• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مسابقة كاتب الألوكة الثانية   مسابقة الألوكة الكبرى لتعزيز القيم والمبادئ والأخلاق   المسابقة الإلكترونية لجميع أفراد الأسرة   أنشطة دار الألوكة   مسابقة شبكة الألوكة (حياتنا توسط واعتدال)   أخبار الألوكة   إصدارات الألوكة   مسابقات الألوكة المستمرة   مسابقة الألوكة الكبرى للإبداع الروائي  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في محراب العلم والأدب: تحية إكبار وتقدير لشبكة ...
    د. مصطفى يعقوب
  •  
    بيان شبكة الألوكة إلى زوارها الفضلاء حول حقوق ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    كلمة شكر وعرفان لشبكة الألوكة من أبي محمد فواز ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    تهنئة بعيد الأضحى ١٤٤٠هـ
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    في ظلال الألوكة
    د. سعد مردف
  •  
    بطاقة تهنئة بعيد الأضحى
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    الألوكة وجامعة السويس ينظمان مؤتمرا دوليا بعنوان ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    نتائج مسابقة شبكة الألوكة: حياتنا توسط واعتدال
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    في حب الضاد شاركت الألوكة مجمع اللغة العربية ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    شبكة الألوكة تشارك في فعاليات اليوم العالمي للغة ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    إذاعات مدرسية مكتوبة - شبكة الألوكة
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    دار الألوكة للنشر في معرض الرياض الدولي للكتاب ...
    دار الألوكة للنشر
  •  
    الألوكة.. لغة سماوية
    خالد يحيى محرق
  •  
    اللقاء الرمضاني السنوي لشبكة الألوكة في بلدة رغبة
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    مسابقة شبكة الألوكة: حياتنا توسط واعتدال
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    ترشيح د. خالد الجريسي لانتخابات الغرفة التجارية
    محمد بن سالم بن علي جابر
شبكة الألوكة / الإصدارات والمسابقات / مسابقات الألوكة المستمرة / مسابقة الملخص الماهر / المواد الفائزة في مسابقة الملخص الماهر
علامة باركود

أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص ثالث)

د. أحمد مصطفى نصير

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 10/6/2012 ميلادي - 20/7/1433 هجري

الزيارات: 50378

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ملخص كتاب
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله
د. عياض السلمي


الحمدُ لله تعالى على نعَمِه، وأعوذ به من سخطه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، تَرَكَنا على الحقِّ المبين، والصراط المستقيم، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومَنِ اهتدى بهداه.

أما بعدُ:
فهذا مختصر لكتاب الأستاذ الدكتور عياض بن نامي السلمي، عضو هيئة التدريس بقسم أصول الفقه بكلية الشريعة بالرياض، والذي بعنوان: "أصول الفقه الذي لا يسع الفقيهَ جهلُه"، وقد أفصح أنه قد ألفه تلبيةً منه لإلحاح إخوانه في تأليف كتابٍ يجمع أهم مسائل أصول الفقه بما لا يستغني عنه الفقيه، غير مطوَّلٍ في مسائل الخلاف، مكتفيًا بالمشهور منها وأدلتها، مصححًا لِمَا قد يُساء فهمُه منها، معتنيًا بحقيقة الخلاف، مظهرًا ثمرته، واقفًا على الشائك منها، محررًا إياها، ومقربها للفهم، ومحتفظًا لنفسه بحق الترجيح باعتباره مجتهدًا في إطار الدراسة الأكاديمية بالجامعات السعودية، مخاطبًا في هذا المقام طلابها، مكتفيًا في التوثيق بنوادر المراجع وما يقل الاعتماد عليه غالبًا، مقتصرًا في تخريج الحديث على صُلْب الرواية وما ثبت في الصحيحين أو أحدهما، وقد اشتمل الكتابُ على مسائل مهمةٍ مقسَّمة إلى تمهيد يتناول التعريف بأُصُول الفقه وستة أبواب على النحو التالي:
الباب الأول: الحكم الشرعي.
الباب الثاني: أدلة الأحكام الشرعية.
الباب الثالث: دلالة الألفاظ.
الباب الرابع: التعارُض وطرُق دفعه.
الباب الخامس: الاجتهاد.
الباب السادس: التقليد.

نسأل الله له الإخلاص، والحمد لله وصلى الله وسلم على رسوله وآله وصحْبه أجمعين.

التمهيد

التعريف بأصول الفقه:
وفي ذلك ست مسائل: (نشأته - التعريف به - تحديد موضوعه - فوائده - مصادره)، تفصيل ذلك على النحو التالي:

المسألة الأولى: نشأة أصول الفقه:
بند1: لَم يبزغ علم أصول الفقه بصورته تلك إلا في آخر القرن الثاني، يُعْزَى ذلك إلى عدم حاجة الصحابة في العهد النبوي وبعده حتى أوائل عهد التابعين إلى وضع علمٍ مستقل بهذا العنوان؛ نظرًا لأن الوحي كان يتَنَزَّل في كل حادثة تطرأ عليهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم يتكلم ويتحدث، وكانوا أهل لغة وفصاحة وبيان، وكانوا أعرف الناس بأسباب النزول، أكثرهم حرصًا على متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - في عهد الصحابة وكبار التابعين، فلم تزل هذه الأصول في أذهانهم يستعملونها دون اضطراب، ودون حاجة لوضْع قواعد تضبط ما عندهم من ملكة الفهم وحسن الأدب فيما بينهم حال التشاوُر في المسألة، ونظرًا لتفاضُلهم في العلم والمنزلة بدا بعضُ التباين في فتواهم لحكم النازلة.

بند 2: في أواخر عهد التابعين استطرد التبايُن؛ مما أدَّى لمزيد من الاختلاف والتمايز، فبرز بالعراق أهلُ الرأي، وبرز بالمدينة أهل الحديث، تستقطب المدرستان روادها؛ ليتفاعل طلاب العلم مع مشايخهم ويتناظر المشايخ معًا في إطار العلم وجو من الإخاء، إلا أن تعصُّب الطلاب لشيوخهم أفسد الترجيح بينهم، وبدا ضعف لسانهم؛ نظرًا لاختلاط العجم بهم، ودخل الوضعُ في الحديث لنصرة الهوى، فجاءت الحاجة لضبط الرواية وإصلاح اللسان، وتقعيد ما يضبط الاستدلال ويحكم الاستنباط، فتصدى الشافعي لها وألَّف رسالته توطئة لكتابه "الأم"، وتلقاها العلماءُ بالترحيب والاستحسان، وزاد في غيرها، وبعده تتابع التأليفُ في بعض مسائل هذا العلم أو حصر أبوابه كلها، فاختص الإمام أحمد بكتابه "طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم"، وداود الظاهري بكتابه "الإجماع"، وعيسى بن أبان بكتابه في "خبر الواحد"، بينما كتب الكرخي رسالة في أصول الفقه عُنيتْ بالقواعد الفقهية لعلماء الحنفية، و"الفصول" للجصَّاص من أقدم كُتُب الحنفيَّة.

بند 3: ثُم ازدهر التأليفُ في القرنين الخامس والسادس، وكان أهم كُتُب هذا العلم: "العُمَد"؛ للقاضي عبدالجبار، و"المعتمد"؛ لأبي الحسين البصري، و"اللمع"، و"التبصرة" كلاهما لأبي إسحاق الشيرازي، و"العدة"؛ للقاضي أبي يعلَى، و"المستصفى"، و"المنخول"، و"شفاء الغليل"؛ للغزالي، و"الواضح"؛ لابن عقيل، و"التمهيد"؛ لأبي الخطاب الكلوذاني، و"أصول السرخسي"، و"أصول البزْدَوي"، و"إحكام الفصول"، و"الإشارة"؛ لأبي الوليد الباجي)، ثم ظهرت المختصرات والشروح في أواخر القرن السادس.

بند 4: حتى ضعفت الهمم في عصرنا الحديث عن حفظ المختصرات، وقصرت العزائم عن دراسة المطولات، فظهرت الحاجة إلى تأليفٍ جديد يجمع بين سهولة العبارة وتحصيل الفائدة، ولا يخفى ذلك من بعد عن التراث متى اكتفي بالحديث من المؤلف، إلا أن ذلك لا يخلو من المصلحة لمن لا يسعفه ذِهْنه عن إدراك القديم فيرضى بالتقليد، فضْلاً عن أن ما أُلِّف من التراث ليس كتابًا منزلاً، ولا وحيًا، فساغ للطلاَّب اختصار الوقت في طلب العلم، ليتعلَّموا ممن تعلم التُّراث فصاغه بالأسلوب الحديث، فينالوا بذلك آلة الفقه ويوفروا الجهد للفقه ذاته الذي هو المقصود، كما جاء الأمر به: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

المسألة الثانية: تعريف أصول الفقه:
لا يخفى ذيوع هذا العلم وانتشاره بما يغني عن تعريفه، لكن نظرًا لتداخله مع علوم الشريعة واللغة، عني المتقدمون بتعريفه، وقلدهم المتأخرون في ذلك، جريًا مع أهل المنطق، فكان تعريفه من وجهين؛ أحدهما باعتباره: (مركبًا إضافيًّا)، والآخر باعتباره (علمًا)، تفصيل ذلك كما يلي:
أولاً: تعريف أصول الفقه كمركب إضافي:
بند 1: لما كان مصطلح أصول الفقه مركبًا من مضاف ومضاف إليه، والمضاف إليه آصل من المضاف، فلنبدأ بتعريف (الفقه):
فالفقه لغة: الفهم الدقيق؛ كما في قوله سبحانه : {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91].

بند 2: أما في الاصطلاح: فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية.
تفصيل ذلك كما يلي:
قولهم: (العلم): جنْس يقصد به مجرد الإدراك سواء في أمور الشرع أو اللغة أو الدنيا... إلخ، وحده الظن لا اليقين، وذلك بالرغم من الحكم المتوصل إليه معلوم قطْعًا، فقد أجاب الرازي على ذلك بأن ما غلب على المجتهد من الظن قطع بوجوب العمل به، والأولى أن يجاب بأن المراد بالعلم: (مجموعة المعارف المندرجة تحت هدفٍ كلي واحد)، وقد قصر بعض العلماء الفقه على معرفة المسائل الاجتهادية فحسب.
وقولهم: (بالأحكام): قَيْد احترز فيه عما ليس بحكم، ويراد به الإثبات أو النفي.
وقولهم: (الشرعية): احترز فيه عن العلم بغير الشرعي من الأحكام كالنحو.
وقولهم: (العملية): فخرجتْ بذلك الأحكام الاعتقادية لأهميتها، فاستقلت عنه.
وقولهم: (المكتسب): صفة للعلم، فيخرج عن ذلك علم الله - جل وعلا - فإنه أزلي، وما أوحى به لبعض خلقه، حيث يصل للموحى له دون اجتهاد وعمل.
وقولهم: (مِنْ أدلتها التفصيليَّة)، فيخرج بذلك علْم المقلد، فإنه ليس مكتسبًا من الأدلة، كما يخرج من ذلك الاستدلال بعموم الأدلة في المسألة دون بيان تفاصيل الدليل كموضع الآية الدالة على الحكم وكتخريج الحديث ومدى صحته... إلخ.

بند 3: والأصل - الوارد في القرآن والسنة وعرف الصحابة والتابعين -: أن لفظ "الفقيه" يختص بمن أعمل العقل في الاستنباط بنَوْع من الاجتهاد، ولا يطلق على العلم بالمسائل المشتهرة لدلالة النصوص القطعية عليها، لكن جرى العرف - متأخرًا - على إطلاق ذات اللفظ في الحالتين، وقد أثار الآمدي مسألة تبعض العلم بالنسبة للفقيه، ويُجاب عليه بأن حضور العلم بجميع الأحكام في ذهن الفقيه ليس لازمًا، وإنما الواجب حضور أكثرها في ذهنه وقدرته على استنباط بعضها بعد النظر، ودون ما يستوجب إعادة تأهيله لذلك. 

بند 4: أما كلمة (الأصول) لغة، فهي جمع "أصل"، وهو ما يبنى عليه غيره، أو منشأ الشيء، وفي الاصطلاح: هو لفظ مشترك لعدة معان أهمها:
الدليل: كقولهم: أصل المسألة الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس... إلخ.
القاعدة المستمرة: كقولهم: الأصل في المبتدأ التقديم، وفي الخبر التأخير.
الراجح: كقولهم: الأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية.
الأسهُم المقدرة في مسائل الميراث: كقولهم أصول المسألة 2، 3، 4..الخ.
المقيس عليه: كحكمهم بوجوب غسل الإناء من سُؤر الخنزير اعتبارًا بالأصل على الكلْب، والمعنيان الأولان هما أقرب المعاني في هذا المقام.

ثانيًا: تعريف أُصُول الفقه باعتباره علمًا:
بند 1: عرفه الرازي بأنه: "مجموع طرُق الفقه الإجماليَّة، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد"، وتفصيل ذلك ما يلي:
قوله: (مجموع طرق الفقه): يقصد منه التوصل لحكم المسألة الفقهية، سواء بدليل ظني أو قطعي، ويجوز استبدال لفظ (أدلة) بـ(طرق)؛ لاشتراكهما في المعنى.
قوله: (الإجمالية): ومن هنا يتميَّز الأُصُولي عن الفقيه؛ فالأصولي لا يعنَى بالأدلة الفقهية الجزئية، وإنما يبحث في الدَّليل الكلي الموصل إلى ذلك الحكم الفقهي، وفي حجيَّة هذه الطرق والأدلة وتعارُضها والتوفيق أو الترجيح بينها، وقد شاع إطلاق هذا اللفظ على المشتغلين بهذا العلم تعليمًا وتأليفًا مدركًا أغلب مسائله دون حاجة لتعلم جديد.
قوله: (وكيفيَّة الاستفادة منها): يستوجب على الأصولي المعرفة بمصادر الفقه ومباحث الألفاظ، وطرق الاستنباط، وماهية الحكم الشرعي، وقواعد التوفيق والترجيح، ويرجح استبدال لفظ (صفة) بـ (كيفية) باعتبارها أفصح.
قوله: (وحال المستفيد) فهما صنفان مجتهد ومقلد وما يتعلق بهما من أحكام.

المسألة الثالثة: موضوع أصول الفقه:
بند 1: موضوع هذا العلم: الأدلة؛ سواء أكانت قطعية أم ظنية، وأضاف البعضُ للأدلة الأحكام، وبحسب تعريف الرازي يُضاف لموضوعه: صفة الاستفادة منها وصفة المستفيد على الوجه المبين سلفًا.

المسألة الرابعة: فوائد علم أصول الفقه:
أولاً: تيسير دراسة كُتُب الفقه، وبيان الراجح من المرجوح من أقوال الفقهاء.
ثانيًا: التوَصُّل لمعرفة الحكم الشرعي للوقائع المستحدثة التي لم يسبق بحثها من قبل.
ثالثًا: دراسة حِكَم الشريعة ومقاصدها في إصلاح حياة البشر.
رابعًا: استطراد فتح باب الاجتهاد في كل زمان ومكان وبحسب حاجة العصر.
خامسًا: ضبْط الاجتهاد وفْقًا لقواعد علميَّة ثابتة.
سادسًا: وضْع أُصُول للبحْث في المسألة عند الفقيه أو المفسر أو المحدِّث أو المتكلم في العقيدة وكل باحث في علوم الشريعة، وأشهر الكُتُب التي عنيتْ بذلك: "المستصفى من علم الأصول"؛ للغزالي، و"منهاج الأصول في علم الأصول"؛ للبيضاوي، و"المحصول من علم الأصول"؛ للرازي، و"إرشاد الفُحُول إلى تحقيق الحقِّ من علم الأصول"؛ للشوكاني.

المسألة الخامسة: مصادر علم الأصول:
أولاً: القرآن الكريم والسنة النبوية:
ويجلو ذلك في أدلة الأحكام التي يذكرها الأصوليون، فمهما تنوعتْ بين العقلي والنقلي أو كانتْ محل اتفاق أو اختلاف، فإنها جميعا لا بُدَّ وأن ترجع لهذين النبعَيْن.

ثانيًا: علم أصول الدين، ويقصد به (علم الكلام):
ذلك أن العلم بالأدلة الإجمالية يقتضي المعرفة بالله تعالى وصفاته وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم. 

ثالثًا: اللغة العربيَّة:
ذلك أن الكتاب عربي، والسنة جاءت بلسان رسول عربي، فلا سبيل للاستدلال بهما دون الرجوع لها ما لَم يصطلح الشرع على معنى آخر.

رابعًا: الفقه:
وذلك لحاجة الأصولي إلى ضرْب أمثلة من الفقه لتوضيح القواعد الأصولية، والاستعانة بالفقه كذلك لمعرفة معنى (الحكم الشرعي) توصُّلاً لحجية دلائل الفقه، ولذلك استعاض الآمدي - ومن تبعه - عن الفقه بالأحكام الشرعية.

الباب الأول: الحكم الشرعي:
المسألة الأولى: تعريفه:
بند 1: (الحكم) في اللغة: المنع، لذا كان حكم القاضي مانعًا من ضياع الحقوق، وعند الفقهاء: "مقتضى خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين"، وفي اصطلاح جمهور الأصوليين: "خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع"، وهو ما عليه الاختيار.
فقولهم: (خطاب الله): يراد منه ما أمر به ونهى عنه وأخبر به وحيًا، سواء لفظًا ومعنًى، أو معنى، وسواء دلت عليه أدلة عقلية أو نقليَّة، وكل ما تفرع عن ذلك.
وقولهم: (المتعلق بأفعال المكلفين): سواء من جِهة الطلب أو الصحة وما يتبعهما، ويقصد بـ (الأفعال) (القدرة) فيستغرق ذلك الأعمال القلبية وأعمال الجوارح، والأولى استبدال (العباد) بـ(المكلفين) لتستغرقَ غير المكلفين، ومن ثَمَّ يخرج من ذلك خطابه - جل وعلا - للجمادت، وأخبار القرون السابقة مع مراعاة وُجُوب الاتِّعاظ بما جرى لهم، والأمور الغيبية كخلق الإنسان، مع مراعاة وجوب الإيمان بها فتكون حكمًا من هذه الجهة.
وقولهم: (بالاقتضاء): يقصد منه طلَب الفعل على وجْه الجزْم أو بغير تحتُّم، وطلب الترْك سواء على سبيل التحتُّم أو بغير جزْم.
وقولهم: (أو التخيير): فيستغرق بذلك ما يستوي فيه الفِعْل والترك، خلافًا لما أنكره البعض على وجه مرجوح.
وقولهم: (أو الوضْع): ويقصد به جعْلُ الشيءِ سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو وصفه بالصحة أو الفساد أو البطلان، وذلك خلافًا لما أنكره البعضُ على وجه مرجوح.

المسألة الثانية: تقسيم الحكم الشرعي:
بند 1: التقسيم الثنائي إلى تكليفي ووضعي هو المشهور عند الأصوليين، والصحيح جعل الحكم التخييرى قسيمًا ثالثًا، فإدخاله ضمن الحكم التكليفي بدعوى أن الإيمان بالإباحة مقصود شرعًا، مردود عليه بأن الإيمان بذلك واجب، ويشترك في ذلك الحكم الوضعي، وعلى ذلك فالأحكام الشرعية التي تندرج تحت هذه التقسيمات على الوجه التالي: (الإيجاب، التحريم، الندْب، الكراهة، الإباحة)، وهو خطابُ الله تعالى المتعلّق بأفعال المكلَّفِين بالاقتضاء أو الترْك، سواء على وجْه التحتم أو بغير جزْم، أو يستوي فيه الأمران، على الترتيب السابق، ويُضاف لذلك خطابُ الله تعالى بِجَعْل الشيء (سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو فاسدًا)، وهو ما يُسمى بالوضْع، والفقهاء يقسِّمُون الحكم التكْليفي إلى (واجب، ومحرَّم، ومندوب، ومكروه، ومباح)، والحنفيَّة أضافوا لذلك: (الفرض، والمكروه كراهة تحريم).

بند 2: وهناك مَنْ أنكر تقسيم الحكم الشرعي على النحو السالف ذكره، باعتبار أن الأحكام الوضعية علامات عليه، فهي أحكام عقلية لا شرعية، والراجح أنها شرعية؛ إذ لا يصدق عليها اسم شيء من الأحكام الخمسة، وإنما هي كذلك بوضع الشارع.

بند 3: وثمرة هذا التقسيم التمييز بينهما على النحو التالي:
أولاً: يُنظر في الحكم التكليفي إلى صفة المكلف، ولا اعتبار لذلك في الحكم الوضعي.
ثانيًا: مناط تحقق الحكم التكليفي العلم به، ولا أثر للعلم في تقرير الحكم الوضعي.
ثالثًا: مناط التكليف القدرة، ولا أثر لها في تقرير الحكم الوضعي.
رابعًا: محل التكليف كسب العبد، ولا أثر للكسب في تقرير الحكم الوضعي.

بند 4: وهناك تقسيم آخر للحكم الشرعي إلى عزيمة ورخصة، وقد اضطرب البعض في اختصاص هذا التقسيم إما بالحكم التكليفي أو بالوضعي، والصحيح أن هذا التقسيم يلحق بالتكليفي؛ لأنه يتعلق بكسب المكلف، فالعزيمة لغة: القصد المؤكد، كما قال تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115].
وفي الاصطلاح: (وصف للحكم الثابت ابتداء لا لأجل عذر).
والرخصة في اللغة: التسهيل والتيسير.
وفي الاصطلاح: "وصف للحكم الثابت على خلاف دليل شرعي باقٍ لعُذر"، ويُستفاد من هذا التعريف أن الأحكام التي جاء بها دليل غير مخالف؛ كالإيمان بالله، والمنسوخة والمخصصة كتخصيص الحامل من المطلقات وجعل عدتها وضع الحمل، كل ذلك ليس من الرخص، والأصل في الرخص الإباحة، وذلك ما لَم يأت دليل يوجب حكمًا آخر؛ كوجوب الأكل من الميتة حال المخمصة.

الفصل الأول:أنواع الحكم التكليفي:
أولاً: الواجب:
بند 1: يقصد به لغة (اللازم)، وفي الاصطلاح: (كل ما ورد في الشرع ذم لتاركه مطلقًا)، وقد أفاد لفظ (مطلقًا) شموله لما يندرج تحته من أنواع الواجب؛ كالموسع والمخير والكفائي، ويمكن تقسيمه إلى عدة تقسيمات على النحو التالي:
أولاً: تقسيم الواجب بالنظر إلى ذاته إلى: (معين) و(مخير):
والواجب المخير يقتضي الالتزام بالبديل؛ ككفارة الحنث، والمعين بخلافه؛ كوجوب صلاة الظهر لابديل لها.

ثانيا: تقسيم الواجب بالنظر إلى وقته إلى: (مؤقت) و(غير مؤقت):
فغير المؤقت لا يجب أداؤه في وقت محدد كالكفارات، والمؤقت قد يكون مضيقًا بما لا يتسع الوقت لفعل شيء من جنسه معه؛ كالصيام طوال رمضان، وقد يكون موسعًا بما يسمح وقته لفعل شيء من جنسه مرتين أو أكثر؛ كالأوقات بين الصلوات المفروضة؛ إذ تتسع لقضاء الفوائت، وقد أثير خلافٌ بين جمهور الفقهاء وبعض الحنفية في مفترضات الواجب الموسع، وهل إذا أخر المكلف أداءه إلى آخر الوقت فحال بينه وبين أدائه مانع أو عذر، كحيض أو مرض، فهل يعذر بذلك أو يأثم؟ وهل يجب القضاء أو لا ؟ وأساس الخلاف هل أول وقت الواجب الموسع يكفي كسبب لإيجابه، أو أن آخر وقته هو سبب لوجوبه؟ وهو خلاف سائغ لا يوجب الترجيح، والواجب الموسع يشترط فيه النية اتفاقًا ليتسَنَّى تخصيصه، أما المضيق ففي وُجُوب تخصيصه بالنِّيَّة خلاف.

بند 2: ولا يخلو هذا التقسيم من فائدة، إذ ظهرت به أوصاف الواجبات المؤقتة - وكذا المندوبات المؤقتة - الثلاثة (الأداء، القضاء، الإعادة)، فالأداء هو: "فعل العبادة في وقتها المعين غير مسبوق بفعل مختل"، وبذلك يخرج فعلها بعد فوات الوقت وتخرج الإعادة، والقضاء هو: "فعل العبادة المؤقتة بعد فوات وقتها"، والإعادة هي "فعل العبادة في وقتها بعد فعل مختل"، ووصف الفعل السابق بالخلل يشمل ما اختل شرطه أو ركنه، وما نقص ثوابه وإن استكمل الشروط والأركان، فمن صلى منفردًا ثم وجد جماعة سن له أن يعيد لاستدراك الفضل، وأما الواجب الذي لم يؤقت فيوصف بالإعادة، ولا يوصف بالأداء ولا القضاء وفقًا لمفهومهما الاصطلاحي.

ثالثًا: تقسيم الواجب بالنظر إلى المخاطب بفعله إلى (عيني) و(كفائي):
بند 1: الواجب العيني هو ما طلب الشرع فعله من المكلف بعينه؛ كوجوب الصلوات الخمس، والكفائي اقتضى الفعل من بعض المكلفين دون تعيين لهم أو تخصيص، ولو كانوا محصورين؛ كوجوب صلاة الجنازة على من حول الميت دون تعيين لهم.

بند 2: وينبني على ذلك أمور؛ إذ لا تجوز النيابة عن المكلف في أداء الواجب العيني إلا بشرطين: الإذن من الأصيل، وإجازة الشرع، بخلاف الكفائي لا يشترط فيه الإذن، وهو مأذون فيه شرعًا، كما تعود المصلحة في الواجب العيني لفاعله، بينما المصلحة عامة في الكفائي، وقد اتفقوا على أن الأمر في الواجب العيني موجه لكل مكلف بعينه؛ كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، أما الأمر في الواجب الكفائي كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]، فقد اختلفوا فيه: هل هو موجه للبعض بدون تعيين؟ أم إنه متوجه للمجموع من حيث هو مجموع؟ أم إنه موجه للجميع ويسقط بفعل بعضهم؟ والراجح هو الرأي الأخير؛ لأن الإثم يلحق الجميع إذا تركوا، ولو لم يكونوا مخاطبين ما أثموا، كما أنه لا إشكال في وجوبه على المجموع وسقوطه عند فعل الكفاية - اللازمة لذلك - له.

رابعًا: انقسام الواجب إلى محدَّد وغير محدد:
وهو ما ورد تقديرُه في الشرع بمقدار معين لا يجوز العدول عنه؛ كمقادير الزكاة، وأروش الجنايات، والواجب غير المحدد بخلافه؛ كمقدار التعزير الواجب على الجاني فيما دون الحد، أو طلب العلم الشرعي، ولا تضر الزيادة في الواجب غير المحدد.

خامسًا: ما يتوجب لذاته وما يتوجب لغيره:
كالصلاة واجبة لذاتها، والوضوء واجب لها، وقد بنى الأصوليون على ذلك قاعدة هامة، وهي أنه: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وهذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ إذ يشترط لتحقُّقها أمران: الأول ألا يكون الواجب لغيره سببًا للواجب لذاته، كوجوب مرور الحول واكتمال النصاب للزكاة، فهذا ليس واجبًا باتفاق؛ لأنه حكم وضعي وليس تكليفيًّا، ويشترط - ثانيًا - أن يكون في مقدور المكلف فعله، كوجوب غسل ثوبين في أحدهما نجاسة خفي موضعها، إذ لا تكليف إلا بما هو مقدور، ومن ثَمَّ يسقط فرض غسل اليد في الوضوء لقطع أو نحوه.

ثانيًا: المندوب:
بند 1: والمندوب في اللغة: اسم مفعول من (الندب)، وهو الدعاء، فالمندوب هو المدعو إليه.
وفي الاصطلاح: هو ما طلب الشرع فعله طلبًا غير جازم، وطريق معرفته عدة أمور؛ منها ما يلي:-
أولاً: الأمر المقترن بقرينة تصرفه عن الوجوب، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، والقرينة هي قوله تعالى: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282]، فإظهار العلة من الكتابة - وهي درء الارتياب - أفاد ذلك.
ثانيًا: ورود الطلب بأسلوب الترغيب وذكر الثواب أو بيان محبة الفعل لله، أو مدح فاعله؛ كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
ثالثًا: فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يأمر بمتابعته مثل الاعتكاف.

بند 2: وقد تعددتْ أسماء المندوب؛ فعند جمهور العلماء من أسمائه: (السنة، المستحب، الرغيبة، النافلة، التطوع)، وعند الحنفية ينقسم إلى (سنة هدى)؛ حيث شددوا على تاركها، وأوجبوا عليه اللوم ويسميها الجمهور (سنة مؤكدة) كصلاة العيد، وهناك (سنة مطلقة) وهي ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يأمر به أمر إيجاب؛ مثل: السنن الرواتب، وصيام الاثنين والخميس، وأخيرًا (النافلة): وهي ما شرع من العبادات الزائدة على الفروض؛ كصلاة الضحى، والحنابلة يقسمون المندوب إلى: (سنة) - وهي ما عظم أجره - و(نافلة) - وهي ما قل أجره - و(فضيلة) أو (رغيبة) - وهو ما توسط أجره - ولا شك أن ذلك رجم بالغيب؛ إذ لا يعلم الأجْر إلا الله، ومنَ الألفاظ المشهورة عند الفقهاء (السنة المؤكدة) وهي: ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وواظب عليه في الحضر والسفر؛ مثل: الوتر وسُنة الفجر، و(المستحب) وهو ما رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله أو لم يفعله؛ مثل: صيام يوم، وترك يوم.

بند 3: ولا يلزم المندوب بالشروع فيه على قول الجمهور، ومما استدلوا به على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر))، وذلك فيما عدا الحج والعمرة والصدقة؛ لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، أما الأحناف فذهبوا إلى أن المندوب يجب بالشروع فيه، ومما استدلوا به على ذلك قوله سبحانه: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وثمرة الخلاف في إيجاب القضاء عند أبي حنيفة فيما شرع في نفل ثم قطعه، وعدم وُجُوبه عند الجمهور.

ثالثًا: الحرام:
بند 1: وهو ما يذم فاعله، ويعرف بقرائن أو علامات منها ما يلي:
أولاً: النهي الخالي من قرينة تصرفه للكراهة؛ كقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32].
ثانيًا: النص على التحريم؛ كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275].
ثالثًا: ذم فاعله أو توعُّده بالعقاب؛ مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)).

بند 2: والحرام ثلاثة أقسام: أحدها: حرام لذاته، وهو ما كانت المفسدة فيه ظاهرة؛ كالقتل والسرقة، وهناك حرام لغيره، وهو ما نشأت مفسدته من وصف قام به لا من ذاته؛ مثل الصلاة في المقبرة، والبيع وقت النداء للجمعة، وقد يكون الفعل محرمًا لذاته ولغيره، وذلك عندما يؤدي لمفسدة أكبر؛ كالنظر للمحرمات، كما يمكن تقسيمه إلى محرَّم محض، ومحرمَّ من جهة وطاعة من جهة أخرى، كالصلاة في الثوب المغصوب، وهنا إذا أمكن أن يعرف أن الفعل الذي له جهتان تنفك إحداهما عن الأخرى، فإنه يكون حرامًا مِن جهة، وطاعة من جهة أخرى، أما إذا كان الفعل ليس له إلا جهة واحدة أو له جهتان لا تنفك إحداهما عن الأخرى فعندئذ يوصف في الجملة بأنه حرام.

رابعًا: المكروه:
بند 1: والمكروه لغة (المبغَض)، وفي الشرع هو (المحرَّم)؛ لقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].
وفي اصطلاح الأصوليين والفقهاء عرفه الجمهور بأنه: "ما نهى عنه الشرعُ نهيًا غير جازم"، أو: "ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله"؛ مثل: كراهة أكل البصل أو الثوم عند إتيان المسجد، والحنفية يُفَرِّقون بين الكراهة التحريمية وهي: "ما نهى عنه الشرع نهيًا جازمًا، ولكنه ثبت بطريق ظني"؛ مثل: أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، والكراهة التنْزيهيَّة، وهي مرادف المكروه عند الجمهور، ويعرف بقرائن كالنهي مع وجود قرينة تدل على عدم العقاب أو أن يترتب على فعل الشيء الحرمان من الفضيلة.

خامسا: المباح:
بند 1: وهو في اللغة: (المأذون فيه) و(المطلَق)، وشرعًا: "ما خير الشرع فيه بين الفعل والترك"، وتعرف الإباحة بقرائن أو علامات منها ما يلي:
أولاً: النص على التخيير بين الفعل والترك؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الوضوء من لحوم الغنم: ((إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ)).
ثانيا: النص على الحل أو نفي الإثم والمؤاخذة، كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
ثالثًا: ورود الأمر بعد الحظر كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

رابعًا: سكوت الشرع عن إيراد حكم للمسألة؛ لأن الأصل في الأشياء المنتفع بها الإباحة، كركوب السيارات والطائرات وما شابه ذلك.

الفصل الثاني: أنواع الحكم الوضعي:
أولاً: السبب:
ويُقصد به في اللغة: كل وسيلة يتوصل بها لشيء آخر، ومنه سُمِّي الحَبْل سببًا.
وفي الاصطلاح: ما يلزم من وُجُوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته"، وبعض الفقهاء يرادفون بين (العلة) و(السبب) باعتبار أن العلة هي: "وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه مناطًا للحكم"؛ كالسكر علة لتحريم الخمر، والصحيح أن السبب أعم لأنه ينطوي على ما عرفت حكمته وما لَمْ تعرف؛ كغروب الشمس سبب لوجوب صلاة المغرب، أما العلة فإنها تنطوي على الحكمة دائمًا.

ثانيًا: الشرْط:
الشرط في اللغة (التأثير)، وفي الاصطلاح: "وصف يلزم من عدمه عدم ما علق عليه، ولا يلزم من وجوده وجوده ولا عدمه"، كالطهارة شرط لصحة الصلاة، فلا تصح الصلاة بدون طهارة ولا يكتفى بها لصحة الصلاة، ويعرف بالشرع وبالعقل وبالعادة، أما الشروط اللغوية كـ(إذا) و(إن) فهي أسباب.

ثالثًا: المانع:
المانع في اللغة: (الحاجز)، وفي الاصطلاح: (وصفٌ يلزم مِنْ وُجُوده عدم متعلقه، ولا يلزم من عدمه وجوده ولا عدمه)؛ كالرق مانع من الإرث، إذ لو زال هذا المانع قد لا يستحق الميراث؛ إذ قد لا يكون الشخصُ وارثا أصلاً.

رابعًا: الصحة:
والصحة في اللغة: (ضد المرض)، وفي الاصطلاح: (ترتب الآثار المقصودة من الفعل عليه)، ويقصد بها براءة الذِّمَّة في المعاملات وموافقة الأمر في العبادات.
خامسًا: الفساد والبطلان:
وهما عند الجمهور أمر واحد؛ بمعنى: (ما لا يترتب عليه أثره) كفساد النكاح وعدم جواز الوطء، أما الأحناف فإنهم يفرقون بينهما، فالفاسد عندهم: (ما شرع بأصله ولم يشرع بوصفه)؛ كالعقود الربوية، والباطل: (ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه)، كبيع حمل الحبلة، وأثر ذلك عندهم أنه يمكن إصلاح الفاسد، أما الباطل فلا، وهذه التفرقة وجدت صدى لدى بعض الشافعية في عقود المكاتبة، والحنابلة إذ فرقوا في عقد النكاح بين ما اختل ركنه كالزواج من معتدة فجعلوه باطلاً، وما اختل شرطه كالنكاح بلا ولي، فجعلوه فاسدًا، وغيرهم جرى على هذه التفْرقة.

الفصل الثالث: التكليف:
المسألة الأولى: ما هو التكليف؟
التكليف في اللغة: مصدر (كلف) وهو (الإلزام بما فيه مشقة)، وفي الاصطلاح: "الخطاب بأمر أو نهي"، وعليه يمكن أن ينضم المباح إلى التكاليف الأربعة (الواجب والمندوب والمحرم والمكروه) ضمن الأومر التكليفية تغليبًا - وإن كان المصنِّفُ يرجح إخراجها بخلافنا.
وأركان التكليف أربعة: (المكلِّف)، وهو الله - جل وعلا - و(المكلَّف) وهو المُخاطب، و(المكلَّف به) وهو الفعل أو الترك، و(الصيغة والطلب) وهي الأمر والنهي وما جرى مجراهما، وسنفصل القول في الركن الثاني فقط.

المسألة الثانية: شروط التكليف التي ترجع إلى المكلَّف:

بند 1: وهي إما عامة أو خاصة ببعض المكلفين، فأما العامة فهي كالتالي:-
أولاً: البلوغ: ويحصل بالإنزال باحتلام أو جماع، ويستدل عليه بإنبات شعر العانة، وفي الأنثى بالحيض، إذ دلت السنة على رفع القلم عن الصغير حتى يحتلم، ولا يخفى أنَّ الطفل الذي بلغ سن التمييز دون الاحتلام يؤدب ويزجر مع كونه غير مكلَّف.
ثانيا: العقل وفهم الخطاب: إذ رفعت السنة التكليف عن المجنون حتى يفيق، ويلحق به النائم حتى يستيقظ والمغمى عليه، وذلك لوجود علة حالت بينه وبين فهم الخطاب، والناسي يجب عليه القضاء حال التذكر لأن التكليف لَم يزل باقيًا في ذمته.
ثالثًا: القُدْرة على الامتثال: فحد التكليف الوُسع؛ لقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ولا تكليف إلا بما هو مقدور.
رابعًا: الاختيار: إذ لَم يؤاخذ الشرع من أكره على الكفر؛ قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وذلك هو الأصل، أما حقوق الآدميين فترتبط بأسباب موجباتها بصرف النظر عن الاختيار وخلافه.
خامسًا: العلم بالتكليف: لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، هذا هو الأصل، وفيه تفصيل بصدد معرفة ما هو معلوم بالضرورة.

بند 2: والشروط المقيَّدة التي تختلف باختلاف المكلف به فمنها: (الحرية)، فهي شرط للتكليف بالجهاد والجمعة، وليست شرطًا للتكليف بالصلاة والصوم، ومنها: (الذكورية)، وهي شرط للتكليف بالجمعة، ومنها: الإقامة شرط للجمعة، ونحو ذلك.

المسألة الثالثة: شروط الفعل المكلف به:
أولاً: أن يكون ثابتًا بالشرع: وأهل العلم هم الأقدر على استنباط حكم الشارع، وإنذار قومهم به.

ثانيًا: ألا يكون قد سقط بأدائه: إذ لو أتى به فلا يجب عليه التكرار كما ثبت في جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الحج: أفي كل عام؟ فقال: ((لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم))، فأفاد ذلك أنه لا تكرار بعد الأداء.

ثالثًا: أن يكون ممكن القيام به: فلا تكليف بالمستحيل، كالتكليف بما جاوز الطاقة والوسع، وهو مذهب الجمهور؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))، وقد خالف الأشعرية في ذلك فأجازوا التكليف بالمستحيل وبما لا يطاق، وإن كان بعضهم تخفف من حدة ذلك، فقالوا بأن الشرع لم يوقع التكليف بالمستحيل شرعًا، وإن جاز وقوعه عقلاً، أما من قال منهم بوقوعه شرعًا، استدلوا على ذلك بأدلة منها: أن أبا لهب كلف بالإيمان مع أن المولى أخبر بأنه سيصلى نارًا ذات لهب، وحجتهم في ذلك داحضة، إذ لَم يحل بينه وبين الإيمان شيء، ولا إشكال في كون أفعال الكفر التي أتى بها قد خلقها الله تعالى لقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، وكونه مكلفًا بفعل الإيمان؛ لقوله سبحانه: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، فاللعن جاء بعد الكفر فتأمَّل، فالمكلف هو الفاعل لفعله حقيقة؛ {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].

المسألة الرابعة: الأهلية للتكليف:
بند 1: قسم الحنفية أهلية المكلف إلى قسمين: (أهلية الوجوب)، و(أهلية الأداء)، ويقصد بالوجوب عندهم: (صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه)، وتثبت للإنسان ما دام حيًّا، ويطلق عليها الفقهاء (الذمة)، ويعرفونها بأنها: "وصْف شرعي مقدر يصير به الشخص أهلاً لما يجب له وعليه"، وهناك من الأشخاص الاعتبارية - لا الحقيقية - ما تثبت له الذمة، كبيت مال المسلمين والأوقاف، أما أهلية الأداء فهي: (صلاحية الشخص لصدور الأفعال والأقوال منه على وجه يعتد به شرعًا)، وتثبت بالتمييز، فالحج قبل سن التمييز لا يسقط الأداء.

بند 2: والأهلية على النحو المتقدم قد تكون ناقصة أو تامة، فأهلية الوجوب الناقصة تعني صلاحية الشخص لأن تثبت له الحقوق دون أن يتحمل بالواجبات، وهي تثبت للجنين شريطة أن يولد بعد ذلك حيًّا، وأهلية الأداء الناقصة تعني: (توقف صحة الفعل منه على وجه المعتد به على إذن وليه متى كانت دائرة بين النفع والضرر)، وذلك كعقد النكاح، أما التصرُّفات الضارة به ضررًا محضًا فلا تصح منه، ولا يجوز لوليه أن يأذن بها، والتصرفات النافعة نفعًا محضًا تصح منه كصحة إسلامه وصلاته وحجه - لكن لا تسقط به الفريضة - وتثبت للإنسان منذ بلوغه سن التمييز إلى أن يبلغ عاقلاً، وتمتد في التصرّفات المالية إلى الرشد.

المسألة الخامسة: أهم موانع التكليف:
أولاً: الجنون:
فأقواله وأفعاله لَغْو لا يعتد بها ولا يحاسب عليها في الدنيا ولا في الآخرة، لكنه يضمن ما أتلفه في ماله أو على عاقلته، فمناط الضمان السببية وليس الأهلية، ولا يحاسب على ترك شيء واجب فعله إلا منذ وقت إفاقته وليس عليه قضاء.

ثانيًا: النسيان: 
ثبت في السنة أن الله وضع الإثم عن الناسي، وعليه فلا يعتد بقوله وفعله وتركه ما دام ناسيًا، إلا أنه تبطل عبادته متى أخل بأركانها وشروطها ناسيًا لأن الصحة والبطلان أحكام وضعية لا تكليفية، كما أن عليه ضمان ما أتلفه، ولا يسقط الحد أو التعزير من عليه، إلا بإثبات دعوى النسيان إن استطاع ذلك. 

ثالثًا: الجهل:
ولا يرتفع التكليف به لمن بلغته الرسالة أو سمع بها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار))، وإنما يرتفع به التكليف لمن لم تبلغه، وذلك لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، مع العلم بأن المولى لم يترك البشر هملاً دون نذير لقوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، لذا كان الجاهلُ بما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ كوجوب الصلاة، والزكاة، وحرمة الزنا مُقَصِّرًا، ولا يعذر بجهله متى عاش بين المسلمين ما لم يكن حديث عهد بإسلام، أو من عاش حياته في بلاد الكفر، وما غير ذلك من أمور يجوز فيها الاجتهاد أو كانت موضع اشتباه؛ كالجهل بحرمة زوجته عليه التي هي أخته من الرضاع، فإنه يتدارك ما وقع فيه من خطأ ويصوبه متى كان ذلك في حدود وسعه، ولا إثم عليه.

رابعًا: النوم:
وتسري عليه أحكام المجنون عدا القضاء، فإنه يجب عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها".

خامسًا: الإغماء:
وحكمه كالنائم، إلا أن الخلاف لم يترجح بشأن وجوب القضاء عليه متى كان إغماؤه قصيرًا أيقاس على النائم أم على المجنون.

سادسًا: السُّكْر الاختياري:
ويُقصَد به ذهاب العقل بالخمر، وهو محل خلاف؛ فالمانعون من تكليفه لهذه الحال استدلوا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فالله نهاه حال سكره عن الصلاة، فدلَّ ذلك على أنه أهل للخطاب، ورد عليهم الآخرون بأن ذلك الخطاب قبل سكره، فالمراد لا تسكروا قرب وقت الصلاة حتى لا تدخلوا في الصلاة وأنتم سكارى، وأيًّا كان الأمر فإنهم متفقون على أنه يجب عليه ضمان ما أتلفه، كما يجب عليه الحد أو التعزير بحسب ما اقترفه من جرم حال السكر سدًّا لذريعة الشرب قبل ارتكاب الجرائم.

سابعًا: الإكراه الملجئ:
إذ لو لَم يبلغ الإكراه حدَّ الإلجاء لما كان مانعًا من التكْليف، وحد الإلجاء مختلف فيه، فالجمهور يقصرونه على ما لا يكون فيه للمكره قدرة على الامتناع فيكون كالآلة، لذا فهم لا يعتبرون القاتل أو الزاني - متى وقع - مكرهًا؛ لأن القتل فيه إهدار لنفس الغير لأجل حفظ نفس القاتل، وهذا ينافي الإيمان الذي يقتضي حب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، وزنا الرجل يفترض الانتشار والشهوة، وهذا يتنافى مع الإكراه، أما في المعاملات كالبيع والطلاق، فإنهم فد أبطلوا التصرفات التي تنبني عليها؛ لأن البطلان والصحَّة أحكام وضعية ولا أثر للتكليف فيها بشيء، وإن أجاز الأحنافُ تصحيح الفاسد منها بالتراضي بعد ذلك، أمَّا الأحناف فإن معيار الإلجاء عندهم أوسع - وهو الصحيح - إذ يرون أن كل ما فيه تهديد بقتل، أو قطع طرف، أو جرح، أو ضرب مبرح، أو حبس مدة طويلة ممن يستطيع أن يفعلَ ذلك سببٌ يتحقق به الإكراه الملجئ الذي يسقط به التكليف، وآية ذلك أن شرعنا أباح النطْق بكلمة الكفر مع طمانينة القلب؛ فقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]، فكان أولى من غيره من أمور.

الباب الثاني:أدلة الأحكام الشرعية:
بند 1: الأدلة جمع دليل، وهو المرشد والهاديللشيء، وفيالاصطلاح: "ما يمكن التوصل - بصحيح النظر فيه - إلىمطلوب خبري"، وبذلك لا تنحصر الأدلة فيما تم التوصل به فعلاً، وإنما يمكن إضافة جديد لها ما دام وافق أصول الاستدلال الصحيح، وهيتنقسم من حيث العمل بها إلىثلاثة أقسام:
أولاً: أدلة متفق عليها، وهي(الكتاب) و(السُّنَّة).
ثانيًا: أدلة ذُكر فيها خلاف لا يُعتد به (الإجماع) و(القياس).
ثالثًا: أدلة ذكر فيها خلاف يحتاج لتحقيق، وهي: (قول الصحابي)، (الاستحسان)، (المصلحة المرْسَلة)، (شَرْع ما قبلنا)، (الاستصحاب)، (سد الذرائع).

بند2: كما يمكن تقسيمها بالنظر إلىطريق معرفتها إلىأدلة نقلية، وهي: (الكتاب)، و(السنة)، و(الإجماع)، و(قول الصحابي)، و(شرع من قبلنا)، و(العرف)، وأدلة عقليَّة، وهي(القياس)، و(المصلحة المرسلة)، و(سد الذرائع)، و(الاستحسان)، و(الاستصحاب)، وليس مرادهم أنها عقلية محضة؛ بل هيعقلية مستندة إلىنقل.

بند 3: وأخيرًا يُمكن تقسيمُها بالنظر إليها من حيث قوة دلالتها إلى: قطعيَّة وظنيَّة: والدليل القطعيهو: (ما دلَّ علىالحكم من غير احتمال ضده)، كما فيقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196], فدلالة العدد هنا علىالأيام الواجب صيامها دلالة قطعية لا تحتمل التأويل، والظني: (ما دل علىالحكم مع احتمال ضده احتمالاً مرجوحًا)، ومثاله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، فالآية تدل بظاهرها علىأن كلاًّ من المن والأذىيبطل الصدقة ويذهب أجرها، ولا يلتفت إلىالاحتمال المرجوح الذيتحتمله الآية، وهو أن الصدقة لا تبطل إلا بمجموع الأمرين، والأصل أنَّ مسائل الشريعة تؤخَذ علىعمومها؛ ليدخلَ تحت خطاب الشارع بها كل المكلفين؛ سواء وردتْ بصيغة عامة أو خاصة، حتىيأتيالدليلُ علىتخْصيصها لآحاد الناس، فالأحاديث الواردة فيرجْم ماعز لَمّا زنا، يدخل فيها كل زانٍ محصن، وذلك لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].

الدليل الأول:الكتاب:
بند1: دلت السُّنَّة علىنُزُول القرآن الكريم علىسبعة أحرف كلها عربية لأجل رفع المشقة علىقبائل العرَب، وقد تم جمعه علىالحرف الذيكانت تقرأ به قريش فيالمصحف العثماني، وبهذا الحرف عرفت القراءات العشر، وعليه تَمَّت التفرقة بين القراءة الصحيحة والقراءة الشاذة والباطلة، وفقًا لثلاثة معايير، فالقراءة الصحيحة يجب أن يصح سندها، وتوافق اللغة العربية ولو من وجه، وتوافق الرسم العثماني، أما القراءة الشاذة فإنها تفترق عن الصحيحة فيمخالفتها للرسم العثماني، إما بزيادة كلمة أو تغييرها ونحو ذلك، ومثال ذلك قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، فكلمة (متتابعات) غير موجودة فيالمصحف العثماني، فهيشاذة من هذا الوجه، وعلة هذه التسمية أن الرسم العثمانيجاء متواترًا، فعد العلماء ما خرج عنه شاذًّا، أما القراءة الباطلة فهيالتياختل فيها أحد الشرطين الأولين، فإذا لَم يصح سندها، أو لم توافق اللغة العربية، فإنه لا تجوز القراءة بها ولا الاحتجاج بها باتفاق.

بند 2: أما القراءة الشاذة أو الآحادية التيلم تثبت بالتواتر، فقد ذهب الجمهور إلىعدم صحة القراءة بها؛ لأنها ليستْ قرآنًا، ولا دليل فيأن ابن مسعود كان يقرأ بها، وإنما يحتمل أنه كان يقولها تفسيرًا أو تقييدًا لما فيالقرآن من إجمال أو إطلاق، أما الاحتجاج بها فيمقام الاستدلال، ففيه خلاف، إلا أن الراجح أنها حجة ما دام أنها نقلت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح، وعليه فلا تخلو إما أن تكون قرآنًا أو سنة، وحتىلو كانت قول صحابي، فإنها حجة من هذا الوجه كذلك، ولا يخفىأن القراءات السبع وإن ادعيأنها متواترة، فإن كل قراءة منها نقلت نقلاً أحاديًّا، فكذا القراءة الشاذة أو الآحادية لا يشترط للاحتجاج بها التواتر، وقد أفادت هذه القراءات (الشاذة) أو (الآحادية) فيتفسير القرآن واحتجاج الفقهاء بها من ذلك إيجاب الحنفية والحنابلة التتابع فيصيام كفارة اليمين استنادًا إلىقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وقد خالفهم الشافعية والمالكية فيذلك لعدم استدلالهم بهذه القراءة.

الدليل الثاني:السنة:
المسألة الأولى: التعريف بالسنة وأقسامها:
بند1: السنة فياللغة: (الطريقة)؛ سواء أكانت حسنة أم سيئة، وفياصطلاح الأصوليين: (ما صدر عن النبي- صلىالله عليه وسلم - غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير).
وعليه تخصصت السنة بما هو مقابل البدعة، والمحدثون يدخلون فيالتعريف كل ما وَرَد عن الصحابة فيوصْف الرسول خِلْقيًّا أو خُلُقيًّا، ولا شك أن الصفات الخِلقية للنبي- صلى الله عليه وسلم - لا يُستفاد منها حكمٌ شرعيٌّ، وليس كل ما نسب للنبي- صلى الله عليه وسلم - سنة، وإنما يجب التوقُّف فيصحته؛ لذا فإنَّ المرويات عنه - صلى الله عليه وسلم - تسمىأخبارًا، حتىيتم تمييز الصحيح منها من الضعيف.
فالخبر اصطلاحًا: (ما يحتمل الصدق والكذب لذاته)؛ أي: بالنظر إلىذات الخبر دون النظر إلىالمخبِر والقرائن التيتحف بالخبر؛ إذ قد يكون الخبرُ ضعيفًا، لكن القرائن التيجاءتْ معه تزيده قوة، وفرق العلماء بين الخبر والأثر باعتبار أن الخبر ما نقل عن النبي- صلىالله عليه وسلم - غير القرآن، أما الأثر فيقتصر علىما نقل عن الصحابة والتابعين، وبعضهم يدخل الأثر فيمعنىالخبر.

بند 2: وتنقسم السُّنَّة بهذا المعنىإلىثلاثة أقسام:
قوليَّة وهيكثيرة، وفعلية كنقل صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - وتقريرية ويقصد بها: (ما نقل من سكوت النبي- صلى الله عليه وسلم - عن قول قيل، أو فعل فُعِل، فيحضرته، أو علم به فلم ينكره)، من ذلك تقريره أكل الضب، ولعب الأحباش فيالمسجد بالحراب، وقد عنيالعلماء بالسُّنَّة الفعليَّة بتأليف مستقل، ومن أفضل ما كتب فيها كتاب أبي شامة المقدسي واسمه: "المحقَّق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول"، وهي على أنواع ولكل نوع منها دلالته:
أولاً: الأفعال الجبلِّية: وهي التي فعَلَهَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى بشريته مما يحتاجه البشر عادة من حركة أو سكون ونوم وأكل وشرب، مثل ما نقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طريقة مشيه وأكله القثاء بالرطب، ولبسه الجبة الشامية ونحو ذلك، ودلالتها الإباحة عند الجمهور، وعند غيرهم تفيد الاستحباب؛ لما روي من أن ابن عمر كان يتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: الأفعال التي ثبت الدليل بكونها خاصة به - صلى الله عليه وسلم - كزواجه بأكثر من أربع مجتمعات، وكإيجاب قيام الليل عليه، فحكمه التحريم فيما كان له مباحًا، والندب فيما كان عليه واجبًا.

ثالثًا: ما فعله في مقام بيان التشريع الوارد في الكتاب أو السنة القولية، كصلاته وصيامه وحجه، وهو حجة في هذا المقام؛ لقوله - صلىالله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتمونيأصلي))، وقوله: ((لتأخذوا عنِّيمناسككم))، وعليه يأخذ فعله حكم المبين، فيكون واجبًا متىكان واجبًا، ومندوبًا متىكان مندوبًا وهكذا، مع مراعاة ما لَم يواظب عليه النبي- صلى الله عليه وسلم - أو لَم يصلْ إلينا مِنْ فِعله؛ كالأذكار الخفية، فهنا يكون حكمها الاستحباب لا الوجوب.

رابعًا: ما لم يقصد به التشريع ولا من أفعال الجبلَّة، فذلك إن لم يظهر فيه بقصد القربى كالاعتكاف، فإنه يكون مندوبًا كالترجُّل والتكحُّل في كل الأحوال، أما إن ظهر فيه قصد القربى بالرغم من أن صفته لم تظهر من كونه ندبًا أم واجبًا، فهنا أثير خلافٌ قوي بين العلماء، فمن حكم بوجوبه استدل على قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، ولما كانت المحبة واجبة فالاتباع واجب، أما القائلون بأن حكمه الندب أخذوا بالقدر المتيقن من صفة القربى التي ظهرت في الفعل، والقائلون بالإباحة اعتبروا أن ذلك هو القدر المتيقن، واحتجوا بأنه لو زاد على ذلك لاحتاج لبيان، والرسول مأمور بالتبليغ والبيان، ويرد عليهم بأن الفعل بيان، لذا ترجَّح أن حكمه الندب[1].

المسألة الثانية: حجيَّة السُّنَّة:
بند1: السنة هيالمصدر الثانيللتشريع الإسلاميباتفاق، ولا عبرة بتواتر الرواية أو كونها من أخبار الآحاد للقول بحجيتها، إذ ثبت الدليل علىوجوب العمل بخبر الآحاد، ذلك أن المولىسبحانه أوجب علىالأمة تخصيص طائفة منها لتتفقه وتنذر قومها، والطائفة فياللغة لا تختص بالمتواتر، وإنما تطلق علىالواحد والقليل كذلك، ولولا ذلك لما كان إنذارهم حجة علىقومهم؛ قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

بند 2: بيد أن الحنفيَّة اشترطوا شُرُوطًا للعمل بخبر الآحاد تَمَّت مناقشتها علىالوجه التالي:
أولاً: ألا يكونَ الخبر فيما تعمُّ به البلوى، ومثلوا لذلك بخبر جابر - رضي الله عنه - فيالأمر بالوضوء من لحوم الإبل، فقالوا: لو كان أكل لحم الإبل ناقضًا للوضوء، لتكرر التنبيه عليه، ولم يقتصر نقله علىواحد أو اثنين من الصحابة، وقد رد عليهم الجمهور بأن أكثر الصحابة كان يتحرَّج من الرواية، فإذا كفاه غيره رواية الحديث سلم من العهدة.

ثانيًا: عدم مخالفته للأصول والقواعد الثابتة فيالشريعة، ومثلوا لذلك بحديث المصراة الوارد عن النبي- صلىالله عليه وسلم - قال: ((لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخيرِ النظَرَينِ بعد أن يحتلبَها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعًا من تمر))، فقالوا: إن قواعد الشرع تقضيبأن ضمان المتلفات يكون بالمثل أو بالقيمة، والحديث جاء لا بالمثل ولا بالقيمة، فهو مخالف لقواعد الشرْع، فلا يعتد به، والجمهور ينظرون للخبر الوارد فيهذا الفرض كأصل بنفسه فيجمع بينه وبين غيره بما يحمل علىمعناه.

ثالثًا: أن يكون الراويفقيهًا، ولم يستدلوا علىذلك بدليل.

رابعًا: ألا يعمل الراويمن الصحابة بخلاف روايته؛ إذ قد يكون ذلك قرينة علىالنسخ، ومثلوا لذلك بخبر أبيهريرة مرفوعًا: ((إذا ولغ الكلب فيإناء أحدكم فليغسله سبعًا)) مع أن أبا هريرة كان يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا، ويرد عليهم بأنه لم يقل أحد بعصمة الصحابيمن النِّسيان أو الخطأ أو التقصير.

بند 3: وهناك من اشترط للعمل بخبر الواحد أن يكون الحديث عزيزًا، بمعنىأن يرويه اثنان فيكلِّ طبقة علىالأقل، وذلك قياسًا علىالشهادة، ولما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه طالب أبا موسىالأشعري- رضي الله عنه - بمن يشهد معه حينما روىله حديث الاستئذان، ولم يقبله حتىشهد له أبو سعيد الخدري، ورد أبو بكر خبر المغيرة فيميراث الجدة حتىشهد معه محمد بن مسلمة، ورد عليهم الجمهور بأن قياسهم ذلك علىالشهادة قياس مع الفارق؛ لأن الشهادة خبرٌ خاص بنفيالتهمة، أما الرواية فهيخبر عام فيالدين، كما أنه ثبت عن أبيبكر وعمر أنهما قبلا خبر الواحد دون طلب الاستثاق بشاهد آخر، فقبل أبو بكر حديث: ((إنَّا معاشر الأنبياء لا نورث))، كما ذكر عمر - رضيالله عنه - لأبيموسى: "أما أنيلم أتهمك، ولكن الحديث عن رسول الله - صلىالله عليه وسلم - شديد"، إذًا كان ذلك لأجل زيادة الاستيثاق، وليس الرد.

بند 4: أما مَن ردّ خبر الآحاد مطلقًا، ولم يعتد إلا بما هو متواتر، فقد استدلوا علىذلك بأن خبر الآحاد يفيد الظن، والمتواتر يفيد العلم، والله قال فيكتابه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، فخبر الآحاد مردود لكونه يُفيد الظن لا العلم، وأكدوا زعمهم بما ثبت عن عائشة أنها ردتْ بعض أخبار الآحاد، كردها لخبر عمر وابنه فيتعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وقد أجاب عليهم الجمهور بأن الآية نهتْ عن اتباع ما لا نعلم وجوب اتباعه، وخبر الآحاد دلت الآثار علىوجوب اتباعه، كما أن العلم المراد بالآية لا يشترط أن يصلَ لدرجة اليقين، وإنما حده الظن الذيهو فوق الشك، كما فيقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10]، أما رد عائشة وبعض الصحابة لبعض خبر الآحاد فمردود عليه بأن عائشة - رضيالله عنها - ردت الخبر، لا لكونه آحادًا، ولكن لكونه معارضًا لأدلة قطعية أقوىمنه، كما فيقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]، فلا يستقيم معه أن يعذب الميت ببكاء الحي.

بند 5: ولا شك أن حجية الخبر المتواتر أقوىمن آخبار الآحاد، ومن ثَم لا تخلو الفائدة من الإشارة إلىمعنىالتواتر دون تعسف فيالاعتداد به، إذ يُقَسِّم جمهور الأصوليين الخبر إلىمتواتر وآحاد، ويزيد الأحناف ثالثًا وهو المشهور، والمتواتر نوعان لفظيومعنوي، تفصيل ذلك علىالوجه التالي:
أولاً: الخبر المتواتر: "هو ما رواه جماعة يستحيل تواطؤهم علىالكذب عادة، وأسندوه إلىحس"، والمتواتر اللفظيهو: "ما اتَّفق الرواة علىلفْظه ومعناه"، ومثله حديث: ((مَن كذب عليمتعمدًا فليتبوأ مقعده من النار))، فقد روىهذا الحديث عن النبي- صلىالله عليه وسلم - أكثر من ستين صحابيًّا، أما المتواتر المعنويفهو: "ما اتفق الرواة علىمعناه دون لفظه، حتىأصبح المعنىمقطوعًا به، وإن كان اللفظُ لم يبلغ درجه القطع"، ومثاله مشروعية المسح علىالخفين، ولم يتفق العلماء علىالحد الذييبلغ به الحديث درجة التواتر، إذ زاد اضطرابهم فيتحديده، الأمر الذيحدا ببعض العلماء إلىإنكار هذا التقسيم، وعدم التفريق بين ما سماه المحدثون متواترًا، وما سموه آحادًا متىصح سنده، وقالوا: العبرةُ بصحَّة الخبر، فمتىصحَّ وجب العمل به قطعًا.

ثانيًا: الآحاد: وهو ما لَم يبلغ حد التواتر، وأغلب الأحاديث من هذا القبيل.

ثالثًا: المشهور عند الحنفية، وهو "ما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد أو اثنان، ثم تواتر في عصر التابعين أو تابعي التابعين"، ومثاله حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما الأعمالُ بالنِّيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).

بند 6: ومنزلة السُّنَّة للقرآن على ثلاثة أنواع:
فهي إما أن تكون مبينة له، كأن تخصص عمومه أو تفصل مجمله أو تقيد مطلقه، مثل السنة المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة الصلاة وصفة الحج، وقد تكون مؤكدة لما ورد في القرآن من غير زيادة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم))، فهذا موافق لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، أما السُّنَّة المستقلة التي أتتْ بأحكام زائدة؛ مثل: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، فقد ذكرها الإمامُ الشافعي في "الرسالة"، وتبعه عليها أكثر العلماء، وأنكر الشاطبي وجودها وردها إلى النوع الأول باعتبار أن أصل التحريم موجود في القرآن، كما في المثال السابق لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23].

المسألة الثالثة: أقسام الخبر الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث صحته:
بند1: والخبر ينقسم بهذا الاعتبار إلى (صحيح)، و(حسن)، و(ضعيف)، ولذلك تفصيل:
أولاً: الصحيح: وهو "ما رواه عدْلٌ تام الضبط عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسَلِم من الشذوذ والعلة القادحة"، وينظر في العدالة للدين والخلق، وينظر في الضبط إلى قوة الحفظ وقلة الخطأ فيه، ويجب توافرهما في كل رجال السند، وعلى ذلك ترد رواية الفاسق والمتهم بالكذب لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، كما ترد رواية الكافر من باب أولى، كما ترد رواية غير البالغ لعدم التكليف، فلا يؤمن من الكذب، أما السلامة من الشذوذ فتعني عدم مخالفة الراوي للثقات الأثبات، أما العلة القادحة فهي وصف خفي يوجب رد الحديث، ولا يكشفها إلا أهل الصنعة من علماء الحديث، كما فعل الترمذي في عِلل الحديث، وعليه علَّل الحنفية أخبار الأحاد إذا انفرد الراوي بما تعم به البلوى، كما تأوَّل جمهورُ العلماء حديث: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) بما ذكرته عائشة - رضي الله عنها - من أن أبا عبدالرحمن لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مَرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يُبكى عليها، فقال: ((إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها)).

ثانيًا: الحسن: وهو ما افترق عن الصحيح في ضبط الراوي فحسب، إذ راويه يتسم بخفة الضبط لذا قلَّتْ درجتُه عن الصحيح.

ثالثًا: الضعيف: وهو ما لم يجمع صفات الصحيح أو الحسن.

الدليل الثالث:الإجماع:
بند1: ويقصد به فياللغة: العزم المؤكد، وفيالاصطلاح: "اتفاق مجتهديالأمة الإسلامية فيعصر من العصور - بعد وفاة النبي- صلىالله عليه وسلم - علىحكم شرعي"، وعليه فلا عبرة بإجماع غير المجتهدين؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، كما لا عبرة بالإجماعات الخاصة، كإجماع أهل البيت، أو إجماع الخلفاء الأربعة، أو إجماع أهل المدينة كما نقل ذلك عن مالك، ونحو ذلك، فهذه الإجماعات لا حجة فيها فيمقام الاستدلال بالإجماع الأصولي، وينبنيعلىذلك أن التابعيلو بلغ درجة الاجتهاد وخالف الصحابة المعاصرين له فلا ينعقد الإجماع، كما لا يستغنىبالمحَدِّث عن الفقيه أو الأصوليلتحصيل درجة الاجتهاد، وإنما يتعيَّن لبلوغها تحصيل علوم الشريعة علىدرجة كافية تمكنه من النظر، مع مراعاة أن الاجتهاد يمكن أن يتجزأ، فيمكن أن يكونَ العالم مجتهدًا فيبعض أبواب الفقه ومسائله دون غيرها ويعتد بقوله.

بند2: وقد تحقق الإجماع فيعصر الصحابة كما فيإجماعهم علىجمع القرآن، بيد أنه قد حكىبعض العلماء تعذُّر وقوع الإجماع بهذا المعنىخاصة فيما بعد عصر الصحابة نظرًا لاتِّساع البلاد الإسلامية وتفرُّق علماء الشريعة فيالأمصار أو إمكان وقوعه لكن مع تعذر النقل عنهم، وعند التحقيق يبدو جليًّا إمكان وقوعه فيكليات الدين، بل هو الأصل، وحجج الفريق المنكر لوقوعه قد هوت مع انتشار وسائل الاتصال فيالعصر الحديث، ولا يشترط لتحقق الإجماع انقراض علماء العصر المفتين فيالمسألة، إذ ينعقد الإجماع حتىلو رجع أحدهم فيرأيه بعد ذلك، لأن ما اجتمعوا عليه هو الحق لحديث: ((لا تجتمع أمتيعلىضلالة))، وما جاء فيمعناه من أحاديث، والعكس كذلك صحيح إذ لا عبرة بإجماع أهل زمن علىمسألة سبق وأن أدلىفيها من سبقوهم بقولهم فيها بإجماع علىقولين فاختار من جاء بعدهم قولاً منهما، فليس ذلك بإجماع، ولو تحقق إجماع الأكثر وخالف فيذلك واحد أو اثنان انخرم الإجماع، ولا يمنع ذلك أن يكون قول الأكثر من المرجحات عند تعادُل الأدلة فينظر المجتهد، لحديث: ((عليكم بالسواد الأعظم)).

بند 3: وينقسم إلىإجماع صريح، وهو نادر الوجود إن وجد، وإجماع سكوتيوهو المستفاد من تصريح بعض المجتهدين بالحكم واشتهار قوله مع سكوت الباقين دون إنكار، وإجماع ضمني، وهو المستنتج من اختلاف أهل زمن علىقولَيْن أو أكثر، فيتضمن ذلك أن الخلاف المعتد به لا يخرج عن قولهم، ولا يعتد بقول الخارج عنهم.

بند 4: ولا بُدَّ للإجماع مِنْ مستند من الكتاب والسُّنَّة، وفائدته القطع بما فيالكتاب والسنة من ظنيَّات، كإجماع الصحابة على أن المقصود في آية المواريث: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] بالأخ والأخت هنا (لأم)، وذلك دفَع التعارُض بينها وبين آية الكلالة الأخرى، كما لا تخفىفائدة الإجماع فيقطع النِّزاع فيالمسائل المستجدَّة.

بند 5: والإجماع حجَّة وينكر على مخالفه لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، لكن يجب التفرقة فيالقول بحجية الإجماع بين الإجماع القطعيالذيصدر تصريحًا، والمنقول إلينا بطريق التواتر، فإذا ما صرح أهل الإجماع بالحكم ونقل إلينا بطريق قطعيكان إجماعًا قطعًا، وإن اختل شرط كان إجماعًا ظنيًّا، ويقصد به الإجماع السكوتيأو الضمني، إذ لا يجوز التوسع فينقل الإجماع دون احتراز، ولعل ذلك هو ما دعا إليه الإمام أحمد إذ قال: "مَن ادعىالإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا"، وعليه فإذا كان الإجماعُ سُكُوتيًّا أو ضمنيًّا، ولم ينقل إلينا بطريق التواتر فهو ظني، ولا يكفر أو يفسق من يخالفه، وليس ذلك معناه التقليل من حجية الإجماع السكوتي؛ إذ إن أهل الحق ما كان لهم أن يسكتوا علىظلم؛ لقوله - صلىالله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم))، ويرد علىقول الإمام الشافعي: "لا ينسب إلى ساكت قول"، بأن (السكوت فيمعرض الحاجة إلىالبيان بيان).

بند 6: والإجماع الضمنيوإن اعتبره أكثر الأصوليين حجة ولم يعتد به آخرون، فإن قول القائلين: إن اختلافهم على قولين إجماع على المنع من إحداث قول ثالث ليس بأولى من قول الآخرين: إن اختلافهم على قولين تسويغ للخلاف فيالمسألة، وإقرار لكونها اجتهادية لا قطعية، ولهذا فلا يعد اختلافهم على قولين إجماعًا على المنع من إحداث قول جديد.

الدليل الرابع: القياس:
المسألة الأولى: تعريفه:

بند 1: القياس لغة: التقدير، ويقصد به المساواة بين شيئين.
وفيالاصطلاح: "هو إثبات مثل حكم الأصل للفرع لتساويهما فيعلة الحكم"، والقياس إما أن يكون بالطرد أو بالعكس، بمعنىأن قياس الطرد هو ثبوت الحكم لثبوت الوصف المدعى عليته، أما العكس فهو انتفاء الحكم لانتفاء الوصف المدعى علِّيته، والمعول عليه قياس الطرد؛ لذا اقتصر التعريف الاصطلاحيعليه، ويستفاد منه أربعة أركان للقياس: (الحكم، الأصل، الفرع، العلة)، وذلك على النحو التالي:
الحكم: ويقصد به الحكم التكليفيالذيثبت للمسألة المقيس عليها.
الأصل: ويقصد به المقيس عليه؛ أي: المسألة التيثبت فيها حكم الشرع بدليل.
الفرع: ويقصد به المقيس؛ أي: الصورة المراد إثبات حكمها بالقياس.
العلة: وهي"وصف ظاهر منضبط دل الدليل علىكونه مناطًا للحكم"، والتعبير بلفظ (وصف) أدق من العلة، إذ يكفيأن يغلب علىالظن أن هذا الوصف هو مناط الحكم ومتعلقه، ومثاله تحريم بيع الذرة بالذرة مع التفاضل، وذلك قياسًا علىما ثبت فيتحريم التفاضل فيالبر عن النبي- صلىالله عليه وسلم - قال: ((البر بالبر مثلاً بمثل))، والعلة التيحدَتْ بالعلماء لهذا القياس هيأن كلاًّ من البر والذرة يطعم ويكال، وقال بعضهم: إنهما يقتاتان ويدخران.

وقولهم (ظاهر): أخرج الوصف الخفي، فالرضا فيالبيع لا يستدل عليه إلا بالإيجاب والقبول، لذا ينعقد البيع بمصادفة القبول للإيجاب، دون بحث لحقيقة الرضا، إذ يتعذر معرفة ما تخفيه النفْس.
وقولهم (منضبط): أفاد بأن هذا الوصف لا يختلف التعليل به باختلاف الأشخاص أو الزمان أو المكان، لذا لم يعللوا جواز فطر المسافر بالمشقة؛ لأنها معيار غير منضبط، وإنما اعتدوا فيذلك بما يطلق عليه "السفر" حتىلو لم يشعر بالمشقة لعدم اجترائهم على مخالفة النص.
أما قولهم (دل الدليل) أفاد بأنه لا بد للكشف عن هذا الوصف الاستناد علىدليل معتبر، وقولهم: (مناطا للحكم)؛ أي:إن هذا الوصف يدور من الحكم وجودًا وعدمًا، وأثر ثبوت العلة فيالحكم ليس بذاتها، وإنما يكون ذلك بجعْل الله لها هذا التأثير، فالله هو خالق الأسباب والمسببات، وقد ثبت تعليل الأحكام فيالكتاب كما فيقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7].

المسألة الثانية: شروط القياس:
أولاً: يشترط فيالأصْل أن يكونَ له حكم شرعيثابت بنص أو إجماع أو اتفاق الخصمين المتناظرين، ومثال ما ثبت بالإجماع تحريم الأفيون، ويقاس عليه القات، ومثال ما له حكم اتفق عليه الخصمان وليس محل إجماع: عدم قتل الحر بالمكاتب، اتفق عليه الشافعية والحنفية، وقاس الشافعية العبد علىالمكاتب، ورد الحنفية هذا القياس، رغم أنهم يوافقون علىحكم الأصل؛ نظرًا لاختلافهم فيعلتِه.

ثانيًا: يشترط فيالفرْع أن يكون غير منصوص على حكمه، إذ لا يؤخذ قياس بخلاف النص، وألا يكون متقدمًا علىالأصل، فلا يجوز قياس الوضوء علىالتيمُّم، لذلك بطل قياس الشافعية الوضوء علىالتيمم فيإيجاب النية، والراجح فيهذا جواز قياس المتقدم علىالمتأخر؛ لأن القياس مظهر للحكم الشرعيوكاشف عنه وليس مثبتًا له، لذا فالنية شرط فيالوضوء كما هيشرط للتيمم، وأخيرًا يجب أن يشتمل الفرع على ذات العلة الموجودة فيالأصل؛ لإمكان تعدية حكم الأصل إليه.

ثالثًا: شروط الحكم الثابت في الأصل المقيس عليه، وأهمها ما يلي:
الشرط الأول: أن يكون الحكم شرعيًّا عمليًّا، فلا يعتد بالعقليولا باللغويولا بالأحكام الاعتقادية فيإثبات القياس الأصولي، كما لا يجوز أصلاً القياس فيالعقيدة.

الشرط الثاني: أن يكون باقيًا غير منسوخ، ولم يعتد الأحناف بهذا الشرط لإثبات بعض شروط الحكم المنسوخ أو قيوده أو صفاته، كقياسهم صيام رمضان علىصيام عاشوراء الذيكان واجبًا قبل نسخه؛ وذلك للقول بصحة صوم رمضان بنية من النهار قبل الزوال، ورد الجمهور قياسهم لمخالفته لنص حديث: ((لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل)).

الشرط الثالث: أن يكونَ حكم الأصل ثابتًا بنص أو إجماع، أو اتفاق من الخصمين المتناظرين، وقد ذكرناه سلفًا، بيد أنه ينبنيعليه ثلاثة أمور: الأول: أنه لا تأثير بمخالفة من خالف الحكم الثابت بنص فيإثبات القياس به، فوجوب غسل الإناء من سؤر الكلب سبعًا لنجاسته ثابت بالنص، وقيس عليه سؤر الخنزير، ولا عبرة فيذلك بمخالفة الإمام مالك؛ إذ قال بأن الأمر بالغسل تعبُّديوليس للنجاسة، والأمر الثاني: أنه لا يجوز القياس علىالحكم الثابت بالإجماع إلا لمن عرف مستنده من الكتاب أو السنة؛ لأن بلوغ مرتبة الاجتهاد شرط لصحة القياس، والأمر الثالث: عدم وقوع القياس علىالحكم الثابت بالقياس؛ إذ الأولى قياسه على الحكم الأول المقيس عليه الثابت بالكتاب أو السنة، ولا معنى لقياسه على الحكم المقيس عليه إلا الجهل بالحكم الأول، وهذا لا يجوز فيحق من بلغ مرتبة الاجتهاد، إلا فيحق من أجاز تعليل الحكم بعلَّتَيْن، واعتد بواحدة منها لعمل ذلك، كقياس الأرز علىالبر فيتحريم التفاضل بعلة الكيل والطعم، ثم يقيس الموز علىالأرز بعلة كونه مطعومًا.

الشرط الرابع: أن يكون حكم الأصل معقول المعنى، بمعنى إمكان استخراج علته، وعليه لا يجوز القياس على الأحكام التعبدية؛ لأنها غير معقولة المعنىكصلاة الجنازة.

رابعًا: يشترط في الوصف الجامع لمناط الحكم في مقام التعليل به لإمكان إجراء القياس وما يدخل فيه – كقياس (الشبه) و(الدلالة) - عدة شروط على الوجه التالي:
الشرط الأول: أن يكون وصفًا ظاهرًا لا خفيًّا، فالسكر علة لتحريم الخمر، وإن لم يوقع عداوة وبغضاء أو صدًّا عن ذكر الله والصلاة، كما ورد بالآية.
الشرط الثاني: أن يكون منضبطًا، وقد ذكرناه سلفًا ومثلنا له.
الشرط الثالث: أن يكون متعديًا لغيره، بمعنىألا يكون قاصرًا علىالأصل، كتعليل جواز الفطر فيالسفر بالسفر، فعلة الحكم قاصرة عليه لا تتعدَّاه لغيره.
الشرط الرابع: أن يكون مطردًا، فلا ينفك عن الحكم أبدًا، وإنما يدور معها وجودًا وعدمًا، لذا لا يمكن تعليل القصاص بالقتل لإمكان القياس؛ لأن الخطأ ليس فيه قصاص، مع مراعاة عدم التعسُّف فيتطبيق هذا الشرط؛ إذ إن تخلف الحكم عن العلة فيموضع لا يلغيالظن الغالب متىعضده شواهد أخرى، إذ قد يكون ذلك لفوات شرط أو لوجود مانع، وعلىمن يتمسك بالنقض تسبيب تخلُّف الحكم فيهذا الموضع.
الشرط الخامس: أن يكون فيالإمكان الكشْف عنه، سواء بطريق القطع أو الظن.

المسألة الثالثة: أقسام العلَل باعتبار الطرُق في الكشْف عنها:
أولاً: العلة المنصوصة: وهي أقواها، وقد يكون النص صريحًا؛ مثل قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا...} [المائدة: 32]، وقد يحتاج النصُّ لمزيد من الفهم لاستخراج علته مثل تعليله - صلى الله عليه وسلم - عدم نجاسة الهرة بقوله: ((إنها من الطوافين عليكم والطوافات))، فهذا نص بعدم نجاستها للطواف ويتضمن صعوبة التحرز منها.

ثانيًا: العلة الثابتة بالإجماع، فمن يعتد بقولهم من أهل العلم هم الذين يثبتون القياس كمصدر للأحكام، ومن ثَمَّ جاز التعليل بالإجماع عندهم، ومثله الإجماع على أن الصغر علة للولاية على مال اليتيم، فيُقاس عليه الولاية في النكاح.

ثالثًا: العلة الثابتة بالإيماء، ويقصد بها في الاصطلاح (فهم التعليل من لازم النص لا من وضعه للتعليل)، وأشهر صورها:
أ - أن يرتب الحكم على الوصف بالفاء؛ مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فالسرقة علة لوُجُوب قطع اليد.
ب - أن يأتي الحكم في صيغة سؤال في معرض الحاجة لبيان، لقول الأعرابي: وقعت على أهلي وأنا صائم، فأجاب عليه النبي بسؤال: ((فهل تجد ما تعتق رقبة؟)).
ج - أن يعلق الشارع الحكم على وصف لا يستقيم الكلام إلا به، فقد سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر، فقال: ((أينقص الرطب إذا جف؟))، قالوا: نعم، قال: ((فلا إذًا))، فقوله: ((أينقص الرطب إذا جف؟))، إيماء إلى أن العلة في التحريم هي النقصان.
د - ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء، كقوله تعالى: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

رابعًا: التعليل بالوصف المناسب والإخالة (الظن): أي: الوصف الظاهر الذي يحصل من ترتب الحكم عليه مصلحة أو تندفع به مفسدة.

خامسًا: التعليل بطريق الدوران:
ويقصد به ثبوت الحكم عند وجود الوصف وانتفائه عند انتفائه، فوجود الإسكار علة لتحريم الخمر، ويرتفع التحريم عند تخلُّله، ويراعى في العلة المستنبطة أن يتكرر دوران الحكم معها في أكثر من موضع، فالدوران عين التجربة، وقد تكثر التجربة فتفيد القطع، وقد لا تصل إلى ذلك.

سادسًا: التعليل بطريق السبر والتقسيم؛ أي: الاختيار والتجزئة، وتقدم السبر على التقسيم لأهميته في الدلالة على العلية؛ بمعنى: (حصر المجتهد للأوصاف التي يبدو له وجودها في الأصل، وتصلح للعلية في بادئ الرأي، ثم إبطال ما لا يصلح منها فيتعين الباقي)، ومنه نشأ اختلاف الفقهاء في علة تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع البر بالبر متفاضلاً، فالعلةُ إما أن تكون الطعم أو الكيل أو القوت والادخار، فيبطل بعضهم الأخيرين فلا يبقى إلا (الطعم)، ويبطل بعضهم الأولين فلا يبقى إلا (الادخار)، ويشترط لصحة هذا المسلك أن يكون التقسيم حاصرًا، فلا يترك المستدل شيئًا من الأقسام الممكنة، ولا يلزم أن يكون مترددًا بين النفي والإثبات، كما ينبغي أن يكون إبطال ما عدا الوصف المعلل به بدليل مقبول، وأن يكون الحكم متفقًا على تعليله بين الخصمين، فإذا توافرتْ هذه الشروط مجتمعة، أمكن أن يكتسب التعليل بهذا الطريق حجة قطعية، وإلا فإنه يكون ظنيًّا، ودليلُ الاحتجاج بهذا المسلك عمل الشرع به في مقام إثبات الخالق هو الله؛ قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، إذ لا يخلو الأمر من ثلاثة احتمالات:
إما أن يكون الناس خلقوا هكذا من غير خالق، أو يكونوا قد خلقوا أنفسهم، أو يكون خالقهم هو الله، فالأولان باطلان عقلاً، فلم يبق إلا الثالث، وفائدة هذا التقسيم تتعدى الكشف عن العلة، وتصلح للدلالة على أي وصف مدعى متى أمكن حصر الاحتمالات حوله عن طريق ما يسمى بالقياس الاستثنائي، كأن يقول: لو كان كذا لكان كذا، لكنه لم يكن فبطل هذا الاحتمال، وهو ما حدا بالشافعي إلى أن يجعل العلة في تحريم التفاضل في بيع البر بالبر قاصرة على الطعم، إذ لم يعتد بالكيل؛ نظرًا لأنه لو ثبت لما وقع الربا في القليل مما لا يكال، لكنه واقع بعموم الأدلة؛ {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278]، كما لم يعتد بالاقتيات؛ لأنه لو جاز التعليل به لما وقع الربا في الملح الثابت بالحديث ((الملح بالملح)).

سابعًا: التعليل بالحكمة، والحكمة تطلق عند الأصوليين على أحد معنيين: أحدهما: ما أطلقه الشارع لتحقيق مصلحة أو لدفع مفسدة، والثاني: المصلحة ذاتها أو المفسدة ذاتها، لذا قيل: إن الحكمة من إيجاب العدة على المطلقة حفظ الأنساب، وقد منع بعض الأصوليون التعليل بها في إثبات القياس؛ لأنه لا يمكن ضبطها، واعتبر الحكم المنصوصة قاصرة، فلا يمكن إثبات القياس بها، وآخرون أطلقوا جواز التعليل بالحكمة وتوسعوا في العمل بما يسمى بـ(المصالح المرسلة)، وآخرون قصروا التعليل على الحكمة المنضبطة، وهذا لا خلاف في جوازه، عدا الظاهرية المنكرين للقياس أصلاً، بيد أن المفسدة التي ترجع من القول بالتعليل بالحكمة بلا ضابط كبيرة، إذ لو جاز ذلك لاستغرق القتل القصاص ممن همَّ بالقتل دون حاجة لتحقق الوصف المنضبط وهو جريمة القتل، فالحكمة من القصاص في القتل منصوصة، وهي حفظ النفس؛ كما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، فالقصاص عقوبة تؤدي إلى الردع العام، بيد أنه لا يجوز التعليل إلا بالوصف الظاهر المنضبط، وهو القتل العمد العدوان باعتباره وصفًا مركبًا لاستحقاق القصاص، لذا كان الحق عندنا عدم جواز التعليل بالحكمة إلا بشرط أن يأتي الشرع لها بضابط خاص - وهو ما يسمى علة في مقام القياس الأصولي - أو ضابطًا عامًّا - وهو ما يعد داخلاً ضمن مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية، وهو ما يسمى بمفهوم الموافقة فلا يسمَّى قياسًا.

المسألة الرابعة: أهم أقسام القياس:
التقسيم الأول: باعتبار الوصف المعلل به:
أولاً: القياس في معنى الأصل: وهو القياس الذي لا يحتاج إلى ذكر وصف جامع بين الأصل والفرع لانتفاء الفارق المؤثر بينهما، كقياس العبد على الأمة في تنصيف حد الزنا.
ثانيًا: قياس العلة: وهو ما يحتاج إلى ذكر الوصف المعلل به.
ثالثًا: قياس الدلالة: وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، ومثاله: قولهم في عدم إجبار العبد على النكاح لأنه لا يجبر على بقائه، وليس ذلك الوصف هو العلة، وإنما هو دليل على العلة وهي كون النكاح حقًّا خالصًا للعبد.

التقسيم الثاني: من حيث مناسبة الوصْف المعلل به للحكم:
أولاً: قياس العلة أو المعنى:
وهو ما كانت مناسبة الوصف المعلل به ظاهرة.

ثانيًا: قياس الشبه:
وهو ما علل بوصف يوهم الاشتمال على المناسبة، ولا تظهر مناسبته أو عدم مناسبته، كقياس الجلوس الأول في الصلاة على الثاني، وهو ما يُسمى بقياس شبه حسي، وكقياس ركن على ركن، أو شرط على شرط، كعدم اشتراط التثليث في المسح على الخف قياسًا على مسح الرأس، وهو ما يُسَمَّى بقياس شبه حكمي.

ثالثًا: قياس الطرد:
وهو ما كان فيه الوصْف الجامع مقطوعًا بعدم مناسبته، وهو ليس بقياسٍ صحيح، ولم يذكر هنا إلا استكمالاً للقسمة، والذين يستدلون به لا يقطعون بعدم المناسبة؛ كقولهم في عدم جواز الوضوء بالنبيذ: إنه مائع لا تبنى على مثله القناطر، فمثله مثل اللبن، وهذا جعله بعضهم داخلاً في قياس الدلالة.

المسألة الخامسة: حجية القياس:
بند 1: القياس حجة عند جماهير العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة، والأدلة على ذلك كثيرة؛ منها: قياس النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب قضاء الصوم عن من مات وعليه صوم، قياسا على وجوب قضاء الدين عنه، ولم يخالف في ذلك سوى الظاهرية وبعض المعتزلة وبعض الرافضة، وأدلتهم تنحصر في ذم العمل بالرأي.
ويجاب بأن الرأي المقصود بالذم هو ما كان في مقابلة النص باعتباره ضربًا من الهوى، أو الرأي الصادر من جاهل بالأصول، أو لم يحصل مرتبة الاجتهاد.

بند 2:
والقياس حجة، سواء في الحدود أو الرخص أو التقديرات أو الكفارات، وقد خالف البعض في ذلك؛ فأنكر الحنفية القياس في الحدود، بدعوى أن الحدود تدرأ بالشبهات، وقد رد عليهم بأن الشبهة التي تدرأ الحد ليست في القياس الأصولي المنضبط غير كونه ظنيًّا، والحدود تثبت بالظن الغالب الكافي لإثباتها، كما أن الثابت من الصحابة العمل بالقياس في إثبات حد شرب الخمر، فأوجبوا على الشارب ثمانين جلدة قياسًا على القذف؛ فقالوا: "إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى"، وكذا الحال بالنسبة للقياس في الرخص، فأجاز الفقهاء الجمع بين صلاتين في الحضر للمريض قياسًا على المطر، وأما الكفارات فضابط القياس فيها عدم استحداث كفَّارة جديدة، إذ لا كفارة إلا بنص، أما قياس فعل على فعل لإيجاب الكفارة فصحيح، ومثله وجوب الكفارة على قتل العمد قياسًا على قتل الخطأ، والأحناف ردوا القياس في الكفارات على أن كفارة الفعل المحرم مهما بلغ العقل في الاجتهاد لا تعرف إلا بنص.

الدليل الأول من الأدلة المختلف فيها: قول الصحابي:
بند1: الصحابي عند الأُصُوليين هو (مَن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به مدة تكفي عُرْفًا لوَصْفه بالصُّحبة، ومات على الإسلام)، وعند المحدثين هو (مَن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به ومات على ذلك).
وعليه؛ فإن الأصوليين يزيدون شرط الصُّحْبة الكافية في تعريفهم للصحابي عن المحدثين، إذ لو جاز للصحابي أن يروي حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من لقائه ولو مرة، ومن ثم تكون روايته مقبولة، فإن ذلك ليس بكافٍ ليبلغ الصحابي درجة الاجتهاد التي تُمكنه من النظر في قواعد الشريعة، فكان لازمًا أن يمضي فترة من الزمن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تُمكّنه من ذلك.

بند 2: والصحابي بهذا المعنى يختلف الاحتجاج بقوله على أربعة فروض:
أولاً: قوله فيما لا مجال فيه للرأي؛ كالعبادات والتقديرات ونحوها، وهو حجة عند الأئمة الأربعة، إذ لا يخلو ذلك عن كونه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقوله في ذلك وارد في أمر من الأمور التوقيفية لا يعرف بالاجتهاد، كما ثبت منهم القضاء في النعامة إذا اصطادها المحرم ببدنة وفي الغزال بعنز؛ لكن قد يقول قائل: إن مثل هذه الأمور متروكة للاجتهاد، فيكون قوله كذلك من باب الاجتهاد، لا من باب النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: قول الصَّحابي الذي اشتهر ولَم يخالفه غيره فيه، يعتبر إجماعًا سكوتيًّا؛ مثل جعل عمر - رضي الله عنه - طلاق الثلاث بلفظ واحد تجب به البَيْنُونة الكبرى.

ثالثًا: قول الصحابي الذي خالفه فيه غيره من الصحابة ليس بحجة، لكن ينبغي للفقيه أن يتخيَّر من أقوالهم ما هو أقرب للدليل تحريًا للاقتداء بهم، ولا يخرج من الخلاف برأي جديد إلا إذا أمكنه الجمع بين أقوالهم.

رابعًا: قول الصحابي فيما للرأي فيه مجال، ولم ينتشر ولم يعرف له مخالف من الصحابة، فهو محل خلاف، والراجح أنه ليس بحجة؛ لأنهم ليسوا معصومين، ولا عبرة باحتمال ما قاله نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، مع الإقرار بفضلهم لحديث: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))، فكان قولهم أولى لِمَنْ يبلغ الاجتهاد أن يتبعه.

الدليل الثاني من الأدلة المختلف فيها: شَرْع من قبلنا:
بند 1: لا شك أن دين الله تعالى هو الإسلام، وعليه دانت الشرائع التي أنزلتْ جميعًا؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، فالإيمان بالله تعالى والغيب وأمور التوحيد لا يعتريها النسخ، وتسمى بالأصول، بيد أن هناك أحكامًا عملية في كل شريعة منزلة اختَصَّها الله تعالى بها، وقد جاء الإسلام فنسخ بعضها وأقر بعضها الآخر، وتلك الأحكام تسمى بالفروع، إذ لا تمس الأصول التي ذكرناها آنفًا، ويقصد بها: (ما نقل إلينا بطريق صحيح من الشرائع السماوية السابقة)، ويعتد في هذا النقل بالقرآن والسنة النبوية الثابتة، ولا عبرة بكُتُب اليهود والنصارى التي طرأ عليها التحريف والتبديل.

بند 2: والعلماء يقسمون شرع ما قبلنا على ثلاثة أقسام على النحو التالي:
أولاً: ما ورد في شريعتنا ما يبطله، ومثاله قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146].
ثانيًا: ما ورد في شريعتنا ما يؤيده، ومثاله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183].
ثالثًا: ما لَم يقترن به في شريعتنا ما يدل على نسْخه أو مشروعيته في حقِّنا، وهذا محل خلاف، ومثاله ما جاء في القرآن من مشروعية الجعالة في شريعة يوسف - عليه السلام - كما في قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72]، والراجحُ أنه شرع لنا ما لم يأتِ الدليل بنسخه؛ لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، ووجه الاستدلال أن الله أمَرَ نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بالأنبياء قبله، وأمر الرسول أمر لأمته.

الدليل الثالث من الأدلة المختلف فيها (الاستحسان):
بند 1: سبق أن ذكرنا أن للقياس شروطًا، والعلة كركن في القياس هي عمل بالمصلحة، بيد أن الحنفية توسعوا في العمل بها دون تقيُّد بأوصافها، حتى أجازوا العمل بمقابلة القياس استحسانًا، ولذا أنكر عليهم الشافعية ذلك، إذ قد يفضي التوسع في العمل بالمصلحة استحسانًا، وبالمخالفة للقياس إلى العمل بالهوى، لذا حاول الحنفية ضبط نظريتهم بتعريف الاستحسان بأنه: (كل دليل في مقابلة القياس الظاهر أو ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس)، وذلك لعلة ترجحت لدي المجتهد؛ أي: إنه يرجح دليلاً في ظاهِره الضعف على دليل أقوى منه لتلك المصلحة التي يعمل بها.

بند 2: والاستحسان عندهم ينقسم إلى ستة أنواع على النحو التالي:
أولاً: استحسان النص: وهو ترْك الحكم الذي يقتضيه القياس أو النص العام لنص خاص اقتضى هذا العدول، ومثاله ما جاء في السنة من إباحة بيع السلم متى كان موصوفًا في الذمة بحيث يكون المبيع مؤجلاً بثمن مقبوض في مجلس العقد، وذلك رغم أن الأصل الثابت بالسنة عدم جوازه؛ لحديث: ((لا تبع ما ليس عندك))، كذلك القياس لا يقتضيه للنَهْي عن بيع حبل الحبلة - ولد الحمل - وليس ذلك استحسانًا بالعقل وإنما بالشرع، لكن الحنفية أدخلوه ضمن الاستحسان للرد على منكريه.

ثانيًا: الاستحسان الذي يستند لإجماع العلماء، إذ أجازوا عقد الاستصناع رغم كونه عقدًا على غير موجود، لكن الحاجة أجازت هذا النوع من العقود استحسانًا.

ثالثًا: الاستحسان للضرورة: إذ حكموا بطهارة الآبار بنزحها حتى يذهب أثر النجاسة؛ نظرًا لأنه يتعذر غسلها كما يغسل الإناء والثوب فلا تقاس عليهما.

رابعًا: الاستحسان بالقياس الخفي، لذا حكموا بطهارة سؤر سباع الطير المحرمة مع أن قياسها على سباع البهائم يقتضي نجاستها، وإنما قاسُوها على البهائم، إذ الطير تشرب بمنقارها فلا لعاب أو رطوبة تلوث الماء، ويعد ذلك البعض ترجيحًا بين قياسين.

خامسًا: الاستحسان للمصلحة، إذ اقتضت المصلحة تضمين الأجير المشترك كالخياط، رغم أن القياس بألا ضمان عليه لأنه مؤتمن؛ وذلك للحفاظ على أموال الناس من الضياع في ظل كثرة الخيانات، ويعد ذلك البعض عملاً بالمصلحة المرسلة.

سادسًا: الاستحسان الراجع للعرف، فمن حلف ألا يأكل لحمًا يمتنع عن أكل السمك كذلك؛ لأن الشارع سماه لحمًا طريًّا، ويجوز أكله استحسانًا؛ لأن العرف يفرق بينهما.

الدليل الرابع من الأدلة المختلف فيها (الاستصحاب):
بند 1: الاستصحاب لغة: طلب الصحبة، وفي الاصطلاح: (إثبات حكم للزمن الثاني لثبوته في الزمن الأول)، فالمجتهد يتمسك بالحكم الأول حتى يرد ما يدل على ارتفاعه، فمن شك فيما ينقض وضوءَه، فليستصحب الحكم الأصلي وهو كونه طاهرًا حتى يثبت له خلافه، وقد قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأضحى دليلاً لحجيته.

بند 2: وهو على أربعة أنواع كالتالي:
أولاً: استصحاب البراءة الأصلية: فالأصل براءة الذمة من الانشغال بالتكاليف والحقوق حتى يقوم الدليلُ على خلاف ذلك، كالحكم ببراءة المدين حتى إثبات الدين
ثانيًا: استصحاب الحكم الثابت بالدليل كالحكم بثبوت الزوجية بالعقد الصحيح، ولا يعارض ذلك بدعوى الزوجة بحصول الطلاق دون أن تقيم الدليل على حصوله.
ثالثًا: استصحاب الدليل مع احتمال المعارض، فالعمل بالنص العام يظل على عمومه ما لم يرد دليل يخصصه.
رابعًا: استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل الخلاف، فمَن تيمَّم لفقد الماء ثم وجده أثناء الصلاة لا تبطل صلاته استصحابًا للحكم الثابت بالإجماع، وهو صحة صلاة المتيمم حال فقد الماء، أما بطلان الصلاة لرؤيته فهو محل خلاف فلا يُعْتَدُّ به.

بند 3: والاستصحاب في الأنواع الثلاثة الأولى حجة عند الجمهور، والمحققون لا يحكمون بحجية النوع الرابع لأنه يؤدي إلى التسوية بين موضع الاتفاق وموضع النزاع وهما مختلفان، وذهب الحنفية إلى صحة الاحتجاج بالاستصحاب في النفي لا في الإثبات، لذا لم يحكموا بموت المفقود استصحابًا للأصل وهو الحياة، فيظل ملكه له، بيد أنه لو مات أحد أقاربه فإنه لا يرثه.

بند 4: وينبني على العمل بالاستصحاب عدة قواعد فقهية أهمها ما يلي:
أولاً: اليقين لا يزول بالشك.
ثانيًا: الأصل بقاء ما كان على ما كان.
ثالثًا: الأصل براءة الذمة.
رابعًا: الأصل في الصفات العارضة العدم، فمن قبض سلعة اشتراها لا يحق له التذرع بعيوبها لردها ما لَمْ يثبت أنه استلمها بهذا العيب.
خامسًا: الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، فلو اختلف المتبايعان في زمن وقوع عيب طارئ هل وقع قبل البيع أم بعده، فإنه يضاف إلى أقرب زمن اطلعنا عليه فيه.

الدليل الخامس من الأدلة المختلف فيها (الاستصلاح):
بند 1: يُقصد بالاستصلاح: العمل على إصلاح شيء ما، وفي الاصطلاح: (بناء الأحكام على المصلحة المرسلة)، ذلك أن المصالح في نظر الشارع على ثلاثة أقسام:
أولاً: المصلحة الملغاة: وهي التي جاء دليل من الشرع بعدم الاعتداد بها وإلغاء اعتبارها في الأحكام الشرعية؛ نظرًا لانطوائها على مفسدة أعظم أو لتفويتها مصلحة أكبر، كإلغاء الشارع التسْوية بين الرجال والنساء في الميراث والشهادة.
ثانيًا: المصلحة المعتبرة: وهي التي رعاها بعينها في أصل معين يمكن أن يقاسَ عليه ما يشبهه، لأنَّ عليها دارتْ مقاصد الشرع؛ كحفظ العقل، والنفس، والمال، والنسْل.
ثالثًا: المصلحة المرسلة: وهي التي (اعتبر الشارع جنسها، ولم يُشهد لعينها بالاعتبار أصلٌ معينٌ)، ومثالها: جمع القرآن في مصحف واحد، فنصوص الشريعة دلت على أن حفظ الدين مصلحة معتبرة، لكن ليس فيها نص خاص يشهد على أن جمع القرآن طريق معتبر لحفظ الدين، وعليه فلا يجري عليها القياس.

بند 2: والإمام مالك أكثر من العمل بها، وإن أنكر الشافعي الاحتجاج بالمصلحة التي لا يُلتزم منها قياس صحيح، وقيدها الغزالي بأن تكون ضرورية فلا عبرة بالحاجيات والتحسينات في هذا المقام، وابن قدامة احتج بها في كتبه الفقهية وإن أنكرها في الروضة، وخلافهم فيها ينحصر في عدها دليلاً مستقلاًّ، أو تقديمها على النصوص أو ترجيح مصلحة أخرى عليها، وعلى كلِّ الأحوال فإنه لا يوجد من الشرع ما يعارضها متى كانت ضرورية وقطعية، وبخاصة أن الصحابة عملوا بها فيما طرأ عليهم من حوادث؛ كقتل الجماعة بالواحد، وإيقاع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ثلاثًا.

بند3: ويشترط للعمل بها أن تكون حقيقية لا متوهمة، ولا تعارض نصًّا من كتاب أو سنة أو إجماعًا صحيحًا، وألا تعارض مصلحة مساوية لها أو أعظم منها، وأن ترد في محل يجوز فيه الاجتهاد، فلا يعتد بالمصالح في الأمور التوقيفيَّة.

بند 4: ومن أمثلتها في زمننا ضرب العملة في كل بلد، ووضع إشارات المرور، وتسجيل الأنكحة والمواليد، استخراج بطاقات الجنسية ورخص القيادة ومعاقبة المخالف، فهذه كلها مما تدعو الحاجة إليه لضبط الأمن، ومعرفة الأنساب، والمحافظة على الأرواح والأموال.

الدليل السادس من الأدلة المختلف فيها (سد الذرائع):

بند 1: الذريعة هي الوسيلة المؤدية للشيء، وقد دلت نصوص الشريعة على سد الطرق المؤدية للمفاسد، لذا لا نجد خلافًا في سدِّها للوسائل المفضية للمفسدة قطعًا؛ كشرب الخمر، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، أما إذا كانت المفسدة التي قد تؤدي إليها مظنونة لكن المصلحة المرجوة منها أكبر، هنا تجيز نصوص الشريعة العمل بها كالنظر للمخطوبة والمشهود عليها، بل قد توجب العمل بها الجهر بكلمة الحق عند سلطان جائر، وذلك لا خلاف فيه، أما الذي ثار الخلاف بشأنه فهما فرضان:
الأول: أن تكون الوسيلة قصد الشارع منها الوصول للمباح، لكن المكلف قصد منها الوصول لمفسدة، كعقد النكاح بقصد تحليل الزوجة لمن طلقها ثلاثًا فبانت.
الثاني: أن يقصد منها الشرع الوصول للمباح لكنها تؤدي غالبًا لمفسدة، مثل سب آلهة الكفار علنًا، إذ قد يرد الكفار فيسبون الله - جل وعلا - جهرًا، لذا دلَّ الشرعُ على سدِّها؛ كما في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، والأحكام التي قصد منها ذلك أكثر من أن تُحْصَى.

بند 2: وهذان القسمان محل نزاع، فمَنْ ذهب إلى عدم الاستدلال بها لم يوجبوا سد الذرائع كمصدر مستقل، وإنما أوجبوها متى جاء دليل من نص أو إجماع أو قياس على ذلك، بيد أن الناظر في فروعهم الفقهية يجد أنهم قد عملوا بها أحيانًا، وليس أدل على أهميتها من أنها أحد أرباع التكاليف، ذلك أن التكليف أمر ونهي، أحدهما مقصود لذاته، والآخر وسيلة لما هو مقصود بذاته، لذا كان سد المفاسد أحد أرباعها، ويضم بعض العلماء لها ربعًا آخر، وهو وجوب فتح الذرائع الموصلة لواجب، أخذًا بقاعدة: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وذلك متى انسد الطريق لتحقق الواجب إلا بهذا الطريق فيتعين عندئذ الأخذ به.

الباب الثالث:دلالة الألفاظ:
والمفيد منها في معرفة دلالة ألفاظ الشرع خمسة، كل منها لها أضداد، وهي:
الأمر والنهي.
العام والخاص.
المطلق والمقيد.
المنطوق والمفهوم.
دلالة اللفظ من حيث الظهور والخفاء (النص والظاهر والمجمل والمبين).

الفصل الأول: دلالة الأمر:
المسألة الأولى: تعريف الأمر:
بند 1: الأمر يعرفه الأصوليون بأنه: (طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء)، واتفقوا على القيد الأول، فخرج به طلب الترك، واختلفوا في القيدين الأخيرين، وخالف البعض في القيد الثاني فأدخلوا الفعل في معنى الأمر، والجمهور قالوا: إن الفعل لا يسمى أمرًا إلا على سبيل المجاز، فلا يدل على وجوب المتابعة إلا بدليل أو قرينة، أما قيد (الاستعلاء)، فمنهم من لم يشترطه، ومنهم من ضم إليه قيد (العلو)، أو اكتفى بالعلو عن الاستعلاء، والفرْقُ بينهماأن الاستعلاء صفة في الأمر نفسه - أي: في نبرة الصوت أو في طريقة إلقائه أو في القرائن المصاحبة - وأما العلو فهو صفة في الآمر؛ أي: إن الآمر أعلى رتبة من المأمور في واقع الأمر.

بند 2: وقد اتفقوا على اشتراط الإرادة في الأمر، واختلفوا هل تشترط الإرادة في الآمر، إذ ينبغي التفرقة بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فالإرادة الكونية هي ما قدره الله تعالى في الأزل، فلا يكون إلا ما أراد؛ لأن الله وصف نفسه بأنه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، أما الإرادة الشرعية فهي تعني المحبة، فالله لا يرضى لعباده الكفر شرعًا ويرضى لهم الشكر؛ يقول سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، فهي تكون مع الأمر بالفعل لا تفارقه، لكنه قد يقع أو لا يقع تبعًا لإرادته الكونية، ولما كانت الإرادة الشرعية تابعة للأمر، فالأمر يستلزمها ويدل عليها، فلا تكون شرطًا في تسميته؛ لأن الشرط ينبغي أن يتقدَّم على المشروط، والإرادة خفية لا نعرفها إلا بالأمر، فلا يصح أن تكون شرطًا فيه.

المسألة الثانية: صيغ الأمر:
بند1: للأمر صيغ تدلُّ عليه حقيقة من غير حاجة لقرينة جمعها الجمهور كالتالي:
أولاً: فعل الأمر، مثل: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
ثانيًا: المضارع المقرون بلام الأمر، مثل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7].
ثالثًا: المصدر النائب عن فعل الأمر، مثل: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4].
رابعًا: اسم فعل الأمر، مثل: صه، بمعنى: اسكت.

بند 3: الخبر قد يقصد به الأمر لكن يحتاج لقرينة تدل على ذلك، ومن أمثلته قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فالآية جاءت في بيان حكم عدة المطلقات التي أمر الله بإحصائها كما في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1].

المسألة الثالثة: دلالة الأمر على الوجوب:
بند 1: اختلف العلماء في حاجة الأمر لقرينة للدلالة على الوجوب، أو أنه يدل عليه بنفسه، فالقائلون بحاجة الأمر لقرينة ليستفاد منه الوجوب، استدلوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]، وهذه المأمورات منها ما هو واجب، ومنها ما هو مندوب، ويرد عليهم بأن الإحسان الوارد في الآية ليس بمندوب لما ورد في الحديث: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء))، والمحمول منها على الندب وجدت قرائن تصرفه عن الوجوب، ومع التسليم بقولهم - جدلاً - فإن الأوامر في الكتاب والسنة لا تخلو - غالبًا - عن قرائن حالية أو مقالية، متقدمة أو متأخرة أو مصاحبة، والراجح هو قولُ الجمهور بأن الأمر دالٌّ بنفسه على الوجوب لأنه صادر من مستعلٍ - الله عز وجل - وقد دلت السنة على ذلك، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لام أبي بن كعب عندما دعاه فامتنع عن إجابته لانشغاله بالصلاة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألم تسمع قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24])).

المسألة الخامسة: دلالة الأمر على الفورية:
بند 1: اختلف العلماءُ في دلالة الأمر الذي لم تردْ معه قرينة تدل على الفور أو التراخي، ولم يؤقت بوقت على ماذا يحمل؟ إذ ينبني على هذا الخلاف تحديد وقت دفع زكاة المال بعد مرور الحول، وأداء المستطيع لفريضة الحج، وقضاء الفوائت، وتأخير أداء النذور والكفارات عن وقت الإمكان، وتأخير دفْع النفقة الواجبة عن تاريخ الاستحقاق، فالقائلون بجواز التراخي يسلمون بفضل المبادرة لتنفيذ الأمر، وعدم التريث لآخر الوقت، وإنما يستدلون على جواز التراخي بعدم اقتران الأمر بزمان ومكان معين لفعله يطلق الخيار للمكلف، وقد رد عليهم القائلون بالفور بأن التأخير إلى غير حد قد يفضي إلى تفويت الفعل، لذا كان تنفيذه على الفور أسلم، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، وهو الراجح لا سيما وأن ديون المسلم التي عليه لله من صيام أو حج لا تسقط بالموت، وإنما يقضيها عنه أولياؤه بعد موته نتيجة تأخير الأداء حتى عجلته المنية.

المسألة السادسة: دلالة الأمر على التكرار:
بند 1: اختلف العلماء في ذلك متى أمكن وقوعه شرعًا وعقلاً على قولين، فالقائلون بأن الأمر المطلق يفيد التكرار بحسب الإمكان يستدلون بأن الأمر بالإيمان والتقوى لا ينفك عن المكلف أبدًا، كما أن الأمر بشيء يوجب النهي عن ضده، والترك يقتضي الاستمرار في جميع الوقت، ولا حجة لقولهم في جانب الفعل، أما الاعتقاد فسليم، لذا فإن القول الراجح بأن الأمر المطلق لا يفيد التكرار إذ ثبت في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن سأله عن أمره لهم بالحج: أكل عام يا رسول الله؟ فقال: ((لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم)).

بند 2: أما الأمر المعلق على شرط، فقد اختلفوا في دلالته على التكرار، ومثاله قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين))، والراجح أن الأمر المعلَّق على شرط يتكَّرر بتكرُّر الشرط، ذلك أن الشروط اللغوية أسباب، والأسباب يتكرر بها الحكم بتكررها ما لَم تتداخل تخفيفًا على المكلفين.

المسألة السابعة: سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته:
بند 1: إذ يثور خلاف فيما إذا فات الوقت المحدد لأداء المأمور به، سواء أكان نفلاً أو واجبًا، هل يجب القضاء دون حاجة لأمر جديد يوجب القضاء؟ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها))، أم يسقط دون قضاء؟ مع التسليم بأنه في كلا الفرضين يأثم متى كان المأمور به واجبًا، وذلك على ثلاثة أقوال تمحضت عن قولين:
الأول: بوجوب قضاء الأمر المؤقت بفوات وقته دون حاجة لأمر جديد خلاف الأمر الأول، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فدين الله أحق بالقضاء))، ومثله دين الآدميين لا يسقط بتأخيره عن وقت الاستحقاق، أما القائلون بسقوطه بفوات وقته إلا إذا قام دليل خاص على مشروعية القضاء، وعللوا ذلك بأن الفعل المخصص بمكان إذا لم يفعل فيه لا يؤمر الإنسان بفعله في مكان آخر، فيقاس الزمان على المكان، وقد أجاب أصحاب القول الراجح عليهم بأن الأزمنة متصلة والأماكن منفصلة فلا يقاس الزمان على المكان للتحلل من وجوب القضاء، كما أنه إذا فات المكلف تحصيل المصلحة في تنفيذ الأمر في وقته المحدد، فينبغي ألا تفوته المصلحة في تنفيذ الأمر أصلاً، وقد بدا أثر هذا الخلاف في العديد من مسائل الفقه، كقضاء الصلوات المتروكة عمدًا تهاونًا، وقضاء زكاة الفطر متى فات وقتها، وقضاء السنن الرواتب إذا فات وقتها، والتسبيح بعد الفراغ من الفريضة.

بند2: ويجب مراعاة أن القضاء يَجِب أن يستقلَّ بفِعْله دون أن يؤثرَ على عبادة أخرى، فلا يقضى الرمل المستحب في الأشواط الثلاثة الأولى في غيرها من الأشواط التي ليس فيها رمل؛ لأن في ذلك تغيير لصفة الأشواط الأخرى على وجه غير مشروع.

المسألة الثامنة: حد الإجزاء في فعل المأمور به:
بند1: لا خلاف بين العلماء في أن فعل المأمور به على النحو المقصود شرعًا يتحقق به مراد الشارع، ومن ثَم يجزئ عن المكلف من هذا الوجه، آية ذلك إقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أرادت أن تحج عن أمها التي ماتت دون أن تحج، فقيل له: أفيجزئ أن تحج عنها؟ فقال: ((نعم))، بيد أن الخلاف قد أثير متى لم يتمكن المكلف من إتيان الفعل المأمور به على النحو المقصود شرعًا، لكن أتى منه ما استطاع، كمن صلى وهو فاقد الطهورين هل عليه قضاء ما فاته أم لا؟ وكذلك من صلى في محل نجس محبوس فيه، ومن صلى دون أن يعرف القبلة هل عليه إعادة بعد أن عرفها؟ فمثل هذه المسائل اختلف فيها العلماء على قولين، القول الراجح هو أن فعل المأمور به يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء، وقد استدل بالحديث السالف ذكره.

أما القولُ المرجوح: فإنه يوجب القضاء في مثل هذه المسائل، ومن أدلتهم أن من فسد حجه يؤمر بالمضي فيه وإتمامه ويجب عليه القضاء، ويرد عليهم بأن من فسد حجه لم يحقق المأمور به على الوجه المطلوب شرعًا، وكونه مضى في حجه، فإنه مأمور بذلك بدليل خاص، وهو قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فالمضي في الحج الفاسد هو امتثال للأمر الثاني، وأما الأمر الأول فلم يأت به على الوجه المطلوب، ولذا وجب قضاؤه, أما ما نحن بصدده فقد ثبت فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))، فالتكليف في حدود الاستطاعة.

المسألة التاسعة: دلالة الأمر بتوجيه الأمر بالشيء:

بند 1: أثير تساؤل عن دلالة الأمر الذي مضمونه أمر لشخص ثالث، هل يعد الشخص الثالث مأمورًا من قبل الآمر الأول؟ ما دام أنه لم يخبره أنه مبلغ عن الآمر الأول، وذلك في الوقت الذي تكون طاعة المأمور الثاني للمأمور الأول واجبة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها لعشر))، فهل يقال: إن الصبيان مأمورون بالصلاة من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم؟

فمن رأى أن الأمر بالشيء ليس أمرًا بذلك الشيء في حق الطرف الثالث بدليل أن الأبناء غير مكلفين بالصلاة في سن السابعة، والإجماع منعقد على ذلك، وأصحاب الرأي الثاني القائلين بأن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء، استدلوا بما ورد بشأن طلاق ابن عمر زوجته وهي حائض، فأخبر عمر – رضي الله عنه - الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: ((مره فليراجعها))، وقد روي الحديث بلفظ: أن ابن عمر طلق زوجته وهي حائض فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها، ولما كانت القصة واحدة فإن روايتها بهذين اللفظين ليدل على أن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء للشخص الثالث، فأصحاب الرأي الأول لا يقولون بوجوب مراجعة الرجل زوجته المطلقة أثناء الحيض لأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر – رضي الله عنه - لا يعدو أن يكون أمَرًا بنقل الفتوى لابنه، وأصحاب الرأي الثاني يعتبرون هذا الأمر أمرًا مباشرًا لابن عمر – رضي الله عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكلِّ فريق رأيه وحجته.

المسألة العاشرة: دلالة الأمر بالشيء بالنسبة للنهي عن ضده:
بند 1: اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
الرأي الأول: يرى أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أو أضداده إن كان له أضداد كثيرة، إذ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والرأي الثاني يقولون بأن الأمر بالشيء لا يقتضي ذلك لأنه مسكوت عنه، وغيرهم رأى كراهة فعل الضد، وعند تحقيق المسألة يتبين أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده إذا كان المأمور معينًا، وقد ضاق الوقت عن غيره، وعليه فإذا قال الزوج: إن خالفت نهيي فأنت طالق، ثم أمرها بشيء ففعلت ضده فهل تطلق؟ على القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده تطلَّق، وعلى القول الثاني لا تطلق، وعلى المختار تطلق إلا إذا كان الأمر مخيرًا أو موسعًا.

المسألة الحادية عشرة: دلالة الأمر بعد الحظر:
بند 1: اختلف الأصوليون في ذلك، فالقائلون بأن الأمر بعد الحظر للإباحة إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك - وهو الراجح - استدلوا على ذلك بالعرف الشرعي، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وليس البيع والشراء واجبًا بعد الجمعة باتفاق، وكذلك فالعُرْف اللغوي يقتضي ذلك، والقائلون بأنَّ الأمر لا تختلف دلالتُه بعد الحظر عن دلالته لو لم يسبق بحظر - ينقسمون، فبعضهم يرى أنه يظل على الوجوب باعتبار الأصل، وبعضهم يرى أنه يظل على الاستحباب بناء على اختلافهم في دلالة الأمر على الوجوب أم الندب كما بينا، وحجة هذا الفريق أن هناك من الآيات من اتفق على أن الأمر الوارد بها للوجوب، رغم أنه جاء بعد حظر مثل قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وقد أجيب عليهم بأن الآية ليست هي مستند الوجوب وإنما ثبت الوجوب بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 36]، وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، والظاهرية وابن تيمية فرقوا بين أن يكون الأمر بصيغة (افعل) فهنا يدل على الإباحة، وبين أن يأتي بصيغة مصرحة بالأمر مثل (أمركم)؛ إذ ينكرون وجوب عرف شرعي في الفرض الثاني فيبقى على الوجوب، ويجاب عليهم بأن العرف الشرعي قد جرى في الاثنين، ولا دليل لإخراج أحدهما منه.

بند2: ويبدو أثر هذا الخلاف ظاهرًا في مسائل؛ منها:
ما ثبت أن علم منه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مكتتب في الجهاد وزوجته تريد الحج، فقال له: ((انطلق فحج مع امرأتك))، هل للوجوب أم الندب أم الإباحة؟ ومثله قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، هل يمكن أن يستدل به على وجوب مكاتبة العبد إذا علم السيد فيه خيرًا؟ ويعزى اختلافهم في ذلك هل يعد الأمر بعد الحظر قرينة تصرُّفه عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة؟ بحسب اختلافهم في ذلك كما بينا.

المسألة الثانية عشرة: الأمر في الواجبات الكفائية:
سبقت الإشارة لهذه المسألة، وترجيح القول بأن الأمر في الواجبات الكفائية موجه لكل واحد من الأمة ويسقط بفعل من يكفي، كما هو الشأن في الجهاد قال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} [النساء: 84]، وذلك رغم أن قتال الكفار فرض كفاية لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122].

المسألة الثالثة عشرة: دلالة الأمر الشرعي على توجه الخطاب لمن يولد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -:
مذهب السلف في كلام الله أنه متجدد، فهو سبحانه يتكلم بما يشاء متى شاء، وكلامه سبحانه قبل تعلقه بالمخلوقين لا يسمى أمرًا ولا نهيًا بالمعنى الشرعي، فلا يسمى المعدوم مأمورًا ولا منهيًّا قبل وجوده، فلا يوجد أمر بلا مأمور، أما إذا توجه خطاب الله تعالى للمأمورين فهنا يسمى أمرًا، ولا يلزم من ذلك عدم دخول من لم يولد بعد حين نزول القرآن في الخطاب إذا وُجدوا بعد ذلك؛ لأن كلام الله حكم عام مستمر، وكل من وُجِد وتوافرت فيه شروط التكليف دخل تحته من غير حاجة إلى أن يصدر له خطاب جديد، فرسالة الإسلام خالدة وعالمية، يقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] ، وثبت في مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - ((والذي نفسي محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)).

الفصل الثاني: دلالة النهي:
المسألة الأولى: تعريف النهي وصيغه:
بند1: النهي في اللغة: المنع، يقال: أولو النهى؛ أي: أصحاب العقول؛ لأن العقل يمنع صاحبه من الخطأ غالبًا، وفي الاصطلاح: (طلب الترك بالقول ممن هو أعلى)، فإن كان من الأدنى فهو سؤال، وللنهي صيغة واحدة متفق على كونها تفيد النهي، وهي صيغة: (لا تفعل)؛ كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32].

بند2: وهناك أساليب أخرى يُعْرف بها النهى الدال على التحريم منها:
أولاً: لَعَن الله أو رسوله؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله النامصة والمتنمصة)).
ثانيًا: التصريح بالنهي؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} [الممتحنة: 9].
ثالثا: التوعد بالعقاب كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]. 
رابعا: إيجاب الحد: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَة} [النور: 2]. 
خامسا: وصف العمل بأنه من صفات المنافقين أو الكفار، نحو قوله تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142].

المسألة الثانية: اقتضاء النهي التحريم:
بند 1: لا خلاف في أن النهي الذي تصحبه قرينة تدل على التحريم أو الكراهة يحمل عليها، والخلاف في النهي إذا لم تصحبه قرينة، وذلك بالرغم من أن الأدلة لا تخلو من القرائن كما لو جاء النهي بلفظ (لا تقربوا)، (اجتنبوا)، وما يدل على شدة النهي أو وصف المنهي عنه بالفحشاء أو المنكر، فمن حمله على التحريم استدل بقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا))، وهو الراجح.

المسألة الثالثة: اقتضاء النهي الفورية والاستمرار:
النهي يقتضي الكفّ عن المنهي عنه فورًا على الدوام ما لَم تَقُمْ قرينة على خلاف ذلك، وذلك لأنَّ المنهي عنه مفسدة، والمفسدة يجب الابتعاد عنها فورًا على الدوام.

المسألة الرابعة: دلالة النهي عن الشيء أمر بضد من أضداده:
لا خلاف أن النهي عن شيء يقتضي الأمر بفعل ضده إذا كان له ضد واحد؛ كالنهي عن الصوم في العيدين يقتضي الفطر فيهما، لكن يثور التساؤُل عما إذا كان المنهي عنه له أضداد كثيرة، فهل يكفي المكلف الانشغال بإحداها، حتى يكون قد اجتنب المنهي عنه؟ نعم، هذا هو الصحيح طالما لم يرد التعيين لإحداها.

المسألة الخامسة: دلالة النهي بعد الأمر:
ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي بعد الأمر يحمل على التحريم كما لو جاء ابتداءً، أما من شذ منهم فقد رأى أنه يحمل على الإباحة تمامًا؛ مثل: دلالة الأمر بعد النهي، وبينهما فارق، لأن الإباحة من محامل الأمر، وليست من محامل النهي، كما أن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة.

المسألة السادسة: اقتضاء النهي الفساد:
ذكرنا أن الحنفية يُفَرِّقون بين النهي والفساد بخلاف الجمهور، والفاسد عندهم لا يبطل به الفعل، وإنما يترتب عليه بعض الآثار، فالنهي عن الشيء إما أن يكون لعينه كالنهي عن بيع الكلب، وعندئذٍ فلا خلاف في أنه يقتضي الفساد، وإما أن يكونَ لوصْف ملازم له؛ كالنهي عن البيوع الربوية، وفيه ذكر خلاف بين الجمهور والحنفية، إذ يفرق الحنفية في هذا الصدد بين العبادات وغيرها، إذ يقتضي الفساد في العبادة دون غيرها، فبيع درهم بدرهمين هو بيع فاسد عندهم، لكن يثبت به الملك بالتقابض، وعند الجمهور هو باطل يقتضي الفساد؛ لحديث: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، وإما أن يكون النهي لأمر خارج عنه؛ مثل: النهي عن الغصب هل يقتضي فساد الصلاة في الدار المغصوبة، وقد ذكرنا أن الراجح عدم الفساد، ما دام أن النهي ورد مطلقًا منفكًّا عنه، فتصح الصلاة وتسقط الفريضة مع لحوق الإثْم به.

الفصل الثالث: دلالة العام:
المسألة الأولى: التمييز بين العام والخاص:
بند1: العام: اسم فاعل من العموم، بمعنى: الشمول والإحاطة، ومنه سميت العمامة لأنها تحيط بالرأس، وفي الاصطلاح: "اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد"، وتعرف الأفراد التي يشملها العام باللغة أو العرف، ولا ينال من ذلك كون اللفظ (مشتركًا) بمعنى دلالته على معنيين بوضعين مختلفين، إذ كلما دلت القرائن على اختيار إحداها، فهو يدخل في مفهوم العموم الوارد في التعريف.

بند 2: والخاص: اسم فاعل من الخصوص ضد العموم، وفي الاصطلاح: "ما دل على معين محصور"، والعموم والخصوص وصفان نسبيان غير مطلقين، فلفظ إنسان عام بالنسبة للرجل والمرأة، وخاص بالنسبة للحيوان، وفي الشرع: ((من قتل قتيلاً فله سلبه))، عام بالنسبة للباس المحارب، وخاص بالنسبة للغنيمة.

المسألة الثانية: الفرق بين العام والمطلق:
بند 1: نظرًا لأن المطلق يقصد به: "اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه"، مثل لفظ رقبة في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، فإن كلاًّ من العام والمطلق يتشابهان في أن لكليهما عمومًا في الجملة، الأمر الذي حدا ببعض المتقدمين عدم التفرقة بينهما، بيد أن الفارق بينهما ظاهر من حيث الحكم، فالمطلق لا يتناول جميع الأفراد التي تصلح للدخول تحته، بل تحصل البراءة بواحدة منها، أما العام فلا تبرأ الذمة إلا بفعل جميع أفراده، فلفظ رقبة المشار إليه مطلق يقتضي عتق رقبة واحدة وليس كل الرقاب، ولو جاء عامًّا لأفاد وجوب تحرير كل رقبة.

المسألة الثالثة: تقسيم العام باعتبار طريق معرفته:
أولاً: العام لغة: وهو المراد عند الإطلاق، ومنها صيغه (كل، جميع، الجمع المحلى بأل).
ثانيًا: العام عقلاً؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان))، يقتضي - عقلاً - إدخال كل ما يشوش على الذهن؛ كالجوع، أو الحزن في عموم النهي.
ثالثًا: العام عرفًا: ويعتد في إثباته بعرف الشرع أو اللغة، فلفظ "المسلمون" يشمل النساء في عرف الشارع، ولفظ "أفٍّ" يقتضي ما يدخل في التأفُّف، كالأذي في عرف اللغة.

المسألة الرابعة: العموم المعنوي:
بند 1: من العلماء مَن يقسم العموم من حيث طريق معرفته إلى لفظي ومعنوي، واللفظي يستفاد من صيغه، أما المعنوي فيقصد به: "المستفاد من طريق المعنى مع خصوص اللفظ الدال عليه من حيث الوضع"، ويُستفاد بعدة طرق كالتالي:
أولاً: العموم المستفاد بالاستقراء: إذ اجتهد العلماء في استقراء فروع الشريعة واستخرجوا منها قواعد عامة تضبط كثيرًا من مسائلها؛ منها: (الضرر لا يزال بمثله)، (الضرورات تبيح المحظورات)، (الضرورة تقدر بقدرها)، (اليقين لا يزول بالشك).

ثانيًا: العموم المستفاد من الخطاب الموجه لأحد الصحابة: وذلك ما لم يرد ما يدل على الخصوصية كقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة: ((اذبحها، ولا تجزي عن أحد بعدك))، فإن لم يقترن به ما يدل على الخصوصية، فهو يدل على العموم، مثاله قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر حين أراد أن يشتري الفرس الذي وهبه: ((لا تفعل))، بيد أن خلافًا أثير بين العلماء في طريق معرفته هل بطريق النقل العرفي (العرف الشرعي) أم بطريق القياس، وعليه يشمل الخطاب من كان حالهم مثل حاله، بيد أن ما عرف بطريق العرف الشرعي يكفي المجتهد مشقة بحث علة الحكم وتحققها في بقية المكلفين، كما أن أدلة الشرع تؤكِّد هذا العموم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158].

ثالثًا: العموم المستفاد من الخطاب الموَجّه للرسول - صلى الله عليه وسلم -: وذلك ما لم يقم الدليل على خصوصيته به، كقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]، فإذا لم تقمْ قرينة تدل على العموم ولا على الخصوص؛ مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]، فهو محمول على العموم لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، لكن إذا ما خالف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فعله قوله، فهل يعد فعله مخصصًا لهذا العموم أم ناسخًا له، كنهيه عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة وثبوت فعله لذلك، اختلف العلماء في ذلك فمنهم من قال: إن فعله يخصص العموم وينسخه إن جاء بعد العمل، وعلى القول الآخر فإن فعله لا يعد مخصصًا ولا ناسخًا حتى نعلم أنه فعل امتثالاً لخطاب عام.

رابعًا: عموم مفهوم الموافقة: ومثاله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، فالآية دلتْ بنصها على تحريم أكل مال اليتيم، وشملت بمفهومها كل تصرف يفوِّت على اليتيم ماله.

خامسًا: مفهوم المخالفة: ومثاله قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث))، فالحديث دلَّ بمنطوقه على حكم عدم نجاسة الماء الذي بلغ قلَّتين ما لم يتغير وصفه، وبمفهوم المخالفة إذا لم يبلغ الماء قلتين، فإنه يتنجس بملاقاة النجاسة ولو لَم يتغيَّر.

سادسًا: عموم العلة المتعدية المنصوصة أو المومأ إليها: إذ يتناول الحكم كذلك كل صورة مشابهة للمنصوص عليها أو المومأ لها بنص الشارع ما دامت العلة تعدت لها، ومثاله في المومأ لها قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان))، يشمل كل ما يمنع التروي في الحكم من جوع أو غضب أو غيرهما.

المسألة الخامسة: علاقة العام بالخاص:
أولاً: عام أريد به العموم قطعًا، ولا يدخله التخصيص؛ كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].

ثانيًا: عام يراد به العموم ويدخله التخصيص، وهو المسمى بالعام المطلق؛ أي: الذي لم يقترن به ما يدل على تخصيصه، ولا ما يدل على أنه غير قابل للتخصيص.

ثالثًا: عام أريد به الخصوص، وهو الذي لفظه عام من حيث الوضع، ولكن اقترن به دليل يدل على أن المراد به بعض مدلوله اللغوي؛ مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، فلفظ "الناس" عام، ولكنه لم يَرِدْ به عموم الناس، فلفظ الناس تكرر مرتين، ويقصد به في الأولى خلاف الثانية، وتجدر ملاحظة أن العام المخصوص لم يرد به جميع أفراده ابتداءً كالعام المراد به الخصوص، والفارق بينهما يكمن في أن مخصوص الأول لفظي منفصل، والثاني عقلي متصل، والباقي من الأول بعد تخصيصه أكثر، والمخرج من الثاني أكثر.

المسألة السادسة: صيغ العموم المشتهرة المتجانسة:
ذهب جمهور العلماء إلى أن للعموم ألفاظًا وضعت للدلالة عليه، إذا وردت في الكتاب والسنة أو كلام العرب حملت عليه من غير حاجة إلى قرينة، وخالف في ذلك طائفتان: الأولى: طائفة الواقفية: زعموا أن تلك الصيغ مشتركة مجملة، الثانية: أرباب الخصوص: وهم القائلون بحملها على أخصِّ الخصوص، ولا أثر لهما في الفقه، إذ لا يصح ما شاع على الألسنة من القول بأن "ما من عام إلا وقد خص" رواية ولا دراية، فعمومات القرآن أكثرها محفوظة باقية على أصلها كما ذكر ابن تيمية، كما أن دلالة العام على أخص الخصوص وإن كانت متعينة، فإن دلالته على الزيادة على ذلك وإن كانت ظنية، فهي كافية في إثبات حكم الشرع، وهذا هو فَهْم الأنبياء لخطاب الحق سبحانه كما في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 45 - 46]، فقد استدل نوح - عليه السلام - بعموم لفظ (أهلك) وأقره المولى على هذا المفهوم، وأجابه بتخصيص الأهل بالذين آمنوا به واتبعوه، ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحمر الأهلية: ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، فدلالة لفظ (من) عامة، وإليه المرجع في فهم كلام الله - عز وجل.

أولاً: "كل وجميع وأجمعون وأكتعون، وعامة وقاطبة"، وكل ما يؤكد الشمول:
• وصيغة (كل) قد تضاف إلى مفرد أو جمع نكرة أو معرفة، وتفيد العموم ابتداءً وتبعًا كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، وفي الحديث: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته))، وقد تكون توكيدًا لمعرفة، كما في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]. 
• وأما لفظ "جميع" فلا يضاف إلا إلى معرفة كقولك: "جميع الطلاب حاضرون". 
• ويشترط لعموم (كل) و(جميع) عدم تقدُّم النفي عليهما.
• وأما أجمع وأجمعون وأكتعون وأبضعون وما جرى مجراها، فلا تأتي إلا تابعة مؤكدة لما قبلها ولا تضاف لما بعدها.

ثانيًا: الجمع المحلى بأل (الجنسية) أيًّا كان نوعه والجمع المضاف واسم الجمع المضاف:
• فـ (أل) الجنسية، فإنها تفيد الاستغراق؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: 35]، أما إن كانت للعهد كقوله تعالى: {أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16]، فلا يكون مدخولها مستغرقًا لما يصلح له في اللغة، ولكنه يشمل المعهودين قلوا أو كثروا. 
• أما الجمع المضاف إلى معرفة، فمثاله قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]، ومثال اسم الجمع المضاف لفظ "أهلك"؛ كما في قوله تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود: 40].

ثالثًا: اسم الجنس المحلى بأل، واسم الجنس المضاف إلى معرفة:
• أما المحلى بأل الجنسية فقد قال بعمومه أغلب العلماء، ومنهم من فصل القول كالغزالي قال بعمومه، وقد أخرج من هذا العموم حالتَيْن:
الأولى: ما يتميز واحده بالتاء كـ(التمر)، وقد اقترن بالتاء مثل (التمرة)، أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والتمر بالتمر ربًا، إلا هاء وهاء))، فهو عام في القليل والكثير.
الثانية: ما لم يتميز واحده بالتاء، لكن واحده يتشخَّص، كالرجل خير من المرأة، فقد يفارق العموم؛ لأن المراد العموم بصرف النظر عن الفوارق النسبية بين الأفراد، أما ما لم يتشخص فيعم كما في الحديث: ((الذهب بالذهب ربًا، إلا هاء وهاء)).

• وأما اسم الجنس المضاف إلى معرفة فقد أطلق بعضهم القول بعمومه، وبعضهم فصل كالقرافي، فأطلق العموم على ما يصدق على القليل والكثير كالذهب والأرض كقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} [الأحزاب: 27]، وإن كان مما لا يصدق على القليل والكثير ففيه نظر؛ فإنه يأتي عامًّا مثال قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، وقد يأتي غير عام كحديث: ((منعت العراق درهمها وقفيزها)).

رابعًا: أسماء الشرط: (من، ما، إذا، متى، حيث، أين، أنَّى، أي):
فهي تفيد العموم فيما يدخل تحتها من الأفراد، فـ(من) تعم العقلاء، و(ما) تعم العقلاء وغيرهم، و(إذا) و(متى) تفيدان العموم في الزمان، و(حيث) و(أين) و(أنى) تفيد عموم المكان، و(أي) بحسب ما تضاف إليه، نحو قوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7].

خامسًا: الأسماء الموصولة: (من، ما، الذي، التي، أي):
وقد أطلق بعض العلماء القول بعمومها، والصحيح أنها عامة، ويستثنى من ذلك أمور منها، ومن أمثلة ذلك (مَن) قد تكون للخصوص؛ كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا} [محمد: 16]، و(الذي) و(التي) وفروعهما لا تكون عامة إلا إذا كانت جنسية لا عهدية، و(أي) الموصولة قد أنكر عمومها جماعة من الأصوليين، ومثال ما جاء عامًّا منها قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69].

سادسًا: أسماء الاستفهام: (من، ما، أين، أنى، متى، أيان، أي، كم):
أطلق بعض العلماء القول بعمومها، وأنكر ذلك آخرون، ولا حجة لهم إذ إنها وإن كان فيها تردد بين شيئين أو أشياء، فإنها تفارق المطلق من حيث دلالتها على الأفراد بعينها، بخلاف المطلق لا يدل على الأفراد وإنما على الماهية، ومن أمثلها في الدلالة على العموم، قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} [الإسراء: 51]، {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187].

سابعًا: النكرة في سياق النفي وما في معناه: كـ(النهي، الشرط، الاستفهام الإنكاري):
فهي تفيد العموم اتفاقًا؛ مثل قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، شريطة ألا يكون النفي لسلب الحكم عن المجموع، كقولنا: (ما كل عدد زوجًا) فإنه يفيد سلب العموم لا عموم السلب، والخلاف وقع في بعض صورها وطريقتها، ومثال ما في معناه قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، كما اختلفوا في الفعل إذا وقع في هذا السياق، فقال بعضهم: إنه للعموم ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 13]، وبعضهم قال: لا يعم، لأنه لا أفراد له، ونتج عن هذا الخلاف اختلافهم في التخصيص بالنية، فمن أقسم بألا يبيع ويشتري، استثنى بشأنه الجمهور بيع وشراء طعامه فلا يحنث إلا بالمتاجرة، والحنفية قالوا بعدم صحة تخصيص النية، إذ لا عموم للفعل، فكل بيع أو شراء وقع منه يحنث به، وذات الخلاف مبسوط كذلك في مفعول الفعل المتعدي إذا حذف هل يقتضي العموم أم لا؟

ثامنًا: الظروف الدالة على الاستمرار:
مثل: (أبدًا) و(دائمًا) و(دهر الداهرين)، ونحوه:
ومن أمثلتهم قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [البينة: 8]، وقوله: {اللَّيْلَ سَرْمَدًا} [القصص: 71].

المسألة السابعة: قوة دلالة العام على ما زاد على (أخص الخصوص، وما ورد على سببه):
أُثِير خلافٌ في هذا الشأن بين الجمهور الذين قالوا بأنه ظني الدلالة؛ لأنَّ احتمال التخصيص قائم، وقد ثبت عن الصحابة والتابعين تخصيص عام القرآن بالقياس وخبر الآحاد، والحنفية الذين قالوا بأنها قطعية قبل التخصيص، إذ لو جاز أن يرد العام ويراد به الخصوص من غير قرينة لكان تكليفًا من الشرع بما لا يطاق، وهذا محال، وقد أجيبَ عليهم بأن اللفظ الخاص يحمل على حقيقته مع احتمال المجاز ما لم تقم قرينة على صرفه - هذا باتفاق بيننا وبينكم - ولم يفض ذلك للتلبيس، فكذلك العام يحمل على عمومه مع احتماله الخصوص، ولا يلزم من ذلك التلبيس وارتفاع الأمان، وقد ظهر أثر الخلاف بينهم في الفقه، فالحنفية يوجبون الزكاة في كل ما خرج من الأرض دون اعتبار للنصاب وكونه مما يكال ويدخر؛ عملاً بعموم قوله تعالى قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، والجمهور يخصصون عموم الآية بحديث: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))، فإنه يدل على أن الزكاة إنما تجب فيما يُكال ويدخر، وتدل على أن المكيل لا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق.

أمَّا دلالة العام بعد تخصيصه، فهو حجة ظنيَّة فيما بقي على قول الجمهور، ومن أدلتهم احتجاج الصحابة على جواز الجمع بين الأُختين بملك اليمين رغم أن آية {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] حرمت، وآية: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] أباحتْ، إذ ليس كل جمع بينهما محرم، وإنما الوطء والنكاح، مع الأخذ في الاعتبار أن العام عند الجمهور ظني الدلالة خصص أم لم يخصص، لكن العام المحفوظ عندهم أقوى من العام المخصوص وكثرة المخصصات تضعف دلالته.

الفصل الرابع: التخصيص:
المسألة الأولى: تعريفه وأركانه وشروطه:
التخصيص في اللغة الإفراد والتمييز، وفي الاصطلاح: (بيان أن المراد بالعام بعض أفراده)، إذ لم يكن قصد الشارع عند إيراد اللفظ العام الأفراد الخارجة عنه، ويقوم على ركنين (المخصِّص) و(المخصَّص)، فالمخصِّص هو: (الدليل الأخص الدال على خروج بعض أفراد العام عن حكمه، أو على أن العام لم يرد به جميع مسمياته)، وقد يطلق على المجتهد الذي رأى تخصيص دليل بدليل، والمخصَّص أو المخصوص فهو (العام الذي قام الدليل على أنه لم يرد به جميع مسمياته)، فيقال: لفظ "الناس" في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] مخصص بالمكلف المستطيع.

يفترق النسخ عن التخصيص في أنه يرفع الحكم بعد ثبوته زمنًا عن الجميع، ولا يجوز نسخ المقطوع بالمظنون، بينما التخصيص فإنه يرد لبيان عدم دخول بعض أفراد العموم في حكمه، ويجوز تخصيص المقطوع بالمظنون.

وقد اشترط أكثر الحنفية للتخصيص شرطين، الأول: أن يكون المخصص مقارنًا للعام وإلا كان ناسخًا، والجمهور لا يشترطون ذلك، والثاني: أن يكون مستقلاًّ فلا يخصصون بالمتصل، وللجمهور تفصيل في تقسيم المخصصات إلى متصلة ومنفصلة.

المسألة الثانية: المخصصات المتصلة:
يرى الحنفيَّة أن العام المخصص بالمخصصات المنفصلة لا يسمَّى بذلك؛ لأن الكلام لا يفهم معناه إلا بعد تمامه، والجمهور نظروا إلى معنى اللفظ المفرد فهو عام بالنظر إلى وضْعه في اللغة، ولكن في الاستعمال مخصوص، وكلاهما متفق على أن التقيُّد بهذه المخصصات يجعل المنطوق مقتصرًا على ما توافر المخصص فيه، تفصيل ذلك كما يلي:
أولاً: الاستثناء:
أي: إخراج بعض الجملة عنها بصيغ خاصة، وأهم صيغه (إلا، وسوى، وغير، وخلا، وعدا، وحاشا، ولكن)، ومثاله قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة: 249]، فلفظ (من) عام، و"إلا" استثناء منه، وثمة شروط لوقوع التخصيص بالاستثناء منها متفق عليه، ومنها مختلف فيه؛ كالتالي:
الشرط الأول: اتصال الاستثناء بالمستثنى منه لفظًا أو حكمًا: واستدلوا على ذلك بحديث: ((من حلف على يمين ورآى غيرها خيرًا منها، فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير))؛ إذ لو كان الاستثناء المتأخر صحيحًا لأرشده إليه ولم يرشده للتكفير وهو الأشد، وقد نقل عن ابن عباس جواز الاستثناء المتأخر في اليمين، وليس لهذا القول دليل صحيح، ولا حجة في قول بعض العلماء بجواز تأخير الاستثناء في العقود ما دام المجلس قائمًا، استنادًا لحديث: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا))، ذلك أن خيار المجلس ثبت بنص خاص على خلاف القياس فلا يقاس عليه.

الشرط الثاني: عدم الاستغراق: فإذا كان في العدد فهو عبث كأن يقول: نسائي طوالق إلا ثلاثًا، وليس له إلا ثلاث زوجات، فيبطل الاستثناء ويثبت الإقرار، فتُطلق جميعهن، أما إن كان في الصفة فجائز، ولا يبطل الاستثناء.

الشرط الثالث: أن يكون المستثنى أقل من المستثنى منه: والراجح جواز أن يحصل العكس، ودليله قوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]، وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، فاستثنى في الأولى المخلصين من الغاوين، وفي الثانية استثنى الغاوين ممن لم يتسلط إبليس عليهم، فلا بد أن يكون أحدهما أكثر وقد ثبت به الاستثناء.

الشرط الرابع: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه: وما ثبت في القرآن من وقوع الاستثناء من غير جنس المستثنى منه كما في قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25، 26]، فقد حملوه على المجاز فتكون (إلا) بمعنى (لكن)، أما في الإقرارات والتصرُّفات كاليمين فثمة خلاف في ذلك، ومن أجازه قال: لو قال: عليَّ مائة درهم إلا ثوبًا، جاز الاستثناء، ويكون قد أقر بمائة إلا قيمة الثوب.

الشرط الخامس: أن ينويَ الاستثناء حين النطق بالمستثنى منه: لأن الاستثناء في اللغة ليس بإلغاء، وإنما هو بيان بأن الجملة ليست مرادة بكاملها منذ إنشاء الكلام، ومن لم يشترط ذلك الشرط استند لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما حرم مكة وقال: ((لا يعضد شوكها ولا يختلى خلاها))، قال العباس: إلا الإذخر، يا رسول الله، فإنه لقيننا وبيوتنا، فقال: ((إلا الإذخر))، ووجه الدلالة أنه استثنى بعد سؤال العباس.

وقد أُثير خلاف بشأن ما إذا جاء الاستثناء بعد جمل عطف بعضها على بعض، هل يعود للجميع؟ وذلك ما لم تقم قرينة تدل على أنه يعود إلى الجميع أو إلى الأخير أو غير ذلك، وذلك سواء ورد العطف بين الجمل أو المفردات، مع مراعاة أن حروف العطف الدالة على الإضراب أو الاستدراك مثل: (بل) و(لكن)، لا تدخل في الخلاف ومثاله: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68 - 70]، فالجمهور يقولون بأن الاستثناء يعود على الكل، وحجتهم أن تكرار الاستثناء عقب كل جملة عِيٌّ باتفاق، لذا دعت الحاجة إلى القول بأنه يعود إليها دون تكراره، والمشهور عن الحنفية أنه يرجع إلى الجملة الأخيرة وحدها، ذلك أن العموم ثابت في كل صورة بيقين، وعود الاستثناء إليها جميعًا مشكوك فيه، والمتيقن لا يرفع بالشك، وهناك من توقف في هذه المسألة حتى تدل قرينة على عود الاستثناء إما على الكل أو الأخير، والراجح القول الأول، ذلك أن العموم ليس بمتيقن عند الجمهور، وإنما هو مظنون، فلا غرو في عود الاستثناء إلى الكل المظنون، وأثر هذا الخلاف في الفروع الفقهية بدا في مسائل منها: القاذف المجلود إذا تاب هل تقبل شهادته؟ إذ ذهب الحنفية إلى رد شهادته، والجمهور إلى قبولها، وذلك بناء على اختلافهم في عود الاستثناء الوارد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5]، على وصفهم بالفسق ورد شهادتهم أو أحدهما.

وقد حكى بعضُ العلماء الاتفاق على أن الاستثناء من الإثبات نفي، أما اعتبار الاستثناء من النفي إثباتًا فقد أثير بشأنه خلاف، فالجمهورُ يقولون بذلك، وحجتهم أن قول القائل: (لا إله إلا الله ) هو استثناء من النفي، وقد ثبت به الإيمان بإجماع، ولو لم يكن الاستثناء من النفي إثباتًا لما كفى النطق بهذه الكلمة لإثبات الإيمان، أما الأحناف فإنهم لا يقولون بذلك وحجتهم ما ثبت في الحديث: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور))، فقالوا: لوكان الاستثاء من النفي إثباتًا لثبتت الصلاة بثبوت الطهور، والاتفاق على أن ثبوت الطهارة ليس بشرط لوجود الصلاة؛ إذ قد لا يحين وقتها، وقد أجيب عليهم بأن الحديث يدل على أن الطهور شرط الصلاة، ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط، فلو قال: ليس له عليَّ إلا مائة، فالحنفيَّة يقولون بأنه لا يكون مقرًّا بالمائة، وإنما هو نافٍ ما عداها، فيسأل عن المائة ليقرها أو ينكرها، والجمهور يكتفون بذلك ويعدونه إقرارًا بالمائة، فلا ينفعه إنكار بعدها.

ثانيًا: الشرط: ومثاله حديث: ((خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))، فقوله: ((خيارهم في الجاهلية))، وقوله: ((إذا فقهوا))، أخرج من لَم يتفقه في الدين.

وقد توسع بعض العلماء في الشرط الذي يحصل به التخصيص، فأدخل فيه الشروط الشرعية كالطهارة وستر العورة للصلاة، والشروط العقلية كالعقل لطلب العلم، والشروط العادية كوجود السلَّم لصعود السطح، والشروط اللغوية وهي التي تفيد تعليق الحكم على وصف كـ(إن) وما جرى مجراها؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، وبعض المحققين قصر التخصيص على الشرط اللغوي فحسب؛ مثل: (إن، ما، من، إذا)، وقد انتهى القرافي إلى القول بأن (الشروط اللغوية من حيث معناها وترتيب الحكم عليها أسباب)، إذ يلزم من وجودها وجود، ومن عدمها العدم، كمن قال لامرأته: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فمتى خرجت بغير إذنه طلقت، وإذا لم تخرج لم تطلق.

وقد حصل خلاف بشأن حمل الشرط على الجمل المتعاطفة إذا وقع متأخرًا، فالجمهور على أنه يعود إلى الكل، وقيل: يعود إلى الجملة الأخيرة كالاستثناء، والصواب قول الجمهور، ومثاله قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، ولا يختلفون في أن المراد: فمن لم يجد جميع ما تقدم، أما الشرط المتقدم فلا خلاف بأنه يلحق بجميع ما ذكر بعده من الجمل المتعاطفة.

ثالثًا: الصفة ونحوها: أي: كل معنى يميز بعض المسميات: (النعت، الحال، الظرف، الجار والمجرور، مثاله: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فقوله: (من فتياتكم) عام؛ وقوله: (المؤمنات)، صفة خصصت من يجوز نكاحهن من الإماء بالمؤمنات.

رابعًا: الغاية: ولها لفظان (حتى)، (إلى)، ومثاله قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، فقوله: (حتى يطهرن)، تخصيص للعموم المستفاد من النهي، فيخرج من عمومه ما بعد الطهر.

وقد اختلف العلماء هل يدخل ما بعد الغاية في حكم ما قبلها؟ فمنهم من قال: إنه داخل فيه، والجمهور قالوا بأنه لا يدخل، وثمة قول ثالث: إن كان ما بعد حرف يفيد الغاية من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه، وإلا فلا، وهو الصحيح، دليل ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، والليل غير داخل في الصيام باتفاق، والقول الثاني يشكل عليه قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، والمرافق داخلة فيما يجب غسله باتفاق، لأن المرفق من جنس اليد فتدخل.

خامسًا: البدل: ومثاله قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، فقوله: {عَلَى النَّاسِ}، عام يشمل كل الناس، وقوله: من استطاع بدل، وهو مخصص لعموم الناس، فلا يجب الحج إلا على المستطيع.

المسألة الثالثة: المخصصات المنفصلة:
وهي كل دليل يستقل بنفسه، ولا يحتاج إلى ذكر لفظ العام معه، وأنواعها كالتالي:
أولاً: الحس: مثاله قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]، فالعموم في قوله (من شيء) مخصوص؛ إذ يشهد الحس بأن الريح لم تجعل الجبال كالرميم.

ثانيا: العقل: مثال التخصيص به قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، فإن العقل دل على أن ذاته تعالى غير مخلوقة، ومثله قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت)، فالعقل دل على أن خروج الأطفال والمجانين من عموم الوجوب على الناس، ومن العلماء من يرى أن ما خص بالحس والعقل ليس من العام المخصوص، وإنما هو من العام الذي أريد به الخصوص، والحنفية يفرقون بين العام المخصوص والعام المحفوظ، فهم يجعلون العام قبل تخصيصه قطعيًّا، وبعد التخصيص ظنيًّا، أما ما كان تخصيصه بالعقل فقد جعلوه باقيًا على قطعيته ما لم يخصص بدليل آخر، أما الجمهور فالعام غير المخصوص عندهم أقوى من المخصوص بالعقل أو بغيره من الأدلة.

ثالثًا: التخصيص بالنص: وله أربع صور كالتالي:
أ - تخصيص القرآن بالقرآن: مثاله: تخصيص قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، بقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فالآية الأولى تفيد أن كل مطلقة عدتها ثلاث حيض، وهي مخصوصة بالآية الثانية فتخرج الحوامل من العموم.

ب -
تخصيص القرآن بالسنة: مثاله: تخصيص قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، بما ثبت أنه رجم الزاني المحصن، فيكون مخصوصًا من العموم،وقد اختلفوا في تخصيص القرآن بالسنة الآحادية، فذهب الجمهور إلى جوازه ووقوعه بإجماع الصحابة، فآيات المواريث خصصت بحديث: ((لا يرث المسلم الكافر))، وهو خبر آحاد، وأمثلة ذلك كثيرة، وقد أنكر بعض المتكلمين تخصيص القرآن بأخبار الآحاد مطلقًا، وحجتهم في ذلك ما ثبت عن عمر أنه رد خبر فاطمة بنت قيس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة حين طلقت، وقال: "لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت"، وقد أجيب عليهم بأن عمر رد الحديث لشكه في صحته، لا لكونه من رواية واحد معارضة لعموم القرآن، وقد بدا أثر الخلاف في الفروق الفقهية، فالجمهور يخصصون قوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} [المزمل: 20] ، بحديث: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))، والحنفية لا يجعلون ذلك مخصصًا، فلا تكون الفاتحة ركنًا في الصلاة، وإنما ركنها عموم القراءة.

ج - تخصيص السنة بالسنة:
مثاله: تخصيص حديث: ((فيما سقت السماء والعيون العشر)) بحديث: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))، فالحديث الأول عام في القليل والكثير، والثاني دل على إخراج القليل الذي لا يبلغ خمسة أوسق عما تجب فيه زكاة.

د - تخصيص السنة بالقرآن:
ومثاله: تخصيص حديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) بآية الجزية على أهل الكتاب، ونقل عن الشافعي إنكاره، والصواب جوازه ووقوعه.

رابعًا: التخصيص بالقياس:
فمن العلماء من منع ذلك مطلقًا، ومنهم من أجاز ذلك مطلقًا، ومنهم من جوَّز التخصيص بالقياس إذا كان العام قد سبق تخصيصه، ومنهم من أجاز التخصيص في القياس الجلي دون الخفي، والقول الأخير هو الراجح، ومثله تخصيص عموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، بقياس العبد على الأمة في وجوب الاكتفاء بجلده خمسين جلدة؛ لما ورد بشأنها في قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وهو قياس جلي لعدم الفرق بين العبد والأمة، والعلة بينهما (الرق)، قد بدا أثر الخلاف في الفروع الفقهية، من ذلك مسألة تضمين السارق مال المسروق إذا استهلكه أو تلف في يده، فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38]، أفاد عمومه أن جزاء القطع لعموم ما كسب، فيدخل فيه ما أتلفه أو استهلكه، والحنفية لا يرون وجوب تضمينه؛ لأن القياس لا يقوى على تخصيص هذا العموم، والجمهور خصصوا عموم الآية بالقياس على المغصوب، وقالوا: كل ما وجب رد عينه وجب ضمانه كالمغصوب.

خامسًا: التخصيص بالإجماع:
ومثاله الإجماع على جواز عقد الاستصناع، فيكون ذلك الإجماع تخصيصًا لعموم الأحاديث الدالة على المنع من بيع وشرط، أو بيعتين في بيعة، فإذا ثبت الإجماع في ذلك فلا يحتاج الفقيه إلى بحث مستند الإجماع.

سادسًا: التخصيص بمفهوم الموافقة:
وهو إثبات مثل حكم المنطوق للمسكوت عنه الأولى منه أو المساوي، ومثاله: تخصيص حديث: ((مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته))، بمفهوم الموافقة في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فإن مفهوم الموافقة من الآية أن الابن لا يجوز أن يؤذي أباه بالشكوى إلى القاضي، ولا يحل له عرضه أو معاقبته إذا ماطله في حق له خاص به.

سابعًا: التخصيص بمفهوم المخالفة:
وهو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، ومثاله: تخصيص حديث: ((الماء طهور لا ينجسه شيء))، بمفهوم حديث: ((إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث))، فمفهوم المخالفة: أن الماء إذا لم يبلغ القلتين يحمل الخبث متى خالطته النجاسة، حتى ولو لم يتغير طعمه أو ريحه أو لونه.

المسألة الرابعة: العموم الوارد على سبب:
فقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم – كان جوابًا لمن سأله: أنتوضأ بماء البحر -: ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)) تضمن جوابين، الأول: ((الطهور ماؤه)) وقع جوابًا للسؤال ولا يتم السؤال إلا به، والثاني: ((الحل ميتته)) زائد عن حاجة السائل، لكنه مصاحب له، والجواب الأخير يفيد العموم ما لم يقم الدليل على خصوصه؛ لأنه بيان حكم لمن يسأل عنه كالحكم المبتدأ الذي لا يعرف سببه، أما الإجابة الأولى التي لا يتم الجواب إلا بها فقد اختلف العلماء في حكمها على قولَيْن، فالجمهور يقولون بأن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، إذ ثبت استدلال النبي - صلى الله عليه وسلم - بآيات من القرآن في غير السبب الذي نزلت من أجله، فقوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] نزلت في الكفار الذين يجادلون في القرآن، وقد استشهد بتلك الآية منكرًا على عليّ وفاطمة ابنته تكاسلهما عن قيام الليل، وأمره لهما بذلك؛ فقال علي: "إن أرواحنا بيد الله إن شاء بعثنا"، فولى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو هذه الآية، والقول الثاني أن "العام يجب قصره على سببه"، واستدلوا باتفاق العلماء على نقل أسباب النزول والعناية بها، وقد أجيب عليهم بأن العبرة في نقل أسباب النزول ليس قصر العام على سببه، وإنما في ذلك فوائد أخرى؛ منها: أن معرفة الأسباب يساعد على فهم النصوص، وقد بدا أثر الخلاف في بعض المسائل الفقهية، منها أن الحنفية لا يجيزون الأكل من متروك التسمية لعموم آية: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، والشافعيَّة أجازوا الأكل منها؛ لأنها نزلتْ فيما يذكر عليه اسم غير الله.

المسألة الخامسة: دُخُول المخاطِب في عموم خطابه:
يظهر أثر هذه المسألة في مخالَفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله لقوله؛ كنهيه عن استقبال القبلة في بول أو غائط، وثبوت أنه كان يستقبلها في البنيان، فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال مشهورة، الأول: أنه داخل في عموم خطابه مطلقًا؛ لأن اللفظ يشمله لغة فيجب أن يشمله حكمًا، والثاني: أنه ليس داخلاً لأنه لا يمكن أن يأمر نفسه أو ينهى نفسه، والثالث: التفريق بين الخبر والإنشاء، فإن كان قوله خبرًا فهو داخل فيه، وإن كان إنشائيًّا بصيغة الأمر والنهي فلا يدخل فيه، والصحيح القول الأول؛ لما ذكرناه سلفًا مِنْ دُخُوله - صلى الله عليه وسلم - في العموم المعنوي، وإن كان لا يشمله لغة فدخوله فيما يشمله لغة أولى.

المسألة السادسة: دخول العبيد والإماء والكفار في الخطاب العام:
ذهب بعض العلماء إلى أن صفتي (الرق، الكفر) تدل على تخصيص الخطاب العام، والصحيح دخولهم في العموم؛ لأن صفة الرق والكفر ليستا من المخصصات، وعليه يدخلان في عموم الأوامر والنواهي باعتبار الأصل ما لم يستثنوا من ذلك بدليل.

المسألة السابعة: العمل بالعام قبل البحث عن المخصص:
سبق أن رجحنا أن دلالة العام على العموم ظنيَّة، لاحتمال التخصيص، فهل ذلك يعني توقُّف المجتهد عن العمل بالعام حتى يبحث عن مخصصه، أم يعمل بهذا العموم قبل البحث؟ إذ يخشى من العمل بالعام دون تروٍّ، والبحث عن المخصص يعطل كثيرًا من نصوص الشريعة بسبب الجهل، لذا كان حريًّا بالمجتهد الاجتهاد في ذلك، لكن لا يمنعه البحث عن العمل بما بلغه من علم بشأن هذا العموم، أما المقلِّد فإنه يجب قبل العمل بالعام الرجوع لأهل العلم في ذلك، ولما كانتْ هذه المسألة قد بدا فيها الاجتهاد واضحًا، واحتمال ورود الخطأ فيها قائمًا، فإن السنة قد حملت المجتهد في كلا الفرضَيْن على الصحة والصواب؛ حتى لا يتوقف المجتهد عن العمل بحجة التوقف للبحث عن مخصص لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر))، وعليه إذا قامت البينة على المدَّعى عليه، فهنا يحكم للمدعي ما لم يأت بدليل ينقض حجية البينة، وليس على القاضي أن يُنظر المدعى عليه حتى يأتي بحجته ما لم يبادر بها نفسه أو يطالب بإمهاله، ومن خالف قال بعكس ذلك.

الفصل الخامس: المطلق والمقيد:
بند 1: المطلق في اللغة: الخالي من القيد، وفي الاصطلاح: (ما دل على فرد شائع في جنسه)، ومثاله: النكرة في سياق الأمر، كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، والمقيد: (ما تناول معينًا أو موصوفًا بوصف زائد على حقيقة جنسه)، فالمعين كالعَلَم والمشار إليه، والموصوف غير المعين فهو مقيد باعتبار ومطلق باعتبار آخر، فقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، أطلق الرقبة المذكورة في الآية من حيث الذكورة والأنوثة، ومن حيث الكبر والصغر، لكنها مقيدة بالإيمان، فلا تجزئ رقبة الكافر.

بند 2: الدليل الشرعي المطلق إذا لم يردْ ما يقيده يجب حملُه على إطلاقه، أما إذا ورد ما يدل على تقييده وجَب حمل المطلق على المقيد، كما لو جاء اللفظ مطلقًا في موضع، ومقيدًا في موضع آخر، فإن الأمر لا يخلو من فروض أربعة، لكل منها حكمه على النحو التالي:
1- أن يتحد الحكم والسبب في الموضعين: ومثاله تقييد الدم المحرم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، بكونه مسفوحًا؛ لقوله تعالى في آية أخرى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]، فلو كان يسيرًا في القدر فليس بمحرم، ولا إشكال في كون المطلق قد ورد بعد المقيد، إذ يحمل عليه ولا يُعَدُّ ناسخًا له.

2- أن يختلف الحكم والسبب: وهنا لا يجوز حمل المطلق على المقيد باتفاق، ومثاله لفظ "الأيدي" جاء مطلقًا في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وجاء مقيدًا في قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، فليس معنى ذلك وجوب قطع يده إلى المرافق؛ إذ لا يجوز حمل المطلق على المقيد للاختلاف بينهما في الحكم والسبب.

3- أن يتحد الحكم ويختلف السبب: فقد اختلف العلماء في حكمها؛ فمن العلماء من قال بعدم حمل المطلق على المقيد وبقاء كل من الحكمين على حاله، وبعضهم أوجب الحمل، لكنهم مختلفون في طريق هذا الحمل هل بطريق اللغة أو بطريق القياس إذا توافرت شروطه؟ والراجح القول الأخير؛ لأن اللغة لا تقتضي ذلك، أما القياس فيمكن بشيء من الاجتهاد، ومثاله اشتراط العدالة في الشهود في موطن إثبات الدين رغم أن آية الدين لم تقيده بذلك كما في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وإنما بحمل المطلق على المقيد باشتراط العدالة في شهود إثبات الطلاق والرجعة كما في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].

4- أن يتحد السبب ويختلف الحكم:
مثاله: قوله تعالى في الوضوء: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وقوله تعالى في التيمُّم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43]، فالحكم في الوضوء غسل الأيدي، والحكم في التيمم مسحها، والسبب في كلاهما واحد وهو الطهارة الحكمية للدخول في الصلاة، فمن ذهب لحمل المطلق على المقيد أوجب في التيمم مسح اليدين إلى المرفقين، والجمهور بخلاف ذلك، وهو الراجح لأن دلالة اللغة لا تقتضي ذلك بإطلاق، أما القياس فلا يسعف في هذا المثال؛ إذ لا يوجد اشتراك بينهما في العلة، فكلٌّ من الغسل والمسح محض تعبد فلا يمكن القياس.

بند 3: والشافعية وإن كانوا أكثر المذاهب عملاً بحمل المطلق على المقيد لتوسُّعهم في القياس، فإنهم يشترطون لصحته: (أن يكون القيد من باب الصفات، دون أن تضيف زيادة في جنس الشيء الوارد مطلقًا، وألا يُعارض بقيد آخر، أو بدليل مانع للتقييد، وأن يكون المطلق قد ورد في باب الأوامر والإثبات، دون سياق النفي والنهي)، وعليه فلا يصح أن يقال: يجب أن يُيَمم الرجلين والرأس إذا أراد التيمم،كذلك فإنه إذا وجد قيد معارض لجأ المجتهد للترجيح، ومثاله: حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب، ورد بلفظ: ((فليغسله سبعًا إحداهن بالتراب))، وورد بلفظ: ((أولاهن))، وبلفظ: ((أخراهن))، وكلها صحيحة السند، فالأولى مطلقة، والثانية والثالثة مقيدتان بقيدين متضادين، فلا يمكن حمل المطلق على المقيد هنا إلا بترجيح، كذلك لا يحمل المطلق على المقيد في سياق النفي والنهي، فلو قال: لا تعتق مكاتبًا، ثم قيد ذلك بكونه كافرًا، لا يجوز الحمل؛ لأنه لو أعتق مكاتبًا مؤمنًا لأخل بعموم اللفظ الأول، والعام لا يخصص بما يدل على ثبوت الحكم لبعض أفراده، وأخيرًا لو وجد مانع شرعي لا يجوز حمل المطلق على المقيد، فلا يُقال بأن عدةَ المتوفى عنها زوجها قبل الدخول أربعةُ أشهر وعشرًا؛ حملاً على المتوفى عنها زوجها؛ لأنَّ المولى سبحانه لم يُوجب عليها عدة أصلاً، فالحكم مختلف في كليهما، وسببه في الأولى الوفاة، وفي الثانية الطلاق قبل الدخول، وعليه فإن حمل المطلق على المقيد في هذا الفرض من باب القياس في مقابلة النص فلا يصح.

الفصل السادس: المنطوق والمفهوم:
المسألة الأولى: تقسيم الدلالات عند الأحناف:
يقسم الأحناف الدلالات إلى أربعة أقسام على التفصيل التالي:
1- دلالة العبارة (عبارة النص): وهي (دلالة اللفظ على المعنى المتبادر فهمه من الصيغة)، مثالها قوله تعالى: {ولَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، فعبارة النص تدل على تحريم متروك التسمية، وهي تقابل دلالة المنطوق عند الجمهور.

2- دلالة الإشارة (إشارة النص): وهي (دلالة اللفظ على معنى غير مقصود بسياق الكلام، ولكنه لازم للمعنى الذي سيق له الكلام)، مثالها قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8]، قالوا: هذه الآية تدل بطريق الإشارة على أن الكفار إذا استولوا على أموال المسلمين يملكونها؛ لأن الله سماهم فقراء مع أن أموالهم تحت أيدي الكفار.
3- دلالة الاقتضاء (اقتضاء النص): وهي (زيادة على المنصوص يلزم تقديرها ليصير المنظوم مفيدًا أو موجبًا للحكم، وبدونها لا يُمكن إعمال المنظوم وتصحيحه)، ومثالها قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فالمحذوف تقديره أكل الميتة. 

4- دلالة النص: وهي (دلالة المنطوق على أن حكمه ثابت للمسكوت لكونه أولى منه)، وهي التي يسميها الجمهور مفهوم الموافقة.
المسألة الثانية: تقسيم الدلالات عند الجمهور:
قسم الجمهور الدلالات إلى: منطوق ومفهوم، فالمنطوق: هو (المعنى المستفاد من صريح اللفظ)، ومثاله: المعنى المستفاد من قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وهو الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والمفهوم هو (المعنى اللازم للفظ ولم يصرح به فيه)، مثل دلالة قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على تحريم الضرب والشتم، ومن العلماء من قسم الدلالات إلى منظوم وغير منظوم، فالمنظوم (كل دلالة يكون الدال فيها دل بالوضع اللغوي)، وتشمل دلالة المطابقة ودلالة التضمن، وغير المنظوم تسمى بدلالة الالتزام، وهي (دلالة اللفظ على معنى خارجي لازم للمنطوق به) وتشمل دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء ودلالة المفهوم:
أولاً: دلالة الاقتضاء أو (الإضمار): وهي (دلالة اللفظ على معنى مسكوت عنه يجب تقديره لصدق الكلام أو لصحته شرعًا أو عقلاً)، وهو على ثلاثة أنواع:
1 - فما يجب تقديره لصدق الكلام، مثل حديث: ((لا وصية لوارث))، فالتقدير: لا وصية صحيحة أو نافذة.
2 - ما يجب تقديره لصحة الكلام شرعًا، مثل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فالتقدير (فأفطر)، وإلا وجب القضاء على المريض أو المسافر حتى لو صاما، والاتفاق لا يقضيان إلا حال فطرهما.
3 - ما يجب تقديره لصحة الكلام عقلاً، مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، فالعقل يقضي بأن القرية لا تسأل فلا بد من تقدير: (أهل القرية).
وقد اختلف العلماءُ في حد التقدير، هل يقدر العموم أم الوقوف عند ما يقتضيه صحة النص فحسب، ففي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، يقتضي تقدير الأكل ويقتضي تقدير الانتفاع، والحق هو الرجوع للعرف لمعرفة ذلك، بحيث يكون التقدير هو (الأكل)، أما سائرُ الانتفاعات فتلحق به بطريق القياس إذا أمكن.

ثانيا: الإشارة: وهي (المعنى اللازم من الكلام الذي لم يسق الكلام لبيانه)، ففي قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] إشارة إلى جواز أن يصبح الصائم جنبًا، فلا يفسد صومُه بطلوع الفجر وهو جنب متى انتهى منه قبل طلوعه.

ثالثا: الإيماء: وهو (فهم التعليل من ترتيب الحكم على الوصف المناسب)، مثاله قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فهذا يدلُّ على أن العلة السَّرقة؛ لأن الله رتَّب الحكم بالفاء على وصْف مناسب، وهو السرقة.

رابعًا: دلالة مفهوم الموافقة: وهو (المعنى الثابت للمسْكوت عنه الموافق لما ثبت للمنطوق؛ لكون المسكوت أَوْلَى بالحكم من المنطوق أو مساويًا له)، ومثال المفهوم الأولى قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فإنه يدل بطريق الأَوْلى على تحريم الضَّرب والشتم، ومثال المفهوم المساوي، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، فإنه يدلُّ على تحريم الأكل بمنطوقه، وعلى تحريم كل ما فيه تفويت لمال اليتيم بمفهوم الموافقة المساوي، فلا يجوز التصدُّق بمال اليتيم ولا إنفاقه في الجهاد ونحوه، ودلالة مفهوم الموافقة ظنيَّة، لذا أوجب الشافعية الكفارة في القتل العمد لوجوبها في قتل الخطأ من باب أولى، والصحيح أن العمد لا كفارة له إلا القود لعظمه.

خامسًا: مفهوم المخالفة (دليل الخطاب): وهو (الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم المذكور في المنطوق عما عداه)، إذ يثبت للمسكوت نقيض الحكم المنطوق به، وأنواعه (الصفة أو التقسيم، الشرط، العدد، الغاية، اللقب):
1- مفهوم الصفة: ويقصد به ما هو أعم من النعت عند النحاة، فيشمل النعت، والحال، والجار والمجرور، والظرف، والتمييز، ومثاله: ((في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة))، فتخصيص السائمة بالذكر يدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها.
والتقسيم مثله، ومثاله: ((الثيب أحق بنفسها، والبكر تستأذن))، دل بمفهومه أن كل قسم يختص بحكمه، ولا يشارك الآخر فيه، فكون الثيب أحق بنفسها دل على أن البكر ليست بأحق من وليِّها، وكون البكر تستأذن دل على أن الثيب لا تستأذن.

2- مفهوم الشرط: ومثاله إجابته - صلى الله عليه وسلم - للسؤال عن غسل المرأة للاحتلام، فقال: ((نعم إذا رأت الماء))، دل بمفهومه إذا لم تر الماء فلا غسل عليها.

3- مفهوم العدد: ومثاله: قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] دال بمنطوقه على الثمانين، وبمفهومه على عدم إجزاء ما نقص عنها، وعلى المنْع من الزيادة.

4- مفهوم الغاية: ومثاله حديث: ((لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول))، دل بمفهومه على وجوب الزكاه عند تمام الحول.

5- مفهوم اللقب: ومثاله حديث: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل)) دل بمفهومه على أن ما ليس لقبه ذهبًا يجوز بيعه مع التفاضل.

المسألة الثالثة: حجية مفهوم المخالفة:
بند 1: مفهوم المخالفة حجة عند الجمهور فيما عدا مفهوم اللقب، مع اختلافهم في قوة كل نوع من أنواعه، واستدلوا على ذلك بأدلة منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستنبط من خطاب المولى له ما يدل على مفهوم المخالفة، وذلك حينما نزل قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، قال: ((لأزيدن على السبعين))، لكنه نهي عن الاستغفار للمنافقين بعد ذلك مطلقًا، وكون أن مفهوم اللقب ليس بحجة على الصحيح عند الجمهور لأنه لو كان حجة لكان الثناء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بالرسالة قدحًا في بقية الرسل وإنكارًا لرسالتهم، ولأن الاسم لا يشعر بالتعليل، فلا يدل على نفي الحكم عن غيره.

بند 2: وذهب أكثر الحنفية إلى عدم حجية مفهوم المخالفة مطلقًا، واستدلوا بأدلة؛ أهمها: أن القرآن والسنة مليئان بالنصوص التي فيها تعليق الحكم على وصف أو عدد أو غاية، ولا يكون نفي الحكم عما سوى المذكور مرادًا باتفاق الصحابة، من ذلك: قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، ولا خلاف في تحريم الربيبة وإن لم تكن في الحجر، وقد أجيبَ عليهم بأن هذه المواضع لَم يتحقق فيها شرط العمل بمفهوم المخالفة وهو ألا يظهر لتخصيص المذكور بالذكر فائدة سوى اختصاصه بالحكم عمَّا لم يشاركه في الصفة المذكورة، وتفصيل هذا الشرط كالتالي:
1 - ألا يكون تخصيص المذكور بالذكر جرى مجرى الغالب، ومثاله: قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، فوصف الربائب بكونهن في الحجور جرى مجرى الغالب؛ وهو أن تكونَ بنت الزوجة معها عند زوجها الثاني. 
2 - ألا يكون حكم المذكور جاء بيانًا لحكم واقعة أو إجابة لسؤال، فقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، فإنه لا يدل على جواز أكْل الربا إذا كان قليلاً؛ لأن الآية بيان لحكم واقعة انتشار الرِّبا بصورة فاحشة. 
3 - ألا يكون المذكور في اللفظ قد سبق ذكره حتى يكون معهودًا، فإن كان معهودًا فلا يدل ذكره على قصر الحكم عما عداه، وهو أعم من الذي قبله. 
4 - ألا يكون المسكوت عنه أَوْلَى بالحكم من المذكور، فإن كان كذلك فإنه يكون من مفهوم الموافقة ويثبت للمسكوت حكم المنطوق من باب أولى، ومثله قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، فلا يفهم منه جواز قتلهم من دون خشية الفقر؛ لأنه إذا حرم قتلهم مع خوف الفقر والعجز عن نفقاتهم فتحريم قتلهم مع القدرة على نفقاتهم أولى بالتحريم.

بند 3: وقد ظهر أثر هذا الخلاف في مسائل؛ منها: نكاح الأمة لمن لم يجد مهر الحرة، فالجمهور قالوا بأن المستطيع لمهر الحرة ليس له أن ينكح الأمة، والحنفية بخلافهم.

المبحث السابع: دلالة اللفظ من حيث الظهور والخفاء:
تقسيم الجمهور للفظ من حيث الظهور والخفاء إلى (نص، ظاهر، مجمل):
أولاً: النص: وهو: الكشف والظهور، وفي الاصطلاح: (ما دل على معناه دلالة لا تحتمل التأويل)، مثل دلالة قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] على مقدار الجلد، وعليه فالاحتمال الذي لا دليل عليه لا ينقض قوة دلالة النص.

ثانيًا: الظاهر: وهو الواضح؛ أي: خلاف الباطن، وفي الاصطلاح: (ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر)، ومثاله: دلالة الأمر على الوجوب مع احتمال الندب، وقد يعرفون الظاهر بما كانتْ دلالته على المعنى ظنية لا قطعية تفريقًا بينه وبين النص.

ثالثا: المؤول: اسم مفعول من التأويل بمعنى الرجوع، وفي الاصطلاح: (هو اللفظ المحمول على الاحتمال المرجوح بدليل)، والتأويل الصحيح مثل تخصيص قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] بالأحاديث الدالة على تحريم بيع الغرر، أما التأويل الفاسد، فهو (حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل ضعيف لا يقوى على صرف اللفظ عن ظاهره)، ومثال التأويلات الباطلة: تأويل الحنفية لحديث: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل))، بأن المراد بها الأمة أو الصغيرة أو المكاتبة، وهو احتمال بعيد، وعلى ذلك يشترط لصحة التأويل أن يكون المعنى المراد صرف اللفظ إليه محتملاً في اللغة أو عرف الشرع، وأن يدل السياق عليه أو دليل آخر لا يمكن الجمع بينه وبين هذا الدليل إلا بتأويل أحدهما، فسياق قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، قد دل على تأويل لفظ (الناس) الوارد أولاً بأنهم فئة قليلة، لأنها الفئة المجموع لها، ولفظ الناس الوارد ثانيًا دلَّ على أنهم الكثرة التي قد تجمعت عليهم.

رابعًا: المجمل: وهو المبهم، وفي الاصطلاح: "ما دل على أحد معنيين لا مزية لأحدهما عن الآخر بالنسبة إليه"، وعليه يخرج النص من التعريف لأنه يدل على معنى واحد، كما يخرج الظاهر لأنه يدل على معنيين أحدهما أرجح من الآخر، أما ذكر (بالنسبة إليه) فيقصد به النظر إلى اللفظ المجمل وحده، إذ ليس في نصوص الشريعة أي إجمال بالنظر إليها جميعًا بمجموعها بالنسبة للأحكام التكليفية، كما في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، حيث بينت السنةُ المقصود بهذا الحق وهو الزكاة وبينت مقاديرها وشروطها وأسبابها، وللإجمال أسباب كثيرة منها ما يلي:
1- الاشتراك اللفظي: فلفظ قرء يحتمل الطهر ويحتمل الحيض، ولا يوجد في سياق قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ما يرجح أحدهما صراحة، وعليه فهناك ثمة فارق بين اللفظ المجمل والمشترك، فاللفظ المجمل قد يكون إجماله نسبيًّا يختلف من مجتهدٍ لآخر، بحسب ما يصل إليه اجتهاد كل منهما، أما اللفظ المشترك فإنه يكون كذلك بحسب وضعه اللغوي، وعند استعماله في أحد معانيه لا يكون مجملاً، كما أن الاشتراك باقٍ في اللغة لا يدعي أحدٌ انتهاءَه، أما الإجمال فقد فُصلت الأدلة الشرعية فلم يوجد دليل منها لم يتضح بيانه.

2- اشتهار المجاز وكثرة استعماله: مثل لفظ (تنكح) الوارد في قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه} [البقرة: 230]، يحتمل الاكتفاء بالعقد أو لزوم الوطء، وقد بينت السنة أن المقصود لزوم الوطء: ((حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)).

3 - الإطلاق أو التعميم في موضع لا يمكن العمل فيه بالمعنى الظاهر من اللفظ لافتقاره إلى التحديد: ومثاله قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فالحق مطلق غير محدد ولا معروف المقدار، وكذلك الأمر بالصلاة.

خامسًا: المتشابه: وهو المجمل الذي ظل على إجماله فإنه لا يتعلق به تكليف مثل الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد سماه بعض العلماء بالمتشابه، وهو (ما استأثر الله بعلمه أو علمه الراسخون في العلم دون غيرهم)، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7].

ثانيا: تقسيم الحنفية دلالة اللفظ من حيث الوضوح:
قسم علماء الحنفية اللفظ الواضح الدلالة إلى أربعة أقسام، رتبوها من الأدنى وضوحًا إلى الأعلى على النحو التالي (الظاهر، النص، المفسر، المحكم)، كما يلي:
أولا: الظاهر: وهو: (المعنى المتبادر للذهن ولم يسق اللفظ من أجله، ويقبل التأويل والتخصيص والنسخ)، ويستوى في ذلك أن يكون التأويل سائغًا أم فاسدًا، ومثال ما لم يسق اللفظ له: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فالآية ظاهرة في إباحة البيع الخالي من الربا، وتحريم الربا، رغم أن اللفظ لم يسق لأجل ذلك وإنما جاء ردًّا على من قال: إنما البيع مثل الربا، لنفي المماثلة بينهما.

ثانيا: النص: هو (المعنى المتبادر للذهن وسيق اللفظ من أجله ولا يقبل التأويل وإنما يقبل التخصيص والنسخ)، مثال ما لا يقبل التأويل قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فالآية نص في جواز نكاح الأربع فما دون.

ثالثا: المفسر: هو (المعنى المتبادر للذهن وسيق اللفظ من أجله ولا يقبل التخصيص ولا التأويل وإنما يقبل النسخ)، ومثال ما لا يقبل التخصيص: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]، فهذا مفسر لكونه أكد فيه العموم على وجه يمنع التأويل والتخصيص.

رابعًا: المحكم: وهو ما ازداد قوة وأُحكِم المراد به عن احتمال النسخ والتبديل، ومثاله: قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، ونحوها.

ثالثًا: تقس
يم الحنفية دلالة اللفظ من حيث الخفاء:
قسم الحنفية اللفظ من حيث الخفاء إلى أربعة أقسام، رتبوها من الأقل خفاء إلى الأكثر على النحو التالي: (الخفي، المشكل، المجمل، المتشابه)، تفصيل ذلك كما يلي:
أولاً: الخفي: وهو: اسم لما اشتبه معناه وخفي المراد منه بعارض في الصيغة يمنع نيل المراد بها إلا بالطلب، ومثاله: دلالة لفظ السارق الوارد في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، على النباش الذي يسرق أكفان الموتى، هل يجب عليه القطع أو لا؟ إذ يحتاج لبعض الاجتهاد لبيان ذلك.

ثانيًا: المشكل: فهو يحتاج لمزيد من التأمل لمعرفة المراد منه لأنه لا يعرف إلا بدليل يتميز به من بين سائر الأشكال، مثاله قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، فيحتمل أنه يدلُّ على إتيان المرأة في دُبُرها، ودلالته على المنع من ذلك دلالة خفية تتبين بالنظر إلى فائدة الحرث وهو الإنتاج، ومعلوم أن الوطء في الدبر لا ينتج الولد فيكون غير داخل في مقصود الشارع بالآية.

ثالثًا: المجمل: وهو لا يكفي فيه مجرد التأمل لمعرفة المراد منه، إذ لا بد وأن يأتي دليل من الشارع على المراد منه، ومثاله: قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فالربا في اللغة الزيادة، وليس ذلك هو المقصود لأن البيع شرع للاسترباح، لذا جاء الشارع ببيان المقصود بالرِّبا وتقسيمه إلى ربا النسيئة وربا الفضل.

رابعًا: المتشابه: وهو اسم لما انقطع رجاء معرفة المراد منه لمن اشتبه فيه ومثاله كيفيات صفات الله - جل وعلا - فإنها من المتشابه مع أن أصل الصفات معلومة، وإنما التشابه في كيفياتها، وحكمه اعتقاد أنه حق والإيمان به على مراد الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والجمهور يطلقون على الثلاثة أنواع السابقة لفظ (المجمل)، أما الأحناف فإنهم قد فصلوا القول في درجة الإجمال على التفصيل السابق ذكره.

رابعًا: تفصيل القول في البيان:
بند 1: البيان في اللغة: الإيضاح والكشف، وفي الاصطلاح: (الدليل الذي أوضح المقصود بالمجمل)، وهو المبيِّن، وحكمه أنه واجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، ويحصل بالقول، وقد حصل غالب البيان للشريعة بهذا الطريق، ويحصل بالفعل كما في حديث: ((خذوا عني مناسككم))، وقوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، كما استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتابة لتبليغ الرسالة لأهل اليمن وغيرهم من المدن البعيدة، وقد يكون بالإشارة مثل إشارته بيده لكعب بن مالك أن ضع الشطر من دَينك، وقد يكون بالتنبيه والإيماء، مثاله قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أينقص الرطب إذا جف؟))، قد يكون بالترك كتركه الوضوء مما مست النار مع أنه كان يتوضأ مما مسته النار، وقد توسع بعضهم في الاستدلال بالترك، وظن أن كل ترك يمكن أن يكون بيانًا، وليس كذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يترك فعل الشيء لعدم وجود الداعي له، كما ترك جمع القرآن في مصحف واحد، ولما ظهر الداعي أجمع الصحابة على جمعه.

بند 2: وقد اتَّفق العلماء على قاعدة مؤداها: (عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة)، وخرَّجوا عليها قواعد كثيرة أهمها حجية السنة التقريرية، فلا يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - تأخير بيان الحق عن الحاجة، ومن تلك القواعد المخرجة كذلك قاعدة: (ترك الاستفصال في مقام الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال)؛ أي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سئل عن مسألة تحتمل أكثر من وجه فأفتى فيها من غير استفصال من السائل دل ذلك على أن حكم جميع الأوجه واحد.

بند 3: وقد أثير خلاف بشأن تأخير البيان من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، فمَن قال بجوازه بإطلاق استدل بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19]، ذلك أن الله عطف البيان على الأمر بالاتِّباع بحرف (ثم) التي تفيد الترتيب مع التراخي، ومن ارتأى المنع مطلقًا استدل بأن تأخير البيان عن الخطاب المحتاج إلى بيان فيه تجهيل للمكلف، وإيقاع له في اعتقاد ما لم يرده الله - جل وعلا - وهذا قبيح فيمتنع على الحكيم العليم، والرأي الثالث جواز تأخير بيان المجمل دون غيره، وقد استدلَّ بأن المجمل ليس له ظاهر يمكن العمل به، فلا يلزم من تأخير بيانه إيقاع المكلف في الخطأ، أما العام الذي أريد به الخصوص والمطلق الذي أريد به المقيد، لو أخر بيانه لأدى ذلك إلى اعتقاد ما ليس مرادًا لله تعالى، وقد أجيب على الرأيين الأخيرين بأن دلالة العام على عمومه والمطلق على مطلقه ظنية، فاحتمال التخصيص والتقييد والبيان قائم غير ممتنع، وعلى ذلك فلا يمتنع تأخير البيان عن وقت الخطاب، وإنما الممتنع باتِّفاق تأخير البيان لوقت الحاجة؛ أي: الذي يحتاج فيه المكلف لبيان حتى يتمَكَّن من الامتثال.

بند 4: وقد بدا أثرُ الخلاف بشأن جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب على كثير من مسائل الفروع الفقهية، وأهمها الخاص المتأخر عن العام هل يعد مخصصًا أو ناسخًا لما يقابله من أفراد العام؟ فالحنفية اعتبروه ناسخًا لعدم جواز تأخُّر البيان المخصص عن العام زمنًا، والجمهور أجازوا تأخير البيان إلى وقت الحاجة؛ لذا أجازوا التخصيص به ما لم يعمل بالعام على عمومه، فإن عمل به على ذلك عد المتأخر ناسخًا.

الباب الرابع: التعارض وطرق دفعه:
يحتاج الفقيه المعاصر معرفة هذا الباب ليتمكَّن من الترجيح في المسائل التي نالتْ حظَّها الوافر من البحث والاستدلال، والتعارض بمعنى التقابل، وفي الاصطلاح (تقابُل الدليلين على سبيل الممانعة)، ويشترط لوقوعه عدة شروط تتمثل في التساوي في الثبوت والقوة، واتحاد الوقت والمحل والجهة، واختلاف الحكم في المسألتَيْن، وعليه فلا تعارُض بين الكتاب وخبر الواحد، ولا بين نَص وظاهر، ولا بين متقَدِّم ومتأخِّر، فإذا حصل التعارض بهذا المعنى - وهو ممتنع في الحقيقة - انسد باب الجمع والنسخ والترجيح بين الأدلة، وهو ما يؤول إلى التعادل؛ أي: المساواة.

ويقصد به في الاصطلاح (تساوي الدليلين من كلّ وجهٍ، بحيثُ لا يبقى لأحدهما مزيةٌ على الآخَر)، بيد أن المجتهد يستطيع أن يزيلَ هذا التعارض بشيء من النظر والتأمل إذ هو تعارض ظاهري وليس بحقيقي، وهو قول الجمهور، فليس للتعارُض بهذا المعنى مثال، وقد اختلف العلماء بشأن موقف المجتهد إزاءه؛ فمنهم من رجح له أن يختار الأشد، ومنهم من رجح له اختيار الأخف، وخياره في ذلك واسع كما له أن يقلدَ غيره متى استعصى عليه الاجتهاد، لكن إذا استفتي عليه أن يدلَّ على غيره من المجتهدين؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وإذا تمكَّن من دفعه فعليه أن يبدأ بالجمع بين الأدلة ثم النظر في التأريخ لمعرفة المتقدم من المتأخر ثم الترجيح، وبعض العلماء قدم البحث في التأريخ على الجمع، تفصيل ذلك على النحو التالي:
الفصل الأول: دفع التعارض بطريق الجمع بين الأدلة:
ويقصد به إظهارُ عدمِ التضاد بين الدليلين المتضادَّين في الظاهر بتأويل كلٍّ منهما أو بتأويل أحدِهما؛ أي: صرف اللفظ عن ظاهره لدليل في كليهما أو أحدهما،كحمل العامِّ على الخاصِّ، والمطلَقِ على المقيَّدِ.
ومثاله: الجمع بين حديث: ((فيما سقت السماءُ العشرُ))، وحديث: ((ليس فيما دون خمسة أوسُقٍ صدقةٌ))، وذلك بحمل الأول على ما بلغ خمسةَ أوسُق، بحيثُ يكونُ معناه: فيما سقت السماءُ العشرُ إذا بلغ خمسةَ أوسق مما يُكال ويدخرُ.

الفصل الثاني: دفع التعارض بطريق معرفة النسخ:
والنسخ بمعنى الإزالة، وفي الاصطلاح: (رفعُ الحكمِ الثابتِ بخطابٍ متقدِّمٍ بخطابٍ متأخِّرٍ عنه)، ويقصد بالثابت؛ أي: بالدليل الشرعي - الكتاب والسنة - لا بمقتضى البراءة الأصلية، وقد دلَّت الأدلة على اعتباره كقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، ومثاله قول عائشة - رضي الله عنها -: كان فيما أُنزلَ من القرآن عشرُ رضعاتٍ معلوماتٍ يُحرِّمْن، فنُسخن بخمس رَضعَاتٍ.

ويُشتَرَطُ في الناسخ أن يكون نصًّا من قرآنٍ أو سنّةٍ، فلا يصحُّ النسخُ بالقياس ولا بالإجماع، وأن يكونَ متأخِّرًا عن المنسوخ، وفي قوَّة المنسوخ أو أقوى منه، فالقرآن لا يُنسخُ إلا بقرآنٍ مثلِه لقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وأجاب البعض بأن الخيرية للمكلفين، ومن ثَم أجازوا نسخ القرآن بالسنة المتواترة واستدلوا بنسخ آية الوصية للوالدين، بحديث: ((لا وصية لوارث))، والصحيح أنها منسوخة بآيات المواريث، ولا إشكال في أن تخصص السنة عام القرآن أو تزيد مما هو محصور فيه كزيادة كل ذي ناب من السباع على آية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145].

ولا يُمكن للقياس أن يكون ناسخًا للكتاب والسنة؛ إذْ لا قياس مع النصّ، أما القياسُ على الأصلِ الذي نُسخ حكمه فقد منعه الأكثرُ، ونُقل عن أبي حنيفةَ جوازُه؛ لأنه قاسَ صيامَ الفرض بنيّةٍ من النهار على صيام عاشوراء الذي كان واجبًا ونسخ.

ولا يقع النسخ بمفهوم المخالفة؛ وأما نسخ مفهوم المخالفة مع بقاء المنطوق فجائز، ومثاله حديث: ((الماء من الماء)) دل بمفهوم مخالفته على عدم وجوب الغسل بعد الجماع دون إنزال، نسخ بحديث: ((إذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغُسل)).
ويُعرف النسخُ بعدّة طرقٍ: أهمها النص عليه كما في حديث: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها))، أو تأخُّر أحدِ النصين المتعارِضَين عن الآخر أو باتفاق الصحابة كما في حديث ((الماء من الماء))، أو تركهم للعمل به من غير نص على النسخ، كتركهم العمل بحديث أخذِ الشطْر من مال مانع الزكاة.

الفصل الثالث: دفع التعارض بطريق الترجيح بين الأدلة:
يعني الترجيح اصطلاحًا: (تقويةُ إحدى الأَمارتين أو الدليلين على الأخرى أو الآخر)، ويشترط للجوء إليه تعذر الجمع بين الدليلين أو معرفة الناسخ من المنسوخ منهما، إذ يلجأ المجتهد للترجيح باعتباره يتبع الأحسن لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55]، وأوجه الترجيح بين الأدلة النقلية ثلاثة هي:
أولاً: أهم طرق الترجيح من جهة السند:
1- كثرةُ الرُّواة: فيُرجَّحُ الخبرُ الذي رُواتُه أكثرُ على الخبر الذي رُواته أقلُّ، ومثاله: رواية رفع اليدين عند الركوع، تُرَجح على رواية البراء بن عازب التي تدل على أن الرفع كان عند تكبيرة الإحرام ثم لا يعود؛ لأن الخبرَ الأولَ أكثر رواة، والأحناف لا يعتبرون هذا الطريق، والغزالي يعتبر ظن المجتهد، فما غلب على ظنِّه أخذ به.

2 - فقه الراوي: فتُقدَّمُ روايةُ الفقيه - سواء أكانت باللّفظ أو بالمعنى - على غيره مطلقًا، وتُقدَّمُ روايةُ الأفقه على رواية الأقلِّ فقهًا، مثاله: تقديمُ رواية عمر وابنه وابن مسعود وابن عباس على رواية معقِل بن سنان، ونحوه.

3 - كونُ أحدِ الراويين صاحب الواقعة أو له صلةٌ قويَّةٌ بما رواه: ومثاله تقديم خبر عائشة - رضي الله عنها - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُصبِح جنبًا من غير احتلامٍ، ويصوم، على خبر أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((مَن أصبحَ جنبًا فلا صومَ له)).

4 - كونُ أحدِ الراويين ممن تأخَّر إسلامُه: ومثّلوه بتقديم رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - في نقض الوضوء بمسِّ الذكر على رواية طلْق - رضي الله عنه - في عدم نقضه؛ لأن به يستدل على الناسخ.

5 - قوَّةُ الحفظ والضبطِ: ويُعرفُ هذا بالتجربة والتتبُّعِ لمرويَّاته وسيرته، ومثاله تقديم رواية عبيدالله بن عمر بن عبدالعزيز على رواية أخيه عبدالله لتلك العلة. 

6 - يُقدَّمُ المسنَدُ على المرسَلِ؛ للخلاف في حجّية المرسَل: إذ قال بعضهم: (الثقة لا يُرسلُ إلاّ عن ثقات)؛ لما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: "إذا قلتُ لكم: قال ابن مسعود، فقد سمعته من كثيرٍ من أصحابه".

ثانيًا: أهم طرق الترجيح من جهة المتْن:
1- ترجيحُ الخاصِّ على العامِّ، والأخصُّ من العامَّين على الأعم منهما: ومثاله تقديم حديثُ: ((مَن قَتل قتيلاً فله سلَبُه)) على عموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، وقد خالف الحنفية في ذلك فقالوا: إن السلَبَ يُخمَّسُ كسائر الغنيمة، ولا يرون تخصيص الآية بالحديث المذكور. 

2 - ترجيح العامِّ المحفوظ على العامِّ المخصوص: لأن التخصيصَ يُضعفُ دلالةَ العامِّ، ومثاله: تقديمُ حديث: ((إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلا يجلس حتّى يُصلِّيَ ركعتين)) على حديث النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة؛ لأن الحديث الثاني مخصوصٌ بحديث: ((مَن نام عن صلاةٍ أو نسيَها، فلْيُصلِّها إذا ذكرها))، والأول لا يُعرفُ له مخصِّصٌ، فيُقدَّمُ.

3 - ترجيحُ ما قلَّت مخصصاتُه على ما كثرت مخصِّصاتُه: مثالُه: تقديمُ آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] على آية: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] في الدلالة على حِلّ ما تركوا التسميةَ عليه من ذبائحهم؛ لأن الآيةَ الأولى مخصِّصاتُها أقلُّ.

4 - ترجيحُ العامِّ المطلَق على العامِّ الوارد على سببٍ في غير صورة السبب:
ومثاله: تقديمُ حديث: ((مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوه)) على حديث: النهي عن قتل النساء والصِبيان؛ فإنه واردٌ على سببٍ، وهو الحربُ.

5 - ترجيحُ الخبر الدالّ على المراد من وجهين على الخبر الدالّ عليه من جهةٍ واحدةٍ: مثل: تقديم حديث: ((إنما الشفعةُ فيما لم يُقسم، فإذا وقعت الحدودُ وصُرِّفت الطرقُ فلا شُفعةَ)) على حديث: ((الجارُ أحقُّ بصَقَبِه)).

6 - ترجيحُ ما فيه إيماءٌ إلى العلة على ما ليس كذلك؛ مثل حديث: ((مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوه))، على حديث النهي عن قتل النساء؛ فإن الأولَ فيه تنبيهٌ على العلّة، وهي الردّةُ، والثاني مطلَقٌ عن التعليل.

7 - ترجيحُ ما سِيقَ لبيان الحكم على الدالّ على الحكم بلفظه من غير أنْ يُساقَ لبيانه؛ مثل: ترجيحُ الحنفية أحاديثَ النهي عن بيع الملامسة والمنابذة على عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]؛ فإن الآيةَ لم تُسقْ لبيان حكم البيع بجميع صوره، وإنما سيقتْ لبيان الفرق بين البيع والربا، وأما الأحاديث فقد سيقتْ لتحريم تلك البيوع بأعيانها.

8 - ترجيحُ الناقل عن حكم الأصل على الموافق لحكم الأصل؛ ومثاله ترجيحُ أحاديثِ تحريمِ الحُمُرِ الأهليةِ على الأحاديث التي فيها إباحتُها؛ لأن التحريمَ ناقلٌ عن حكم الأصل، وهو البراءةُ الأصليةُ.

9 - ترجيحُ ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة؛ لأنه أحوطُ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَريبُك))، كما في المثال السابق ذكره.

10- ترجيحُ المثبِت على النافي ما لم يذكر النافي سببًا واضحًا للنفي؛ لأن مع المثبت زيادةَ علمٍ خفيت على النافي، ومثاله: ترجيحُ حديث بلالٍ - رضي الله عنه - في صلاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - داخلَ الكعبة على حديث أسامة - رضي الله عنه - أنه لم يُصلِّ.

11- ترجيحُ النصِّ على الظاهر، والحقيقةِ على المجاز: 
مثاله: ترجيحُ الجمهور الخاصّ على العامِّ؛ لكون العامِّ ظاهرًا والخاصِّ نصًّا.

12- ترجيحُ المنطوقِ على المفهومِ المخالِفِ؛ مثل: ترجيح منطوق حديث: ((الماءُ طهورٌ لا يُنجِّسْه شيءٌ)) على مفهوم حديث القُلَّتين الذي سبقت الإشارة إليه.

ثالثًا: أهم طرق الترجيح لأمر خارجي:
1 - اعتضادُ أحدِ الخبرين بموافقة ظاهر القرآن؛ ومثاله ترجيحُ خبر التغليس بالفجر على الإسفار؛ لِمُوافقته ظاهر آية: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]. 
2 - ترجيحُ القول على الفعل المجرَّد: لأن الفعلَ إذا لم يصحبْه أمرٌ احتمل الخصوصيةَ للرسول - صلى الله عليه وسلم - بخلاف القول، ومثاله: ترجيحُ حديث النهي عن استقبالِ القبلةٍ واستدبارِها عند قضاء الحاجة على حديثِ ابن عمرَ: رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجتَه مستقبلاً بيتَ المقدِس، مستدبرًا الكعبة. 
3 - ترجيحُ ما كان عليه عملُ أكثر السلف على ما ليس كذلك؛ لأن احتمالَ إصابة الأكثر أغلبُ، ومثاله: ترجيحُ حديثِ تكبيرات العيد، وأنها سبعٌ في الأولى وستٌّ في الثانية، على رواية مَن روى أنها خمسٌ في الأولى وأربعٌ في الثانية. 
4 - موافقةُ أحدِ الخبرين للقياس، فيُقدَّمُ على ما خالف القياسَ؛ ومثاله: ترجيح حديث: ((إنما هو بَضعة منك)) على حديث: ((من مس ذكره فليتوضأ))؛ لأن الأول موافق للقياس دون الثاني. 
5 - ترجيحُ الخبر المقترن بتفسير راويه له بقولٍ أو فعلٍ، دون الآخَر؛ لكون الظنِّ بصحَّته أوثقَ، ومثاله تفسير ابن عمر - رضي الله عنهما - ((خيار المجلس)) بالتفرُّق بالأبدان.

رابعًا: أهم طرق الترجيح بين محامل اللّفظ الواحد:
1 - تقديمُ الحقيقة على المجاز: أما إذا كانت الحقيقةُ مهجورةً، فإن المجازَ يُصبحُ حقيقةً عرفيةً، فتُقدَّمُ على الحقيقة اللُّغوية المهجورة. 
2 - ترجيحُ الحقيقةِ الشرعية على الحقيقة اللُّغوية: فالصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، أما حقيقتها الشرعية فيقصد بها القيام والركوع والسجود والتشهد والتسليم.
3 - تقديمُ الحمل على المجاز على الحمل على الاشتراك؛ لأن المجازَ يُمكنُ العملُ به، بخلاف المشترَك فيجبُ التوقُّفُ فيه على البيان، ومثاله تفسير لفظ النكاح الوارد في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] بالعقد دون الوطء؛ لأن حمله على العقد مجاز، وحمله على الوطء كالزنا مشترك بينه والعقد، والمجاز أولى.
4 - تقديمُ المعنى الذي لا يحتاج إلى إضمارٍ على المعنى الذي يحتاج إلى إضمارٍ: ومثاله: حمل حديث: ((ذكاةُ الجنين ذكاةُ أمه)) على أن ذكاةَ أمه تكفي عن ذكاته، والحنفية قالوا: لا بدَّ أنْ نُضمر (مثل)؛ لتكون ذكاته مثل ذكاة أمه، وترك الإضمار أولى.
5 - تقديمُ التأسيس على التأكيد: ويقصد بالتأسيس: حملُ الزيادة في اللّفظ على زيادة المعنى، ويراد من التأكيدِ: حملُ الزيادة على تأكيد المعنى السابق، ومثاله: إذا قال الرجلُ لزوجته: أنتِ طالقٌ طالقٌ، إذا حُمِل على التأكيد فلا تقعُ إلاَّ واحدة، وإذا حُمِل على التأسيس تقعُ طلقتان، وذلك عند من لا يعتبر النية.

خامسًا: أهم طرُق الترجيح بين المعقولين (الأقيسة):
1- تقديمُ القياس في معنى الأصل على قياس العلَّة وقياس الشَّبَه:
مثل: تقديم قياس العبد على الأمة في تنصيف الحدّ، على قياسه على الحر الذكر بجامع الذُّكورة؛ لأن القياسَ الأولَ قياسٌ في معنى الأصل؛ لعدم الفارق المؤثِّر بين العبد والأمة.

2- تقديمُ قياس العلة على قياس الشَّبَه وقياس الطَّرْد:
مثل: تقديم قياس (البيرة) المُسكِرة على الخمر بعلّة الإسكار على قياسها على عصير التفاح؛ للتشابُه بينهما في الصورة والشكل.

3- تقديم القياس الذي علّتُه مطَّرِدةٌ منعكِسةٌ على القياس الذي علّتُه ليست كذلك:
مثاله: تقديمُ تعليل الشافعيّ الربا في الأصناف الأربعة في الخبر (البرّ، والتمر، والشعير، والملح) بالطّعم، على تعليل مَن علّله بالكيل كالحنفية، وأحمد في روايةٍ؛ لأن تعليلَ الشافعيّ يشملُ القليلَ والكثيرَ، والتعليلُ بالكيل لا يَشملُ الشيء اليسير الذي لا يُكال.

4- تقديم القياس الذي علَّتُه منصوصة أو مومأ إليها على التي ليست كذلك.
مثاله: تقديمُ قياس الشافعية التين على البرّ في تحريم التفاضُل بجامع الطُّعم على قياس غيرهم التين على القَصَب بجامع عدم الكيل، فعلّة الطَّعم منصوصٌ عليها أو مومأ إليها في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبيعوا الطعامَ بالطعام إلاّ مثلاً بمثلٍ)).

5- تقديم القياس الذي علّتُه مُثبتةٌ على الذي علَّتُه نافية:
ويصلُح المثالُ السابقُ له؛ لأن علّةَ الطُّعم مُثبِتةٌ، وعلّةَ عدمِ الكيل نافية.

6- تقديم القياس الذي ثبت حكمُ أصله بالنصّ على الذي ثبت حكم أصله بالظاهر: مثاله: تقديمُ قياس المذي على البول في النجاسة على قياس المذي على المنيّ؛ لأن نجاسةَ البول ثبتتْ بالنصّ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((تنزَّهوا من البول))، وأما المنيُّ فطهارتُه ثابتةٌ بالظاهر؛ حيث كانت عائشةُ - رضيَ الله عنها - تحُتُّه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يابسًا، وتغسله إذا كان رطبًا.

7- تقديم القياس الموافق للأصول الثابتة في الشرع على ما ليس له إلاّ أصلٌ واحدٌ: 
مثاله: ترجيحُ قياس الجنايةٍ على العبد على سائر الإتلافات التي تحدث من الإنسان على قياسها على دية الخطأ في كون ديته على العاقلة؛ لأن جعْلَ ديةِ الخطأ على العاقلة أصلٌ واحدٌ لا نظيرَ له في الشرع، وجعْلُ الإتلافات المالية على الفاعل تشهدُ له أصولٌ كثيرةٌ في الشرع، فكان القياسُ عليها أولى.

8- تقديم القياس الموافق لظاهر قرآن أو سنةٍ أو قول صحابيٍّ على ما ليس كذلك:
مثل: ترجيح قياس جراح العبد على الإتلافات المالية المذكورة في المثال السابق على قياسه على دية الخطأ؛ لكون الأول متأيِّدًا بظاهر قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

الباب الخامس: الاجتهاد:
المسألة الأولى: تعريف الاجتهاد وأركانه:
الاجتهاد في اللغة: بذل الجهد، والجهد هو الوسع والطاقة، وفي الاصطلاح: (بذل الوُسع في إدراك حكمٍ شرعيٍّ بطريق الاستنباط ممن هو أهلٌ له)، فليس حفظ متون الفقه أو النصوص الشرعية من قبيل الاجتهاد الاصطلاحي.
وأركانه ثلاثة: المجتهد، المجتهد فيه؛ (أي: الواقعة المطلوب حكمها بالنظر والاستنباط لعدم ظهور حكمها في النصوص أو لتعارض الأدلة فيها في الظاهر)، والنظر وبذل الجهد من المجتهد.

المسألة الثانية: تاريخ الاجتهاد منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى كبار الأئمة، وفي ذلك ثلاث مسائل:
أولاً: مسألةُ الاجتهاد من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -:
فالجمهور على أنه قد اجتهد في بعض المسائل التي لَم يأته وحيٌ فيها، كما قد يتوقّفُ إلى نزول الوحي، وقد يخطئ وقد يصيب، لكن اللهَ يُصوِّبُه حالاً ويُبيِّنُ له الحقَّ، دليل ذلك عتاب الله له في أكثر من موضع من القرآن، كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، وفي ذلك دليل على بشريته وصدقه وأمانته، أما قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، فإن المنفيَّ النطق عن هوى، وإنما كان اجتهاده في إطار مقاصد الشريعة، وأما قولُه: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] فيرجع إلى القرآن.

الثانية: مسألة اجتهاد الصحابة في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -:
فقد ثبت أن الصحابة اجتهدوا في غيابهم عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو في حضوره بإذنه وقد يصوب اجتهادهم أو يجيزه، كاجتهاد عمار - رضي الله عنه - في التيمم للجنابة، وكاجتهاد سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في الحكم على بني قريظة، وما كان لصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهدوا في حضرته إلا بإذنه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، وأن ما صدر من قولهم في حضرته لم يكن اجتهادًا، وإنما هو أخذ بالنص كرفض أبي بكر منح سلب القتيل الذي قتله أبو قتادة دون بينة، ويستفاد من ذلك جواز الرجوع للظن مع إمكان اليقين، فيجوز الوضوء من الماء الذي يغلب على الظن طهارته مع كون شاطئ البحر قريب منه.

ثالثًا: الاجتهادُ في عصر الصحابة والتابعين وكبار الأئمة:
أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته على الاجتهاد في غيابه كما في قصة اجتهادهم في قوله: ((لا يُصلّينَّ أحدٌ العصرَ إلاّ في بني قُريظة))، وبعد وفاته اشتهر عنهم الاجتهاد في مسائل كثيرة، ولم يكونوا جميعًا على رأي واحد كمخالفة ابن عباس أكثر الصحابة في العمل بالعول في الفرائض قياسًا على ضيق التركة عن سداد الدين وتوزيعها على الغرماء، وقد نهج التابعون نهجهم فتأثر أهل العراق باجتهاد ابن مسعود وعلي، وأهل المدينة بابن عمر، ثم عرفت بعد ذلك مدرستا الرأي في العراق والحديث في المدينة، ثم ازدهر الفقه والاجتهاد أكثر في عهد كبار الأئمة كأبي حنيفة ومالكٍ والشافعي وأحمد، وازدادت المدارس الفقهية تميزًا عن بعضها البعض، ولكل منهم اجتهاده في حدود الأصول الشرعية المتقدِّمة.

المسألة الثالثة: شروط الاجتهاد بالأدلة:
أولاً: الإسلام: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100].

ثانيًا: التكليف: فلا يقبل الاجتهاد من المجنون ولا من الصغير الذي لم يحتلم.

ثالثًا: معرفةُ الآيات والأحاديث الدالة على الأحكام وتمييز الصحيح منها:
ويكفي في ذلك معرفتها بطريق النصّ أو الظاهر، ولا يشترط معرفتها بطريق الإشارة أو المفهوم ونحوهما من طرق الدلالة الخفية، كما لا يلزمُ معرفةُ أكثر من دليلٍ واحدٍ على الحكم ما لَم تكنْ للزيادة فائدة مؤثِّرة على الحكم، إذْ عرف عن الصحابة أنهم كانوا يعذرون المخطئ إذا لم يكن الدليل ظاهرًا قويًّا، ولو اشترطتْ الإحاطة بكلِّ ما في القرآن من المعاني لما تمكن أحدٌ من الاجتهاد.

رابعًا: معرفة الناسخ والمنسوخ من الأحكام ومواطن الإجماع حتى لا يخالفها.

خامسًا: أن يكون ملمًّا بعلم أصول الفقه: فيعرف الطرق الموصلة إلى الفقه وكيفية الاستدلال بها؛ كشروط القياس، ودلالات الألفاظ، وسلامة الأسلوب، ومراتب الأدلة، وطرق الجمع بينها، وطرق الترجيح عند التعارض.

سادسًا: العدالة: لأن الفتيا خبرٌ عن حكم الله تعالى يشترط لها ذلك.

المسألة الرابعة: تجزُّؤُ الاجتهاد:
إذ أثير خلاف بشأن هل يقبل اجتهاد العالم بأدلة الفقه في باب معين أو مسألة معينة دون غيرها من أدلة في أبواب أخرى أو مسائل أخرى، متى اقتصر اجتهاده على مسائل هذا الباب أو تلك المسألة وقد حصل سائر الشروط الأخرى للاجتهاد، إذ قال الجمهور بجواز ذلك، ويشهد لهم توقف أكثر العلماء عن الفتيا في بعض المسائل؛ نظرًا لعدم إحاطتهم بأدلتها، ومن منع ذلك قال: إن الاجتهاد لا يتجزأ؛ لأن مسائل الفقه متصل بعضها ببعض، فلا يمكن للمجتهد أن يحيط بأدلة مسألة ما لم يحط بأدلة المسائل الأخرى، وذهب بعض العلماء إلى أنه يتجزأ بالنسبة للأبواب لا بالنسبة إلى مسائل الباب؛ لأن مسائل الباب الواحد متصلة بعضها ببعض، أما الأبواب فليستْ كذلك، وثمرة هذا الخلاف في الاعتداد بقول من لم يحط بأكثر الأدلة عند انعقاد الإجماع وفتواه.

المسألة الخامسة: مسألة (تصويب المجتهدين)؛ أي: نفي الإثم عنهم:
إذ أثير التساؤُل هل يسوغ الاختلاف في موطن الاجتهاد، أو إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد؟ فرَّق العلماء بين المسائل الاجتهادية العملية، والمسائل العملية القطعية أو الاعتقادية، إذ لا خلاف بين العلماء على أن محل الحق واحد في المسائل القطعية والاعتقادية، وعليه فإذا وقع خلاف فيها، فإنه خلاف غير سائغ يجب الخروج عنه للأخذ بالحق، إذ الحق لا يتعدد في هذه المسائل، والجمهور على تأثيم الذي يخطئ باجتهاده في تلك المسائل إذا خالف دليلاً قطعيًّا، وعذره إذا خالف ظنّيًّا، إذ لا خلاف في تأثيم الكفار؛ لوُرُود النصوص القطعية بذلك، كقوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23]، أما المسائل العملية الظنية فالاختلاف بين المجتهدين فيها سائغ، ولا إثم عليهم، وإنما يؤجرون جميعًا؛ لقوله: ((إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ)).

المسألة السادسة: تجديدُ الاجتهاد:
المقصودُ بذلك: إعادةُ النظر في حكم الواقعة لتجدُّد وقوعها أو السؤال عنها مع سبق النظر فيها من المجتهد والتوصُّل فيها إلى حكمٍ يغلب على ظنه أنه الصواب، ويخرج عن المسألة ما إذا وجد ما يستدعي إعادة النظر في المسألة كتغيُّر العرف في مسألة مبنية على العرف، أو أن يعرف المجتهد صحة نص قد توقف عن الأخذ به سابقًا يعارض ما أفتى به، وإنما الذي يحدو بالمجتهد لإعادة النظر - غالبًا - أن يكون قد نسي طريق اجتهاده الأول، أو ظهرت الحاجة الداعية لإعادة النظر رغم أنه ذاكر لطريق اجتهاده الأول، فهل يبنى على ما سبق أن أفتى به أو يعيد بحث المسألة من جديد؟ فالقائلون بأنه يجب عليه أن يجدد اجتهاده في المسألة حجتهم أنه إذا لم ينظر في المسألة من جديد يكون مقلدًا لنفسه، ولا يأمن أن يكون الحق في غير ما أفتى به أولاً، والقائلون بعدم وجوب إعادة النظر حجتهم أن الأصل عدم تغير الاجتهاد، فيجوز البناء عليه، ولا يوجد دليل يوجب عليه ذلك، والرأي الثالث: أن من كان ذاكرًا طريق اجتهاده السابق فلا يجب عليه معاودة النظر، ومن كان ناسيًا يجب عليه معاودة الاجتهاد؛ لأنه لو كان ذاكرًا لدليله السابق ولم يظهر له ما يعارضه فهو باقٍ على اجتهاده السابق، ولا يجبُ عليه تجديدُ البحث؛ لأنه لا موجبَ له، أما إذا نسي وبنى على حكمه السابق فيكون كالمقلد، والمجتهد لا يجوز له أن يقنع بالتقليد مع قدرته على النظر، ولا يلزم من إعادة النظر والاجتهاد تغير الرأي في المسألة، إذ قد نبقي على الرأي الأول، بل قد يزيد تجدد الاجتهاد من أدلة ترجيحه، وقد يؤدي معاودة النظر إلى تقديم الحكم للناس بأسلوب آخر يناسب مع العصر، وقد يؤدي ذلك إلى تغير الحكم في المسألة، عملاً بقاعدة تبدل الأحكام الاجتهادية بتبدُّل الزمان والأحوال والعادات المؤثرة على الحكم، كالاختلاف في تقدير نفقة الزوجة بحسب الأعراف.

المسألة السابعة: تغير الاجتهاد:
أما إذا تغيَّر اجتهاد المجتهد نتيجة لاطِّلاعه على دليل لَم يكن قد اطلع عليه من قبل أو تغير العادات والأعراف، أو المفاسد والمصالح، أو عدم تحقُّق المناط في الواقعة الجديدة، كما فعل عمر - رضي الله عنه - حين أوقف حد السرقة في عام المجاعة، فهنا تبدو الحاجة للرجوع لقاعدة (الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد)، كمَن اجتهد في القبلة فأخطأ فليس عليه إعادة، وذلك ما لَم يكن هناك نص في الكتاب أو السنة صحيح معارض لاجتهاده السابق، فإنه حينئذ ينتقض، وعليه أن يخبر من أفتاه بتغيُّر اجتهاده في المسألة؛ لأنه من النصح المأمور به، ولأن الفتوى المخالفة لنصٍّ لا معارض له خطأٌ يقينًا، ولا عبرةَ بالظن البيِّن خطؤُه. 

الباب السادس: التقليد:
المسألة الأولى: تعريف التقليد وأركانه:
التقليدُ في اللُّغة: وضعُ القِلادة في العُنق، وفي الاصطلاح: أخذ مذهب الغير من غير معرفة رجحان دليله على القول الراجح، وفي ذلك إدخال لمن عَرف دليل المسألة في مرتبة التقليد، وذلك إنْ لم يكنْ قادرًا على دفع الشُّبَه عن الدليل والجواب عن أدلة القول الآخر، ومن جعل مرتبةَ الاتّباع واسطةً بين الاجتهاد والتقليد لم يشترط (من غير معرفة رجحان الدليل)، فجعلوا مَن يعرف الدليلَ متّبعًا وليس مقلِّدًا، وهو الصحيح إذ لا يجوز التسوية بينهما، والتقليد يقوم على ثلاثة أركان: المقلِّد وهو العاميّ، المقلَّد وهو المجتهد، والمقلَّد فيه وهو الحكمُ المأخوذُ عن المجتهد بطريق التقليد من غير معرفة دليله.

المسألة الثانية: حكمُ التقليد (محل التقليد):
التقليد إذا كان مجرد قبول قول المقلد الذي لا حجة عليه إلا قوله أو فعله، فهنا قد ذمه العلماء وذهبوا إلى تحريمه، وبخاصة عندما يتعصب المتبعون لأئمة مذاهبهم، ولو تبين لهم أن الدليل قام على خلافها، وإنما ينبغي على المقلد عند سؤال العلماء أن يسأله عن دليله أو يؤكد له أن هذا هو حكم الله - عز وجل - وقد فرَّق بعض العلماء بين التقليد في الفروع والتقليد في الأصول على النحو التالي:
أولاً: التقليدُ في الأصول:
فالعلماء ذموا التقليد في مسائل الاعتقاد وكل ما يتعلق بأصل الإيمان، إذ لا يقبل منه الشك في ذلك، إذ لا يصح إيمان مع الشك، واليقين لا يكون إلا بالنظر والاستدلال، وقد ذم القرآن المقلدين في ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} [البقرة: 170]، مع مراعاة أن من لم ينظر ويستدل يحكم بتأثيم تركه مع القدرة، أما من عجز فإيمانه صحيح إذا لم يخالطه شك وإن لم يعرف ما يدل عليه النظر.

ثانيًا: التقليدُ في الفروع:
و المرادُ بها: ما ليس من الأصول التي يدخل بها الإنسانُ في الإسلام، فيدخلُ في الفروع بعضُ مسائل الاعتقاد، ومسائل أصول الفقه والفقه، وقد اختلفوا في جواز التقليد في تلك المسائل، فذهب الجمهورُ إلى جواز التقليد فيها، واستدلوا بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وبقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا سألوا إذْ لم يعلموا))، كما أجاز الجمهور التمذهب بمذهب معين ويعدُّونَه فرعًا عن جواز التقليد، وابن حزم لم يجز التمذهب لأنه لم يكن معروفًا في صدر السلام ويؤدي إلى التعصُّب وتركِ الحق، وقد أجيب عليهم بأن عدم انتشاره في الصدر الأول لا يلزم منه المنع، والتعصب ليس من مستلزمات التمذْهب، بل هو مذموم على كل حال.

المسألة الثالثة: (صور التقليد):
وفي ذلك ثلاث مسائل على النحو التالي:
أولاً: حكمُ تقليدِ المجتهد لمجتهد آخر متى لم يتوصل لظن غالب:
اختلف العلماء في ذلك، فالجمهور أجازوا له ذلك مطلقًا؛ مستدلين بحديث: ((دعْ ما يريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ))، وأصحاب الرأي الثاني لم يُجيزوا له ذلك إلا إذا ضاق الوقت وحضر وقت العمل، ودليلهم أنه في هذا الفرض يكون بمنزلة العامي، والقول الأخير: جواز تقليد المجتهد للأعلم منه دون مَن هو مثله أو أقل منه، وحجتهم أن العالم مع من هو أعلم منه كالعامي مع العالم، والراجح عندنا القول الثاني، وعليه لا يجوز له أن يُفتيَ تقليدًا، بل يدلُّ السائل على المفتي أو ينقل له فتواه.

ثانيًا: سؤالُ العاميّ مَن شاءَ من المفتين والمفاضلة بينهم:
يجوزُ للعاميّ أنْ يسألَ مَن شاء من المفتين، وله أنْ يسألَ المفضولَ مع وجود الفاضل، عند أكثر العلماء، واستدلُّوا بإفتاء ابن عباس وابن عمر في حياة الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم أجمعين - وقد ندب البعضُ للعامي أن يجتهدَ في أحوال المفتين ليصل إلى أفضلهم، تمامًا مثلما يجتهد العالم في الأخذ بالأقوى من الدليلين المتعارضين، ويظهر ذلك على وجه الخصوص حال اشتهار الفتاوى في المسألة الواحدة من أكثر من عالم ومعرفة العوام بها، فهنا يجب عليه أن يفاضلَ بينهم بحسب الأعلم ثم الأورع والأتقى، وقيل: يعمل بالأحوط، وقيل: يعمل بالأسهل، والصحيح الأول؛ أن له أن يتخيَّر.

ثالثًا: تقليد الميت:
اختلف العلماءُ في ذلك، فالجمهور على أنه جائز؛ لأنه من قبيل العمل بشهادة الشاهد إذا مات قبل الحكم بها، ويفهم من كلام الرازي منعه؛ لأن ذلك يغلق باب تجدد الاجتهاد، والصواب أن يجتهد المقلِّد في الرجوع لعلماء عصره إذ قد يؤدي تغيُّر الأعراف والعادات والمصالح في الزمن الحديث عن المتقدِّم إلى تغير الفتوى، وهو ما لا يمكن معرفته إلا لأهل النظر من الأحياء، وذلك بالطبع فيما لَم يرد فيه نصٌّ صحيح.

المسألة الرابعة: التلفيق:
يقصد بالتلفيق غالبًا (الإتيانُ في مسألةٍ واحدةٍ بكيفيةٍ لا تُوافقُ قولَ أحدٍ من المجتهدين السابقين)، وقد يكون ذلك في مسألة معينة أو في مسألتين ليس بينهما تلازم، لمن يأخذ بقول الشافعي في مسائل معينة ويأخذ بقول أبي حنيفة من مسألة أخرى، ومثال التلازم من مسح شعرات من رأسه تقليدًا للشافعي، وصلى بهذا الوضوء بعد أن مس امرأة تقليدًا لأبي حنيفة، هنا يفرق بين أن يكون هذا التلفيق صادرًا من مجتهد أم من مقلد، فالمجتهد له أن يلفق، فله أن يحدث قول جديد في المسألة، وله أن يراعي الخلاف متى أفتى المستفتي بفتوى تخليصًا له من ورطة، أما العامي أو المقلد فليس له أن يلفق بقصد؛ لأنه بذلك قد يقع في مخالفة نصوص شرعية من حيثُ لا يعلم، لذا اشترط بعض العلماء لصحة التلفيق ألا يخالف إجماعًا أو نصًّا من كتاب أو سنة، وألا يكون بقصد التحلل من عهدة التكليف، أما إن صدر من المقلد بدون قصد فلا يمكن منعه، إلاّ على قول مَن يُوجبُ على المقلِّد الالتزامَ بمذهب واحد في جميع ما يفعل أو يترك، وهو قول فيه إفراط في التقليد ولا دليل عليه، فلا يمتنع من أن يستفتيَ شافعيًّا في الوضوء ويستفتي مالكيًّا في نقض الوضوء، ثم يُصلي بوضوءٍ لم يُعمِّمْ فيه مسحَ الرأس ولا أكثره، وقد مسَّ امرأةً أجنبيةً.

المسألة الخامسة: تتبع الرخص:
ويُقصدُ به: أخذ المقلد أو المجتهد بأخفِّ الأقوال في المسائل الخلافية، وحكمه عدم الجواز بالنسبة للمجتهد إذ يجب عليه العمل بما يجب عليه ظنه، أما المقلد فقد قيل بأنه لا يجوز له ذلك إلا لمن علم بالمذاهب، والصواب منعه لأن الواجب عليه سؤال أهل العلم، وتتبع الرخص يؤدي إلى التحلل من ربقة التكاليف الشرعية، وهو عمل بالهوى دون دليل، وذلك متى كان ذلك ديدنه، أما من عمل بالرخصة في مسألة أو مسألتين لحاجته فلا ينكر عليه كما تقدم فيمن علم أكثر من فتوى، فله أن يتخير متى لم يستطع الترجيح على نحو ما ذكرنا سلفًا.

تم بحمد الله تعالى 16 رمضان 1430 هـ قبل صلاة العصر.

الخاتمة:
هذه هي ورقات في مختصر أصول الفقه لما حاول شيخنا الجليل الأستاذ الدكتور عياض بن نامي السلمي جمعه، مما تفرق من أبواب هذا العلم في كتب سلفنا الصالح وصياغته بأسلوب حديث معاصر، وقد لخصته بحيث يسترجع طالب العلم مسائل هذا العلم بيُسْر وسهولة، وفي ذات الوقت بسرعة ولين، باذلاً في ذلك جهد المقل، والله أسأل أن يتقبل ويجزيني ويجزي به كل من قرأه وبلغه حسن الثواب، ويتجاوز عن تقصيري وقصر عزيمتي.

ـــــــــــــــــــــ
[1] ولم يذكر الكاتب أمثلة على ذلك، ولعله محض تصور نظري فقط، إذ لا يخلو الأمر من أحد الفروض الثلاثة المتقدمة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص أول)
  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص ثان)
  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص خامس)
  • علم فقه الحديث
  • زاد العقول شرح سلم الوصول (1/ 17)

مختارات من الشبكة

  • المقدمات في أصول الفقه: دراسة تأصيلية لمبادئ علم أصول الفقه (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (3) علم أصول الفقه علم إسلامي خالص(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (1) علم أصول الفقه يجمع بين العقل والنقل (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • من قضايا أصول النحو عن علماء أصول الفقه (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • من قضايا أصول النحو عند علماء أصول الفقه (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • المصنف الفريد في علم أصول الفقه في ثوبه الجديد لعبدالحكيم مالك(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • تلخيص كتاب أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تلخيص كتاب أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
2- دعاء
gehad ahmed - مصر 24-12-2013 02:17 PM

اللهم بارك فيكم وفى الشبكة الكريمة فأنتم مرجع لمن يبحث عن العلم النافع

1- الفضل اولا واخير للله عز وجل
شمس - مصر 12-03-2010 12:01 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لله المنة والفضل أولا
هنيئا لك الفوز اخى احمد مصطفى
فالتعب والجهد نتيجتهما الفوز
الا ترى معى ان الفوز المعنوى اكبر بكثير من الفوز المادى
بارك الله فى جهدك
وجعلك دائما من المتميزين
وشكرا لأهل الألوكة الكرام
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب