأسَ أثناءَ محاولة شرح السُّلطة الأمريكيَّة لما حدث أن تعترفَ بجسارة منقطعة النَّظير بوجود الخسائر الفَادحة، أو بالفَشل في تَحقيق المهمَّات التي كانوا يطمحون إليها، أو بأنَّ الطريق الذي مضوا فيه كان طريقًا غير صحيح، حقًّا نحن نندهش من هذا في ثقافتنا المشرقية، رُبَّما معتمدين على النَّماذج المتتالية، التي تواطأت على إحداث الأزمات لمنطقتنا في حين كانت تصرح دائمًا بأننا أفضل.

 

على كلٍّ؛ ليس هذا هو الشَّيء الجدير بالملاحظة هنا، الشيء الجدير حقًّا بالملاحظة هو أن هذه الشُّروحات لم تكُن مُخلصة للشرح والبيان، بل كانت تهدف إلى التَّبرير للأفعال؛ إذًا فالتبريرات في هذا التوقيت هي الشروحات ذاتها، فالخطابات تتوجه إلى تحميل الفاعل المسؤولية عن العواقب أو النتائج الفاسدة، بيد أنَّها مع ذلك تحتفظ بالدَّوافع والقيم الإيجابيَّة، التي قادت إلى هذا السُّلوك، وبعبارة أخرى تُحاول تلك التبريرات أن تسجل الانطباعات السَّلبية الأولية، تلك التي كونها المراقبون؛ لكنها في نفس الوقت تتحاشى اللوم وردود فعل الآخرين السلبية المرافقة، وهي إذ تضعُ الفعل تحت سلطة المعايير والقواعد المقررة اجتماعيًّا، تَسْتَمِيحُ منها أيضًا ما يثبت إخلاصها في الأخذ بحرفيتها وامتزاجها معها، فتكون النَّتيجة التي تجري بانتظام - رُبَّما دون أن يدرك كثيرون - هي تحويل المسؤولية إلى جماعية تعمل على استلاب شخصية الفاعل؛ لأنه مجرد ممثل لمعاييرها.

 

العنف المدان صار مبررًا، تصلح هذه الجملة عنوانًا لمقالة ساخنة، تتحدث عن ضرب الأستاذ للتلميذ؛ لأنَّه جاء متأخرًا، أو ضرب التلميذ للأستاذ؛ لأنَّه لم يقدس واجبات المهنة، تتخذ من نموذج الزَّوج القاسي في التعامل مع زوجته المخطئة بطبيعتها محورًا للنِّقاش، أو من نموذج المرأة التي تناوئ الزَّوج لسلوكيَّاته العدوانية بالتربص له والترصد، على أنَّ هذه الجملة ذاتها تَبْرز مستخلصًا طبيعيًّا لقراءة في العقلية الأمريكيَّة التي تدبج الخطابات، كما تخطط لمشروعاتها في المنطقة.

 

إن تقسيم العنف إلى سلوك مدان وغير مدان، يشير في وضعيته الحاليَّة بحضانة العقل الأمريكي إلى انفصامات حرجة، فالحق الاجتماعي الذي يُقِرُّه قانون الحرب أو العادة أو القبول الاجتماعي يتصادمُ مع التبرير الأخلاقي الذي يقره الاحتكام إلى المعايير الأخلاقيَّة الإرادية المجردة.

 

آية ذلك في المجتمع الأمريكي نفسه أنَّه يُمكن لشخص في موقع سلطة قانونيَّة أن يقومَ بفعل مشرع ولكن غير أخلاقي، بالمقابل، يمكن أن يقومَ عضو مبدئي في مَجموعة اجتماعيَّة محسوبة شريرة بعمل غير مشرع، ولكنَّه أخلاقي، لكننا في الحقيقة نُخْطئ حين نجعل للأخلاق حضورًا مجردًا عن الثَّقافة نفسها، تلك التي لم تتبرأ إلى الآن من مراشقاتها لذوي البشرة السَّوداء، أو على وجه الدقة الملونين، بصفات تعمل على خفض مستوى إنسانيَّتهم، سمعها تقريبًا كل أحد عاش في أمريكا، من مثل: إنَّهم مجرد حيوانات، إنَّهم شواذ لا بشريُّون، إنهم منحرفو السُّلوك، إنَّها صِفَات ترفع بنفس الدَّرجة إنسانيَّة ذلك المراشِق، وتمهد له، وهنا موطن الملاحظة، الطريق أمام انتهاك خصوصيَّاتههم دون أن يتوقع عقابًا مكافئًا، على نحو يجعلنا نستعيد عبارة قاضي المحكمة العُليا ويليام دوغلاس William Douglas الشهيرة القائلة: "يبحث المرء عبثًا عن إعدام أيِّ عضو من الطبقات الميسورة في مجتمعنا"، بالطبع بعد أن نجريَ تعديلات يسيرةً في الطبقة التي تتسبب حاليًّا في ارتكاب الجرائم.

 

يتراءى أمام ذهني الآن واحدٌ من المصطلحات الأكثر شُهْرة في علم النفس، وكَذَلِك في مَيْدان إدارة الصِّراع، هو مصطلح "لوم الضحية"؛ إذ يَصلح من وِجهة نظري أنْ يفسر لنا كثيرًا من السُّلوكيَّات والممارسات، والأساس التبريري الذي تقوم عليه ثقافة العنف الأمريكي، إنَّه يشير في بساطة شديدة إلى عمليَّة الانتقال من الذَّات إلى الآخر فيما يُسمَّى بالإسقاط؛ إذ يندفع المجرم إلى إلصاق الدَّوافع التي لا تُطاق وغير المقبولة على كبش الفداء؛ أي: إنَّها إحدى الحِيَل الدِّفاعية التي تستعيذ بها النَّفس، إن السُّلوك العنيف غير عقلاني ومُفتقر لمقومات الاستمرار؛ لكن الإسقاط آلية في نهاية المطاف لشرعنة الفعل، وليس شرحًا لسبب القيام بالإسقاط.

 

وحتَّى نتفهم ذلك بصورة أولية يُمكن استحضار نموذج جريمة الاغتصاب؛ فإنَّه بتفعيل آلية لوم الضحية يُمكن تحويل العنف المُمارس حالةَ القِيام بها إلى عُنف مَقبولٍ اجتماعيًّا، على سبيل المثال نجد مَن يقول: إنَّ الضحيةَ أو المعتدى عليها كانت استفزازية إلى حد بعيد، ألاَ تَرَوْن إلى ملابسها الشفيفة الماجنة، لقد كانت قمينة برَدِّ الفعل هذا، هي من سبَّب بصورة تلقائيَّة عفويَّة هذا الجرم لا هو، إنَّ هذا الخطاب ينطوي على مغالطة منطقية، فقصارى ما يقوم به هو تحليل أسباب الفعل، يُمكن كذلك على أحسن الأحوال أنْ نلمحَ فيه الاستناد إلى معايير أخلاقية لإدانة الضحيَّة في ميدان مغاير، لكنه مطلقًا ليس بوسعه أن ينهضَ بالتبرير، أو لنقل: بالتبرير الذي يتعدَّى محيط ذهن المعتدي؛ إذ لا عَلاقةَ بين المقدمات، التي لا نجادل في صِحَّتها الآن من حيث هي، والنتائج المنعزلة عنها تمام الانعزال.

 

هذه المغالطة نُقابِلها في الخِطاب الأمريكي، الرَّسمي أو الشَّعبي، وإن كان سيسمح لنا هذه المرَّة بالاختلاف حول المقدمات نفسِها لا النتائج، حين يتَّخذ من الشُّعوب التي تتعرض لغزوه محلاًّ للانتقاد والانتقاص، وحين يصرف اللَّوم لانتهاك معيار الجماعة من المعتدي الجاني إلى الضَّحية، وحين يعتمد فحسب على جملة من التعريفات والتصنيفات والتسميات اعتمادًا جوهريًّا، دون النَّظر إلى ماهية المسميات، على هذا النَّحو يتجلى أنَّ موضوع العمل العنيف لم يعد إنزال ضَرَر بطائفة من النَّاس فحسب؛ بل أيضًا البحث عمَّا يُمكن أن يسمى الصيد المعادل الذي ستخلع عليه صفات الموقف الإجرامي.

 

وفي الغالب تتشكل هذه الصِّفات منطلقة من كونه ليس أصيلاً في مساوقته للأهداف الكلية، التي تتبنَّاها الإدارة الأمريكيَّة، بعبارة أخرى من كونه دخيلاً على النِّظام يُمثل تهديدًا لوضعه الراهن، إنَّ الدخيل هو نموذج غير شرعي ومستبعد اجتماعيًّا، ومن ثم لا بد أن تعمل ثقافة العنف على التهوين من شأنه أو تهميشه أو تنحيته إن لزم الأمر، وبتثبيت بعض المقولات يُمكن بسهولة ضمان تواطُؤ الجماعة كلها على إمرار هذا العُنف وصبغه بالشَّرعيَّة، من مثل: إن مجتمعنا مجتمع العدل والحُرِّية، والسيادة في هذا الوطن للشعب، والقانون فوق الجميع، لقد أسلمت هذه المقولات المستقرة في ثقافة الأمريكيِّ العادي إلى النَّتائج التي تركب المغالطة نفسها، ولنتأمل المعادلة الآتية: إذا كان مجتمعنا مُجتمع العدل فيحتم بصورة جبرية أن تكونَ الضحية قد أثارت الاعتداء؛ فلا بُدَّ إذًا أن تلاقي مصيرها، للأسف الشديد لقد كانت كثير من اللاَّفتات التي يحملها المتظاهرون المؤيدون للحروب، التي تخوضها أمريكا حاملة لفحوى هذه المعادلة.

 

عندما يَشعُر الناس بالخطر يعجزون عن التَّفكير ويَمنحون السُّلطة للشخص المستعد لتوفير الأمان لهم، هكذا زعم دينيس جيت، عميد مركز العلاقات الدوليَّة في جامعة فلوريدا، في تحليله لأحداث الحروب التي خاضتها أمريكا، ويستأنف قائلاً: استخدمت الإدارة الأميركيَّة الأداة الإعلاميَّة ببراعة في التَّحذير من مَخاطر الإرهاب، وقد ردد بوش نفسه أكاذيبَ عديدة حول امتلاك العِراق لأسلحة الدَّمار الشَّامل، وعلاقة نِظام صَدَّام حسين بتنظيم القاعدة، وأوهم الجميعَ أنَّ الحربَ ستكون عملية سهلة وسريعة للقُوَّات الأميركيَّة، إضافةً إلى اعتماد أجهزة الإعلام - والكلام لا يزال لجيت - على الدعايات الموجهة عن طريق قيام الحكومة الفدراليَّة بإنتاج تقارير إخبارية تلفزيونيَّة معدة سلفًا، بغرض الدعاية لأهدافها التي على رأسها غزو أفغانستان والعِراق، ثم تقوم الجهات الحكوميَّة.

 

وهو يقصد إلى وزارة الدِّفاع والخارجيَّة، بإرسالها إلى شبكات الأخبار الكُبرى لتقوم بدَوْرها ببيعها لقنوات التلفزيون المحليَّة، التي يعتمد عليها المشاهد الأميركي العادي، والتي تبُثُّ هذه التقارير دون الإحالة إلى مصادرها الرئيسة، من جهتنا يُمكن إضافة حالة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي أثناء التجهيز لهذه الحروب المدمرة؛ إذ كان يلحُّ على ضرورة خوض حرب الأفكار لتقويض ما أسماه بالإرهاب، وأوصى ساعتها ببعض مقترحات، سئمها لتَكرارها كل من كان يشاهد لقاءاته المستمرة، جاء على رأسها توجيه بعض القنوات التلفزيونيَّة والإذاعية للعرب.

 

في سبيل توضيح اعتمادِ التسميات والتصنيفات اعتمادًا جوهريًّا، بغض النظر عمَّا تحيل إليه من ماهيات، يُمكن الإشارة إلى المصطلح الأكثر رواجًا اليوم في مجتمعاتنا عن العُنف نفسه، وأقصد مصطلح الإرهاب، إنَّه صناعة أمريكيَّة خالصة لم يتعرض قط للمقاطعة، حتى من أولئك المنادين بمُقاطعة بضائعهم، وليس يعنينا هذا الآن، وإنَّما يعنينا أنه قد أدَّى خدمة جليلة لثقافة العُنف الأمريكيَّة، من حيث إن إلصاقه بنماذج معينة، كان في الوقت ذاته يؤطر سلوكيَّاتها البعيدة تمامًا عن العنف بإطار غير مرغوب فيه، إن كبش الفداء بحسب آلية لوم الضحية، ليس ينهض فحسب بتحمُّل أعباء الموقف الإجرامي؛ بل كذلك يقوم بدور النموذج الإشاري الذي يوظفه المعتدي للسُّلوكيَّات التي يجب تجنبها، وطلبًا للأمان يجد الفرد العادي نفسه، وفي حالتنا قد تكونُ دولة من دول المنطقة، مضطرًّا إلى مساوقة مشروع المعتدي لإيقاف عُنف ليس له مستقر إلاَّ ذهنه هو فحسب، فيشركه في ارتكاب حماقات، مكرسًا بها للعنف الذي يمارسه.

 

ورُبَّما نكون في حاجة مرة أخرى إلى استحضار نموذج الإكراه أثناء حديثنا عن التصنيفات؛ حتَّى تتمَّ الرُّؤية بشموليَّة، لقد مر بنا أن الإكراه قد يعد مبررًا عندما يستند إلى القيم الاجتماعيَّة، التي ترى فيه إحباطًا لإكراه مماثل، وهنا نقول: إنَّه أيضًا أحد الوسائط الممتازة في منع الآخرين من تكوين الآراء السلبيَّة عن أولئك الذين يمارسونه، إنَّ أمريكا في الكتب والمقالات التي تؤلف منذ ما يُقارب قرنًا من الزمان دميمة الوجه؛ لكنَّها ظلت الفتاة الحسناء التي يراود المشرقي أمل التمتُّع بجمالها، إنَّها في قاعات الدَّرس القائمة على الحوار والنقاش دولة البطش والقهر؛ لكنها ظلت في مخيلة شعوبنا بلدَ الأمن والسلام.

 

السؤال إذًا: كيف تولدت تلك المفارقة؟

وللإجابة على ذلك ينبغي التفهم لوضعية أمريكا بعد انهيار الاتِّحاد السوفيتي، فقد استأثرت - أو هكذا بدا لها - بقيادة العالم؛ أي: إنَّها بوأت نفسها على قمة الهرم الأممي، سيكولوجيًّا يثير هذا التسلسل الهرمي للقُوى في أثناء المسيرة اللَّوم الدَّائم للأضعف على الإزعاج أو المشاكل، التي يعانى منها الأقوى.

 

أسفل - حيثُ قاعدة الهرم - تقبع الشُّعوب المقهورة التي تتلقى المخلفات الثقافيَّة التي يراد لها أن تهضمها، مصحوبة أيضًا باللوم على الإزعاج الذي يعانيه الأقوياء، لقد كان هذا ضربًا من ضروب الأَطْر لهذه الفئة على تصور بعينه عن أمريكا، وبينما كانت تُحاول بعض الطوائف الانعتاق من أسر هذا التصور وتحريض الآخرين على ذلك؛ كاشفين عن الوجه القبيح للمدنية الأمريكيَّة، كان العنف الأمريكي يتخذ مجراه عبر قنوات متكاثرة إليهم؛ ليثنيهم عن عزمهم أو يصرف عنهم مُريديهم، وفي هذا السياق يفتقد توصيفنا للسلوكيات الأمريكيَّة بأنَّها عنيفة؛ أي: قيمة للراغبين في تحجيمها وضبطها؛ لأنَّ ثقافة العنف التي تُكرِه الآخرين على تفسير بعينه تقر بهذا، لكنها تتعداه لغيره، فبينما ترتهن في ثقافات كثيرة بصورة تداعيات ممارسات العنف بوصف التجريم.

 

فإنَّ ثقافة العنف تتخذ منهجًا مغايرًا في المعالجة، يجسد خطواته طائفة من السؤالات التي تطرحها، من مثل: هل هذا السلوك عنيف أو لا؟ هل هو مرغوب فيه أو لا؟ هل هو ملائم أو لا؟ هل هو ضروري أو لا؟ هل يمكن تحمله أو لا؟ بعد الإجابة عن هذه الأسئلة التي تسلم إلى بعضها، يمكن القطع أن هذا العنف جيد أو سيئ.

 

إنَّ التصنيفات التي ما فتئت أمريكا توزع عليها ضحاياها، من مثل: إنَّهم إرهابيون خطيرون على مستقبل البشرية، مهددون للأمن القومي، أصوليُّون في أيديولوجياتهم - كان يعملُ على تقليص قيمة العنف المرتكب بحقهم؛ ولهذا التصنيف نفسه جانب معاكس من تجميد الموقف المناهض له؛ لأنه تم فعليًّا عزل الضحية عن العالم الخارجي، ومن ثم لم يعد لها حقٌّ مشروع في طلب العدالة؛ أو حتى أن يقوم بذلك عنهم الآخرون.

 

وبعبارة أكثر وضوحًا:

إنَّ غيابَ السُّلطة الدَّاعمة لمطالب الضحية لا يُمكن فهمه إلا على أساس أنَّه مع العُنف، ولا يُمكن تفسيره إلا بالاستناد إلى إيمانه بقبوله وشرعيته، إنَّ هذا الاستسلام للعنف من قبل الجهات الزاعمة أنَّ مَقاليد إقامة العدل بيدها، كان يحول دون الحل الجذري لقضية الاعتداءات والانتهاكات المتلاحِقَة للشعوب الأخرى؛ لأنَّه تحفظ على الضحية في عزلتها، تلك العزلة التي فرضها عليها المعتدي نفسه، ومن ثم يتهيأ مناخ خصب لتكرار مثل هذه الأفعال بوصفها مجرد سلوكيات اجتماعيَّة مألوفة؛ بالمعنى الذي يدفعنا إلى وصف هذه الجهات بأنَّها هي الأخرى متورطة في العُنف؛ لكنَّه هذه المرة يتجلى بشكل مؤسسي؛ بالنَّظر إلى أن تعريفه على النحو السالب يتعادل وعدم الفعل أو الفشل في الاستجابة.

 

على عجالة يُمكن أن يكونَ المشهد الختامي لهذه الكلمات هو تسجيلَ المشهد الذي لا أظنه يفارق مُخيلة المسلم المتابع لأحداث الحروب الأخيرة، أو لنقل بلفظ أدقَّ: مشهدان يتمِّم أحدهما الآخر:

الأول: مشهد القساوسة، وهم يباركون الجنود، ويقرؤون لهم أناجيلهم قبل رحيلهم إلى ديارنا، لقد شاهد معظم المهتمين هذا المشهد المروع، فاستعادوا بصورة تلقائيَّة تلك الحروب التي شهدتها أرض المسلمين في عصورنا الوسيطة، التي عرفت فيما بعد باسم الحروب الصليبية، حين كان رجال دينهم يهبون أنفسَهم لتحميس الجنود موهمين إيَّاهم أن الجنَّة دونها، مقيمين مهزلة سوق صكوك الغفران.

 

والمشهد الآخر: مشهد جورج بوش الرَّئيس الأمريكي الغابر، حين أفصحت عباراته عن اصطباغ الحرب بالصبغة الصليبيَّة الدينية، لقد أعاد هذا لذهن المسلم الصُّورة، التي ارتسمت ملامحها أثناء قراءته لوحشية بوهيموند وفريدرك الثاني ورينالد دوشاتيون، وغيرهم من الذين حملوا الصليبَ شعارًا وستارًا لحروبهم الآثمة على أمتنا ومقدساتنا، لقد تكاملت الأدوار، إذًا فثقافة العنف تؤسس وتبرر وتشرع، في الحين الذي يترجم الأفراد تخطيطًا وتنفيذًا؛ لقد يضعنا كل هذا في مواجهة مُباشرة مع مفهوم الحرب المقدسة التي عملت على تنكيس مفهوم القتل، متذرعة بأنَّ من يقتل باسم المسيح، وهو - صلى الله عليه وسلم - منهم براء، في حلٍّ من التكفير عن خطيئته التي كَفَّر هو عنها، وفي مُواجهة أخرى مع فكرتي الخلاص والانتقام، اللتين أرفدتهما الفنون المسيحيَّة بأسرها، من مسرحيات تستلهم حياةَ القديسين المعذبين، إلى صور تملأ جدران الكنائس، ليس موضوعها سوى الدِّماء المراقة، إلى أساطير تحوم حول حياة الفُرسان المناهضين للوثنيين، أو الهرطقة بحسب المفهوم الكنسي.

 

وبينما يستعيد المسلم هذه المشاهد، ويواجه تلك الأفكار، تخايله النهاية، التي أثلجت صدور قوم مؤمنين، حين جرَّت جيوشهم أذيال الخيبة من بلادنا بعد قرنين من الزَّمن، هي مدة الحروب الصليبية القديمة، غيرَ أنَّه يرتد حسيرًا حين لا يَجد في تفحصه لمجريات الأحداث تلك القُلُوب التي تعي وتفقه ما كان يعي ويفقه أسلافها عن الآخر؛ نظرًا إلى استنادنا حاليًّا إلى نمط قرائي كليل أحادي الاتجاه غالبًا، ويكاد يجزم أنه بوسع هذه النهاية ساعةَ نستبدلُ بهذا النمط أن تتشكل وتورق للبشرية غير بعيد.

 

للاستزادة بمعلومات عن ثقافة العُنف بصفة عامَّة، وثقافة المجتمع الأمريكي بصفة خاصة، وتتبع بنية العنف في بعض الأدبيَّات؛ يمكن مراجعة المصادر الآتية:

• عبد الغني عماد، ثقافة العنف في سوسيولوجيا السياسة الإسرائيلية، دار الطليعة، بيروت، 2001م.

• باربرا ويتمر، الأنماط الثقافية للعنف، ترجمة: ممدوح يوسف عمران، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2007م.

• لومانتييه، من يغذي العنف في الولايات المتحدة، ترجمة: دلال إبراهيم، جريدة الثورة، مؤسسة الوحدة والطباعة والنشر، سورية، عدد 2/ 5/ 2007م.

• بيير باشيه، بانوراما العنف في إلياذة هوميروس، ترجمة: كامل عويد العامري، مجلة الثقافة الأجنبية، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، عدد 4 عام 2007م.

• ملازم كراستنشي، "العنف والحضارة الغربية: الإسلام كبداية جديدة للتاريخ"، ترجمة: زياد عبدالله، تقديم: عبدالرحمن حللي، دار الملتقى حلب، 2008م.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • اليوم العالمي للا عنف
  • لغة العنف

مختارات من الشبكة

  • من مظاهر العنف الأسري: العنف الجسدي(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • من مظاهر العنف الأسري: العنف اللفظي (2)(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • من مظاهر العنف الأسري: العنف اللفظي (1)(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • العنف والأسرة: أي علاقة؟ (نحو فهم أكثر لقضية العنف الأسري وعوامله وتجلياته المختلفة)(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • العنف المجتمعي منبع العنف المدرسي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • بريطانيا: مناصرو اليمين البريطاني يؤيدون ممارسة العنف المسلح ضد المخالفين(مقالة - المسلمون في العالم)
  • العلاقة بين التربية والثقافة: إشكالية الممارسة والتطبيق(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • ثقافة الاستهلاك بين السلوك الاجتماعي والثقافة العالمية(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • وجدت ثقافتي في "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • تطور الكتابة التاريخية بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب