• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مسابقة كاتب الألوكة الثانية   مسابقة الألوكة الكبرى لتعزيز القيم والمبادئ والأخلاق   المسابقة الإلكترونية لجميع أفراد الأسرة   أنشطة دار الألوكة   مسابقة شبكة الألوكة (حياتنا توسط واعتدال)   أخبار الألوكة   إصدارات الألوكة   مسابقات الألوكة المستمرة   مسابقة الألوكة الكبرى للإبداع الروائي  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في محراب العلم والأدب: تحية إكبار وتقدير لشبكة ...
    د. مصطفى يعقوب
  •  
    بيان شبكة الألوكة إلى زوارها الفضلاء حول حقوق ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    كلمة شكر وعرفان لشبكة الألوكة من أبي محمد فواز ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    تهنئة بعيد الأضحى ١٤٤٠هـ
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    في ظلال الألوكة
    د. سعد مردف
  •  
    بطاقة تهنئة بعيد الأضحى
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    الألوكة وجامعة السويس ينظمان مؤتمرا دوليا بعنوان ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    نتائج مسابقة شبكة الألوكة: حياتنا توسط واعتدال
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    في حب الضاد شاركت الألوكة مجمع اللغة العربية ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    شبكة الألوكة تشارك في فعاليات اليوم العالمي للغة ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    إذاعات مدرسية مكتوبة - شبكة الألوكة
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    دار الألوكة للنشر في معرض الرياض الدولي للكتاب ...
    دار الألوكة للنشر
  •  
    الألوكة.. لغة سماوية
    خالد يحيى محرق
  •  
    اللقاء الرمضاني السنوي لشبكة الألوكة في بلدة رغبة
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    مسابقة شبكة الألوكة: حياتنا توسط واعتدال
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    ترشيح د. خالد الجريسي لانتخابات الغرفة التجارية
    محمد بن سالم بن علي جابر
شبكة الألوكة / الإصدارات والمسابقات / مسابقات الألوكة المستمرة / مسابقة الملخص الماهر / المواد الفائزة في مسابقة الملخص الماهر
علامة باركود

أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص ثان)

د. عبدالحكيم درقاوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 10/6/2012 ميلادي - 20/7/1433 هجري

الزيارات: 308037

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ملخص كتاب
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله
د. عياض السلمي

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أحمده - تعالى - عدد خلقه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، على نعمائه وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلى عليه ربي وسلَّم وعلى آله وصحبه ومَن تبعه وسار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فقد ألَّف أ. د. عياض بن نامي السلمي - جزاه الله خيرًا - كتابًا موجزًا جامعًا بين دفَّتيه أهم مسائل علم أصول الفقه، مع سلاسة العبارة، وعذوبة الكلمة، وضرب المثال ليتَّضح المقال لطلبة هذا العلم.

وقد سمى كتابه بـ"أصول الفقه الذي لا يسع الفقيهَ جهلُه"، فتجنَّب فيه الإطالة في مسائل الخلاف، واكتفى بما اشتهر على الآذان استماعًا، والأفواه قولاً، والأسفار تسطيرًا، مذيلاً ذلك بأهم الأدلة، واعتنى ببيان الراجح مِنْ أمور الخلاف، مع تصحيحه لما يقع مِن مغالطات لبعض المشتغلين بهذا العلم في تحرير المسائل وتقريرها وتصويرها.

وقسم الشيخ - حفظه الله - عمله المبارك هذا إلى: مقدمة، وستة أبواب، وخاتمة، على النحو الأتي:
فالمقدمة: في التعريف بعلم أصول الفقه ونشأته وموضوعه وفوائده واستمداده.

والباب الأول: في مباحث الحكم الشرعي التكليفي تعريفًا وتقسيمًا وتبيانًا لأوصاف الشارع الحكيم لأفعال وأقوال العباد المكلَّفين.
وفي مباحث الحكم الوضعي - حدًّا وتقسيمًا - إلى سبب وعلة وشرط ومانع وصحة وفساد وبطلان، وختم هذا الباب بتفريع الحكم إلى عزيمة ورخصة، وتعريف التكليف وبيان أقسامه (المكلِّف، والمكلَّف، والمكلَّف به، وصيغة التكليف)، وشروط وموانع التكليف.

والباب الثاني: في الأدلة التي تُستَنبط منها الأحكام الشرعية، وفي هذا الباب تظهر سعَة المصادر التشريعية وصلاحيتها في كل زمان ومكان ولكل أمة.

والباب الثالث: في دلالة الألفاظ على الأحكام، وفي هذا الباب تتجلَّى دقَّة اللغة العربية ودلالاتها، وبراعة علماء التشريع في استثمارهم الأحكام من النصوص، وسُبُلهم الرشيدة في إزالة خفائها، وتفسيرها وتأويلها.

والباب الرابع: في التعارض وطُرُق دفعه. 

والباب الخامس: كتبه - جزاه الله خيرًا - في الاجتهاد؛ معرفًا به، وواقفًا عند شروطه، ومعرجًا على عِدَّة نقاط في هذا المبحث، ستأتي في حينها.

والباب السادس: عقَدَه لمبحث التقليد؛ تعريفه، أركانه، التقليد في الأصول والفروع، تقليد الميت، تتبُّع الرخص.

وختَم الكتاب - كما بدأه - بالثناء على الله - عزَّ وجلَّ - والصلاة على رسوله وآله أجمعين.

التمهيد

التعريف بأصول الفقه:
1- نشأة أصول الفقه:
علم أصول الفِقْه علم شأنه شأن جُملة من العلوم الإسلاميَّة لَم يكتمل إلاَّ في أواخر القرن الثاني، وكانت مجموعة الأحكام في طورها الأوَّل مكوَّنة من أحكام الله ورسوله، ومصدرها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فالصحابة الكرام واجهَتْهُم وقائع وطرَأَت لهم طوارئ، فكانوا يعرضونها على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإن كان الحكم قد أُوحِي له مسبقًا أفتاهم به ودلَّهم إليه، وإن لم يجد انتظر الوحي الذي لا يلبث أن يأتيه عن قُرب بحكم ما أشكل.

سُئِل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الصدقة بالحمر الأهلية، فقال: ((ما أُنزِل عليَّ فيها شيء إلاَّ هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]؛ أخرجه البخاري، كتاب المساقاة، باب شرب الناس والدواب من الأنهار، ومسلم في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة.

وبعد وفاة المصطفى - عليه أزكى الصلاة والسلام - كان الصحابة يجتهدون في فهم نصوص الكتاب والسنَّة، ويسأل بعضهم بعضًا، ويقيسون النوازل على نظيراتها، واجتهاد الصحابة في هذه الحقبة لم يكن له قواعد مدوَّنة تضبط استدلالاتهم، خاصَّة أنهم عاصروا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشهدوا التنزيل، وكذلك الشأن في عهد كبار التابعين.

وفي عهد أواخر التابعين دخَل في الإسلام غيرُ العرب، فضعف اللسان العربي وكثر اللحن، وواجهت المسلمين طوارئ ونوازل حملت المجتهدين على وضع قواعد تضبط الاستدلال، فكان أوَّل مَن دوَّن قواعد الاجتهاد في مجموعةٍ مستقلَّة قيِّمة، تُعَدُّ نواةً لما جاء بعدها - الإمام محمد بن إدريس الشافعي - رضي الله عنه - (150 - 204 هـ)، فقد وضع كتابًا موسومًا بـ"الرسالة"، ثم تتابَع العلماء من بعده في التأليف والتكميل؛ فكتب الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) كتاب: "طاعة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم"، وكتب داود الظاهري: "الإجماع"، و"إبطال التقليد"، و"خبر الواحد"، و"الخصوص والعموم"، وكتب عيسى بن أبان كتابًا في خبر الواحد، وكتب الكرخي رسالة في أصول الفقه، ثم تواتر المؤلفون بين شارحٍ ومعقِّب وملخِّص إلى يومنا هذا حيث ضاعت الهمم وقصرت الأفهام.

2 - تعريف أصول الفقه:
أصول الفقه مركَّب تركيبًا إضافيًّا، وتعريفه يقتضي تعريف جزأَيْه، المضاف والمضاف إليه.

أ- تعريف الفقه:
الفقه لغة: المعرفة والفهم، ومنه قوله - تعالى -: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
واصطلاحًا: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسَب من أدلتها التفصيلية.

عماد التعريف:
قولهم: (العلم): جنسٌ يشمل العلم بالأحكام الشرعية وبغيرها من التصوُّرات والأحكام، والمراد به هنا مطلق الإدراك الشامل للظن واليقين.
وقولهم: (الأحكام): قيد يخرج منه التصوُّر الذي لا حكم فيه، والحكم يُراد به هنا إثبات أمر لآخر أو نفيه عنه.
وقولهم: (الشرعية): قيد يخرج منه العلم الأحكام غير الشرعية.
وقولهم: (العملية): أي: المرتبطة بأعمال العباد من صلاة وزكاة وحج وزواج وغيره، وهذا القيد يخرج منه الأحكام الاعتقادية؛ لأن العلم بهذه الأخيرة يسمَّى علم التوحيد.
وقولهم: (المكتسَب): صفة للعلم، فعلم الفقه يُكتَسب بالطلب والاجتهاد، ويخرج منه علم الله الأزلي والعلم اللدُنِّي، وهو علم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بما أُوحِي إليه.
وقولهم: (من أدلَّتها التفصيلية): هي الأدلة الجزئية الخاصة بكل مسألة فقهية، مثل آية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، الدالة على تحريم كل أجزاء الميتة.

ب- تعريف الأصول:
الأصول: جمعٌ مفرده أصل، وهو في اللغة: ما يُبنَى عليه الشيء.
وفي الاصطلاح: الأصل يُطلق على عِدَّة معانٍ، ما يهمُّنا منها هو ما يلي:
1- الدليل: كما يقول الفقهاء: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة والإجماع؛ أي: الدليل عليها. 
2- القاعدة المستمرة: كما يقول الأصوليون: الأصل أن الخاص مقدَّم على العام عند التعارض، وكما يقول النحاة: الأصل في المبتدأ التقديم، وفي الخبر التأخير.

ج- تعريف أصول الفقه باعتباره علمًا:
وأصول الفقه باعتباره علمًا هو - كما عرَّفه الرازي - "مجموع طرق الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستدل"، "المحصول" 1/167.

عماد التعريف:
قوله: (مجموع طرق الفقه)؛ أي: مجموع الطرق التي توصل إلى إدراك الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
وقوله: (الإجمالية): قيد خرج منه طرق الفقه التفصيلية التي يُعَدُّ الاشتغال بها من اختصاص الفقيه.
أقول: "فوظيفة الأصولي البحث عن القواعد الكلية وتقريرها بأدلة شرعية.

ووظيفة الفقيه استنباط الأحكام الجزئية من الأدلة الشرعية باستخدام تلك القواعد الكلية، والقائم بالوظيفتين أصولي وفقيه، فلا مانع من الجمع بينهما".
وقوله: (وكيفية الاستفادة منها): أي: بهذه الطرق والأدلة يتوصل الفقيه بالنظر فيها إلى استنباط الأحكام الشرعية.
أقول: "إن علم أصول الفقه خادم، وعلم الفقه مخدوم".
وقوله: (وحال المستدل): والمستدل أو المستفيد إمَّا أن يكون مجتهدًا، يستنبط الحكم من الدليل أو الأمارة، أو مقلدًا للمجتهد: يستفيد الحكم منه بسؤاله عنه.

ويُعَدُّ هذا التعريف من أجود التعاريف التي اعتمدها العلماء، وأغلب الأصوليين ضارَعوا في تعاريفهم هذا التعريف؛ فهذا الآمدي يعرِّف علم أصول الفقه بقوله: "يبحث في أدلة الفقه، وجهات دلالاتها على الأحكام الشرعية، وكيفية حال المستدل بها"؛ "الإحكام في أصول الأحكام"؛ للإمام علي بن محمد الآمدي 1/8.

3 - موضوع أصول الفقه:
يظهر من التعريف السابق للرازي أن علم أصول الفقه له ثلاثة موضوعات رئيسة هي:
الموضوع الأول: الأدلة، وهي مصادر التشريع، أو ما اصطلح عليه الرازي طرق الفقه.
الموضوع الثاني: طرق الاستنباط، وهي قواعد العلم.
الموضوع الثالث: صفة المجتهد أو المقلد، وما يعقب ذلك من شروط الاجتهاد وأحكامه.

4 - فوائد علم أصول الفقه:
شرف علم الأصول من شرف غاياته ومآلاته، وأهم غاياته ما يلي:
الغاية الأولى: التفقُّه في الدِّين، ومعرفة ما للمكلف وما عليه من الحقوق والواجبات.
الغاية الثانية: معرفة الحكم الشرعي للحوادث والمستجدَّات والنوازل.
الغاية الثالثة: الوقوف على الحِكَم والمقاصد الشرعية الضرورية والحاجية والتحسينية للأحكام الشرعية.
الغاية الرابعة: مواجهة خصوم الشريعة الإسلامية الذين يدَّعون أن الشريعة ليست ملائمة لهذا الزمان؛ وذلك ببيان سعة الشريعة على استيعاب حاجات الناس في الحاضر والمستقبل.
الغاية الخامسة: حماية الفقيه من التناقُض.

5 - استمداد أصول الفقه:
يَستَمدُّ علم أصول الفقه مادته الخام ممَّا يلي:
• الوحي:
والوحي - كما عليه أهل الحديث - قرآن وسنة، وإليهما ترجع جميع الأدلة النقلية والعقلية.

• علم أصول الدين (علم الكلام):
فما دام علم أصول الفقه هو العلم بالأدلة الإجمالية، فإن صحة الاستدلال بها أساسه معرفة الله - عز وجل - وصفاته وأسمائه، وما يجب وما لا يجب في حقه - تعالى - والعلم بصدق رسوله الكريم فيما أخبر به عن ربه وما يجوز له وما لا يجوز.

• اللغة العربية:
فاللغة العربية هي وعاء الوحي وبها نزل، ولا يمكن بأي حال أن يستدلَّ الفقيه بها ما لَم يعرف طُرُق العرب، ويقف على مختلف لغات العرب.
وفي هذا يقول إمام الحرمين: "ومن مواد أصول الفقه العربيةُ؛ فإنه يتعلَّق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ، ولن يكونَ المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققًا مستقلاًّ باللغة العربية"؛ "البرهان" 1/84.

وأضيف قائلاً: "فبالإضافة لهذه الاستمدادات هناك عِدَّة علوم أخرى تخدم علم الأصول، ومنها علم الحديث رواية ودراية، فإذا صحَّ الحديث وجَبَ على الأصولي والفقيه العمل به".
الباب الأول
القسم الأول: الحكم الشرعي:
تعريفه:
يطلق الحكم في اللغة على المنع، ويُراد به أيضًا: القضاء.
أمَّا الحكم الشرعي في اصطلاح الأصوليين فهو: "خطاب الشارع - الله ورسوله الكريم - المتعلق بأفعال المكلفين؛ طلبًا، أو تخييرًا، أو وضعًا".
وعند الفقهاء: "هو مقتضى خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين أو مدلول خطاب الله".

عماد التعريف:
فقولهم: (خطاب الشارع): أمره ونهيه وخبره وما تفرَّع عنه من وعد ووعيد، وتعليق على سبب أو شرط ونحو ذلك، وهو يشمل ما عُرِف من كلامه المقروء الذي أوحاه إلى رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سواء أكان قرآنًا أم سنة، وما عُرِف من فعل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وقولهم: (المتعلق بأفعال المكلفين)؛ أي: الذي له علاقة بأفعال المكلفين المقدور عليها، سواء كانت هذه الأفعال قلبية، أو أعمال الجوارح.
والمراد بالمكلفين: مَن توفَّرت فيهم شروط التكليف؛ من إسلام، وعقل، وبلوغ، وقدرة... وغيرها.

وقولهم: (طلبًا) سواء كان الطلب طلب فعل أو ترْك.
وطلَب الفعل نوعان: طلب الفعل طلبًا جازمًا، وهذا يُسمى إيجابًا، وطلب الفعل طلبًا غير جازم، ويسمى الندب.
وأمَّا طلب الترك فنوعان أيضًا؛ وهما: طلب الترك طلبًا جازمًا، وهو المسمى بالتحريم، وطلب الترك طلبًا غير جازم، وهو المسمى بالكراهة.

وقولهم: (أو تخييرًا)؛ أي: تخيير الشارع بين الفعل والترك، وهو الموسوم بالمباح.
وقولهم: (أو وضعًا): المراد بالوضع: جعْل الشيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو وصفه بالصحة أو الفساد أو البطلان.

أقسام الحكم التكليفي عند الفقهاء:
ينقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام: الإيجاب، الندب، التحريم، الكراهة، والإباحة، وزاد الحنفية على هذه الأقسام الخمسة قسمين آخرين هما: الفرض والمكروه كراهة تحريم.

وهذه الأقسام هي كالأتي:
• الواجب:
تعريفه: ويُطلَق الواجب في اللغة على اللازم.
وفي الشرع: هو كل ما ورَد الشرع بذمِّ تاركه مطلقًا.

وهذا التعريف جامع لثلاثة أنواع من الواجبات، هي:
1- الواجب الموسَّع: كالصلاة التي يجوز تركها في أوَّل الوقت مع فعلها في أثنائه.
2- الواجب المخيَّر: مثل وجوب التكفير عن اليمين الحانثة بواحدٍ من ثلاثة: العتق، والإطعام، والكسوة.
3- الواجب الكفائي: مثل: غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فهذا واجب على عموم المسلمين، ولو ترَكَه بعضهم وفعَلَه آخرون لَم يأثم التارك.

أقسام الواجب:
1- تقسيم الواجب بالنظر إلى ذاته:
ينقسم الواجب بالنظر إلى ذاته قسمين: معيَّن، ومخيَّر.
فالمعيَّن: ما طلَبَه الشارع بعينه؛ كالصلاة والصيام، ولا تبرأ ذمَّة المكلف إلا بأدائه بعينه.
والمخيَّر: ما خُيِّر فيه المكلف بين أشياء محصورة؛ كأحد أنواع كفارة اليمين، فإنها واجبة، ولكن المكلف مخيَّر بين ثلاثة أشياء: العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم.
والمخيَّر أنكره أهل الاعتزال بدعوى (كيف يسمى واجبًا، ثم يوصف بالتخيير؟).

2- تقسيم الواجب بالنظر إلى وقته:
وينقسم الواجب من حيث الوقت إلى: مؤقَّت وغير مؤقت.
فالمؤقَّت: هو ما طلب الشارع فعله حتمًا في وقت معين؛ مثل: الصلاة.
والمؤقت بدوره ينقسم إلى:
• واجب مضيَّق: هو الذي حدَّد له الشرع وقتًا لا يتَّسع لغيره من جنسه معه؛ مثل: الصيام، فإنَّ الصيام له وقت محدَّد يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
• وواجب موسَّع: وهو الذي حدَّد له الشرع وقتًا يتَّسع له ولغيره من جنسه معه؛ ومثاله: الصلاة، فإن الوقت المحدَّد لصلاة العشاء مثلاً يبدأ من غروب الشفق الأحمر ويمتدُّ إلى نصف الليل لِمَن لا عذر له.

والفرق بينهما يكمن في:
أ - الواجب الموسَّع لا يصحُّ أداؤه إلا بنيَّةٍ اتفاقًا، وأمَّا الواجب المضيَّق كالصوم في رمضان فعند أكثر الحنفية أنه لا يحتاج إلى نية الفرض، بل ينصرف الصوم إليه من غير نية تخصيصه، وعند الجمهور لا بُدَّ من النية"؛ "أصول السرخسي" 1/35.
ب - أن الواجب الموسَّع لا يمتنع صحة غيره من الواجبات في زمنه، فله أن يصلي في وقت الظهر ظهرًا فائتة أو صلاة أخرى، وأمَّا الواجب المضيَّق فليس له أن يؤدِّي في وقته غيره، إلا إذا كان ممَّن يجوز له ترك هذا الواجب؛ كالمسافر في رمضان، فقد اختلفوا: هل يجوز أن ينوي بصيامه في رمضان واجبًا آخر؛ كالكفارة والنذر مثلاً؟

فقال بعضهم: لا يجوز؛ لأن وقت رمضان مضيَّق، فلا يتَّسع لغيره، وقال بعضهم: إذا كان معذورًا لا يكون مطالبًا بصيام رمضان، ولا دليل على منعه من صيام نذر أو كفارة"، "أصول السرخسي" 1/36.

أمَّا غير المؤقَّت: ما كان أداؤه مطلقًا عن التوقيت؛ مثل: أداء النذر والكفارات.

أوصاف العبادة المؤقتة:
العبادة المؤقتة بوقت محدَّد، سواء أكانت فرضًا أم نفلاً، تتَّصف بإحدى صفات ثلاث هي:
أ- الأداء: وهو فعل العبادة في وقتها المعيَّن غير مسبوق بفعل مختل.
ب- القضاء: وهو فعل العبادة المؤقتة بعد فوات وقتها؛ كأداء صلاة الصبح بعد طلوع الشمس لعذر النوم.
جـ- الإعادة: وهي فعل العبادة في وقتها بعد فعل مختل.

3 - تقسيم الواجب بالنظر إلى المخاطَب بفعله:
وينقسم الواجب من جهة النظر إلى المخاطَب بفعله إلى: واجب عيني، والآخر كفائي.

الواجب العيني: وهو ما طلب الشرعُ فعله من كلِّ مكلَّف بعينه؛ كالصلاة، والزكاة، والحج.
والكفائي: هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين، لا من كل فرد منهم؛ بحيث إذا قام به البعضُ سقط الإثم والحرج عن الباقين، وإذا لم يقمْ به أيُّ فرد أثموا جميعًا بإهمالهم هذا الواجب؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، وتغسيل الميت والصلاة عليه.

فالواجب العيني مصلحته فردية، والكفائي مصلحته عامة.

والأمر في الواجب الكفائي اختُلِف فيه على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول قال: إنه موجه للجميع، لكن يسقط بفعل البعض.
المذهب الثاني قال: موجَّه إلى بعض غير معيَّن.
المذهب الثالث قال: بل متوجه إلى المجموع من حيث هو مجموع.

واستدلَّ الأولون بأدلة منها:
1- أن الواجبات الكفائية الواردة في القرآن والسنة جاءت بصيغة العموم؛ كالواجبات العينية، فقوله - تعالى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216]، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، مع أن الأول كفائي، والثاني عيني.
2- أن الإثم يلحق الجميع إذا تركوا، ولو لم يكونوا مخاطبين به ما أثموا.

واستدلَّ القائلون بأنه موجَّه إلى بعض مبهم بدليلَيْن:
1- قوله - تعالى -: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، فالخطاب هنا موجَّه إلى بعض مبهم، وهو متعلق بواجب كفائي.
2- أنه يسقط بفعل بعض المكلفين، ولو خُوطِب به الجميع لما سقط إلا بفعل الجميع كسائر الواجبات العينية.

وأمَّا القائلون: إن الخطاب موجه إلى المجموع لا إلى الجميع - أي: إلى الهيئة الاجتماعية - فاستدلوا بدليل واحد هو: أنه لو وُجِّه الخطاب فيه إلى الجميع - إلى كلِّ فرد - لما سقط بفعل بعضهم، ولو وُجِّه إلى بعض مبهم لترك؛ لأن كل مكلف سيقول: لست مقصودًا، فلم يبقَ إلا أن نقول: متوجه إلى المجموع من حيث هو مجموع.

والراجح: أنه متوجه إلى الجميع، ويسقط بفعل بعضهم؛ لرجحان أدلة هذا القول.

4- أقسام الواجب إلى محدد وغير محدد:
الواجب المحدَّد: هو ما عيَّن له الشارع الحكيم مقدارًا معلومًا؛ بحيث لا تبرأ ذمَّة المكلف إلا إذا أدَّاه على ما عيَّن الشارع؛ كالصلوات الخمس بعدد ركعاتها، والزكاة بمقاديرها، والديون المالية.

والواجب غير المحدَّد: ما طلبه الشارع من المكلف من غير تحديد دون أن يعيِّن مقداره؛ مثل: الطمأنينة في الركوع، والإنفاق، والتعاون على البر.

ما لا يتمُّ الواجب إلا به:
هذه قاعدة أصولية مهمة يُبنَى عليها فقه كثير، إلاَّ أنها ليست على الإطلاق المذكور بل مضبوطة بـ:
1- شروط الوجوب وأسبابه وانتفاء موانعه، ونضرب مثالاً لذلك: فالخلوُّ من الدَّيْن وبلوغ النصاب وحلول الحول شروط لوجوب إخراج الزكاة وليست مطلوبة لذاتها، بل هي واجبة لإخراج الزكاة، ومن هنا يُقال: (ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب).
2- ما لا يمكن عقلاً أو شرعًا أو عادةً أن يفعل الواجب تامًّا إلا بفعله، وهذا ينقسم أيضًا قسمَيْن:
أ- ما ليس بمقدور للمكلَّف؛ كغسل اليد في الوضوء إذا تعذَّر لقطعٍ ونحوه، وكالركوع والسجود إذا تعذَّر ليبس في ظهره ونحو ذلك، فهذا خارج عن القاعدة، فلا يجب باتفاق.
ب- ما هو مقدور للمكلف؛ مثل: غسل جميع الثوب الذي أصابته نجاسة ولا يدري موضعها، وإمساك جزء من الليل مع النهار حتى يتمَّ صيام النهار، والوضوء للصلاة، ونيتها، وهذا ينقسم أيضًا قسمين:
1- ما ورد في إيجابه نص مستقل؛ كالوضوء والنية للصلاة، وهذا واجب باتِّفاق، ولم ينقل عن أحدٍ فيه خلاف.
2- ما لم يرد فيه بخصوصه دليلٌ مستقل، وهذا هو موضع النزاع، وهو الذي قال بعض العلماء فيه: لا نسميه واجبًا، وإن وجب فعله تبعًا.

• المندوب:
تعريفه وقرائن معرفته:
المندوب في اللغة من الندب؛ أي: الدعاء، فيكون معنى المندوب: المدعو إليه.
واصطلاحًا: المندوب هو: "ما طلب الشرع فعله من المكلَّفين على وجه الحتم، واقترنت بطلبه قرائن تدلُّ على عدم التحتيم)، وهذه القرائن هي:
1- الأمر المقترن مع جواز الترك: كما في قوله - تعالى -: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فالأمر بمكاتبة العبيد للندب.
2- الترغيب فيه بذكر ثوابه؛ كقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات كان كمَن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل))؛ متفق عليه. 
3- بيان محبَّة الله للفعل؛ كقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))؛ متفق عليه. 
4- الاقتداء بالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الفعل من غير أن يأمر به.

أسماء المندوب:
للمندوب عند الجمهور ما عدا الحنفية عِدَّة أسماء منها: السنَّة، والمستحب، والرغيبة، والنافلة، والتطوُّع.

والحنفية يقسمونه إلى:
• سنة الهدى: وهي ما كان تركها ضلالة، ويمثِّلون لها بصلاة العيد، والإقامة، والأذان، وتاركها عندهم يستحقُّ اللوم والعتاب، وهي عند الجمهور تدعى بالسنة المؤكدة.
• سنَّة مطلقة: وهي ما واظَب عليه - عليه الصلاة والسلام - ولم يأمر بوجوبه؛ مثل: صيام الاثنين والخميس والرواتب القبلية والبعدية.

هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟

انقسم العلماء في المسألة إلى فريقين:
الفريق الأول: الحنفية، المندوب يجب بالشروع فيه، واستدلوا بـ:
أ- قوله - تعالى -: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
ب- أن المندوب ينقلب واجبًا إذا نذره.

الفريق الثاني: الجمهور، وذهبوا إلى عدم وجوبه بالشروع فيه، واستدلوا بأدلة منها:
أ- قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((الصائم المتطوِّع أمير نفسه؛ إن شاء صام، وإن شاء أفطر))؛ الترمذي، كتاب الصيام، باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع.
ووجه الدلالة من الحديث: أن صائم التطوُّع مخيَّر بين الصوم والإفطار.
ب- أن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يسأل أهله: ((أعندكم طعام؟))، فإن قالوا: نعم، أكل منه، وإلاَّ قال: ((إنِّي إذًا صائم))؛ أخرجه أبو داود والنسائي من طريق أم المؤمنين عائشة.
وقول الفريق الثاني هو الأرجح.

• الحرام:
تعريفه وطرق معرفته:
المحرم هو: ما طلب الشارع الكفَّ عنه طلبًا حتمًا، وذم فاعله.

ويعرف كونه حرامًا بالطرق التالية:
أ- النهي المباشر دون قرينة تصرفه إلى الكراهة؛ مثل نهيه - تعالى - عن الزنا في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32].
ب- ذم فاعله، كقوله - عليه السلام -: ((العائد في صدقته كالعائد في قيئه))؛ البخاري، كتاب الزكاة، باب هل يشتري الرجل صدقته؟
ج- ترتيب العقاب على الفعل؛ كقوله - جل وعلا -: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68- 69].

أقسام الحرام:
المحرم قسمان:
محرم أصالةً لذاته: كالزنا، والخمر، والميسر، والقتل.
ومحرَّم لغيره، ويسمى: المحرم لعارض، وهو ما كانتْ حرمته ناشئة من وصف قام به لا من ذاته، أخرجه من الحل إلى الحرمة؛ ومثاله: البيع وقت نداء الجمعة الثاني، والزواج المقصود به التحليل.

• المكروه:
تعريفه وطرق معرفته:
المكروه في اصطلاح الأصوليين يُطلَق على ما نهى عنه الشرع نهيًا غير جازم، أو ما يُثاب تاركه ولا يُعاقب فاعله.

ويقسمه الحنفية إلى:
1- مكروه كراهة تحريم: وهو ما نهى عنه الشرع نهيًا جازمًا، ولكنه ثبَت بطريق ظني؛ مثل: أكل كلِّ ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. 
2- مكروه كراهة تنزيه: وهو ما نهى عنه الشرع نهيًا غير جازم، وهو مرادف للمكروه عند الجمهور.

ويُعرف المكروه بالقرائن التالية:
أ- النهي عنه مع عدم ترتيب العقاب على تركه؛ كالمشي بنعل واحدة.
ب- أن يترتب على الفعل الحرمان من الفضيلة؛ مثل: أكل الثوم والبصل والدخول إلى المسجد.

• المباح:
تعريفه وطرق معرفته:
المباح لغة: هو المأذون فيه والمطلق.
وشرعًا: هو ما خيَّر الشارع فيه المكلف بين الفعل والترك.

وتعرف الإباحة بالطرُق التالية:
أ- تصريح النص على التخيير بين الفعل والترك؛ كتخييره - عليه الصلاة والسلام - المسافر بين الصوم والإفطار؛ رواه البخاري
ب- نفي الإثم والعتاب؛ كقوله - تعالى -: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].
ج- الأمر الوارد بعد الحظر؛ كقوله - سبحانه -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]. 
د- السكوت عن الفعل، فالأصل في الأشياء المنتفع بها الحل، ما لَم يردْ دليل على المنع والتحريم.

القسم الثاني: الحكم الوضعي:
تعريفه:
الحكم الوضعي: هو خطاب الشارع الحكيم بجعْلِ الشيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو فاسدًا.

أقسام الحكم الوضعي:
أ- السبب:
السبب في اللغة: ما يحصل الشيءُ عنده لا به.
وفي الاصطلاح: يُطلَق على عِدَّة معانٍ، هي:
1- العلامة المعرِّفة للحكم؛ مثل قولهم: غروب الشمس سببٌ للفطر، وطلوع الفجر سببٌ لوجوب الصيام. 
2- العلة الكاملة؛ أي: العلة المستكملة شروطها المنتفية موانعها، كما يُقال: الوطء في فرجٍ محرَّمٍ بلا شبهة من مكلف هو سبب حد الزنا. 
ويستخلص من المعنيين أن السبب: (ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته).
3- العلة مع تخلف شرطها، كما يقولون: ملك النصاب سببٌ لوجوب الزكاة، وإن لم يحُلِ الحول. 
4- ما يقابل المباشرة، فمَن حرَّض على القتل ولم يقتل يسمى متسببًا، والقاتل يُسمى مباشِرًا، والفقهاء يقولون: إذا اجتمع المباشِر والمتسبِّب في الجناية يكون الحكم على المباشر، إلا إذا كان غير مكلف لجنون أو لصغر، فيحكم على المتسبب.

ب- العلة:
العلة في اللغة: المرض.
وفي الاصطلاح: (وصف ظاهر منضبط دلَّ الدليل على كونه مناطًا للحكم).
ومثالها: الإسكار علة لتحريم الخمر.

ج- الشرط:
والشرط: هو ما يتوقَّف وجود الحكم على وجوده، ويلزم من عدمه عدم الحكم، وهو خارج عن حقيقة المشروط، فالطهارة شرطٌ لصحة الصلاة، فيلزم من عدم الطهارة عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الطهارة صحة الصلاة ولا عدمها؛ لأن الطهارة قد تحصل ولا تحصل صلاة، أو تحصل صلاة غير مستوفية لبقية الشروط والأركان.

وينقسم الشرط إلى أربعة أقسام من حيث طرقه:
1- شرعي: وهو ما عرف اشتراطه بحكم الشارع؛ مثل: الطهارة للصلاة. 
2- عقلي: وهو ما عرف اشتراطه بحكم العقل؛ مثل: الحياة شرط للعلم. 
3- عادي: وهو ما عرف اشتراطه بحكم العادة؛ مثل: وجود السلَّم شرط لصعود السطح. 
4- لغوي: وهو التعليق الحاصل بإحدى أدوات الشرط المعروفة في اللغة، كـ"إن"، و"إذا"، ونحوهما.

ومن العلماء مَن زاد قسمًا آخر سماه الشرط الجعلي، وهو: ما كان اشتراطه بتصرف المكلف؛ ومثاله: الشروط التي يشترطها الأزواج.

د- المانع:
والمانع لغة: الحائل والحاجز.
وشرعًا هو: ما يلزم من وجوده عدم الحكم، أو بطلان السبب، فقد تتوافَر جميع الشروط، ولكن يوجد مانع يمنع ترتُّب الحكم عليه، كما إذا وجدت الزوجيَّة الصحيحة أو القرابة ولكن منع ترتب الإرث على أحدهما لمانع الكفر أو القتل العمد.
هـ - الصحة:
والصحة عند اللغويين تقابل المرض.
وفي اصطلاح الأصوليين: ترتُّب الآثار الشرعية من الأفعال عليها، فإذا وُجِدت هذه الأفعال وفق ما طلب الشارع، بأن استوفَتْ أركانها وشرائطها حكَم الشارع بصحتها، وإن اختلَّت حكَم الشارع بعدم صحتها، وهذا يصدق على الصحيح من العبادات والمعاملات.

و- الفساد والبطلان:
الفساد ضد الصلاح، والبطلان ذهاب الشيء هدرًا.
والفاسد والباطل أمران بمعنى واحد عند الجمهور، وهو: ما لا يترتَّب عليه أثره.
(وعند الحنفية يفرق بينهما بأن الفاسد: ما شرع بأصله ولم يشرع بوصفه، والباطل: ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه.
ومثال الفاسد عندهم: العقود الربوية، فإذا باع رشيد من رشيد درهمًا بدرهمين، فالعقد فاسد وليس بباطل، ومثال الباطل عندهم: إذا باعه حمل الحمل الذي في بطن ناقته، أو باع الدم بدراهم، فالعقد باطل في الصورتين؛ لأن الخلل في المبيع، فحمل حمل الناقة معدوم، والدم نجس).

ز- الرخصة والعزيمة:
تعريفهما: الرخصة هي ما شرعه الله من أحكام؛ تخفيفًا على العبَاد في حالات خاصة تقتضي هذا التخفيف، أمَّا العزيمة فهي ما شرعه الله أصالةً من الأحكام العامة التي لا تختصُّ بحال ولا بمكلف.

ومن الرخص إباحة المحظورات عند الضرورات أو الحاجات، فمَن أُكرِه على الكفر أُبِيح له أن يتلفَّظ بها مع العزم القلبي بالإيمان.

ومن الرخص ترك الواجب إذا وُجِد عذر يجعل أداءه شاقًّا، فمَن كان مريضًا أو على سفر أُبِيح له الإفطار في رمضان.

خلاصة الباب
الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي

إذا حصل ما سبق تقرَّر أن الفرق بين الحكم التكليفي والوضعي ما يلي:

الحكم التكليفي

الحكم الوضعي

* لا يوصف به إلا فعل المكلف، وهو البالغ العاقل.

* أمَّا الحكم الوضعي فلا يختلف باختلاف الفاعل.

فمَن فعل ما هو سببٌ للضمان أُلزِم به، سواء أكان بالغًا عاقلاً أم لا، فالصبي إذا أتلف شيئًا لغيره انعقد سبب الضمان.

* أن الحكم التكليفي من شرطه العلم، فالجاهل به لا يثبت في حقه تكليف.

* والحكم الوضعي لا يشترط العلم به، فمَن فعل المحرم جاهلاً بتحريمه، فلا يؤثّم بل يُعذر.

* خطاب التكليف يُشتَرط فيه قدرة المكلف على فعل ما كُلِّف به.

* خطاب الوضع ليس من شرطه ذلك.

* أن الحكم التكليفي تُوصَف به الأفعال التي هي من كسب العبد.

* الحكم الوضعي لا يُشتَرط أن يكون من كسب العبد، فقد يكون من كسبه؛ ككثيرٍ من الشروط التي تُشتَرط لصحة العبادة، وقد لا يكون من كسبه كالأسباب والشروط والموانع الخارجة عن كسبه، فلو أرضعت زوجته طفلة حرمت عليه مع أنه لم يفعل شيئًا؛ لأن الرضاع سبب لانتشار المحرمية مع أنه ليس من كسبه.


التكليف:

التكليف في اللغة: مصدر كَلَّف يكلِّف، وهو الإلزام بما فيه كُلْفَة، والكُلْفَة هي المشقَّة، فيكون التكليف بمعنى الأمر بما فيه مشقَّة، وكَلِف بالشيء كلَفًا وكَلِفَه: أحبَّه، والمتكلِّف: الواقع فيما لا يعنيه).
والتكليف في الاصطلاح: (الخطاب بأمر أو نهي)، وعرفه بعضهم بأنه: (الإلزام بما فيه كلفة ومشقة).

أركان التكليف:
للتكليف ثلاثة أركان: المكلِّف، والمكلَّف، والمكلَّف به، وصيغة التكليف.
فالمكلِّف: هو الشارع.
والمكلَّف: هو البالغ العاقل المسلم.
والمكلَّف به: هو الفعل أو الترك.
وصيغة التكليف: هي الأمر والنهي وما جرى مجراهما.

شروط التكليف:
للتكليف شروط بعضها يرجع إلى المكلف، وبعضها يرجع إلى الفعل المكلف به.
والشروط التي ترجع إلى المكلَّف قسمان: شروط عامة، وشروط خاصة ببعض التكاليف.

• الشروط العامة:
1- البلوغ: ويحصل البلوغ عند الجنسين ببعض العلامات؛ كالإنزال عند الذكر، والحيض عند الأنثى، وغير ذلك.
2- العقل: فالمجنون - ويلحق به كل من لا يعقل الخطاب؛ من نائم، أو مغمى عليه... إلخ - غير مخاطب بالشرع لانتفاء العقل.
وهذان الشرطان دليلهما ما أخرجه أصحاب السنن من طريق عائشة - رضِي الله عنها - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((رُفِع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل)).
3- القدرة على التكليف: فالعاجز لا يكلف؛ لقوله - تعالى -: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله أيضًا: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].
4- الاختيار: أي: ألا يكونَ المكلف مكرهًا.
5- العلم بالتكليف: والشاهد في ذلك قوله - تعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15].

(والتكاليف الشرعية منها ما لا يُعذَر أحد بجهله بعد الدخول في الإسلام؛ لكونها ممَّا عُلِم من الدين بالضرورة؛ مثل: وجوب الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وتحريم الزنا، والكذب، والظلم، ونحو ذلك.

والصنف الثاني من الأحكام يمكن أن يجهلها المسلم لعدم اشتهارها أو لغموض أدلتها أو لحاجتها إلى نظر واستنباط؛ مثل: حرمة بيع العينة، وبعض أنواع البيوع التي قد يجهلها الإنسان العادي، وبعض أحكام الطهارة؛ كالمسح على الخفين، وبعض أحكام الصلاة كصلاة المسبوق وصلاة من لا يجد ما يستره، وبعض أحكام الزكاة؛ كزكاة الحلي، وأنصبة الزكاة، وبعض أحكام الصوم كاستعمال الإبر المغذية ونحوها.

فهذا النوع من الأحكام يُعذَر الجاهل بدعوى الجهل به، فلا يلحقه إثم بما فعله أو تركه ممَّا يخالف حكم الله، ولكن يجب عليه استدراك ما فاته إذا علم بحكم الله - جلَّ وعلا - ومن العلماء مَن رأى أنه لا يطالب باستدراك ما فاته، ولا يؤاخذ إلا بحقوق الآدميين؛ فإنها لا تسقط بجهله؛ لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير.

والقول الأول هو الصحيح - إن شاء الله - ولكن قد يُعذَر في استدراك ما فاته بجهله إذا كانت مطالبته بذلك توقعه في حرَجٍ ومشقة، كمَن صلى أكثر عمره وهو يمسح على خف لا يستر محلَّ الفرض أو يمسح على خف لم يلبسه على طهارة ونحو ذلك، وسيأتي للمسألة مزيد بيان في موانع التكليف.

• الشروط الخاصة ببعض التكاليف:
وهناك شُرُوط تختلف باختلاف المكلَّف به؛ فمنها: الحرية، فهي شرط للتكليف بالجهاد والجمعة، وليست شرطًا للتكليف بالصلاة والصوم، ومنها: الذكورية، وهي شرط للتكليف بالجمعة، ومنها: الإقامة، شرط للجمعة.

• شروط الفعل المكلف به:
أن يكون الفعل المكلف به معلومًا، والدلائل عليه قائمة منصوبة، وأن يكون ممكنًا.

موانع التكليف:
تكلم علماء الأصول في التكليف وشروطه وموانعه، أمَّا الحنفية فيسمون هذا الباب بالأهلية وعوارضها، والأهلية عندهم قسمان: أهلية وجوب، وأهلية أداء.

أولاً: أهلية الوجوب:
الأهلية في اللغة: الصلاحية.
وأمَّا في الاصطلاح فأهلية الوجوب هي: صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق، وتجب عليه واجبات، وقد يطلق عليها الفقهاء الذِّمَّة.
وهذه الأهلية ثابتة لكلِّ إنسان، ذكرًا كان أو أنثى، وسواء كان جنينًا أم طفلاً، أو مميزًا أم رشيدًا، عاقلاً أم مجنونًا، صحيحًا أو مريضًا، فلكلِّ إنسان أهلية للوجوب.

ثانيًا: أهلية الأداء:
وهي صلاحية المكلف لأن تعتبر شرعًا أقواله وأفعاله، بحيث إذا صدر منه تصرُّف أو عقد كان معتبرًا شرعًا، وترتبت عليه أحكام.
تمام الأهلية ونقصانها:
كلٌّ مِن أهلية الوجوب وأهلية الأداء قد تكون ناقصةً أو تامَّة، فأهلية الوجوب الناقصة تثبت للجنين في بطن أمه؛ لأنه تثبت له حقوقٌ، ولا تترتَّب عليه واجبات، ولكن تلك الحقوق لا بُدَّ لثبوتها من ولادته حيًّا، فإن وُلِد ميتًا لم تثبت، ومن ذلك حقه في الإرث، فإذا استهلَّ صارخًا وجب له نصيبه من التركة، وسميت أهليته أهلية وجوب كاملة، أمَّا إذا وُلِد ميتًا لم يجبْ.

وأهلية الوجوب الكاملة تثبت للإنسان أيضًا بالبلوغ والعقل، وفي التصرُّفات المالية يشترط لها الرشد أيضًا.
وأمَّا أهلية الأداء الناقصة فهي تثبت للإنسان منذ بلوغه سن التمييز إلى البلوغ، ولا تثبت للمجنون الذي لا يعقل، ولكنها تثبت لضعيف الإدراك ومن به تخلُّف عقلي.

وهذا النوع من الأهلية يترتَّب عليه صحة ما يفعله مَن حصلت له من العبادات، فيصحُّ إسلام الصبي وصلاته وحجه وصيامه ونحو ذلك، ولكن لا يكون ملزمًا بأدائها إلا على جهة التأديب والتمرين.

وأمَّا تصرفات الطفل التي ترتب له حقوقًا، وترتب عليه واجبات، فهي على أقسام:
1- التصرُّفات النافعة، فهي تنفذ وتصح؛ ومن ذلك الصدقة والهبة.
2- التصرفات الضارة، فهي لا تنفذ ولا تصحُّ من الصبي المميز ولو أجازها الولي؛ لأن الولي لا يملكها.
3- التصرُّفات الدائرة بين النفع له والضر به؛ مثل: البيع والإجارة والنكاح، وهذه موقوفة على إجازة الولي، إن أجازها صحَّت، وإلا فلا.

موانع التكليف:
المانع الشرعي: كل ما يمنع توجُّه الخطاب عقلاً أو شرعًا، وهذه الموانع هي كالتالي:
1- الجنون:
والجنون هو ذهاب العقل، مناط التكليف، والمجنون رُفِع عنه التكليف؛ بدليل قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((رُفِع القلم عن ثلاثة))، وذكر منهم: ((المجنون حتى يفيق))؛ سبق تخريجه.
وأقواله وأفعاله لغوٌ لا أثر لها، كتركه للأمر واقترافه للنهي فلا يؤثم عليه، وإن كان على عاقلته الضمان إن أتلف مال الغير، أو قتل.

2- النسيان:
وهو ذهول القلب عن الشيء بعد العلم به.
والناسي أفعاله وتركه لغوٌ لا يترتَّب عليه شيء، "ولكن إذا فعل ما يبطل العبادة ناسيًا، فقال بعض العلماء: لا تبطل عبادته، وقال بعضهم: تبطل؛ لأن المبطلات أسباب للبطلان فلا يشترط لها التكليف؛ لأنها من أحكام الوضع، وقال الحنفية بالتفريق بين العبادة التي هيئتها تذكر بها كالصلاة، والعبادة التي ليس لها هيئة خاصة تذكر المتلبس بها كالصوم، فالأولى لا يُعذَر بالنسيان فيها، والثانية يُعذَر فيها بالنسيان، كما أنه إذا فعل ما يضرُّ بالآخرين ناسيًا ترتَّب عليه الضمان لإهماله، وأمَّا المؤاخذة الأخروية فهي ساقطة عنه، وأمَّا الحدُّ والتعزير فيسقطان عنه إذا قام على دعوى النسيان دليل أو قرينة، ولا يكتفي بمجرَّد دعوى النسيان".

3- الجهل:
وهو انعدام العلم عمَّن يُتصوَّر منه العلم.
والجهل من حيث كونه عذرًا رافعًا للتكليف، فهو على أربعة أنواع:
أ- الجهل بالله - عز وجل - فهذا لا يُعذَر به الإنسان بعد إرسال الرسل إلى الخلق؛ قال - عز وجل -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، ولقوله أيضًا: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24].
ب- الجهل بما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ كالجهل بوجوب أركان الإسلام، فهذا لا يُعذَر به أحد ممَّن عاش بين المسلمين.
ج- الجهل بموضع الاجتهاد والاشتباه؛ كالجهل بحرمة بعض أنواع البيوع، أو جهله لبعض العوارض في الصلاة، فهذا النوع يسقط عن الجاهل اللوم والعتاب، ولكنه يلزم باستدراك ما فعله وتصحيحه.

4- النوم:
الخطاب لا يتوجَّه إلى النائم حالَ نومه؛ بدليل قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((رُفِع القلم عن ثلاثة)) وذكر منهم: ((النائم حتى يستيقظ)).
ولا يُقال: يلزم من عدم تكليفه أنه لو نام حتى ذهب وقت الصلاة لا تلزمه، ولو نام جميع النهار لا يلزم الصوم؛ لأن عدم تكليفه حال نومه لا يمنع من لزوم القضاء عليه؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها))؛ رواه النسائي والترمذي وصحَّحه في باب ما جاء في النوم عن الصلاة، والصيام كذلك؛ لأن الله أوجب قضاءه على المعذور لمرض أو سفر، فالنوم عُذر يسقط الإثم، ولا يسقط القضاء.

5- الإغماء:
الإغماء أشد من النوم؛ لأن النائم لو نُبِّه لصحا، بخلاف المغمى عليه.
واختلف العلماء في قضاء العبادة التي مرَّ وقتها على الإنسان وهو مغمى عليه، فقال الشافعي: لا قضاء عليه، وقال الحنفية: إن كان طويلاً فيلحق بالجنون، ويسقط القضاء كما مثَّلنا في المجنون، وإن كان قصيرًا فيلحق بالنوم، فلا يسقط به القضاء.
وما نقل عن الشافعي هو الصحيح.

6- السكر:
والسكر هو ذهاب العقل وحجبه، إمَّا بشكلٍ كلي أو جزئي، وقد اختلف العلماء في عدِّ السكر من موانع التكليف، فانقسموا إلى أربع فِرَق:
الفريق الأول: قالوا بأن السكر ليس مانعًا، وأن السكران مكلَّف، واستدلوا على ذلك بقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ووجه الدلالة: أن الله نهاه حال سكره عن الصلاة، فدلَّ ذلك على أنه أهلٌ للخطاب.
الفريق الثاني: والسكر عندهم مانع عن التكليف، فالسكران لا يوجَّه له الخطاب شأنه شأن المجنون.
الفريق الثالث: فرَّق بين أقواله وأفعاله، وقالوا: هو مكلَّف بالأفعال دون الأقوال، فيؤاخذ على القتل والزنا وإتلاف المال، ولا يُؤاخَذ على القذف والطلاق، ولا تنفذ عقوده.
الفريق الرابع: فرق بين أن يكون السكر بقصد أو من غير قصد، فإن كان قاصدًا شرب المسكر فيؤاخذ، وإلا فلا.

7- الإكراه:
والإكراه: حمل الشخص على فعل المحظور.
وقد قسَّم الجمهور والحنفية الإكراه إلى ملجِئ وغير ملجِئ، ولكن اختَلَف اصطلاحهم في تعريف الإكراه الملجِئ وغير الملجِئ على النحو التالي:
"الإكراه الملجِئ عند الجمهور: هو الذي لا يكون للمكره فيه قدرة على الامتناع، ويكون كالآلة في يد المكره، ومثَّلوه بما لو ألقاه من مكان مرتفع على صبي فمات، أو ربطه وأدخله في دار حلف ألا يدخلها.

وغير الملجئ عندهم ما عدا ذلك من أنواع الإكراه؛ كالتهديد بالقتل، أو الضرب، أو السجن.

والإكراه الملجئ عند الحنفية: هو أن يكون التهديد فيه بقتل، أو قطع طرف، أو جرح، أو ضرب مبرح، أو حبس مدَّة طويلة ممَّن يستطيع أن يفعل ذلك.
فهم حدَّدوا ما يسمى إكراهًا ملجئًا بالنظر إلى نوع التهديد، فإن كان متَحَمَّلاً سُمِّي غير ملجِئ، وإن كان غير متحمل عادة سُمِّي ملجئًا، ولهذا اختلفوا في بعض أنواع من التهديد هل يُعَدُّ الإكراه بها مُلجئًا؟ مثل حبس الوالد أو الولد، أو ضربهما أو قتلهما، إلى غير ذلك،وغير الملجئ عند أكثر الحنفية هو ما كان التهديد فيه بأقل مما ذكر في الملجئ).

كما اختلف العلماء في الإكراه: هل هو مانع عن التكليف أم لا؟
القول الأول: أن الإكراه لا يمنع التكليف، وهو مذهب الشافعية والحنفية وجمهور الأصوليين، ولكن الحنفية يعبِّرون بعبارة أخرى وهى قولهم: "لا يؤثر في أهلية الوجوب ولا في أهلية الأداء"؛ لأنهم لا يعبِّرون بالتكليف بل بالأهلية.
القول الثاني: أنه يمنع التكليف بما يوافق مراد الشارع ولا يمنع التكليف بنقيضه، وهذا مذهب أكثر المعتزلة؛ ومعناه: أن مَن أُكرِه على فعل مراد للشارع، ففَعَله لأجل الإكراه لا يُعَدُّ مكلفًا، فلا يُثاب على هذا الفعل، وإن امتنع يُعَدُّ مكلفًا فيُعاقَب على الترك، وإن أُكرِه على فعلٍ يخالف مراد الشارع؛ كالزنا، وسب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإن امتنع فهو مكلَّف ويُثاب، وإن فعل فليس بمكلَّف، فلا يُعاقَب.

والسبب في هذا القول: أنهم يربطون بين التكليف والثواب والعقاب، فحيثما وجد التكليف فلا بُدَّ من الثواب أو العقاب، وحيث انعدم التكليف فلا ثواب ولا عقاب.

والجمهور مع قولهم إن الإكراه لا يمنع التكليف لا يقولون: إن المكره يُؤاخَذ على كل ما يقوله أو يفعله؛ لأن التكليف عندهم الخطاب بأمر أو نهي، والمكره مخاطب، وكونه مخاطبًا لا يلزم منه حصول الثواب أو العقاب، ولا يلزم منه صحة جميع تصرُّفاته، والحكم الفقهي لما يفعله المكره فيه تفصيل على النَّحو التالي:
1- الإكراه بحقٍّ على بيع ماله لسداد الغرماء أو على عتق عبده، ونحو ذلك فهذا ينفذ ويصح. 
2- الإكراه بغير حق، وهذا يختلف حكمه باختلاف المكره عليه، فهو إمَّا أن يكونَ قولاً أو فعلاً.

أ- فأمَّا الأقوال فهي أنواعٌ، نجمل أهمها فيما يلي:
1- العقود المالية؛ كالبيع والإجارة ونحو ذلك، وهذه لا تصحُّ ولا تنعقد عند الجمهور، وذهب الحنفية إلى أنها فاسدة لا باطلة، ويمكن تصحيحها برضا العاقدين بعد ارتفاع التهديد والإكراه.
2- العتق والنكاح والطلاق، وهي عقود لا تقبل الفسخ، وهذه لا تقع مع الإكراه عند الجمهور، وعند الحنفية تقع؛ لأنها تقع مع الهزل، فمع عدم الرضا كذلك، ولكن يرجع على مَن أكرهه لضمان ما لحقه من الخسارة.
3- الأقوال المحرَّمة؛ كالنطق بكلمة الكفر، وسب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُعَدُّ الإكراه عذرًا مسقطًا للحد إن نطق بها وقلبه مطمئن بالإيمان، كما قال - تعالى -: {إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، والنطق بها رخصة، فإن صبَر على الأذى وامتنع أُثِيب على ذلك.

ب - الأفعال، وهي أنواع، أهمها ما يلي:
1- أفعال الكفر، كتمزيق المصحف وإهانته، والتمسح والذبح للصنم ونحو ذلك، وهذه كالنطق بالكفر يرخص للمكره في فعلها إنْ فعلها وقلبه مطمئن بالإيمان على الصحيح، وذهب بعض العلماء إلى أنه يُؤاخَذ عليها.
2- قتْل المعصوم أو جرحه أو قطع طرف من أطرافه، والإكراه لا يبيح ذلك باتفاق، فالفاعل يأثَم باتفاق، وهل يقتصُّ منه؟ اختلف في ذلك، فقيل: يقتصُّ من المكرَه، وقيل: يقتصُّ من المكرَه والمكرِه، وقيل: يُقتصُّ من المكرِه (بالكسر) فقط، وقيل: يسقط القصاص، والصواب الاقتصاص من المكرَه (بالفتح).
3- الزِّنا: والإكراه عليه لا يبيحه باتفاق، واختلفوا في إقامة الحد على المكره، والصواب أنه لا حدَّ عليه؛ لأن الحدود تُدرَأ بالشبهات، والإكراه شبهة قويَّة، وأمَّا المكرِه فلا حدَّ عليه باتِّفاق.

وفرَّق بعضهم بين المرأة والرجل؛ فقال: إذا أكرهت المرأة على الزِّنا فلا إثم عليها، وإن أُكرِه الرجل ففعَل فعليه الإثم؛ لأن زناه لا يكون إلا باختياره؛ إذ لا جماع بغير شهوة وانتشار، فإن حصل منه ذلك كان مطاوعًا مختارًا.

وبهذا يتبيَّن أن قول الجمهور: "إن المكرَه مكلفٌ، وإن الإكراه لا يمنع التكليف"، لا يعني مؤاخذته على كل ما أُكرِه عليه.

والقول بعدم تكليف المكره هو الأليق عند السلَف؛ لأن الله - تعالى - لم يؤاخذ مَن نطق بكلمة الكفر مكرهًا؛ فقال - تعالى -: {إلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إن الله تجاوَز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))؛ أخرجه ابن ماجه من طريق أبي ذر الغفاري.

والتكليف مع الإكراه فيه حرَج شديد ومشقة عظيمة، والله - تعالى - يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

الباب الثاني
أدلة الأحكام الشرعية

تعريف الدليل:
يُطلَق الدليل في اللغة ويُراد به: الهادي إلى الشيء والدال إليه.
وأمَّا معناه في الاصطلاح فهو: ما يمكن التوصُّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.

أقسام الأدلة الشرعية:
1- تنقسم الأدلة الشرعية من حيث الاتِّفاق على العمل بها وعدمه إلى ثلاثة أقسام:
أ- أدلة متفق عليها، وهي الكتاب، والسنة.
ب- أدلة فيها خلاف ضعيف، وهي الإجماع والقياس.
ج- أدلة فيها خلاف قوي، وهي قول الصحابي، والاستحسان، والمصلحة المرسَلة، وشرع مَن قبلنا، والاستصحاب، وسد الذرائع.

2- وتنقسم من حيث طريق معرفتها إلى قسمَيْن:
أ- أدلة نقلية: وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول الصحابي، وشرع مَن قبلنا، والعرف.
ب- أدلة عقلية: وهي القياس، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، والاستحسان، والاستصحاب، وليس مرادهم أنها عقلية محضة، بل هي عقلية مستندة إلى نقل.

3- وتنقسم الأدلة الشرعية من حيث قوة دلالتها إلى قطعية وظنية:
فالدليل القطعي: هو ما دلَّ على الحكم من غير احتمال ضده، ومثاله قوله - تعالى -: {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، فدلالة العدد هنا على الأيام الواجب صيامها دلالة قطعية.

والظني: ما دلَّ على الحكم مع احتمال ضده احتمالاً مرجوحًا، ومثاله قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]، فظاهر الآية يدلُّ على أن كلاًّ من المنِّ والأذى يبطل الصدقة، ولا يلتفت إلى الاحتمال المرجوح الذي تحتمله الآية، وهو أن الصدقة لا تبطل إلا بالجمع بين الأمرين (المن والأذى).

الأصل في الأدلة الشرعيَّة العموم:
الأدلة الشرعية تحمل على العموم سواء وردت بصيغة العموم، أم بصيغة الخصوص، إلاَّ أن يرد دليل يستدلُّ به على خصوصيتها.

فالآيات والأحاديث الواردة بصيغة العموم لا إشكال في عمومها بطريق اللغة، وأمَّا الواردة بصيغة الخصوص كالتي وُجِّه الخطاب فيها إلى فرد أو أفراد محصورين، فتكون عامة فيمَن حاله كحالهم، ممَّن يأتي بعدهم إلا أن تقوم دلالة على أنها خاصة بِمَن وردت فيه بعينه.

فالأحاديث الواردة في رجم ماعز لَمَّا زنى يدخل فيها كل زانٍ محصن.

والدليل على هذا الأصل من وجوه:
1- عموم رسالة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما جاء به من الشرع؛ لقوله - تعالى -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بُعِثت إلى الناس كافَّة))؛ أخرجه البخاري كتاب الصلاة، باب جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا.

2- قوله - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، فإذا كان التأسِّي بالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مطلوبًا، فيكون ما يثبت في حقه من الأحكام ثابتًا في حقِّ أمته إلاَّ أن يقوم دليل على الخصوصية.

3- الأدلة الدالة على مشروعية القياس تدلُّ على عموم الأدلة؛ لأن القياس مبناه على توسيع مجرى النص وإدخال مَن لا يدخل تحته وضعًا بطريق المعنى.

الدليل الأول: الكتاب:
القراءات الصحيحة والقراءات الشاذة:
نزل القرآن الكريم على سبعة أحرف بقَصْد التَّيْسير على الناس، وممَّا يدلُّ على ذلك ما أخرجه الإمام البخاري أن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إن القرآن أُنزِل على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسَّر))، كتاب الخصومات، باب كلام الخصوم بعضهم في بعض.

والأحرف السبعة التي نزل بها القرآن كلها عربية، ولما جمع القرآن في المصاحف في عهد عثمان اقتصر فيه على حرف واحد، وهو ما كانتْ قريش تقرأ به.
والقراءات العشر لا تخرج عن الحرف الذي أُثبِت في المصحف العثماني، وقيل: إن مصحف عثمان مشتمِل على الأحرف السبعة.

والقراءات منها ما هو صحيح، ومنها ما هو شاذ، ومنها ما هو باطل.
• فالقراءة الصحيحة هي ما ثبتت بسند صحيح إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ووافقت اللغة العربية ولو من وجه ووافقت الرسم العثماني.
• والقراءة الشاذة ما ثبتت بسند صحيح إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ووافقت اللغة العربية ولو من وجه وبايَنت الرسم العثماني، والمبايَنة قد تكون بزيادة كلمة أو تغييرها؛ ومثالها قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، فكلمة (متتابعات) غير موجودة في المصحف العثماني.
والقراءة الشاذة قد يُطلَق عليها اسم القراءة الآحادية.
• أمَّا القراءة الباطلة فهي ما اختلَّ فيها أحدُ الشرطين الأولين، فأيُّ قراءة اعتلَّ سندها أو لم توافق اللغة العربية فهي باطلة، لا يجوز التعبُّد أو الاحتجاج بها.

وقد اختلف العلماءُ في القراءة الشاذة هل يصحُّ التعبُّد بها في الصلاة؟
فالجمهور يرون عدم صحَّة الصلاة بها لعلة عدم تواترها.
وذهب البعض إلى صحة الصلاة بها شريطة صحة سندها، مستدلِّين بأن ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما كانوا يقرؤون بها، وممَّن قال بهذا: الإمام مالك، والإمام أحمد، واختاره أيضًا الإمام ابن القيم في "الإعلام".

كما اختلفوا في حجيَّة القراءة الشاذة على قولَيْن:
القول الأول: أنها حجة، وهو منسوب لأبي حنيفة وأحمد، ودليلهم في ذلك أنها نُقِلت بسند صحيحٍ إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
القول الثاني: أنها ليستْ حجة، وهذا ما ذهَب إليه الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - ومستنده في ذلك أن هذه القراءة ليست متواترة، بل هي تفسير من الصحابي الذي قرأ بها.

والأصح القول الأول؛ لأن قول الصحابي في تفسير القرآن حجة؛ لما علم من تورُّعهم عن القول في كتاب الله بما لا علم لهم به، والله أعلم.

وممَّا تفرَّع على هذا الأصل ما يلي:
1- وجوب التتابع في صيام كفارة اليمين، فمَن قال به استدلَّ بقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"؛ كالحنفية والحنابلة، ومَن لم يوجبه لم يستدل بهذه القراءة؛ كالشافعية والمالكية في الأظْهر.
2- المراد بالصلاة الوسطى في قوله - تعالى -: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 283]، "جاء في قراءة عائشة: "والصلاة الوسطى وصلاة العصر"، فمَن احتج بالقراءة الآحادية، احتجَّ بهذه القراءة على أن الصلاة الوسطى ليست صلاة العصر؛ لعطفها بالواو على الصلاة الوسطى، والعطف يقتضي المغايرة، ومَن لَم يحتج بالقراءة الآحادية لَم يحتج بهذه القراءة، وربما ذهَب إلى أنها صلاة العصر أو غيرها بأدلة أخرى"، انظر: "شرح النووي على مسلم" 5/130.

الدليل الثاني: السنة:
تعريف السنة:
لغة: تطلق السنة في اللغة على الطريقة، سواء كانت حسنة أم محمودة ومن ذلك قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها من بعده))؛ صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة. 
والسنة في اصطلاح علماء أصول الفقه: هي ما صدَر عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من قول أو فعل أو تقرير.

أمَّا المحدِّثون فيزيدون عن التعريف السابق "الوصف"، ويُريدون به ما جاء مِن أوصاف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وقد تسمَّى السنة أحيانًا خبرًا، ويطلق الخبر على ما نُقِل عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - غير القرآن، وما نقل عن الصحابة والتابعين، وقد يجعلون الخبر ما نقل عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والأثر ما نقل عن الصحابة والتابعين.

أقسام السنة:
من تعريف الأصوليين تَبَيَّن أن السنة تنقسم إلى: 
1- سنة قوليَّة: وهي ما قاله - عليه الصلاة والسلام - غير القرآن في مختلف المناسبات. 
2- سنة فعليَّة: وهي ما نقل عن النبي - عليه الصلاة والسلام - من أفعال؛ كصفة صلاته وحجه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
3- سنة تقريرية: وهي ما علم به - عليه الصلاة والسلام - من أقوال أو أفعال بعض الصحابة ولم ينكرها عليهم، ومن ذلك عدم إنكاره على آكلي لحم الضب، روى الشيخان من طريق ابن عباس أنه قال: "فأكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كان حرامًا ما أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم".

أقسام الخبر:
• ينقسم الخبر من حيث عدد الرواة إلى ثلاثة أقسام: متواتر ومشهور وآحاد:
1- والمتواتر: هو ما رواه جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، وهو نوعان: متواتر لفظي، والآخر معنوي:
أ- المتواتر اللفظي: ما اتَّفق رواته على لفظه ومعناه؛ مثل حديث: ((مَن كذب علي متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار))، فقد روى هذا الحديث نيف وستون صحابيًّا.
ب- المتواتر المعنوي: وهو ما تواتَر معناه دون لفظه، ومثاله أحاديث المسح على الخفين.

2- المشهور: هو ما رواه عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - راوٍ أو راويان، ثم تواتر في عصر التابعين أو تابع التابعين، فحديث: ((إنما الأعمال بالنيات))، تفرَّد به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واشتهر عن يحيى بن سعيد الأنصاري.

3- الآحاد: وهو ما رواه واحد أو أكثر ما لَم يصل إلى حد التواتر، وأكثر الأحاديث من هذا القبيل.

وينقسم الخبر من حيث الصحة إلى: صحيح وضعيف وحسن بينهما:
1- الصحيح: ما رواه العدل الضابط عن مثله المتَّصل السند إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الخالي من الشذوذ والعلة القادحة.
(فالراوي العدل): المنضبط بدينه، المتحلِّي بشمائل الإسلام، الخالي من خوارم المروءة.
(الضابط): الحافظ للحديث، وغير مخالف للثقات.
(عن مثله): أي: أن يكون كل رواة السند مثل ذلك حتى يصل السند إلى صاحب المقام الرفيع - عليه الصلاة والسلام.
(الخالي من الشذوذ والعلة): فالشذوذ هو مخالفة الراوي لِمَن هو أوثق منه، والعلة هي ذاك الوصف الخفي الذي يوجب رد الحديث، وهذه العلة تحتاج لاستخراجها جهابذة هذا العلم "كأبي حاتم الرازي حين أعلَّ بعض الأحاديث، فقال له السائل: تدعي علم الغيب؟ قال: ما هذا ادعاء علم الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قال: سل عمَّا قلت مَن يُحسِن مثل ما أُحسِن، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم، فذهب السائل إلى أبي زرعة فسأله فوجد جوابه مطابقًا لجواب أبي حاتم، ثم رجع إلى أبي حاتم وقال: ما أعجب هذا! تتَّفقان من غير مواطأة فيما بينكما!)؛ انظر: "اهتمام المحدثين بنقد الحديث"؛ لمحمد لقمان السلفي، ص332.

2- الحسن: والحديث الحسن ما توفرتْ فيه جلُّ شروط الصحيح ما عدا الضبط الكامل، فراوي الحديث الحسن خفيف الضبط.

3- الضعيف: وهو ما لم تجتمع فيه لا شروط الحسن ولا شروط الضعيف، وهو أقسام كثيرة.

شروط الراوي الذي تُقبَل روايته:
يُشتَرط في ناقل الحديث عِدَّة شروط، منها ما هو متَّفق عليها، ومنها ما هو محلُّ خلاف بين العلماء، وهذه الشروط كالتالي:
1- الإسلام: فالكافر لا يُقبَل له قولٌ في دين الله، وشرط الإسلام شرط عند الأداء لا عند التحمل.
2- البلُوغ: فالصبي يمنع له الأداء لعلة عدم التكليف.
3- العدالة: وهي ملَكَة تمنع صاحبها من اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر وفعل ما يخلُّ بالمروءة.
4- الضبْط: وهو الحفظ التام لما يسمع أو يرى.

حجية السنة:
السنة النبوية الثابتة المتواترة مصدرٌ من مصادر التشريع الإسلامي، وأمَّا أخبار الآحاد فقد خالَف فيها بعض المتكلمين، فقال بعضهم: إنها ليست حجة، وقال بعضهم: يشترط في حجية خبر الآحاد أن يرويه عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - اثنان، ويرويه عن كل واحد منهما اثنان حتى يصلَ إلينا.

والأئمة المتبوعون جميعهم اعتدُّوا بأخبار الآحاد إذا صحَّت، ويحتجُّون بها، وممَّا يستدلُّون به على حجيَّة خبر الآحاد ما يلي:
1- قوله - تعالى -: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
وجه الدلالة: أنَّ الطائفة في اللغة تُطلق على الواحد، وعلى العدد القليل والكثير.
2- وثبت أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يبعث رسله إلى ملوك وأمراء زمانه والعاملين على الزكاة، وهم آحاد.
3- إجماع الصحابة على قبول العمل بخبر الواحد، ويدل على ذلك الوقائع التالية:
• أن أبا بكر - رضِي الله عنه - ورث الجدة السدس لخبر المغيرة بن شعبة، "فعن قبيصة بن ذؤيب أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: هل سمع أحد منكم مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها شيئًا، فقام المغيرة بن شعبة فقال: شهدتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي لها بالسدس، فقال: هل سمع ذلك معك أحد؟ فقام محمد بن مسلمة فقال: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي لها بالسدس، فأعطاها أبو بكر السدس"؛ "مسند الإمام أحمد"، مسند الشاميين، حديث محمد بن مسلمة الأنصاري - رضي الله تعالى عنه.

• توريث عمر المرأة من دية زوجها: "فعن سعيد بن المسيب أن عمر كان يقول: الدية على العاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا حتى أخبَرَه الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه: أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم"؛ "سنن الترمذي"، كتاب الديات عن رسول الله، باب ما جاء في المرأة هل ترث من دية زوجها؟

4- إجماع العلماء على أن المستفتي في النازلة مأمور بقبول فتوى المفتي الواحد.
وأمَّا الذين اشترطوا في حجية خبر الآحاد أن يرويه عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - اثنان ويرويه عن كل واحد منهما اثنان حتى يصل إليهم، فيستدلون بما يلي:
1- قياس الرواية على الشهادة:
وقياسهم الرواية على الشهادة لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق، فالرواية خبر عام في الدين، والشهادة إلزام لشخص بعينه.

2- ما أخرجه البخاري "عن أبي سعيد الخدري - رضِي الله عنه - قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع))، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمِنكُم أحد سمعه من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك"؛ "صحيح البخاري"، كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثًا.

واستدلالهم بها الحديث يُجاب عنه بأن عمر طلب ذلك لزيادة التثبت، ولإشعار الناس بعظم الرواية عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى لا يتجرَّأ عليها كلُّ أحد، وفي هذا يقول عمر - رضي الله عنه - لأبي موسى: "أمَا إني لم أتهمك، ولكن الحديث عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شديد"؛ أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان.

شروط الحنفية لقبول خبر الواحد:
واشترط الحنفيَّة لقبول العمل بخبر الواحد عِدَّة شروط بأدلتها، وقد خالفهم في ذلك الجمهور:
1- ألا يكون الخبر فيما تعمُّ به البلوى، ومثَّلوا لهذا بحديث بسرة - رضي الله عنها - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن مسَّ ذكره فليتوضأ))؛ "موطأ الإمام مالك"، كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الفرج.

قالوا: ليس من المعقول أن يسكت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن بيان نقض الوضوء بمسِّ الذكر لعموم الناس مع أن أكثرهم لا يلبس السراويل؛ ممَّا يجعل إفضاءه بيده إلى ذكَرِه كثير الحدوث، ثم كيف تختصُّ بسماع هذا الحديث امرأة هي بسرة بنت صفوان مع أن المقصود به في المقام الأول الرجال.
وجمهور العلماء يقولون: إذا صح الحديث وجب قبوله والعمل به، سواء أكان ممَّا تعمُّ به البلوى أم لا.

2-
عدم مخالفة الحديث للأصول والقواعد الثابتة في الشريعة الإسلامية، وقد يعبِّر عنه بعضهم بعدم مخالفة الأصول أو عدم مخالفة القياس، ومثَّلوا لمخالفة القياس بحديث المصراة؛ فعن أبي هريرة: عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تصروا الإبل والغنم، فمَن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها؛ إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر))؛ "صحيح البخاري"، كتاب البيوع، باب النهي للبائع ألا يحفل الإبل والبقر والغنم.

ووجه مخالفة هذا الخبر للأصول: أن قواعد الشرع تقضي بأن ضمان المتلفات يكون بالمثل أو بالقيمة، وفي الحديث ضمان لبن المصراة بصاع من تمر، والصاع ليس مثلاً للبن ولا مساويًا لقيمته، فهو مخالف لقواعد الشرع. 

وحجة الجمهور أن الخبر إذا خالف غيره من الأصول صار أصلاً بنفسه، فيجمع بينه وبين غيره بحمل كل من الأحاديث على معناه.

3- أن يكون الراوي فقيهًا.
والصحيح عند الجمهور قبول خبر الواحد العدل الضابط، سواء كان فقيهًا أم لَم يكنْ.

4- ألا يخالف عمل الراوي ما يرويه، فإن عمل بخلاف ما يرويه رفض حديثه، واحتجُّوا بخبر أبي هريرة المرفوع: ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليرقه ثم ليغسله سبع مرار))؛ "صحيح مسلم"، كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، مع أن أبا هريرة كان يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا.

والجمهور قالوا: إن العبرة بما ثبت عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا بما يفعله الصحابي، فالصحابي ليس معصومًا من الخطأ والنسيان، فقد يكون ترَك العمل به نسيانًا.

منزلة السنة من القرآن:
السنة بالنسبة للقرآن على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: سنة مبيِّنة للقرآن، كالسنة التي تخصِّص القرآن أو تبيِّن مجمله؛ مثل ما روي عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من صفة الصلاة وصفة الحج، فهذا بيانٌ لما في القرآن من الأمر بالصلاة والحج. 
الضرب الثاني: سُنَّة مؤكدة لما في القرآن من غير زيادة، كالسنة التي تحثُّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرضية الصلاة والزكاة، وباقي ضروريات الدين.
الضرب الثالث: السنة المؤسسة للأحكام التي لم يرد ذكرها في القرآن الكريم؛ مثل: السنة التي أوجبت توريث الجدة، وتحريم الجمع بين المرأة وعمَّتها، وبين المرأة وخالتها.

أفعال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -:

لقد قسَّمَ العلماء أفعاله - عليه الصلاة والسلام - إلى أقسام، ولكل قسم دلالته، وهذه الأقسام على النحو التالي:
1- الأفعال الجبليَّة: وهي أعمال يعملها بمقتضى الجبلَّة البشرية والطبيعة البشرية، والأصل في هذه الأفعال الإباحة، فلا توجب أمرًا ولا نهيًا.
2- أفعال من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام الدليل على أنها خاصة به؛ ومن ذلك التزوج بأكثر من أربع زوجات، فهذا لا خلاف في عدم جواز التأسِّي به فيه.
3- أعمال تتَّصل ببيان الشريعة؛ كصلاته، وصيامه، وبيوعه، فإن هذا النوع يكون شرعًا متبعًا، فما كان حكمه الندب فهو مندوب، وما كان حكمه الوجوب فهو واجب.
4- الفعل المبتدأ المطلق الذي ليس امتثالاً ولا بيانًا، ولا هو من الخواص ولا أفعال العادة الجبلية، فهذا على ثلاثة أضرب:
أ- أن يكون معلوم الحكم من وجوب أو ندب أو إباحة، وهذا النوع يُعرَف حكمه من القرائن المقترنة به؛ مثل الاعتكاف فهو مستحب عند جميع الفقهاء، مع أنه لم يثبت فيه إلا فعل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ب- أن يكون غير معلوم الحكم، ولم يتبيَّن فيه قصد التقرُّب، ومن ذلك اكتحاله وترجُّله - عليه الصلاة والسلام - وهذا الضرب من الأفعال يُحمَل على الإباحة.
ج- أن يكون غير معلوم الحكم، ولكن يظهر فيه قصد القربة، وهذا مختَلَف فيه على أقوال:
القول الأول: الوجوب، وهذا القول محكيٌّ عن الإمام مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، واستدلُّوا لهذا القول بقوله - تعالى -: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
ووجه الدلالة في الآية: أن الاتِّباع يحمل على الوُجُوب.
واستدلوا أيضًا بقوله - سبحانه -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، "الإحكام"؛ للآمدي 1/174.

القول الثاني: الندب: وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد وحكي عن الشافعي، واستدلوا بأن كل ما يفعله - عليه الصلاة والسلام - من القربات فحُكْمه الندب.

القول الثالث: لا يفيد الوجوب ولا الندب بل يُحمَل على الإباحة، وهو مذهب الكرخي، وإليه ذهب السرَخْسي، وهؤلاء يستدلون بأن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مأمور بالتبليغ، والتبليغ لا يكون إلا باللفظ، فالفعل يحتمل الوجوب والندب والإباحة، فنجزم بالمتيقن وهو الإباحة، وما زاد على ذلك لا بُدَّ من دليل آخر عليه، "أصول السرخسي" 2/87. 

القول الرابع: الوقف بسبب تعارض الأدلة وهو رواية عن الإمام أحمد وأبي الخطاب.
والراجح هو القول الثاني، وهو حمله على الندْب.

الدليل الثالث: الإجماع:
تعريفه:
الإجماع لغةً: العزم، يُقال: أجمعت على السفر؛ أي: عزمت عليه.
واصطلاحا: هو اتِّفاق المجتهدين في عصر من العصور على حكم شرعي.

تصور وقوع الإجماع:
اختلف العلماء في إمكان حصول الإجماع على ثلاثة أقوال:
1- أنه مُمكن الوُقُوع مُطلقًا في عهد الرعيل الأول من الصحابة وفي غيره، وهذا مذهب الجمهور.
2- أنه غير ممكن؛ بسبب اتِّساع رقعة البلاد الإسلامية ولتباعد المجتهدين، وبالتالي عسر عرض المسألة الواحدة على الكافة.
3- هو ممكن في عهد الصحابة دون غيره.

وفي العصر الحاضر لا يمتنع أن يجتمع المجتهدون من المسلمين ويتَّفقوا على حكم واحد وذلك لتوفر وسائل الاتصال.

أنواع الإجماع:
ينقسم الإجماع باعتبارات متعددة، أهمها:
أ- الإجماع من جِهة كيفية حصوله، وهو ثلاثة أقسام:
1- الإجماع الصريح: وهو أن يتَّفق مجتهدو العصر على حكم واقعة، فيعبر كل مجتهد عن رأيه صراحة.
2- الإجماع السكوتي: وهو أن يبدي بعض المجتهدين رأيهم صراحة، ويسكت الباقون عن إبداء رأيهم.
3- الإجماع الضمني: وهو المستنتَج من اختلاف أهل العصر على قولين أو أكثر، فيدلُّ ذلك على اتِّفاقهم على أن ما خرج عن تلك الأقوال باطل. 

ب- تقسيمه من حيث قوة دلالته إلى: قطعي وظني:
1- الإجماع القطعي: وهو الإجماع الصريح؛ إذ لا سبيل إلى الحكم في الواقعة بخلافه.
2- الإجماع الظني: وهو الإجماع السكوتي؛ أي: إن حكمه مظنون لأنه رأي جماعة المجتهدين لا جميعهم.

حجية الإجماع:
1- ذهب الجمهور إلى أن الإجماع حجة مطلقًا، واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
• قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً} [البقرة: 143]، ووجه الاستدلال أن الله - عز وجل - جعل الأمَّة شاهدة على غيرها من الأمم الغابرة، وهذا يدلُّ على قبول قولهم إذا اتفقوا.

• ما أخرجه الترمذي عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومَن شذ شذ إلى النار))؛ سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة، ووجه الدلالة أن الله عصم الجماعة من الوقوع في الضلالة والخطأ.

2- وذهب الإمام أحمد والظاهرية إلى أن الحجة في إجماع الصحابة؛ ولذا نقل عن ابن حنبل قوله: "مَن ادَّعى الإجماع فقد كذب"؛ "العدة"؛ لأبي يعلى، 1059.

3- وذهب النظَّام وطائفة من الشيعة الروافض إلى أن الإجماع ليس حجة على الإطلاق، فأمَّا النظام فحجَّته أن الإجماع لا يُتصَوَّر وقوعه، ولو تُصُوِّر لن يصل إلينا بطريق التواتر، والشيعة حجتهم في ذلك أن المرجع عندهم الإمام المعصوم.

حجية الإجماع السكوتي:
ذهَب الجمهورُ إلى حجيَّة الإجماع السكوتي، واستدلوا بما يلي:
1- أن سكوت العالِم عن فتوى غيره يدل على موافقته إياه.
2- ما نقل عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرُّهم مَن خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))؛ "صحيح مسلم"، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم...))، ووجه الدلالة من الحديث: أن الأمة لا يمكن أن تخلو من قائم لله بالحجة، وذهب بعضُهم إلى أن الإجماع السكوتي حجة ظنيَّة، وهذا ما رجحه العلماء.

وأمَّا الإجماع الضمني فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:
"القول الأول: أنه حجة، وهو مذهب أكثر الأصوليين، واستدلوا على ذلك بأن إحداث قول ثالث لا يخلو من أمرين:
أحدهما: أن يكون هذا القول المحدث خطأ، وحينئذ لا يُعتَدُّ به، والثاني: أن يكون هذا القول صوابًا، فيكون القولان أو الأقوال التي ذهب إليها أهل العصر السابق كلها خطأ، فتخلو الأمة في عصرهم عن قائم لله بالحجة، وهذا مستحيل، دلَّ على استحالته أدلة حجية الإجماع، فتبين أن كلا الاحتمالين باطل، فيكون إحداث قول جديد باطلاً.

القول الثاني: أنه ليس بحجة ولا إجماع، واستدلوا على ذلك بأن الإجماع لا يمكن أن يؤخذ من الخلاف، وأصحاب العصر السابق قد اختلفوا، فكيف يستدل باختلافهم على الإجماع؟ وأيضًا فإن أصحاب القرن السابق قد اختلفوا في المسألة، فيستدل باختلافهم على أن المسألة خلافية، وأن الخلاف فيها سائغ، وإذا ساغ الخلاف فيها فلا مانع من إحداث قول جديد.

القول الثالث: التفصيل، فإن كانتْ أقوال المختلفين بينها قدر مشترك والقول المحدث يرفع ما اتفقت عليه فهو باطل، وإن لَم يرفع ما اتفقت عليه الأقوال فهو اجتهاد سائغ.

ومثلوا للقول الذي يرفع ما اتَّفقت عليه الأقوال السابقة بأن الصحابة اختلفوا في ميراث الجد والإخوة؛ فقال بعضهم: يشرك بينهم، وقال الآخرون: الميراث للجد، والإخوة محجوبون، والقدر المشترك بين القولَيْن أن الجد لا يُمكن أن يُحرَم من الإرث حينئذٍ، فلو قال المتأخِّر: الميراث للإخوة والجد يُحجَب بهم لكان قوله باطلاً مخالفًا للإجماع.

ومثَّلوا للقول المحدث الذي لا يرفع ما اتفق عليه القولان السابقان بما إذا اختلف المتقدِّمون في العيوب هل يفسخ بها النكاح؟ فقال بعضهم: لا يفسخ النكاح بالعيوب، وقال بعضهم: يفسخ بها، فلو ذهب ذاهب بعد عصرهم إلى أن بعض العيوب يفسخ بها دون بعض لما كان قوله مخالفًا للإجماع".

الذين ينعقد بهم الإجماع:
ينعقد الإجماع بالعلماء المجتهدين بغضِّ النظر عن سنهم أو بلادهم أو طبقاتهم، ولا يعتدُّ بالإجماع إلا باتفاق هؤلاء المجتهدين وقت النازلة، والدليل الذي يستند إليه الإجماع هو قوله - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
"وينبني على ما تقدَّم أن التابعي إذا بلغ درجة الاجتهاد في حياة الصحابة، يُعتَدُّ بقوله في المسائل التي لم يقمْ عليها إجماع قبل بلوغه درجة الاجتهاد، فلو خالَف التابعي المعاصرين له من الصحابة لَم يعد مخالفًا للإجماع؛ إذ لا إجماع حينئذ.

وينبني على ذلك أيضًا أن مَن حصَّل بعض العلوم التي لا بُدَّ منها لبلوغ درجة الاجتهاد دون بعضها لا يُعتَدُّ بقوله، فالمحدث الذي لا يعرف أصول الفقه وقواعده، والفقيه الحافظ للفروع الذي لا يعرف أحاديث الأحكام، والأصولي الذي لا يعرف أدلة الأحكام لا يعتد بقولهم في الإجماع، لكن الأصولي القادر على الاستنباط إذا عرف أدلة المسألة وأحاط بأكثرها اعتدَّ بقوله فيها، والمحدث إذا عرف اللغة وأصول الفقه اعتدَّ بقوله، والفقيه إذا عرف أصول الفقه واللغة وأدلة المسألة موضع البحث اعتد بقوله فيها، وهذا مبني على أن الاجتهاد يتجزَّأ فيكون العالم مجتهدًا في بعض أبواب الفقه ومسائله دون غيرها، كما سيأتي في باب الاجتهاد".

هل يشترط لتحقق الإجماع انقراض العصر؟

المقصود بانقراض العصر موت العلماء المجمعين على حكم النازلة قبل رجوعهم عن رأيهم.

والصحيح أن انقراض العصر ليس شرطًا؛ لأن الأمة إذا اتفقت على حكم فهي معصومة من الخطأ؛ لحديث: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة))، فإذا حصل الإجماع وجب أن يكون على صواب، وإذا كان صوابًا فما سواه خطأ؛ لأن الحق واحد لا يتعدد.

ويجوز للعالم الفرد أن يرجع عن فتواه في المسائل التي لم يحصل فيها إجماع.

"وممَّا يؤيِّد القول بعدم اشتراط انقراض العصر أنه لو اشترط هذا الشرط لَما تحقق إجماع أبدًا؛ لأنه قبل أن ينقرض أهل العصر يبلغ درجة الاجتهاد علماء آخرون من الطبقة التي تليهم، ومن حقهم أن يفتوا في تلك المسألة بخلاف ما اتفق عليه مَن سبقهم؛ إذ لم ينعقد الإجماع بعد، فإن أفتوا بموافقتهم من قبلهم، أصبحوا من أهل الإجماع فلا ينعقد حتى يموتوا ثم يأتي في عصرهم علماء من الطبقة الثالثة، فيجوز لهم أن يخالفوا في تلك المسألة أو يوافقوا، وهكذا فلا يتحقق الإجماع أبدًا...

والمشترطون للانقراض يقولون: إنه ممكن؛ لأن العبرة بموت المجمعين من الطبقة الأولى قبل وجود المخالف من الطبقة الثانية أو الثالثة، ولا يشترط موت مَن لحق بهم من الطبقة الثانية أو الثالثة، وهذا لا دليل عليه؛ إذ كيف يجعل موت فلان من الناس دليلاً على التحريم أو الإباحة أو غيرهما من الأحكام".

الإجماعات الخاصة:
يُراد بالإجماعات الخاصة إجماع طائفة معينة من العلماء؛ كإجماع أهل البيت الذي يحتجُّ به الروافض، وإجماع أهل المدينة وإجماع أبي بكر وعمر، والراجح عند الجمهور أن هذا النوع من الإجماع لا يحتجُّ به.

وأكثر هذه الإجماعات التي وقع فيها خلاف إجماع أهل المدينة أو عمل أهل المدينة.

عمل أهل المدينة:
عمل أهل المدينة جعله القاضي عبدالوهاب بن نصر المالكي على ضربين: نقلي واستدلالي.
النقلي: كنقلهم الصاع والمد والأذان وترك أخذ الزكاة من الخضروات، وهذا الضرب لا اختلاف فيه.

والاستدلالي: ما ذهبوا إليه من طريق الاجتهاد، والمالكية مختلفون فيه على ثلاثة أوجه:
1- أنه ليس بحجة، وهو قول الباقلاني والأبهري.
2- أنه مرجِّح عند التعارض، ولا يحتج به منفردًا.
3- أنه حجة، "البحر المحيط" 4/485 - 486.

ومستند المالكية لأخذهم بعمل أهل المدينة ما يلي:
1- أن الإمام مالك - رحمه الله - ذكر في "الموطأ" في كتاب البيوع باب العيب في الرقيق إجماع أهل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ولا يبرأ من العيب لو اشترطه، ثم خالفهم، ولعل هذا هو ما جعل بعض علماء المالكية ينكرون احتجاج مالك بإجماع أهل المدينة إلا فيما سبيله النقل.

قول مالك في "الموطأ": "الأمر المجتمع عليه عندنا أن كل مَن ابتاع وليدة فحملت أو عبدًا فأعتقه، وكل أمر دخله الفوت حتى لا يستطاع رده فقامت البينة أنه قد كان به عيب عند الذي باعه أو علم ذلك باعتراف من البائع أو غيره - فإن العبد أو الوليدة يقوم وبه العيب الذي كان به يوم اشتراه، فيرد من الثمن قدر ما بين قيمته صحيحًا وقيمته وبه ذلك العيب، قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يشتري العبد ثم يظهر منه على عيب يردُّه منه، وقد حدَث به عند المشتري عيب آخر أنه إذا كان العيب الذي حدث به مفسدًا مثل القطع أو العور أو ما أشبه ذلك من العيوب المفسدة، فإن الذي اشترى العبد بخير النظرين إن أحب أن يوضع عنه من ثمن العبد بقدر العيب الذي كان بالعبد يوم اشتراه وضع عنه، وإن أحب أن يغرم قدر ما أصاب العبد من العيب عنده ثم يرد العبد - فذلك له، وإن مات العبد عند الذي اشتراه أقيم العبد وبه العيب الذي كان به يوم اشتراه فينظر كم ثمنه، فإن كانتْ قيمة العبد يوم اشتراه بغير عيب مائة دينار وقيمته يوم اشتراه وبه العيب ثمانون دينارًا، وُضِع عن المشتري ما بين القيمتين وإنما تكون القيمة يوم اشتري العبد".

2- والدليل الثاني عند المالكية لأخذهم بعمل أهل المدينة أنها حوت صحابة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبنيهم وأحفادهم، وهم عاشروا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبالتالي فكل ما أجمعوا عليه له شاهد في فعله أو تركه - عليه الصلاة والسلام.

أمَّا الجمهور فيَرَوْن أنه لا حجة لعمل أهل المدينة، بل الحجة بما اجتمعت عليه الأمة قاطبة.

انعقاد الإجماع بعد الخلاف:
إذا اختلف أهلُ العصر الواحد في مسألة على قولين فأكثر، ثم رجع بعضهم عن قوله واتفقوا، هل يُعَدُّ هذا إجماعًا؟ 
• ذهب بعض المالكية إلى أنه إجماع، وهذا هو الصحيح.
• وذهب الجويني إلى أنه إجماع إذا قرب العهد.

حكم مخالفة الإجماع:
الإجماع الصريح المنقول بطريق التواتر والقطع المبني على نصوص قطعية لا يجوز الحياد عنه، ومَنْ فعل ذلك يُعَدُّ فاسقًا عند أكثر العلماء، لا لمخالفته الإجماع ولكن لمخالفته النصوص التي بُنِي عليها هذا الإجماع.

الدليل الرابع: القياس:
تعريفه:
القياس لغة: التقدير للشيء بما يماثله ويطلق على التسوية؛ لأن تقدير الشيء بما يماثله تسوية بينهما.
واصطلاحًا: هو إلحاق واقعة فرعية لا نص على حكمها بواقعة أصلية ورد نص بحُكْمها لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم.

عماد التعريف:
تضمَّن هذا التعريف الكلمات التالية: الحكم، الأصل، الفرع، العلة، وهذه الكلمات هي أركان القياس الأربعة المعروفة:
• فالحكم سبق تعريفه في باب الأحكام الشرعية.
• والأصل هو المقيس عليه؛ أي: المسألة المنصوص على حكمها.
• والفرع هو المقيس؛ أي: المسألة التي لَمْ يَرِدْ نص على ذكرها.
• أمَّا العلة فهي الوصْف الذي يشترك فيه الأصل مع الحكم.

فالقياس بهذا المعنى هو تسْوية المجتهد بين مسألتين، إحداهما ثبَت حكمها بالنص أو الإجماع الصريح، والأخرى لم يرد دليل يبيِّن حكمها، فيقوم المجتهد بإلحاق الثانية بالأولى لأجل اشتراكهما في مناط الحكم أي علته.

وهذه بعض الأمثلة من الأقيسة الشرعية توضح هذا التعريف:
1- شرب الخمر واقعة ثبت بالنص حكمها؛ وهو التحريم لعلَّة الإسكار، وكل نبيد توجد فيه هذه العلة يساوى بالخمر في حكمه ويحرم شربه.
2- البيع وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة واقعة ثابت بالنص القرآني حكمها؛ وهو التحريم لعلة الانشغال عن الصلاة، والإجارة أو الرهن أو أي معاملة وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة توجد فيها هذه العلة، تقاس على سابقتها.

تعريف العلة:
العلة لغة: هي المرض، واصطلاحًا هي: الوصف الظاهر المنضبط الذي دلَّ الدليل على أنه مناط الحكم.

فقولهم: (الوصف): أي: معنى من المعاني.
وقولهم: (الظاهر): قيد يخرج منه الوصْف الخفي.
وقولهم: (المنضبط): أي: الذي لا يختلف باختلاف الإفراد ولا باختلاف الأمكنة والأزمنة.
وقولهم: (دل الدليل على أنه مناط الحكم): أي: قام دليلٌ معتبَر من الأدلة الدالة على أن هذا الوصْف هو علة الحكم.
ومعنى قولهم: (مناط الحكم): أي: أن الحكم متعلق بالعلة وجودًا وعدمًا.

وقد اختلف العلماء في أثر العلة في الحكم على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: مذهب المعتزلة؛ ويرون أن العلة لها تأثير في ثبوت الحكم.
المذهب الثاني: مذهب الأشاعرة؛ وذهبوا إلى أن العلة ليس لها تأثير في وجود الحكم، والحكم مستنده لله - عز وجل - لا يعلل، فهم ينكرون أثر الأسباب ويجعلون المؤثر هو الله وحده، والأسباب والعلل عندهم ليست إلا علامات على أن الله أراد وجود المسبب.

فإذا كان المعتزلة يرون أن النار محرِقة بذاتها إلاَّ إذا أراد الله أن يسلبها خاصية الإحراق، فإن الأشاعرة يقولون: إن النار لا تحرق إلا إذا أراد الله لها ذلك - والقول الفصل في المسألة هو ما ذهب إليه السلف الصالح، الجمع بين القولين، فلا إنكار لأثر الأسباب وفي نفس الوقت لا يقال: إن ذلك يكون بغير إرادة الله - عز وجل - فالله - سبحانه - خالق الأسباب والمسببات، وهذا هو مقتضى النصوص القرآنية، قال - تعالى -: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32].

شروط القياس:
لكل ركن من أركان القياس الأربعة السالفة الذكر شروط:
أولها: شروط الأصل:
تكلم العلماء في شروط الأصل، ومنهم مَن ذكرها تحت شروط الحكم؛ لأن المراد بالحكم هنا الحكم الثابت للأصل، وأقول: "إن الإمام الغزالي ذكر ثمانية شروط للأصل أهمها:
1- أن يكون حكم الأصل ثابتًا، فإنه إن أمكن توجيه المنع عليه لم ينتفع به الناظر ولا المناظر.
2- أن يكون الحكم ثابتًا بطريق سمعي شرعي؛ لأنه إذا ما ثبت بطريق عقلي أو لغوي لم يكن حكمًا شرعيًّا.
3- ألا يكون الأصل فرعًا لأصل آخر.
4- أن يكون ثبوت حكم الأصل بالنص أو الإجماع".

ثانيها: شروط الفرع:
1- أن تكون علة الأصل موجودة في الفرع.
2- أن تكون غير منصوص على حكمها؛ لأنه إذا نص على حكمه فلا حاجة للقياس.
3- واشترط الشافعية ألاَّ يتقدم الفرع في الثبوت على الأصل، ومثَّلوا لذلك بقياس الوضوء على التيمم في النية، ولأن التيمم متأخر في مشروعيته على الوضوء.

ثالثها: شروط الحكم:
ويُراد بالحكم هنا ذاك الحكم الذي ثبت بالنص أو الإجماع للأصل، وشروطه هي كالتالي:
1- أن يكون حكمًا شرعيًّا عمليًّا لا اعتقاديًّا.
2- أن يكون ثابتًا بالنقل.
3- أن يكون باقيًا غير منسوخ؛ لأنه لو نسخ لا يجوز القياس عليه.
4- أن يكون حكم الأصل معقول المعنى معروف العلة، فإن خلت من التعليل لَم يجز القياس؛ لهذا لا يجوز القياس في الأحكام التعبُّديَّة.

رابعها: شروط العلة:
1- أغلب الأصوليين يعبِّرون عن العلة بالوصف الظاهر وهذا أول شروطها، فالإسكار علة لتحريم الخمر.
2- أن يكون الوصف منضبطًا لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص اختلافًا كثيرًا، فإن كان غير منضبط فلا يصح التعليل به كالمشقَّة عند الصيام في السفر، فالناس يختلفون باختلاف قدرات تحمُّلهم، ولهذا جعل السفر هو مناط الحكم وليس المشقة.
3- أن يكون الوصفُ متعديًا؛ أي: أن تكون العلة الموجودة في الأصل هي نفسها في الفرع.
4- ثبوت العلة قطعًا أو ظنًّا، وسيأتي الحديث عن هذا الشرط - إن شاء الله.
5- الاطراد: وهو وجود العلة مع وجود الحكم، وعكسه الانتقاض وهو العلة مع تخلف الحكم، ومثاله: لو علل القصاص بالقتل فإن هذه العلة منتقضة لأن القتل الخطأ لا قصاص فيه بالاتفاق.

وهناك شروط أخرى جاءتْ في كتب الأصول؛ مثل: مسألة التعليل بالحكم أو التعليل بالاسم المجرد، أو التعليل بالعدم والنفي وغير ذلك.

والراجح عند العلماء عدم اشتراطها، وهذا لا يمنع من ضرب أمثلة للتعليل بتلك العلل.

التعليل بالحكم: فقد علل الفقهاء تكبيرة الإحرام بأنها فرض لا تجزئ الصلاة إلا بها.
التعليل بعلة مركبة من وصفين فأكثر: كتعليلهم للقصاص بالقتل عمدًا عدوانًا، فهي مركبة من ثلاثة أوصاف.
التعليل بالاسْم المجرد: كتعليل جواز التيمم بالجبس أنه تراب يصح التيمم به كسائر ما يصعد على الأرض.
التعليل بالوصف العدمي؛ كقولهم: عدم الطهارة علة لبطلان الصلاة، وعدم الملك علة لوجود حرمة الانتفاع. 
والراجح أن التعليل بالوصف العدمي لا يصحُّ أن يكون علة في القياس.

طرُق معرفة العلة:
يعرف المجتهد علة الحكم بعِدَّة طرق، بعضها متفق عليه والبعض الآخر مختلف فيه، وأهم هذه الطرق ما يلي:
1- النص:
فعلة الحكم قد ترد في ثنايا النص القرآني أو النص النبوي (الحديث النبوي الشريف)، والنص على العلة قسمان:
أ- نص صريح: مثل قوله - تعالى -: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وما أخرجه الشيخان من طريق سهل بن سعد قال: اطَّلع رجل من جحر في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحكُّ به رأسه، فقال: ((لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جُعِل الاستئذان من أجل البصر))؛ صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر.

ب- النص غير الصريح: ويقصد به الظاهر في التعليل الذي يحتمل غيره، ومن أمثلته قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الهرة: ((إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوافين عليكم والطوَّافات))؛ سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب سؤر الهرة.

2- الإجماع:
ومثال العلة المجمَع عليها الصغر علة للولاية على مال اليتيم، فيُقاس عليه الولاية في النكاح، والتعدِّي على المال علة لوجوب الضمان على الغاصب، فيُقاس عليه ضمان المسروق.

3- الإيماء:
والإيماء في اللغة: الإشارة باليد أو الرأس ونحو ذلك.
واصطلاحًا: فهْم التعليل من لازم النص لا مِنْ وَضْعه للتعليل، وله أنواع كثيرة نذكر منها:
أ- أن يترتَّبَ الحكم على الوصف بالفاء: مثل قوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وقوله - عليه السلام -: ((مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له))؛ "موطأ الإمام مالك"، كتاب الأقضية، باب القضاء في عمارة الموات.
ب- أن يأتي الحكم جوابًا عن السؤال، فيتضمَّن الجواب علة الحكم، ومثاله ما أخرجه الشيخان من طريق أبي هريرة قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءَهُ رَجُلٌ فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: ((ما لك؟))، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تجد رقبة تعتقها؟))، قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟))، قال: لا، فقال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟))، قال: لا، قال: فمكث النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينا نحن على ذلك أُتِي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيها تمر، والعرق المكتل، قال: ((أين السائل؟))، فقال: أنا، قال: ((خذ هذا، فتصدق به))، فقال الرجل: أعلى أفقر منِّي يا رسول الله! فوالله ما بين لابتَيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدتْ أنيابه، ثم قال: ((أطعمه أهلَك))؛ "صحيح البخاري"، كتاب الصوم، باب إذا جامَع في رمضان ولَم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفِّر.

ج- أن يذكر الشارع مع الحكم وصفًا مناسبًا لكي يكون علة لذلك الحكم؛ ومثاله قوله - عليه السلام -: ((لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان))؛ أخرجه الترمذي، كتاب الأحكام عن رسول الله، باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

د- ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء؛ كقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2- 3]، فالتقوى علة للخروج من المحن وعلة للرزق.

4- المناسبة والإخالة:

المناسبة لغة: المشاركة والملاءمة، يُقال: ناسَبَه إذا شاركه في نسبه، ويُقال أيضًا: هذا اللباس يناسب الشتاء؛ أي: يلائمه.
والإخالة لغة: الظن، ومنه قولنا: خلته ابن عمي؛ أي: ظننته كذلك.
وفي الاصطلاح فإن المناسبة تعرف بأنها: ملاءمة الوصف المعلل به للحكم الثابت للأصل.
والإخالة: غلبة الظن بعلية الوصف.
ويقصد بالوصف المناسب عند ابن الحاجب: الوصف الظاهر الذي يحصل من ترتُّب الحكم مصلحة أو درء مفسدة، "البحر المحيط" 5/207.

5- الدوران:
الدوران لغة: عدم الاستقرار.
واصطلاحًا: ثبوت الحكم عند وجود الوصف وانتفائه عند انتفائه.
مثاله: أن الزكاة تجب مع تمام النصاب وحلول الحول، وتنعدم مع انعدامهما، فيُقال: إن علة وجوب إخراج الزكاة ملك النصاب وحلول الحول.
والدوران يسميه بعض الأصوليين بالطرد والعكس؛ أي: إنه مجموع الطرد والعكس، فالطرد هو الوجود مع الوجود، والعكس هو العدم مع العدم، والدوران هو مجموع ذلك.

وقد اختلف العلماء في إفادة الدوران العلية على قولَيْن:
القول الأول: إنه يفيد العلية، وهذا ما ذهب إليه إمام الحرمين وابن السمعاني وأبو طيب الطبري.
ودليلهم قولهم: إذا وجدنا حكمًا يدور مع الوصف وجودًا وعدمًا، جاز لنا أن نستدلَّ بذلك على عليَّة الوصف وأنه مدار الحكم.
القول الثاني: عدم إفادة دوران العليَّة، وهو اختيار الغزالي وأبي إسحاق والآمدي وغيرهم كثير.
ودليلهم: أن الاطِّراد وحده ليس دليلاً على العلة، والانعكاس ليس معتبرًا في العلل الشرعية، فمجموعهما لا يكون دليلاً على العلة.
"وهذا باطل؛ لأن كون الاطِّراد وحده لا يصلح دليلاً على العلة، والانعكاس وحده كذلك، لا يدل على أنهما إذا اجتمعا لا يصلحان دليلاً على العلة، كما أن العلة المركبة من أوصاف إذا أخذنا كل واحد من الأوصاف وحده لا يصلح علة، وإذا اجتمعت صلحت علة؛ مثل قولنا: علة القصاص القتل عمدًا وعدوانًا، وكل واحد من الأوصاف بمفرده لا يصلح علة".

والراجح ما ذَهَب إليه الفريقُ الأول من جواز الاستدلال على عليَّة الوصف بدوران الحكم معه بشرط تكرُّر دوران الحكم مع العلة في أكثر من موضع، وهذا ما نقل عن النقشواني في النفائس: "الدوران عين التجربة، وقد تكثر التجربة فتفيد القطع، وقد لا تصل إلى ذلك".

السبر والتقسيم:
السبر لغة: الاختبار، والتقسيم: التجْزئة.
ويُراد بالسبر والتقسيم في الاصطلاح: حصر الأوصاف الصالحة لأن تكون علة الأصل ابتداءً، ثم إبطال ما لا يصلح وإبقاء ما يمكن التعليل به انتهاءً.

مثاله: ورد النص بتحريم ربا الفضل والنسيئة في مبادلة الشعير بالشعير، ولم يرد دليل على علة هذا الحكم، فالمجتهد يسلك لمعرفة علة هذا الحكم مسلك السبر والتقسيم بأن يقول: علة الحكم إمَّا أن يكون الشعير ممَّا يضبط قدره؛ لأنه يضبط بالكيل، وإمَّا كونه طعامًا، وإنما كونه يقتات به ويدخر، لكن كونه طعامًا لا يصلح علة للحكم، وكونه قوتًا أيضًا لا يصلح، فيتعيَّن أن تكونَ العلة كونه مقدرًا.

شروط صحة هذا المسلك:
1- أن يكون التقسيم حاصرًا؛ أي: لا يترك المستدل شيئًا من الأقسام الممكنة، ولا يلزم أن يكونَ مترددًا بين النفي والإثبات.
2- أن يكون إبطال ما عدا الوصف المعلل به بدليل مقبول.
3- أن يكون الحكم متفقًا على تعليله بين الخصمين.

حجيته:
السبر والتقسيم مسلكٌ من مسالك إثبات العلة؛ ودليل العلماء في ذلك قوله - تعالى -: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، ووجه الدلالة: أن الله - عز وجل - ساقَ الآية في معرض الرد على مَن أنكر وجوده - تعالى -: "أي: أوجدوا من غير مُوجِد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي: لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورًا"؛ "تفسير ابن كثير" سورة الطور.

فالاستدلال على وجود الله - عز وجل - لا يخلو من ثلاثة احتمالات: إمَّا أن يكون الناس خُلِقوا هكذا من غير خالق، أو يكونوا قد خلقوا أنفسهم، أو يكون خالقهم هو الله، فالأولان باطلان عقلاً، فلم يبقَ إلا الثالث.

وهذا يدلُّ على أن الاستدلال بالسبر والتقسيم لا يقتصر على إثبات العلة، بل يصلح استعماله للدلالة على أيِّ مدعى متى أمكن حصر الاحتمالات واتفق عليها.

أقسام القياس:
يقسِّم الأصوليون القياس إلى عِدَّة أقسام لاعتبارات عديدة، نذكر منها:
1- تقسيمه من حيث ذكر الوصف المعلل به إلى ثلاثة أقسام:
أ- القياس في معنى الأصل: وهو القياس الذي لا يحتاج إلى ذكر وصف جامع بين الفرع والأصل؛ وذلك لانعدام الفارق المؤثر بينهما، ومثَّلوه بقياس العبد على الأمَة في تنصيف حدِّ الزِّنا، فإن المجتهد لا يحتاج إلى ذكر الوصف الجامع، بل يكفيه نفي الفارق المؤثر بينهما.
ب- قياس العلة: وهو القياس الذي يحتاج إلى ذكر الوصف المعلل به لينظر المخالف ليوافق عليه أو يبطله، وأمثلة هذا القسم كثيرة؛ منها قياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار.
ج- قياس الدلالة: وهو الجمع بين الأصل والعلة بدليل العلة، ومن أمثلته: قولهم في ظهار العبد: صحَّ طلاقه فيصح ظهاره كالحر، فالوصف الجامع هنا هو: صحة الطلاق منه، وهو دليل على مؤاخذته على ما يقول، فيكون مؤاخَذًا بالظهار، كما أن الحر يؤاخذ على طلاقه وظهاره.

2- تقسيمه من حيث مناسبة الوصف المعلل به للحكم إلى ثلاثة أقسام:
أ- قياس العلة أو المعنى: وهو ما كانت مناسبة الوصف ظاهرة فيه، كقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار بينهما.

ب- قياس الشبه: وهو الذي يكون التعليل فيه بوصْف يُوهِم الاشتمال على المناسبة، ولكن لا تظهر مناسبته ولا عدم مناسبته.

وهو قسمان: شبه حسي، وشبه حكمي، فإن كان التشابه بين الأصل والفرع في الصورة المحسوسة كقياس الجلوس الأول في الصلاة على الثاني سُمِّي شبهًا حسيًّا، وإن كان التشابه بينهما في الحكم كقياس ركن على ركن أو شرط على شرط أو ممسوح على ممسوح؛ كقولهم: الخف ممسوح في طهارة فلا يُسَنُّ له التثليث كالرأس، فهذا قياس شبه حكمي.

ج- قياس الطرد: وهو ما كان فيه الوصف الجامع مقطوعًا بعدم مناسبته وعدم التفات الشرع إليه.
وهذا القسم لا خلاف في عدم حجيته؛ لأن الشرع لا يلتفت إليه.
ومن أمثلته: أن النبيذ لا يجوز الوضوء به: فهو مائع لا تبنى على مثله القناطر، فلا يجوز الوضوء به كاللبن.

حجية القياس:
القياس هو المصدر الرابع من مصادر التشريع عند جماهير علماء أهل السنة والجماعة، ولم يشذ من هذا إلا بعض المذاهب كالظاهرية وبعض المعتزلة وبعض الروافض.

والدليل على كونه حجة عند الجمهور ما يلي:
1- قوله - سبحانه وتعالى -: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2].
ووجه الدلالة أن الله أمَرَ بالاعتبار من حال الكفار، ومعنى الاعتبار أن يقيس المرء حاله بحالهم ليعلم أنه إن نهج نهجهم فإنه سيُجازَى مثل جزائهم.

2- قوله - تعالى -: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104].
ووجه الاستدلال من الآية: أن الله - تعالى - قاس البعث على الخلق الأول.

3- ما أخرجه الإمام البخاري من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أن رجلاً أتى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، وُلِد لي غلام أسود، فقال: ((هل لك من إبل؟))، قال: نعم، قال: ((ما ألوانها؟))، قال: حمر، قال: ((هل فيها من أورق؟))، قال: نعم، قال: ((فأنَّى ذلك؟))، قال: لعله نزَعَه عرق، قال: ((فلعل ابنك هذا نزَعَه))، كتاب الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، عند مسلم أيضًا، كتاب اللعان.
ووجه الدلالة: أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قاس الولد من أبوين أبيضين على الجمل الأورق من الإبل الحمر، فبما أن الجمل لعله نزَعَه عرق من أجداده فكذلك الغلام.

4- ما أخرجه الإمام مسلم من طريق ابن عباس - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: ((لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟))، قال: نعم، قال: ((فدين الله أحق أن يُقضَى))، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، وعند البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب مَن مات وعليه نذر.
ووجه الدلالة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قاس قضاء الصوم على الميت على وجوب قضاء دينه.

5- وقد عمل الصحابة - رضوان الله عيهم - بالقياس فقاسوا النظير على نظيره؛ ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الإمام مالك - رحمه الله - في "الموطأ": "أن عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، أو كما قال، فجلد عمر في الخمر ثمانين"؛ الأشربة، باب الحد في الخمر.

بعض أدلة منكري القياس والرد عليها:
1- أن الصحابة - رضوان الله عليهم - ثبت عنهم ذم الرأي والعمل به، فمن ذلك:
أ- ما أخرجه الدارقطني في "السنن" من طريق عمرو بن حريث أن عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - قال: "إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن أعيَتْهُم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلُّوا وأضلُّوا"؛ "النوادر" رقم الحديث 4325.
ب- ما أخرجه الدارمي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لا يأتي عليكم عامٌ إلا وهو شرٌّ من الذي كان قبله، أمَا إني لستُ أعني عامًا أخصب من عام، ولا أميرًا خيرًا من أمير، ولكن علماؤكم وخياركم وفقهاؤكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفًا ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم"؛ المقدمة، باب تغير الزمان وما يحدث فيه.

والجواب عن هذين الدليلين من وجهين:
الأول: أن الصحابة ذموا الرأي الذي استعمل في غير موضعه وغير مقيد بشروطه، فذم عمر ينصرف إلى مَن يتكلم بالرأي الجاهل للنصوص النقلية؛ لذا قال: "أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها".

ثانيًا: أنهم ذموا الرأي الصادر ممَّن ليس لهم علاقة بالاجتهاد بعد ذهاب العلماء، وهذا ما ذهب إليه ابن مسعود.

2- وممَّا يستدلُّ به منكرو القياس قوله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105].
ووجه الدلالة أن الله - عز وجل - أمَر نبيَّه أن يحكم بين الناس بما أراه الله لا بما يراه هو، فإذا كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليس له أن يحكم برأيه فغيره من باب أَوْلَى.
والرد على هذا الدليل: أن القياس ثابت بالأدلة النقلية والعقلية السالفة الذكر، فالعمل به من العمل بما أمر الله به.

مسائل تتعلق بحجية القياس:
اختلف أهل الصنعة في مسائل تتعلق بحجية القياس، ومنها ما يلي:
1- مسألة الاحتجاج بالقياس في الحدود.
2- مسألة القياس في الرخص والتقديرات.
3- مسألة القياس في الكفارات.

1- فالمسألة الأولى ذهب فيها الحنفية إلى أن الحدود لا قياس فيها، وحجتهم في ذلك أن الحدود تُدرَأ بالشبهات، والقياس فيه شيء من الشبه؛ فلا يصحُّ الاحتجاج به في الحدود.

أمَّا الجمهور فيقولون بحجية القياس في الحدود؛ لأن هذه الأخيرة لا تختلف عن غيرها من الأحكام الشرعية، ثم إن الصحابة قاسوا شرب الخمر على القذف كما سبق من حديث عمر وعلي في "الموطأ"، وبهذا قضى الجمهور بقطع يد نبَّاش القبور قياسًا على السرقة، وكذلك جلد اللوطي أو رجمه قياسًا على الزاني.

2- أمَّا القياس في الرخص فالأصل فيه الجواز؛ كقياس العلماء الوحل والريح الشديد والثلج على المطر في الترخيص للجمع.

3- أمَّا القياس في الكفَّارات كقياس فعلٍ على فعل فهذا جائز عند العلماء؛ حيث قاس المالكية الأكل والشرب عمدًا في رمضان على الوطء في وجوب الكفارة، وقاس الشافعية القتل الخطأ على القتل العمد في وجوب الكفارة.

أمَّا الحنفية فلا يرون جواز القياس في الكفارات؛ لأنهم حين منعوه قصدوا منع تحديد كفارة على عملٍ محرَّم بطريق القياس والاجتهاد، ولأن العقل مهما بلغ لا يمكن أن يعرف القدر الذي يحصل عنده تكفير الذنب، وإنما يعرف ذلك بالنص وما في معناه.

التعليل بالحكمة:
تطلق الحكمة ويُراد بها عند الأصوليين أحد الأمرين:
الأول: مقصود الشارع من تشريع الحكم.
الثاني: إطلاق الحكمة على المصلحة والمفسدة فيقال: إن الحكمة من الحكم الشرعي التالي هو جلب المصلحة ودرء المفسدة.

واختلف العلماء في جواز التعليل بالحكمة على ثلاثة أقوال وهي:
1- منع التعليل بها؛ لأنها لا يمكن ضبطها، فهي تختلف من فردٍ لآخر، ومن مكانٍ لآخر، وتعليق الحكم على التعليل بالحكمة أمر يفضي إلى اختلاف الناس وتفاوتهم، فلا يتحقق التساوي بينهم في الأحكام الشرعيَّة.
2- جواز التعليل بالحكمة مطلقًا: وهذا الفريق يرى جواز بناء الأحكام على الحكم، ويستدلون بالاستصلاح كما سيأتي.
3- جاز التعليل بالحكمة المنضبطة دون غيرها: وقد سلك أصحاب هذا الرأي المسلك الوسط، فلو انضبطت عندهم الحكمة جاز التعليل بها.

والقول الفصل في المسألة أن الحكمة إن انضبطت بالنص أو الإجماع أو دلَّ دليل من أدلة ثبوت العلة، فلا خلاف في جواز التعليل بها.

القسم الثالث من الأدلة:
قسمنا الأدلة سالفًا إلى أدلة متفق عليها، وهي القرآن والسنة، وأدلة فيها الخلاف ضعيف، وهي الإجماع والقياس، وأدلة الخلاف فيها قوي، وهي التي تشمل قول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستصحاب، والاستحسان، والاستصلاح، وسد الذرائع.
فهذا حديث عن كلِّ واحد من هذه الأدلة مع ذكر حقيقته وأمثلته وحجيته.

قول الصحابي:
1- تعريفه:
يحسن قبل البدء في الموضوع تعريف الصحابي.
الصحابي عند جمهور الأصوليين: هو مَن لقي الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مؤمنًا به، ولازمه زمنًا طويلاً.
وعند جمهور المحدِّثين: مَن لقيه مسلمًا ومات على الإسلام، سواء طالت صحبته أو لم تطل.

فالأصولي يتكلم عن الصحابي المجتهد الذي له فقه بالكتاب والسنة، أمَّا المحدثون فيعنون بالصحابي ذاك الذي عاصَر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والذي وجب أخذ روايته والعمل بها.

والمراد بقول الصحابي: مذهبه الذي قاله أو فعله ولم يروه عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

2- أقسامه:
ينقسم قول الصحابي إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه، كالعبادات والتقديرات ونحوها، وهذا القسم حجَّة عند الأئمة الأربعة؛ لأنه لا بُدَّ أن يكون الصحابي سمعه من النبي - عليه الصلاة والسلام.

ومن هذا النوع قضاء الصحابة في النعامة تقدر إذا اصطادها المحرم بالبَدَنَة "فعمر وعثمان وعلي بن أبى طالب وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية - رضي الله عنهم - قالوا في النعامة يقتلها المحرم بدنة من الإبل، وفي الغزال بالعنز"؛ "السنن الكبرى"؛ للبيهقي، ج5، كونه من التقديرات يدل على أنه ممَّا سُمِع من الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

القسم الثاني: قول الصحابي الذي اشتهر ولم يخالفه غيره فيه، وهذا ما يسمى بالإجماع السكوتي وقد تقدم الكلام فيه، ومثاله جعل عمر - رضي الله عنه - طلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ ثلاثًا توجب البينونة الكبرى.

القسم الثالث: قول الصحابي التي خالفه فيه غيره من الصحابة.
وذهب الأصوليون أن قول الصحابي إذا خالَفَه صحابي آخر لا يحتجُّ به، ومَن عمل به فهو مقلد للصحابي لا مستدل به.

القسم الرابع: قول الصحابي فيما للرأي فيه مجال ولم ينتشر ولم يعرف له مخالف، وهذا هو محل النزاع، فمن العلماء من يرى حجيته، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وقول الشافعي القديم، ومنهم من يرى أنه ليس بحجة، وإلى هذا ذهب الشافعي في قوله الجديد.

3- تحقيق آراء العلماء في قول الصحابي:
الأدلة على حجية قول الصحابي إذا لم يكن له مخالف من الصحابة:
أ- قول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم))؛ صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها.
ب- قول الصحابي الذي لم يعلم له خلاف يحتمل أن يكون ممَّا نقله عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ج- أن الصحابة شاهدوا التنزيل وهم أفقه بكتاب الله وسنة رسوله، فقولهم مقدَّم على قول غيرهم.

أدلة النفاة:
أمَّا الذين يرومون عدم حجية قول الصحابي، فدليلهم في ذلك:
أ- أن الصحابة غير معصومين من الوقوع في الأخطاء، ومَن لم تثبت عصمته لا يكون حجة.
ب- كان الصحابة يقرُّون التابعين على اجتهادهم، وكان للتابعين آراء مخالفة لمذهب الصحابي، فلو كان قول الصحابي حجة على غيره، لما ساغ للتابعي هذا الاجتهاد.

ترجيح:
إن مذهب الصحابي لا يُعَدُّ دليلاً مستقلاًّ في الباب، ولم يثبت أن الصحابة ألزموا غيرهم بأقوالهم، ومرتبه الصحبة وإن كانت شرفًا كبيرًا لا تجعل صاحبها معصومًا من الخطأ.

والقول بعدم حجية قول الصحابي لا يدلُّ على المنع في تقليده لِمَن ليس بمجتهد، أو لِمَن لم ينظر في المسألة بعد وحضره وقت العمل.

شرع مَن قبلنا:
الأحكام في الشرائع السماوية قسمان: أصول وفروع:
فالأصول هي: الإذعان لله وحده دون سواه وإفراده بالعبودية والإيمان به وبأسمائه وصفاته واليوم الآخر، وهذا القسم ممَّا اتَّفقت عليه كل الشرائع؛ قال - تعالى -: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

أمَّا الفروع فقد اختلفت فيها الشرائع، وهي المقصودة في هذا الباب.

والمراد بشرع مَن قبلنا: ما نُقِل إلينا بطريقٍ صحيحٍ من الشرائع السماوية السابقة، والطريق الصحيح هو كتاب الله وسنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الثابتة، ولا عبرة بالكتب السابقة المحرفة.

وما حكي من شرائع الأمم الغابرة يمكن تقسيمه إلى الأقسام التالية:
1- ما حكاه الله ورسوله عنهم وجاء في شريعتنا ما يبطله: وهذا ليس بحجة إجماعًا؛ ومثاله قوله - تعالى -: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146].
2- ما حكاه الله - سبحانه - عنهم وجاء في شريعتنا ما يزكيه ويؤيده: وهذا لا خلاف في أنه شرع لنا، ودليله ما ثبت في شريعتنا لا ما ورد في الشرائع السابقة، ومن ذلك قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فهذه الآية دلالة على أن الصيام كان مشروعًا على من قبلنا ثم فرض علينا.

3- ما نُقِل إلينا ولم يقترن بما يدلُّ على نسخه أو مشروعيته في حقنا:

فهذا هو محلُّ الخلاف بين العلماء، أهو شرع لنا يلزمنا العمل به أم لا؟ ومثاله قوله - تعالى -: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28]، قال الإمام الطبري في تفسيره للآية: "فقال جلّ ثناؤه لصالح: أخبر قومك من ثمود أن الماء يوم غب الناقة قسمة بينهم، فكانوا يقتسمون ذلك يوم غبها، فيشربون منه ذلك اليوم، ويتزوَّدون فيه منه ليوم ورودها"، "جامع البيان في تأويل القرآن" 22/592.

فهذه الآية تدل على جواز قسمة المياه، فهل يجوز الاستدلال بالآية على هذا الحكم؟

وذهبت الكثرة إلى الاحتجاج بشرع مَن قبلنا ما لم ينسخه شرعنا، وهذا هو المشهور عن الأئمة الأربعة، والقول الثاني للسادة الشافعية.

أدلة المثبتين لحجية هذا الدليل:
1- قوله - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، ووجه الاستدلال بالآية أن الله - تعالى - أمر رسوله الكريم باقتفاء اثر سابقيه من الأنبياء.
2- قوله - تعالى -: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]، ووجه الاستدلال أن الله شرع للمسلمين مثل ما شرع لنوح - عليه السلام - فتبيَّن أن شرعه شرع لنا.

الاستحسان:
أول مَن تكلم بالاستحسان الإمام أبو حنيفة، وقد كان يذكره في مقابل القياس فيقول: القياس كذا، ولكن الاستحسان كذا.
ونقل عن الإمام مالك القول بالاستحسان حتى قال: "الاستحسان تسعة أعشار العلم"، "الموافقات"؛ للإمام الشاطبي 4/209.

والأصوليون الحنابلة يحتجُّون بالاستحسان، نص على ذلك الإمام المقدسي صاحب "روضة الناظر وجنة المناظر".
أمَّا الشافعية فلم يقولوا بالاستحسان بل أنكروه، قال الإمام الشافعي: "مَن استحسن فقد شرع"، بل أكثر من ذلك فقد عقد كتابًا في "الأم" في إبطال الاستحسان وقال فيه: "وكل أمر الله - جل ذكره - وأشبه لهذا تدلُّ على إباحة القياس، وحظر أن يعمل بخلافه من الاستحسان" "الأم" 8/315.

ولما ظهر إبطال الشافعية للاستحسان شمَّر علماء الحنفية للدفاع عن إمامهم فلجؤوا إلى تفسير الاستحسان الذي عمل به إمامهم، فعرَّفوا الاستحسان بأنه: "كل دليل في مقابل القياس الظاهر"، أو أنه: "ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس" "المبسوط" 10/145.

أنواع الاستحسان عند الحنفية:
يتنوَّع الاستحسان بحسب ما يستند إليه إلى ستة أنواع:
1- استحسان سنده النص:
وهو ترك لحكم الذي يقتضيه القياس أو النص العام والعمل بنص خاص.

مثاله: لا يبيع الإنسان ما ليس عنده، وهذا مقتضى نص قوله - عليه السلام - لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك))، الترمذي، كتاب البيوع، باب كراهية البيع ما ليس عندك.

وأمَّا القياس فإن بيع ما ليس عندك مثل بيع حبل الحبلى التي لم تولد بعد.

ولكن الحنفية يعدلون عن النص السابق والقياس إلى نص خاص يبيح بيع السلم، وهذا البيع كأن يبيع المزارع مائة صاعٍ من التمر الموصوف يسلم بعد شهرين أو أكثر بمائتي درهم مسبقة الدفع، فينتفع الفلاح بالمال ويدفع المحصول عند جنيه.

وهذا النوع من البيع أجازه عليه الصلاة والسلام فقال: ((مَن أسلف في تمر، فليسلف في كيلٍ معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم))؛ أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم، كتاب المساقاة، باب السلم.

2- استحسان سنده الإجماع:
وهو العدول عن مقتضى القياس أو العموم في مسألة جزئية لأجل الإجماع، ومثاله الإجماع على جواز عقد الاستصناع، ودخول الحمام من غير تحديد مدَّة المكث فيه ولا مقدار الماء المستعمل.
فالإجماع ينعقد على جواز ذلك مع أن القياس يقتضي عدم الجواز.

3- استحسان سنده الضرورة:

ومثاله الحكم بطهارة الحيَاض والآبار وصب لماء فيها حتى يذهب أثر النجاسة، ووجه الاستحسان في ذلك أنه لو قيس تطهيرها على الأواني لما أمكن ذلك؛ لأنه لا يمكن غسل البئر والحوض كما تغسل الآنية.

وللضرورة فإن الآبار تطهر بترحها حتى يذهب أثر النجاسة منها، والأحواض تطهر بالمكاثرة وإضافة الماء فيها.

4- استحسان سنده القياس الخفي:
ومثاله الحكم بطهارة سؤر سباع الطير من الصقور والحدأة، مع أن القياس يقتضي تحريمه مثل حرمة سؤر سباع البهائم مثل الذئب والأسد والنمر.

ووجه استحسان طهارة سؤر سباع الطير أن القياس الظاهر على سباع البهائم معارض بقياس خفي معتبَر، وهو أن سؤر سباع البهائم جاءته النجاسة من مخالطة الماء للعابها ولعابها نجس، وسباع الطير تشرب بمناقيرها والمناقير لا رطوبة فيها فلم تلوث الماء، فهي كالدجاج الداجن السائب الذي قد يأكل النجاسة بمنقاره لكن لا يحكم بنجاسة سؤره وإن كان يقال بكراهية استعماله.

5- استحسان سنده المصلحة:
ومثاله الحكم بتضمين الأجير المشترك، وهو الذي لا يعمل عند شخص بعينه بل يعمل عند أفراد كثر مقابل أجرة، ومن ذلك الصباغ والغسال والخياط.
فالأصل أن الغسال إذا أعطي ثوبًا ليغسله فتلف عنده من غير تفريط لا ضمان عليه؛ لأن ذلك مقتضى عقد الإجارة، ولكن تَمَّ العدول عن هذا القياس فقالوا بوجوب التضمين ما لم يتلف بقوة قاهرة كالحريق والفيضان وغيره.

وسند هذا الاستحسان المصلحة، للحفاظ على أموال الناس من الضياع.
للتوسع انظر: "الاعتصام"؛ للشاطبي2/141، و"الموافقات" 4/208.

6- الاستحسان سنده العرف:
وهو العدول عن مقتضى القياس إلى حكم آخر يخالفه لجريان العرف والعادة بذلك.
ومثاله: مَن حلف لا يأكل اللحم يحنث عند أكله السمك؛ لأنه لحم أيضًا، ولكن قالوا: لا يحنث استحسانًا؛ لأن العرف جرى على التفريق بين اللحم والسمك.

حكم العمل بالاستحسان:
الاستدلال بالأنواع السابقة من الاستحسان، يعمل بها جمهور العلماء من المالكية والحنفية والحنابلة.

أمَّا الإمام الشافعي فقد رُوِي عنه - كما سبق في "الأم" - إنكار الاستحسان، وقال: "مَن استحسن فقد شرع".
والظاهر - والله أعلم - أن الإمام الشافعي لم ينكر الاستحسان بالمعنى المذكور، وإنما أنكر الاستحسان الذي مستنده الهوى.

قال الشافعي: "ومَن استجاز أن يحكم أو يفتى بلا خبر لازم ولا قياس عليه كان محجوجًا بأن معنى قوله: أفعل ما هويت وإن لم أومر به، مخالف معنى الكتاب والسنة، فكان محجوجًا على لسانه، ومعنى: ما لم أعلم فيه مخالفًا، فإن قيل: ما هو؟ قيل: لا أعلم أحدًا من أهل العلم رخَّص لأحد من أهل العقول والآداب في أن يفتي ولا يحكم برأي نفسه إذا لم يكن عالمًا بالذي تدور عليه أمور القياس من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لتفصيل المشتبه"" الأم" 7/273.

الاستصحاب:
تعريفه:
الاستصحاب لغة: طلب المصاحبة.
وعند الأصوليين هو: الحكم بثبوت أمر أو نفيه في الزمان الحاضر أو المستقبل بناءً على ثبوته أو عدمه في الزمان الماضي.

وقد عرَّفه ابن حزم بأنه: "بقاء حكم الأصل الثابت بالنصوص حتى يقوم الدليل منها على التغيير" "ابن حزم"؛ للأستاذ محمد أبو زهرة 373.
ومثال ذلك أن مَن توضأ وشكَّ في وجود ما ينقض الوضوء فإنه يستصحب الطهارة حتى يثبت خلافها.

أنواع الاستصحاب:
للاستصحاب أربع صور:
الأول: استصحاب البراءة الأصلية: أي: الحكم ببراءة ذمة المكلفين من الأحكام الشرعية والحقوق المالية، حتى يقوم دليل على التكليف.
الثاني: استصحاب الحكم الذي دلَّ الدليل على ثبوته ولم يقم دليل على تغييره؛ مثل الحكم بالزوجية وثبوتها لِمَن في يده عقد الزواج، فإن ادَّعت الزوجة الطلاق فالأصل عدمه وعليها البينة.
الثالث: استصحاب العموم إلى أن يرد التخصيص، واستصحاب النص إلى أن يرد النسخ.
الرابع: استصحاب حكم ثابت بالإجماع في محل الخلاف بين العلماء؛ ومثاله قول الظاهرية بجواز بيع أم الولد؛ لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل أن يستولدها سيدها، فتلد ولدًا له، فيظلُّ هذا الإجماع مستمرًّا حكمه بعد الاستيلاد بمقتضى استصحاب الحال؛ لأن الولادة لم تزل هذا الإجماع.

آراء العلماء في حجية الاستصحاب:
الاستصحاب حجة مطلقًا عند الجمهور لتقرير الحكم الثابت حتى يقوم الدليل على تغييره، فيصلح للاستحقاق كما يصلح للدفع.
أمَّا الحنفية فالمذهب المشهور عندهم أن الاستصحاب حجة للدفع والنفي لا للإثبات والاستحقاق، ولهذا يقولون: إن الاستصحاب حجة لإبقاء ما كان على ما كان، لا لإثبات ما لم يكن.

وقد ترتَّب على هذا الاختلاف بين العلماء اختلافهم في مسائل منها: أن المفقود لا تثبت له حقوق إيجابية كالإرث والوصية من غيره، فاستصحاب حياته يفيده فقط في دفع ما يترتب على وفاته من اقتسام ماله بين الورثة، فهم إذًا يحكمون ببقاء حياته مدَّة فقده بالنسبة لأمواله وزوجته فقط، حتى يقوم دليل على وفاته أو يحكم القاضي بذلك، "الفتح القدير" 4/446.

وعند الجمهور ومَن وافَقَهم فالمفقود يتلقَّى الحقوق الإيجابية من غيره، فيحتفظ له بنصيبه، وتثبت له الوصايا، وتظلُّ له الحقوق التي كانت قبل فقده، وهذا هو الجانب السلبي، فهم يحكمون ببقاء حياته مدَّة فقده إلى أن يثبت موته.

والأدلة على حجية الأنواع الثلاثة الأولى من الاستصحاب ما يلي:
1- عن عباد بن تميم عن عمِّه أنه شكا إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الرجل الذي يخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: ((لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا))؛ صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب مَن لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن.
ووجه الدلالة من النص أن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - حكم باستصحاب الوضوء لِمَن تخيَّل الناقض حتى يبني على اليقين.

2- عن ابن أبي مليكة قال: "كتبت إلى ابن عباس فكتب إليَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن اليمين على المدَّعى عليه"؛ "صحيح البخاري"، كتاب الرهن، باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة على المدعي واليمين على المدَّعى عليه.
ووجه الدلالة: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - جعل الأصل تبرئة ذمَّة المدَّعى عليه حتى تثبت بينة المدعي.

3- العمل بالاستصحاب عمل بالظاهر، والعمل بالظاهر حتى يثبت خلافه هو نهج الصحابة ومَن جاء بعدهم من الأئمة المهديين.

المبادئ المبنية على الاستصحاب:
استنبط العلماء بعض القواعد الفقهية من الاستصحاب، وهي:
1- قاعدة اليقين لا يزول بالشك.
2- قاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان، حتى يثبت ما يغيره.
3- قاعدة الأصل براءة الذمة؛ أي: عدم انشغالها بتكليف إلا بدليل.
4- قاعدة الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته؛ ومثاله: لو اختلف المتبايعان في عيب طارئ حديث، هل وقع قبل أو بعد البيع، يحكم أنه وقع في أقرب الزمن.

الاستصلاح:
التعريف:
إن الأخذ بالمصالح المرسلة هو ما يسمَّى في اصطلاح العلماء بالاستصلاح.
والاستصلاح لغة: طلب الإصلاح.
وفي الاصطلاح: هو ترتيب الحكم الشرعي في واقعة لا نص فيها ولا إجماع، بناءً على مراعاة مصلحة مرسلة.

والمصلحة هي المنفعة سواء كانت دنيوية أو أخروية.

والعلماء مجمعون على أن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا رحمة للعالمين، دافعة عنهم الفساد وجالبة لهم الصلاح في الحال والمآل؛ قال - تبارك وتعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال أيضًا - سبحانه - في شأن رسوله الكريم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

أقسام المصلحة من حيث اعتبار الشرع لها:
المصلحة من حيث اعتبار الشرع لها وبناء الأحكام عليها وعدمه تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- مصلحة ملغاة:
وهي كل منفعة دلَّ الشرع على عدم اعتبارها ومراعاتها في الأحكام الشرعية؛ وذلك لجلبها لمضرَّة ومفسدة أعظم.
والضابط الذي تعرف به أن المصلحة ملغاة هو مخالفتها للنص والإجماع والقياس الجلي.
ومثال المصلحة الملغاة: ما في الزنا من قضاء الوطر مع مخالفته النص وجلبه للمفاسد.

2- مصلحة اعتبرها الشارع بعينها وراعاها في أصل معين يمكن أن يقاس عليها ما يشبه:
وهذه المصلحة هي التي تضمَّنتها العلة في القياس، ومثالها حفظ العقل التي تضمَّنها تحريم الخمر، فيقاس على الخمر كل ما يذهب العقل من المفترات والمسكرات.

3- مصلحة اعتبر الشارع جنسها ولا يشهد لعينها أصل معين بالاعتبار:
ومن ذلك المصلحة الناشئة عن وضع إشارات المرور في الشوارع العامة ومعاقبة مخالفيها، فإن هذا العمل فيه مصلحة حفظ أرواح الناس، وعدمه فيه إزهاق للأنفس، فهذه المصلحة من حيث جنسها اعتبرها الشارع الحكيم، ولكن لا نجد نصًّا خاصًّا يدلُّ على حفظها بوضع إشارات المرور.

حكم العمل بالمصلحة المرسلة:
تكاد كلمة الأصوليين تلتقي على أن القول بالاستصلاح أمر مختلف فيه، وأن الراجح من الآراء أنه لا يصلح الاستدلال به، وأنه لم يذهب إلى القول به إلا الإمام مالك - رحمه الله تعالى - وإليك بعضَ نصوص كتب الأصول في هذا الباب:
أ- قال الآمدي في "الإحكام" (4/140): وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به وهو الحق، إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به.

ب- ويقول الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (2/111- 112): إن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقًا عليه، بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال:
• فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى ردِّه، وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل.
• وذهب مالك إلى اعتبار ذلك، وبنى الأحكام عليه على الإطلاق.
• وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسُّك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح، لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة، هذا ما حكى الإمام الجويني.

ج- ويقول ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه "روضة الناظر وجنة المناظر" (87) بعد ذكر أقوال العلماء في المصلحة المرسلة: "و الصحيح أن ذلك ليس بحجة".

وخلاصة القول: أن المنكرين للاحتجاج بالمصلحة إنما خالفوا في عدِّها دليلاً مستقلاًّ أو في تقديمها على النصوص - والله أعلى وأعلم.

أدلة العمل بالمصلحة المرسلة:
يُستَدلُّ على العمل بالمصلحة المرسلة بأدلة كثيرة منها ما يلي:
1- أن الصحابة الكرام عملوا بالمصالح في الحوادث والنوازل ومن ذلك:
• جمع القرآن في مصحف واحد.
• جعل عمر - رضي الله عنه - الطلاق الثلاث في طلقة واحدة.
• قتل الجماعة بالواحد.

2- الآيات الدالَّة على أن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد والتيسير عليهم؛ كقوله - تعالى -: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 175]، وقوله - سبحانه -: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وقال أيضًا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

شروط العمل بالمصلحة المرسلة:
يشترط للعمل بالمصلحة المرسلة ما يلي:
1- أن تكون المصلحة حقيقية لا متوهمة: فالمصلحة المتوهمة لا ينظر إليها، كمَن يتوهم أن المساواة بين الجنسين فيه مصلحة، وهؤلاء غفلوا عن أن الخالق أعلم بمصالحهم حالا ومآلا.
2- ألا تتعارض المصلحة مع النص الشرعي أو الإجماع الصحيح، فإن تعارضت فهي مصلحة ملغاة، إمَّا لانطوائها على مفسدة، أو لتفويتها لمصلحة أعظم.
3- ألاَّ تعارض مصلحة مساوية لها أو أعظم منها، فإن وقع التعارض رجحنا الأقوى، وإن تعارضت المصلحة العامة مع الخاصة رجحنا العامة.
4- أن تكون المصلحة في مواطن الاجتهاد ممَّا هو من قبيل العادات لا في المواطن التوقيفية من العقائد وأصول العبادات.

أمثلة تطبيقية للعمل بالاستصلاح:
1- وضع علامات وإشارات المرور التي تنظِّم السير في الطرقات، فوضعها من الضروريات التي يجب على المواطنين المكلَّفين احترامها، أمَّا الإخلال بها فيؤدي إلى زهوق الأرواح وإتلاف الأنفس.
2- ضبط الحالات المدنية وذلك كتسجيل المواليد والأنكحة في سجلات خاصة.
3- لزوم سحب بطاقات الهوية للمكلفين قانونيًّا وكذا رخص السياق، ومعاقبة مَن خالف ذلك.
4- سك العملات وضربها، فهذا العمل ليس له أصل في الكتاب والسنة، ولكن الحاجة ماسَّة إليه؛ ليتمكَّن الناس من التبادل بهذه العملة بما يحتاجونه من ضروريات العيش؛ لذا كان لزامًا على الدولة سكُّ عملة موحَّدة ووضع قوانين صارمة لمعاقبة مزوريها حتى تحتفظ بقيمتها.

سد الذرائع:
التعريف:
الذرائع لغة: جمع الذريعة؛ أي: الوسيلة المفضية إلى أمر، سواء كان فيه مصلحة أو مفسدة.
وشرعًا: سد الذرائع هي منع الوسائل المفضية إلى المفاسد.

أقسام الأقوال والأفعال المفضية إلى المفاسد:
الأول: الوسيلة المفضية إلى مفسدة مقطوع بها، وهذا القسم أجمعت الأمة على سدِّه وحسمه؛ لما يجره من عواقب في الحال والمآل، ومن ذلك الزِّنا المفضِي إلى اختلاط الأنساب وتفشِّي الأمراض.

الثاني: الوسيلة المفضية إلى المباح ولكن قصد بها التوسل إلى مفسدة؛ كعقد النكاح بقصد تحليل الزوجة لزوجها الأول.

الثالث: الوسيلة المفضية إلى المباح ولم يقصد بها التوسُّل إلى مفسدة ولكن تؤدي إليها غالبًا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، ومن ذلك سبُّ آلهة المشركين علنًا إذا كان سيفضي إلى سبِّ الله - سبحانه.

فهذان القسمان - الثاني والثالث - موضع الخلاف، هل جاءت الشريعة بسدهما:
• فمذهب المالكية والحنابلة أن سد الذرائع دليل شرعي تبنى عليه الأحكام، فمتى أفضت الوسيلة إلى مفسدة وجب منعها.
• وذهب بعض العلماء من الشافعية والحنفية والظاهرية إلى عدم الاستدلال بهذا الدليل، ولم يوجبوا سد الذرائع المؤدية إلى المفسدة إلا أن يرد سدها بالنص أو الإجماع أو القياس.

الرابع: قسم جاءت الشريعة بمشروعيته إمَّا على سبيل الوجوب أو الاستحباب على حسب درجته في المصلحة، وهذا القسم لا خلاف فيه.

أدلة العمل بقاعدة سد الذرائع:
1- قوله - تعالى -: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
ووجه الدلالة من النص: أن الله منع المؤمنين من سب آلهة المشركين - مع أنها تستحق السب -حتى لا يسبوا الله - عز وجل - وهذا المثال يدخل في القسم الأول من الذرائع المفضية إلى المفسدة.

2- وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104].
ووجه الدلالة من الآية أن الله - تعالى - منع المؤمنين أن يقولوا لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: راعنا؛ سدًّا لذريعة اليهود الذين كانوا يقولون: راعنا، من الرعونة؛ أي: السفه والحمق، أمَّا المسلمون فيقصدون بها الانتظار.

3- منَع الشارع الحكيم القاضي من أخذ الهدية سدًّا لذريعة أخذ الرشوة، ولهذا شاهد من حديث أبي حميد الساعدي أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((هدايا العمال غلول))؛ "مسند الإمام أحمد"، باقي مسند الأنصار، حديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه.

الباب الثالث
دلالة الألفاظ

اهتمَّ علماء الأصول باللغة العربية اهتمامًا بالغًا؛ لأن فهم الأحكام الشرعية إنما يتأتى بالفهم الصحيح للأساليب اللغوية وطرق الدلالة فيها.

وليس من السائغ عقلاً أن يسن الشارع الحكيم حكمًا من الأحكام بلغة، ويطلب من الأمة أن تفهم ألفاظ مواده وعباراتها على مقتضى أساليب وأوضاع لغة أخرى؛ لأن شرط  صحة التكليف بالحكم قدرة المكلفين به على فهمه، ولهذا يوضع الحكم في الأمة بلسانها وبلغة أفرادها؛ ليكون في استطاعتهم فهم الأحكام.

وعلى هذا؛ فالقواعد والضوابط التي قرَّرها علماء أصول الفقه الإسلامي في طرق دلالة الألفاظ على المعاني، وفيما يفيد العموم من الصيغ، وفيما يدلُّ على العام والمطلق والمشترك، وفيما يحتمل التأويل وما لا يحتمله، وفي أن العطف يقتضي المغايرة... لا يجدها الباحث حتى في الكتب المتخصصة باللغة العربية وفقهها.

وسنقتصر في هذا الملخص - بإذن الله تعالى - على الأقسام التالية من طرق دلالة الألفاظ على المعاني:
الأمر والنهي، العام والخاص، المطلق والمقيد، المنطوق والمفهوم، النص والظاهر والمجمل والمبيَّن.

الأمر والنهي:
الأمر والنهي هما أساس التكليف؛ لذا اهتمَّ الأصوليون بالكلام عنهما وبيان دلالات كل منهما.

الأمر:
1- تعريفه:
كلمة "الأمر" عرفها الأصوليون بأنها: اللفظ الدال على طلب الفعل على جهة الاستعلاء، "مختصر المنتهى"؛ لابن الحاجب مع "شرح العضد" 2/77.
فهذا التعريف اشتمل على قيود هي:
• طلب الفعل: وهو قيد نخرج منه ما طلب تركه؛ لأنه يسمى نهيًا.
• أن يكون الأمر بالقول لا بالفعل ولا بالإشارة والكتابة.
• أن يعرف من سياق الكلام أن الآمر يستعلي على المأمور.

وهذا رأي الحنفية والحنابلة، فالأمر يكون من الأعلى إلى الأدنى، فإن كان العكس سُمِّي هذا دعاء، وإن كان من مساوٍ سمي التماسًا، وقال ابن السبكي الشافعي في "جمع الجوامع": لا يعتبر في مسمى الأمر علو ولا استعلاء، وكذلك قال المالكية: لا يشترط في الأمر علو الآمر، خلافًا للمعتزلة.

2- اشتراط الإرادة في الأمر:
اختلف العلماء هل يشترط في الأمر إرادة الآمر عند إيقاع الفعل المأمور؟
فذهبت المعتزلة إلى اشتراط الإرادة لوقوع فعل الأمر، فاستدلوا بأن الله لا يأمر بما لا يريد وقوعه، وإلا لكان منه ظلم - سبحانه - وهو منزَّه عن ذلك؛ قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90].

وذهب الأشاعرة إلى عدم اشتراط الإرادة، فيسمى الأمر كذلك، سواء أراد الآمر وقوع الفعل أم لم يرد، فاحتجوا بأن الله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16].

والفريقان زلاَّ، حيث لم ينتبهوا إلى أن الإرادة نوعان:
إرادة كونية قدرية؛ أي: ما أراد الله وقوعه يقع.
وإرادة شرعية: وتعني المحبة، وهي تكون مع الأمر لا تفارقه، فما أمر به الله لا بُدَّ أن يقع، ولكنه قد يقع فعلاً أو لا يقع تبعًا لتقدير الله وإرادته الكونية.
فظن الفريقين أن الإرادة لا تنقسم، فكان لزامًا عليهما أن يفصلا ذلك.

3- صيغ الأمر:
للأمر عند علماء اللغة والأصول صيغ تدل على حقيقته، من غير حاجة إلى قرائن، وهذه الصيغ كالتالي:
• فعل الأمر؛ كقوله - تعالى -: {أَقِيمُوا الصَّلاَةَ} [الأنعام: 72].
• الفعل المضارع المقرون بلام الأمر؛ كقوله - تعالى -: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7].
• المصدر النائب عن فعل الأمر؛ كقوله - تعالى -: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
• اسم فعل الأمر؛ كقوله - تعالى -: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23].
وهناك أساليب أخرى يستفاد منها الأمر؛ كاستفادته من الجملة الخبرية، ومن أمثلته قوله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].

فهذا الخبر القرآني يُراد به الأمر، فكأن المراد: المطلقات مأمورات بالانتظار ثلاثة قروء قبل زواجهن.

ويرى البلاغيون أن الأمر الوارد بصيغة الخبر أبلغ من الأمر الوارد بطرقه المعتادة.

4- مقتضى الأمر:
مقتضى الأمر يشمل ما يلي:
• دلالة الأمر على الوجوب.
• دلالة الأمر على الفور.
• دلالته على التكرار.
• دلالته على الإجزاء بفعل المأمور به.

دلالة الأمر على الوجوب:
القول الأول: يرى جمهور العلماء أن الأمر يدل على وجوب المأمور به، ولا يصرف إلى غيره إلا بقرينة من القرائن، فإن لم توجد قرينة كان الأمر مفيدًا إيجاب المأمور به، ودليلهم في ذلك ما يلي:
1- قوله - تعالى -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، ووجه الدلالة: أن الله - تعالى - توعَّد مَن خالف أمر رسوله أن تصيبهم فتنة أو عذاب أليم، فدلَّ على أن الأمر واجب.

2- قوله - تعالى - على لسان موسى مخاطبًا أخاه هارون: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]، مع قوله - تعالى -: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14].
ووجه الدلالة من الآيتين: أن الأولى جعلت مخالفة الأمر معصية، والثانية جعلت المعصية سببًا للنار.

3- قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لولا أن أشقَّ على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة))؛ متفق عليه، "صحيح البخاري"، كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة.
ووجه الدلالة في الحديث: أن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيَّن أن عدم الأمر بالسواك هو خوف إلحاق المشقة بالأمة، ولا مشقة إلا في ترك الواجب.

4- ما روي في الصحيح: عن أبي سعيد بن المعلى قال: مرَّ بي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنا أصلي، فدعاني فلم آتِه، حتى صليت ثم أتيت، فقال: ((ما منعك أن تأتيني؟))، فقلت: كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} "صحيح البخاري"، كتاب التفسير، باب قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87].
ووجه الدلالة في الحديث أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لامَ وعاتَب أبا سعيد بن المعلى - رضي الله عنه - على عدم فهمه الوجوب من الآية.

5- إجماع الصحابة على أن الأمر يفيد الوجوب.

القول الثاني: وذهب كثيرٌ من الأصوليين - كالرازي وأبي هاشم الجبائي والماتريدي وعلماء سمرقند - إلى أن الأمر يدور بين الوجوب والندب، وأنه صالح لكلا المعنيين، (انظر: "المعتمد" 1/58- "فواتح الرحموت" 1/373- و"قواطع الأدلة" 1/93).
واستدلوا بقوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].
ووجه الدلالة في الآية أن المأمورات منها ما هو واجب ومنها ما هو مندوب.

القول الثالث: ويرى المعتزلة ويُنسَب إلى الشافعي وأحمد أن الأمر لا يزيد عن الندب؛ (انظر: "إرشاد الفحول" 196- "المستصفى" 1/426- "التبصرة" 27).

ونُسِب لبعض المالكية أن الأمر يفيد الإباحة، والمشهور عندهم خلاف ذلك، ("أصول السرخسي" 1/16).

والراجح من الأقوال ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، أن الأمر يفيد الوجوب حتى توجد قرينة صارفة أو عارض الأمر دليل آخر.

دلالة الأمر على الفورية:
المقصود بالفور: المبادرة إلى تنفيذ الأمر بمجرَّد سماع التكليف، وعكسه التراخي وهو تخيير المكلف بين الأداء فورًا عند سماع التكليف وبين التأخير إلى وقت آخر، مع ظنه القدرة على أدائه في ذلك الوقت.

والأصوليون اختلفوا في هذه المسألة على مذاهب أشهرها ثلاثة:
المذهب الأول: للمالكية والحنابلة والكرخي من الحنفية وبعض الشافعية: أن مطلق الأمر؛ أي: المجرَّد من قرينة الفور أو التراخي هو للفور (انظر: "إرشاد الفحول" 178- "القواطع" 1/129)، واستدلوا بما يلي:
أ- أنه - تعالى - ذمَّ إبليس على ترك السجود لآدم لما أمره بقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12].
ب- أمره - تعالى - بالمسارعة والتعجيل إلى المغفرة، والمقصود أسباب المغفرة؛ قال - تعالى -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133].
ج- قوله - تعالى -: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48]، حيث أمر الله - تعالى - باستباق الخيرات، والأمر للوجوب.
د- لو لم يكن الأمر للفور لكان التأخير جائزًا، لكنه لا يجوز؛ لأنه قد يؤدي إلى عدم امتثاله بسبب الموت فجأة.

المذهب الثاني: أنه القدر المشترك بين الفور والتراخي، وأدلتهم في ذلك:
أ- أن الزمان كالمكان، فكلاهما ظرف للفعل المأمور به، فكما أن الظرف لا دلالة فيه على مكان الفعل بالاتفاق فكذلك لا دلالة فيه زمانه.
ب- أن الأمر يرد للفور حينًا ويرد للتراخي حينًا آخر، فلا بُدَّ من جعله حقيقة في القدر المشترك وإلا لزم المجاز أو الاشتراك، وكلاهما خلاف الأصل.
والراجح من القول أن الأمر المطلق يُحمَل على الفور لتبرئة الذمَّة والخروج من العهدة، والتأخير ربما نتج وترتَّب عنه تفويت الفعل.

آثار الاختلاف في هذه المسألة:
وينبني على هذا الخلاف خلاف في مسائل متعددة، منها:
1- أداء الزكاة:
• على الفور عند المالكية والحنابلة، عملاً بمقتضى الأمر؛ لأن حاجة المستحقين ناجزة.
• على التراخي لدى الحنفية، ولكن يتضيق على المزكي الوجوب إذا غلب على ظنه أنه يموت لو لم يؤدِّ، فيفوت الواجب.

2- أداء الحج:
• على الفور عند الإمكان في رأي المالكية والحنابلة.
• على التراخي في رأي الحنفية والشافعية؛ لأن الحج فُرض في السنة السادسة، ولم يحج النبي - عليه الصلاة والسلام - حتى السنة العاشرة.

3- وممَّا جرَّه الخلاف في دلالة الأمر على الفورية الخلاف في قضاء الفوائت والكفارات والنفقات، والخلاف مشهور في كتب الفقه، فلا نطيل فيه.
دلالة الأمر على التكرار:
للأصوليين رأيان في مدى دلالة الأمر على المرَّة الواحدة أو تكرار الفعل مدى الحياة:
الرأي الأول: أن الأمر المطلق يقتضي التكرار حسب الإمكان، وهو منسوب إلى الإمام أحمد وأتباعه، وحكي عن مالك، وحكاه الغزالي عن أبي حنيفة.

وحجة هؤلاء ما يلي:
1- أن الأمر بالإيمان والتقوى لا يكفي فيه المرة الواحدة، بل يلزمه الاستمرار والمداومة.
2- أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وموجب النهي ترك المنهي عنه في كل وقت وحين، فكذلك المأمور به، إلا إذا دلَّ العقل أو الشرع على استثنائه.

الرأي الثاني: أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، وهو ما ذهب إليه ابن بدران واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي الشافعي وابن قدامة.

وحجة أولائك ما يلي:
1- أن صيغة الأمر لا تعرض فيها لعدد مرات الفعل.
2- قياس استيعاب الأزمنة على استيعاب الأمكنة، فكما لا يجب أن يفعل في كل مكان لا يجب أن يفعل في كل زمان.
3- القول بأن الأمر بالتكرار يقتضي تعارض الأوامر بحيث يبطل بعضها بعض، وهو ممنوع شرعًا.


وهذا الرأي هو الراجح ويرد على أصحاب الرأي الأول بما يلي:
قولهم: لو لم يجب التكرار لكفى المرء أن يؤمن ساعة، ويُجاب عليه أن الإيمان يناقض الكفر، فإن تخلَّى عن الإيمان لحظةً وقع في الكفر، والكفر منهيٌّ عنه على الدوام، وأمَّا إذا ذهل عن الإيمان ولم يقع في قلبه ما يناقضه فلا شيء عليه، ولهذا فالنائم مؤمن؛ إذ لا يساوى بين الأمر بالإيمان والتقوى والأمر بالفعل.
وقولهم: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده، يجاب عليه أن الشيء لا يُقاس على ضده، فالأمر يقاس على النهي في اللغة لا في غيره.

وللتوسُّع يرجع إلى "مسلم الثبوت" 1/310، "شرح تنقيح الفصول"؛ للقرافي 130، "أصول السرخسي" 1/20، 22- "المستصفى" 2/2 وما بعدها.

آثار الاختلاف في هذه المسألة:
ومن آثار الخلاف في هذه المسألة:
أ- أن القائلين بأن الأمر يقتضي التكرار لم يوجبوا التيمم لكل فريضة، فأجازوا للمتيمم أن يصلي بالتيمم ما شاء من الفرائض والنوافل، ورأى المالكية والشافعية أن المتيمم لا يصلي إلا فريضة واحدة، وما شاء من النوافل.
ب- تكرار غسل النجاسة ما لم يرد في تكراره نص.
ج- تكرار الفاتحة إذا فرغ المأموم من قراءتها في الصلاة السرية، ولم يركع الإمام.

الأمر المعلق على شرط هل يقتضي التكرار؟

إذا عُلِّق الأمر بشرط؛ مثل قوله - عليه السلام -: ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس))؛ متفق عليه، مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما.

هل هذا الشرط يقتضي التكرار أو لا؟ فالأمر بصلاة ركعتين معلَّق على شرط دخول المسجد، فإذا خرج ثم دخل، هل يلزم تكرار الصلاة؟
فمَن قال: إن الأمر المطلق يقتضي التكرار يرى أنه من باب الأولى للأمر المعلق على الشرط.

وأمَّا الذين قالوا بأن الأمر لا يقتضي التكرار فكذلك الأمر في المعلق على الشرط.
وقال بعضهم: إن الأمر المعلَّق على الشرط يقتضي التكرار بخلاف الأمر المطلق؛ لأن تعليقه على الشرط كتعليقه على العلة، والتعليق على العلة يوجب التكرار.

والراجح أن الأمر يقتضي التكرار بتكرر الشرط.

وممَّا ينبني على هذه القاعدة:
1- إذا سمع الأذان فهل يلزمه ترديد ما يسمعه من المؤذن، عملاً بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن))؛ "الموطأ"، باب ما جاء في النداء للصلاة، البخاري، باب ماذا يقول إذا سمع المنادي؟ مسلم، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لِمَن سمعه، ثم يصلي على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويسأل الله له الوسيلة.

2- إذا كرَّر السلام فهل يلزم تكرار ردِّه؛ عملاً بقوله - تعالى -: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86].
فهذه المسائل وغيرها اختلف العلماء فيها فذهب البعض إلى وجوب التكرار، وذهب البعض الأخر إلى عدم الوجوب.

سقوط الأمر المؤقَّت بفوات الوقت:
اختلف العلماء في المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته، بل يجب قضاؤه بالأمر الأول، ولا يحتاج لأمر خاص للقضاء، وهذا قول أكثر الحنابلة ومنهم ابن قدامة، وبعض الحنفية ومنهم السرخسي.

وأدلة ها القول ما يلي:
1- أن الأمر بالمركب أمرٌ بكل أجزائه، والمؤقت مركب من شيئين، الفعل ذاته وزمان أدائه، فإن فات أحدهما يبقى المكلف مأمورًا بالآخر، فيجب قضاؤه إن كان واجبًا.

2- قال عبدالله بن عباس: قال رجل: يا رسول الله، إن أبي مات ولم يحجَّ أفأحج عنه؟ قال: ((أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟))، قال: نعم، قال: ((فدين الله أحق))؛ "سنن النسائي"، مناسك الحج، باب تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين.
ووجه الدلالة من الحديث أنه - عليه السلام - سمى الواجبات الدينية دينًا، وضارَعَها بديون الناس، ففهم منه أن دين الناس لا يسقط بفوات الوقت، فكذالك دين الله.

القول الثاني: أن الأمر المؤقت يسقط بفوات وقت أدائه، ولا يقضى إلا إذا ثبت دليل خاص على مشروعية قضائه، ويعبرون عن ذلك بالصيغة التالية: "القضاء لا يثبت إلا بأمر جديد"، ويقصدون بالأمر الجديد الدليل الخاص، وهذا قول أكثر الأصوليين.

وأدلة هذا القول ما يلي:
1- أن الواجبات الشرعية منها ما يجب قضاؤه ومنها ما لا يجب بالاتفاق، فالصلوات الخمس يجب قضاؤها على النائم والناسي، والجمعة لا يجب قضاؤها.
2- أن الأمر بالفعل لا تعرُّض فيه للقضاء، فإيجاب القضاء لا دليل ينص عليه.
وما رجَّحه العلماء هو القول الأول، فالأمر المؤقَّت لا يسقط بفوات وقت أدائه، دون الحاجة لدليل خاص أو ما يسميه أصحاب القول الثاني (الأمر الجديد).

وسبب الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى قاعدتين:
• أن الأمر المركَّب هو أمر بكل أجزائه.
• أن تخصيص الفعل بذلك الوقت لا يكون إلا لمصلحة.
فمن راعَى القاعدة الأولى قال بعدم سقوط الأمر بعد فوات وقته، ومَن راعى القاعدة الثانية رأى سقوط الأمر عند فوات الوقت حتى يرد دليل خاص.

نتائج الاختلاف:
بُنِي على الاختلاف في هذه المسألة اختلافٌ في مسائل فقهية كثيرة منها:
أ- قضاء الصلوات المتروكة تهاونًا لا جحودًا، فذهب بعض العلماء إلى وجوب قضائها وذهب البعض إلى عدم الوجوب.
ب- زكاة الفطر وهي صدقة محدَّدة بوقت، فأصحاب القول الأول يرون عدم سقوطها إذا لم تخرج في وقتها الذي حدده الشارع لها، ويرى أصحاب القول الثاني عدم قضائها لعلة فوات وقتها.
ج- وممَّا تفرَّع عن هذه القاعدة المختلَف فيها قضاء السنن والرواتب إذا فات وقتها.

ومن العلماء مَن جعل هذه القاعدة خاصة بالواجبات دون المندوبات.

دلالة الأمر على الإجزاء بفعل المأمور به:

عنوَن الإمام الغزالي لهذه المسألة في "المستصفى" بقوله: "الأمر هل يقتضي وقوع الإجزاء بالمأمور به"، "المستصفى"، القطب الثالث: في كيفية استثمار الأحكام من مثمرات، الأمر يقتضي وقوع الإجزاء بالمأمور به.

فجعل المقتضى للإجزاء هو إتيان المأمور به.

ويطلق الإجزاء على أمرين:
1- موافقة أمر الشارع وامتثاله.
2- سقوط القضاء.

وقد ذهب المعتزلة إلى القول الأول، وذهب أكثر الفقهاء إلى الثاني.

وفعل المأمور به على الوجه الصحيح كما طلب الشارع لا خلاف فيه أنه يقتضي الإجزاء بالمعنى الأول، وإنما الخلاف في أنه هل يقتضي الإجزاء بمعناه الثاني الذي هو سقوط القضاء، وهذا الخلاف على قولين:
القول الأول: أن الفعل المأمور به يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء، فإذا فعل المكلف الفعل المأمور به لا يمكن أن يؤمر بقضائه، واستدلَّ أصحاب هذا القول بما يلي:
1- أن المكلف قد قام بما طلب منه.
2- لو كان الفعل المأمور به لا يسقط القضاء للزم أن يكون الأمر يوجب فعل المأمور به مرة بعد مرة.
3- قال عبدالله بن عباس: "قال رجل: يا رسول الله، إن أبي مات ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟))، قال: نعم، قال: ((فدين الله أحق))؛ "سنن النسائي"، مناسك الحج، باب تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين.
ووجه الدلالة في الحديث أن الدين سواء الديني أو الدنيوي تبرأ ذمة صاحبه إذا وفاه.

القول الثاني: أن الفعل المأمور به لا يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء، والدليل ما يلي:
1- مَن أفسد حجه يؤمر بإتمامه، ويجب عليه القضاء، ولو كان فعل المأمور به يسقط القضاء لما لزم القضاء على مَن أفسد حجه.
2- مَن صلى وتبيَّن له أنه صلى بدون طهارة، فإنه يجب عليه القضاء بالاتفاق.
والراجح أن إتيان الفعل المأمور به على الوجه المطلوب من الشارع يقتضي الإجزاء؛ أي: سقوط القضاء.

ويُجاب على دليلي المخالفين بما يلي:
1- أن مَن أفسد حجه لم يأتِ بالمأمور به على الوجه المطلوب، إنما أتى به مع شيء من الخلل.
2- أمَّا قضاء الصلاة لِمَن تبيَّن له أنه صلى بدون طهارة فهذا تدارك لمصلحة فائتة ولاستكمال شروط الصلاة التي لم تحصل في السابق.
آثار الاختلاف في المسألة:
1- فاقد الطهورين: قال بعض الفقهاء: يصلي على حاله، ثم يقضي إذا وجد الماء أو التراب، وذهب الجمهور إلى أنه لا قضاء عليه؛ لأنه لا يطلب منه ما لا يطيق.
2- مَن ضلَّ فلم يعرف جهة القبلة، ذهب البعض إلى القضاء إذا عرف الجهة بعد ذلك، ومقتضى قاعدة الجمهور لا يؤمر بالقضاء.
3- واختلفوا في صلاة المحبوس في محل نجس، هل يجب عليه القضاء والإعادة أم لا يجب؟

الأمر بالأمر بالشيء:
والمراد بالمسألة: إذا أُمِر المكلف بأن يأمر غيره بالشيء فهل يكون ذلك أمرًا من الشارع لذلك الغير بفعل الشيء المذكور في الأمر؟

ومثاله قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مُرُوا الصبيَّ بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها))؛ "سنن أبي داود"، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الصبي بالصلاة.
فهل يُقال: إن الصبيان مأمورون بالصلاة من قِبَل رسول الله؟

تحرير أقوال العلماء في المسألة:
القول الأول: إن الأمر بالشيء ليس أمرًا بذلك الشيء في حق الطرف الثالث.

وهذا قول الجمهور من العلماء الذين استدلوا بما يلي:
1- قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مُرُوا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها)).
ووجه الدلالة في الحديث: أن الإجماع قائم على أن الصبية غير مأمورين بالصلاة بأمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

2- لو كان الأمر بالأمر أمرًا لكان الرجل إذا قال لمالك العبد: مر عبدك أن يفعل كذا، متعديًا على حق المخاطب بأمر عبده دون إذنه، وليس كذلك عند أهل اللغة، فعرفنا أن الأمر بالأمر ليس أمرًا.

القول الثاني: إن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء.
وهذا قول بعض السادة الشافعية (انظر: "البحر المحيط" 2/411)، وأدلتهم في ذلك:
1- ما أخرجه الشيخان وأصحاب السنن ومالك في "الموطأ" عن نافع: أن عبدالله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمرُ بن الخطاب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ، فتلك العدَّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء)) واللفظ لمالك.
ووجه الدلالة: أن أمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعمر - رضِي الله عنه - أن يأمر ابنه بالمراجعة عُدَّ أمرًا لابن عمر بالمراجعة.

والراجح هو القول الأول، مع استثناء لو قال الأول: قل لفلان: إني آمره بكذا، ودليل المخالفين يُجاب عليه بما يلي:
1- أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمر عمر ولما لقي ابنه أمره مباشرة بالمراجعة.
2- أن عمر - رضي الله عنه - جاء لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مستفتيًا، فأفتاه فأمره بنقل الفتوى لابنه.

آثار الاختلاف في المسألة:
ومن ثمرات الخلاف في المسألة ما يلي:
1- مراجعة الزوجة المطلَّقة أثناء الحيض، فذهب بعض العلماء إلى وجوب مراجعتها بناءً على أن الأمر بالأمر أمر، أو بناء على أمر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعبدالله بن عمر مباشرةً أو أفتى فنقل عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - الفتوى لغيره.
وذهب البعض إلى أن المراجعة أثناء الحيض لا تجب، بناء على أن الأمر بالأمر ليس أمرًا.

2- لما مرض رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مرضَه الذي مات فيه فحضرت الصلاة، فأذن فقال: ((مُرُوا أبا بكر فليصلِّ بالناس))؛ "صحيح البخاري"، كتاب الأذان، باب حد المريض أن يشهد الجماعة.
فقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مروا أبا بكر فليصلِّ)) هل يُعَدُّ أمرًا لأبي بكر؟

3- عن ابن عباس قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مُره فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتمَّ صومه))؛ "صحيح البخاري"، كتاب الأيمان والنذر، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية.

فقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((مره فليتكلم وليستظل...))، فهل يُعَدُّ ذلك أمر إيجاب موجَّهًا لأبي إسرائيل أن يترك النذر لعدم مشروعيته؟

دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده:
الضدان: هما اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان، كالوجوب والتحريم.
النقيضان: اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، كالوجود والعدم.
والخلافان: قد يجتمعان وقد يرتفعان، كالطول والحمرة.

ويعلم أن فعل معين يمنع من ضده أو نقيضه في نفس الوقت، ولا يمنع من فعلهما في وقت آخر، وأمَّا الخلاف فلا يمنع التلبس به التلبس بخلافه.

وإذا تقرَّر هذا، فهل الأمر بالشيء يُعَدُّ نهيًا عن فعل ضده أو أضداد من حيث المعنى؟ وهذا محل النزاع بين العلماء على أقوال:
القول الأول: فمذهب الجمهور أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، أو أضداده إن كانت له أضداد كثيرة، وأدلتهم في ذلك:
1- أنه لا يمكن الإتيان بالمأمور إلا بترك ضده، ولا يؤمر بالواجب إلا بترك الحرام.
2- لو لم يكن الأمر بالشيء نهيًا عن ضده لكان تارك الأمر يُعاقَب على ما لم يفعله.
3- أن الأمر يقتضي الفورية، والتلبُّس بالضد يحول دون المبادرة بالفعل المأمور به.

القول الثاني: أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده، وهو قول بعض المعتزلة وبه قال الغزالي واختاره الجويني، وأدلتهم كالتالي:
1- أن الضد مسكوت عنه لم يرد له ذكر.
2- أن الآمِر قد يأمر بالشيء وهو غافل عن ضده، فكيف يكون ناهيًا عمَّا ليس بباله؟

القول الثالث: أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده، وهذا اختيار السرخسي والبزدوي من الحنفية، ودليلهم أن الأمر من حيث الدلالة اللفظية لا دلالة فيه على النهي عن ضده، ولكنه يدلُّ على النهي بدليل الاقتضاء، ودلالة الاقتضاء أضعف من دلالة النص، فيكون الثابت بها أضعف من الثابت بدلالة النهي المنصوص عليه بصيغته، فتثبت الكراهة بدلالة الاقتضاء.

والراجح أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ويستلزمه، إذا كان المأمور معينًا وقد ضاق الوقت عن غيره.

آثار الاختلاف في المسألة:
ذكر علماء الأصول أن بعض الفروع المتفرِّعة عن هذه المسألة، ومنها:
1- إذا قال الزوج لزوجه: إن خالفتِ نهيي فأنت طالق، ثم أمرها بشيء فخالفت فهل تطلق؟
فمَن ذهب المذهب الأول أوجب الطلاق، ومَن أخذ بالثاني لا تطلق، وعلى المختار تطلق إذا كان الأمر مخيرًا وموسعًا.
2- المأمور بالقيام بالصلاة، إذا جلس ثم قام، فهل يحرم عليه ذلك، فعلى القول الأول يحرم، وعلى الثاني لا يحرم، وذهب البزدوي والسرخسي إلى القول بالكراهة.
3- المصلي يلزمه السجود على موضع طاهر، فإذا سجد على موضع نجس ثم على موضع طاهر فهل تبطل الصلاة؟

فمَن قال بأن الأمر عن الشيء يقتضي النهي عن ضده أبطلها، ومن قال عكس ذلك لم يبطلها.

أسباب الخلاف في المسألة:
ذكر العلماء أن الأسباب التي أوجبت الخلافَ في المسألة ترجع إلى ثلاثة أسباب:
السبب الأول: قولهم: لا تكليف إلا بالفعل، فإذا سلَّموا بهذه القاعدة وقالوا: إن الترك ليس بفعل، فلا بُدَّ أن يقولوا: إن الأمر بالشيء يقتضي النهيَ عن ضده؛ حتى تكون العقوبة على فعل الضد لا على الترك.
السبب الثاني: اشتراط الإرادة في الأمر والنهي وعدم اشتراطها، فمَن اشترطها لم يقل بأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده؛ لاحتمال الغفلة عن الضد، ومَن لم يشترطها قال: إن الأمر يستلزم النهي عن ضده.
السبب الثالث: دوران الأمر بين الفورية وعدمها، فالقول بأن الأمر يقتضي الفورية يناسب القولَ بأن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، بخلاف القول بعدم الفورية.

الأمر بعد الحظر:
تواتر عن الفقهاء أن الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة، لكن الأصوليين يختلفون في ذلك.

وصورة المسألة: أن يَرِدَ الحظر من الشارع لفعلٍ ما، سواء فُهم هذا الحظر من نهي صريح أم من غيره، ثم يرد أمرٌ بذلك الفعل.

ومثال الأمر بعد الحظر الصريح قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليتَّسع ذو الطول على مَن لا طول له، فكلوا ما بدا لكم، وأطعموا، وادَّخروا))؛ "سنن الترمذي"، الأضاحي عن رسول الله، باب ما جاء في الرخصة في أكلها بعد ثلاث.

فالنهي عن الادخار جاء النهي عنه صريحًا، ثم جاء بعده الإذن والأمر بالادِّخار.
ومثال النهي غير الصريح: عن ابن عباس: أنه سمع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها مَحرَم))، فقام رجل فقال: يا رسول الله، اكتُتبتُ في غزوة كذا وكذا، وخرجَتِ امرأتي حاجَّة؟ قال: ((اذهب فحُجَّ مع امرأتك))؛ "صحيح البخاري"، كتاب الجهاد والسير، باب مَن اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة، أو كان له عذر: هل يؤذن له؟

فلم يرد في الحديث نهيٌ صريح عن ذَهاب الرجل مع امرأته، ففهم من اكتتاب اسمه في لائحة إحدى الغزوات النهي عن التخلف، ثم جاء الأمر النبوي بذهاب الرجل مع امرأته.

ومحل النزاع في المسألة عدم وجود قرينة تدلُّ على حمل الأمر على الوجوب، أو الإباحة، أو الندب، وإن وجدت يعمل بمقتضاها، مع أنه من النادر أن تعدم القرينة.

أقوال العلماء في المسألة:
القول الأول: الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة، وهو قول الشافعي والآمدي والأسنوي، وحكاه القاضي عبدالوهَّاب عن الإمام مالك، وإليه ذهب الإمام ابن تيميَّة بقوله: "إن الأمر بعد الحظر يرفع التحريم"؛ ينظر: "المسودة" 1/33، تحقيق أحمد الذروي.

الأدلة:
1- العرف الشرعي في استعمال الأمر بعد الحظر هو للإباحة، ومن ذلك:
• قوله - تعالى -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
• وقوله - عز وجل -: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222].
• قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلاَّ في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكِرًا))؛ "صحيح مسلم"، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ربه - عزَّ وجلَّ - في زيارة قبر أمِّه.

2- العرف اللغوي:
فإن أهل اللغة متفقون على أن السيد لو قال لعبده: لا تأكل هذا الطعام، ثم قال له: كُلْ، لم يكن هذا إيجابًا يستحق على تركه العقوبة، وكذلك لِمَن طَرَقَ البابَ وقيل له: ادخل، فليس هذا إيجابًا للدخول؛ وإنما هو إذنٌ فيه.

القول الثاني: أن الأمر لا تختلف دلالته بعد الحظر عن دلالته لو لم يسبَق بحظر، وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين (انظر: "روضة الناظر" 612).

الأدلة:
1- أن الأمر الواقع بعد الحظر يكون ناسخًا له، فيكون نسخ التحريم بالإيجاب، أو الندب، أو الإباحة.
2- قياس الأمر بعد الحظر على النهي بعد الأمر، فكما أن النهي يُحمَل بعد الأمر على التحريم، فكذلك الأمر بعد الحظر يحمل على الوجوب.
3- عموم الأدلة الدالَّة على الوجوب.

القول الثالث: إذا ورد الأمر بصيغة (افعل) فهو للإباحة، وإذا ورد باللفظ الصريح للأمر كقول: أنتم مأمورون، أو: إني آمركم، فهذا للوجوب، وهذا اختيار ابن حزم الظاهري.

الدليل:
أن العرف الشرعي جرى في الأمر بصيغة (افعل)، والأمر الصريح لا عرف فيه؛ إذ يأتي بمادة (أمر).

الترجيح:
والراجح من الأقوال هو القول الأول؛ إذ يحمل الأمر بعد الحظر على الإباحة، حتى يقوم دليل على خلاف ذلك.
وما ذكره أصحاب هذا الرأي من أدلة كافٍ في الدلالة على المطلوب.

أمَّا اعتراض أصحاب القول الثاني بقياس الأمر على النهي، فهو باطل؛ للفرق بين الأمر والنهي؛ فالأول لا يقتضي الاستمرارية، والثاني يقتضي الاستمرارية في ترْك المنهي عنه.

أمَّا قول ابن حزم، فمردودٌ بعدم الفرق بين الإخبار عن أمر الله أو رسول الله، فالأمر منهما يأتي بصيغ معروفة.

آثار الاختلاف في المسألة:
تظهر ثمرة الخلاف في المسائل التالية:
1- قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اذهب فحجَّ مع امرأتك))، هل يمكن أن يستدل منه وجوب، أم يستدل منه الإباحة؛ لأن الأمر بالذَّهاب جاء بعد الحظر؟

2- قوله - تعالى -: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، هل يستدل منه على وجوب مكاتبة السيد لعبده إذا علم منه خيرًا؟
قيل: نعم، أخذًا بظاهر الآية، والجمهور قالوا: لا يجب؛ لأنه أمر بعد حظر، والحظر هنا غير منصوص عليه؛ لكنه مفهوم؛ لأن الشارع لا يوجب على المالك بيع شيء من ماله مؤجلاً، فثبوت ملك السيد لعبده بمثابة مانع من المكاتبة.

3- قوله - تعالى -: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] بعد قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222].
فالأمر باعتزال النساء في المحيض نهيٌ عن الجماع، والأمر بإتيانهن أمرٌ بالجماع جاء عقب الحظر، فهل يمكن الاستدلال بقوله - تعالى -: {فَأْتُوهُنَّ} على وجوب الوطء؟

الأكثر قالوا: لا يجب؛ لأنه أمر بعد حظر، فكان إذنًا وإباحة.

والبعض قالوا: نعم، يصلح للوجوب؛ عملاً بظاهر الآية.

وقال ابن تيميَّة: الأمر رفع الحظر، وعاد الحكم على ما كان عليه في السابق، والوطء واجب على الرجل مع المقدرة؛ لقوله - تعالى -: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

سبب الخلاف:
ويرجع الخلاف في المسألة إلى أن تقدُّم الحظر على الأمر: هل يصحُّ؛ لكي يكون قرينة صارفة عن ظاهر الأمر إلى الإباحة؟ فمَن قال: إن تقدم الحظر قرينة، صرَفَه من الوجوب إلى الإباحة، ومَن قال: لا يُعَدُّ قرينة صارفة، حمَلَه على الوجوب.

الأمر في الواجبات الكفائية:
واختلف العلماء في الأمر الكفائي - كالجهاد مثلاً - هل يتوجَّه إلى الكل، فيسقط بفعل البعض؟ أو يتوجه إلى بعضٍ مبهم؟
• وقد ذهب السواد الأعظم إلى أن الأمر الكفائي يؤمر به كلُّ فرد، ويسقط بفعل مَن يكفي.
واستدلوا بأن الأمر لا يخلو من أن يكون موجهًا للكل أو إلى بعض مبهم، والثاني محال؛ لأنه لو كان لبعض مبهم لأهمل الواجب؛ لأن كل واحد سيعتبر نفسه أنه ليس من ذلك البعض المبهم، فلا يقوم بالفعل المأمور به.

• وذهب البعض إلى أن الأمر الكفائي يؤمر به البعض المبهم.
واستدلوا بأن الأمر لو توجَّه إلى الجميع، لما سقط بفعل البعض؛ لأن الفرض لا يسقط إلا بأداء أو نسخ، وأيضًا أن الإبهام به في المكلف جائز، فكذلك الإبهام في المكلفين.
ويستدلون بقوله - تعالى -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104]، ووجه الدلالة من الآية أن الدعوة إلى الله من الواجبات الكفائية، ووجَّه الله الأمر إلى البعض لا إلى الجميع، حيث قال: {مِنْكُمْ}، وهي للتبعيض.
والراجح أن الأمر الكفائي يوجَّه إلى مجموع الأمة ككل، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به أحد أثموا وأثموا جميعًا.

النهي:
تعريف النهي:
يراد بالنهي لغة: المنع، لذلك سمي العقل نهية، وجمعه نُهى - بضم النون - لأن العقل يمنع صاحبَه من الخطأ غالبًا، وسمي الغدير نِهيًا - بكسر النون - لأنه يمنع الماء من الجريان.

وقد عرف ابن بدران الحنبلي النهي اصطلاحًا فقال: "القول الإنشائي الدال على طلب كف عن فعل على وجه الاستعلاء"؛ "إرشاد الفحول" 96.
وبعبارة أخرى: هو ما دلَّ على طلب الكف عن الفعل، فخرج منه الأمرُ؛ لأنه طلب الفعل غير الكف، وخرج منه الدعاء والالتماس؛ لأنه لا استعلاء فيهما.

صيغ النهي:
للنهي صيغة معتادة، وهي صيغة (لا تفعل)، كقوله - تعالى -: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152].

وهناك أساليب كثيرة يستفاد منها النهي والتحريم، ومن ذلك:
1- لفظ التحريم؛ كقوله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ...} [المائدة: 3].
2- نفي الحل؛ مثل قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19].
3- توعد الفاعل بالعقاب؛ كقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68].
4- وجوب الحد على الفاعل؛ مثل قوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
5- لعن الله ورسوله للفاعل؛ فعن علقمة قال: "جاءت امرأة من بني أسد إلى ابن مسعود، فقالت: إنه بلغني أنك تقول: لعنت الواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، وقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدتُ ما تقول! قال: بلى، وجدتِ، ولكنك لا تعلمين، قالت: وأين هو؟ قال: أمَا قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؟"؛ "صحيح ابن حبان"، كتاب الزينة والتطيب، ذكر لعن المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - المستوشمات والواشمات.

اقتضاء النهي التحريم:
النهي المقرون بقرينة التحريم يحمل على التحريم بالإجماع؛ كقوله - تعالى -: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32]، فوصفُ الزنا بالفاحشة وأنه غاية في السوء، دليلٌ على تحريمه.

والنهي الذي صحبتْه قرينة تدلُّ على أنه للكراهة، يحمل على الكراهة، مثل نهيه - تعالى - عن السآمة والملل من كتابة الدَّيْن صغيرًا كان أو كبيرًا: {وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} [البقرة: 282].

وقد تُصرَف القرينة صيغة (لا تفعل) إلى الدعاء كقوله - تعالى -: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، وإلى اليأس كقوله - تعالى -: {لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم: 7]، ونحوها من المعاني، فتخرج عن كونها نهيًا.

وقد اختلف العلماء عن النهي الذي لم تصحبْه قرينة، هل موجبه التحريم أو الكراهة؟

ذهب الجمهور إلى أنه يحمل على التحريم، واستدلوا بما يلي:
1- قوله - تعالى -: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [التحريم: 7].
ووجه الدلالة من الآية أن الله - تعالى - أمر بالانتهاء عمَّا نهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم.
2- قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا))؛ أخرجه ابن ماجه، المقدمة، اتباع سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم.
فهذا الحديث فيه أمرٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالانتهاء عمَّا نهى عنه - عليه السلام.
3- أن الصحابة فهموا من النهي مطلَقَ التحريم.

اقتضاء النهي الفورية والاستمرار:
النهي يقتضي الكف عن المنهي عنه على الفور مع الدوام، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك، والدليل على ذلك أن المنهي عنه يجرُّ إلى المفسدة، والمفسدة توجب الابتعاد عنها على الفور مع الاستمرار.

النهي عن الشيء أمر بضد من أضداده:
بيَّنا سالفًا أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن جميع أضداده، إذا كان المأمور به معينًا وضاق وقته عن فعل غيره معه، فهل يُقال في النهي مثل ذلك؟
والأصل أن النهي إن كان له ضد واحد، فهو يستلزم الأمر بذلك الضد، فالصوم في العيدين حكمه الحرمة، وضده الفطر فيهما، والفطر في العيدين حكمه الوجوب.

وإن كان له أضداد كثيرة، فهو يستلزم الأمر بضد واحد دون الأضداد الأخرى؛ لأن ما لا يتمُّ ترك الحرام إلا به فهو واجب، ووجوبه من باب وجوب الوسائل لا من باب وجوب المقاصد.

النهي بعد الأمر:
سبق أن قلنا: إن الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة، فهل نقول: إن النهي بعد الأمر يقتضي الإباحة أيضًا؟

ذهب الجمهور إلى أن النهي بعد الأمر يقتضي التحريم، وذهب البعض إلى التسوية بينه وبين الأمر بعد الحظر، وتوقَّف بعضهم، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور.

وممَّا يدلُّ على الفرق بينهما:
1- أن الإباحة من محامل الأمر لا من محامل النهي.
2- أن الأمر لتحصيل المصالح، وأن النهي لدفع المفاسد، واعتناء الشرع بدفع المفاسد أكثر من اعتنائه بجلب المصالح؛ لذا يُقال: درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
3- ورود صيغة (افعل) بعد الحظر تدلُّ على الإباحة في العرف الشرعي وفي اللغة، بخلاف النهي، يبقى على حاله.

اقتضاء النهي الفساد:
سبق معنا في قسم (أقسام الحكم الوضعي) أن الفساد عند الجمهور يرادف مفهوم البطلان، أمَّا الحنفية فيفرِّقون بين البطلان والفساد.

وقسم العلماء النهي إلى ثلاثة أقسام:
أ- النهي عن الشيء لعَيْنه، وهذا لا اختلاف في فساد المنهي عنه، ومثَّلوه بفساد بيع النجاسات.
ب- النهي عن الشيء لوصفٍ ملازم له، وهذا محل خلاف بين الجمهور والحنفية، كاختلافهم في بيوع الغرر.
ج- النهي عن الشيء لأمرٍ خارج عنه؛ مثل النهي عن الغصب هل يقتضي فساد الصلاة؟ والنهي عن البيع عند وبعد الأذان الثاني من يوم الجمعة.

فالخلاف جارٍ بين العلماء في القسم الثاني والثالث، والإشكال يحصل في حدِّ المنهي عنه لعينه، فإنهم لم يذكروا له حدًّا يتميَّز به، ولهذا يختلفون عند التطبيق؛ فبعضهم يقول: إن الربا منهي عنه لعينه، والبعض يقول: إن الربا منهي عنه لوصفه.
فالقسم الأول: لا خلاف في بطلانه، وقد يمثل له الحنفية بالنهي عن بيع الكلب والخنزير والنجاسات وبيع حبل الحبلة.
والقسم الثاني: يقتضي الفساد عند الجمهور؛ كالنهي عن صيام يومي العيد وعن بيوع الربا.

وذهب الحنفية إلى أن النهي عن الشيء لوصف ملازم له، يفرق فيه بين العبادات وغيرها؛ فالعبادات: كصيام يوم العيد باطل.

أمَّا المعاملات: كبيع الدرهم بالدرهمين، فهو عندهم بيع فاسد، ولكن يثبت معه الملك مع التقابض، فهو وإن سموه فاسدًا لكنه ليس باطلاً كما عند الجمهور؛ لأن الفساد عرض بسب الزيادة، ولو زالت لصح البيع.

أمَّا القسم الثالث: - وهو النهي المتعلِّق بأمر خارج عن المأمور به - فهذا لا يقتضي الفساد عند أغلب العلماء، ويقتضيه عند الإمام أحمد وعند الظاهرية.
فالأغلبية ترى أن الصلاة في الأرض المغصوبة، والذبح بالشفرة المغصوبة، والوضوء بالماء المغصوب، إنما النهي فيها انصبَّ على الغصب، لا على الصلاة أو الوضوء أو الذبح.

والراجح أنه لو كان النهي راجعًا لأمرٍ خارجٍ عن المأمور به، فإنه لا يقتضي فساد المأمور به، وإن كان متصلاً بشرط من شروطه.

الأدلة على أن النهي يقتضي الفساد في القسمين الأولين (المنهي عنه لذاته، والمنهي عنه لوصف ملازم له):
1- قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد))؛ "صحيح مسلم"، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
فالمنهي عنه ليس عليه أمر الإسلام، فيكون مردودًا.

2- إجماع الصحابة والتابعين على بطلان البيوع الربوية.

3-
عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت فضالة بن عبيد الأنصاري يقول: أُتِي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب وهي من المغانم تُباعُ، فأمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالذهب الذي في القلادة، فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن))؛ صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب بيع القلادة فيها خرز وذهب.
فالحديث فيه أمر بردِّ بيع القلادة التي فيها خرز وذهب؛ لذلك نزع - عليه السلام - الذهب وقال: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن)).

4- أن الصحة تضادُّ النهي؛ لأن الصحيح مأذون فيه، والنهي ليس كذلك، فلا يمكن أن يكون منهيًّا عنه وصحيحًا في آنٍ واحد.

أدلة القائلين أن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه:

1- النهي لا تعرض فيه للصحة والفساد؛ وإنما الأصل في النهي التحريم.
2- أن الشرع نهى عن الطلاق في الحيض، وقال أكثر العلماء بوقوعه، ولو أن النهي يقتضي الفساد لما وقع.

والصحيح القول الأول، ويرد على أدلة القول الثاني بما يلي:
1- قولهم: إن النهي لا تعرض فيه للصحة والفساد، هذا محلُّ خلاف، فلا يجب الاستدلال به.
2- قولهم: إن الشرع نهى عن الطلاق في الحيض ومع ذلك يقع، يرد عليه من وجهين:
الأول: جواب مَن لا يرى وقوع الطلاق في الحيض، ويطرد القاعدة في هذه المسألة، وهؤلاء منعوا وقوع الطلاق في الحيض.
الثاني: جواب مَن يرى وقوع الطلاق في الحيض، فهؤلاء يعتبرون أن آثار الفعل إن كانت ممَّا يضرُّ بالفاعل فتقع عقوبة له، وأمَّا إن كانت ممَّا ينفعه فلا تقع العقوبة، والطلاق من هذا القبيل.

أمَّا النهي الذي لم يتَّجه إلى الفعل، وإنما اتَّجه نحو أمر خارج عنه لا علاقة له بالفعل - كالشروط مثلاً - فالظاهر أنه لا يقتضي فساد الفعل المأمور به، كما مثَّلنا لذلك في الصلاة في الأرض المغصوبة، والذبح بالسكين المغصوب... فالنهي ورد للغصب مع بقاء الأمر بالصلاة والذبح... فإذا صلى المكلَّف في الأرض المغصوبة، صحَّت صلاته وعليه إثم الغصب، وكذلك يصحُّ حج المرأة بلا مَحرَم، مع إثمها على خروجها بدون محرم.

والدليل على ذلك أن الأمر والنهي في هذه الصور لم يرِدَا على محلٍّ واحد؛ بل على محلين، فيمكن أن يصحَّ الفعل المأمور به، ويترتَّب الإثم على مخالفة النهي، فالمصلي في الأرض المغصوبة يُثاب على صلاته، ويأثم على غصبه.

وممَّا يدلُّ على ذلك أيضًا أن الفعل المأمور به مستكمل للأركان والشروط، فيجب الحكم بصحته.

العام والخاص:
تعريف العام والخاص:
العام لغة: الشامل، ومنه سميت العمامة؛ لأنها تشمل كل الرأس وتعمه.
وأما في الاصطلاح، فقد عرف الإمام الرازي بقوله: "هو اللفظ المستغرِق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد"، وقد أوضح الإمام الرازي تعريفه هذا بقوله: "كقولنا: الرجال؛ فإنه، مستغرقٌ لجميع ما يصلح له، ولا يدخل عليه النكرات، كقولهم: رجل؛ لأنه يصلح لكلِّ واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم، ولا التثنية، ولا ألفاظ العدد، وقولنا: بحسب وضع واحد، احتراز عن اللفظ المشترك، أو الذي له حقيقة ومجاز؛ فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معًا"؛ "المحصول" 1/353.

ومن خلال تعريف الرازي يتبيَّن أن الأصوليين يقصرون العام على الألفاظ دون المعاني؛ لأن العموم عندهم من عوارض الألفاظ.
وعند المتقدمين من الأصوليين: العام: "ما عمَّ شيئين فصاعدًا"، ومنه يتبيَّن أن الأسبقين لا يقيدون العام بالاستغراق؛ بل يكتفون بأن يكون فيه شمول، ولهذا فهم يطلقون اسم العام على المطلق والعكس.

أمَّا الخاص لغةً: فمن الخصوص، وهو ضد العموم.

واصطلاحًا: "هو اللفظ الدال على معنى واحد".

والعموم والخصوص وصفان نسبيَّان؛ فقد يكون اللفظ عامًّا بالنسبة لما تحته من الأفراد، وقد يكون خاصًّا بالنسبة لما فوقه، الإنسان مثلاً: لفظ عام بالنسبة للرجل والمرأة، وخاص بالنسبة للحيوان.

الفرق بين العام والمطلق:

كان الأقدمون لا يفرِّقون بين العام والمطلق؛ لاشتباههما في عموم داخل الجملة، وفي ذلك يقول الإمام ابن تيميَّة: "لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وأبي إسحاق، سواء"؛ "مجموع الفتاوى" 7/391.

والبارع في الأصول لا ينبغي له أن يخلط بين هذه المصطلحات؛ إذ بينهما فروق هي كالتالي:

1- من حيث التعريف، فقد تقدَّم تعريف العام، أمَّا المطلق فهو: اللفظ الدالُّ على مدلول شائع في جنسه من غير قيد - كما سيأتي.

2- أمَّا من حيث الحكم، فإن المطلق إذا ورد الأمر به لا يتناول جميع الأفراد التي تدخل تحت اللفظ؛ بل تحصل براءة الذمة بواحد منها.

أمَّا العام فيتناول جميع الأفراد التي تندرج تحته، ولا تبرأ الذمة إلا بفعل الجميع، فقوله - تعالى - مثلاً: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] مطلق؛ لأن المأمور بالعتق لم يؤمر منه تحرير كل رقبة، ولو جاء اللفظ عامًّا، لوجب تحرير جميع الرقاب.

أقسام العام:

يقسم العام إلى تقسيمات عِدَّة، باعتبارات مختلفة:

التقسيم الأول: باعتبار طريقة معرفة عمومه: وينقسم العام بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:

أ- العام لغة: وهو ما عُرِف عمومه بالاستعمال والوضع اللُّغوي.

ب- العام عقلاً: وهو ما عرف عمومه عن طريق العقل وذلك بالتعليل، مثل فهم العموم من قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يقضي الحكم بين اثنين وهو غضبان))؛ "سنن أبي داود"، كتاب الأقضية، باب القاضي يقضي وهو غضبان.

ففهم من الحديث أن الغضب يلحق به الجوع والعطش والحزن.

ج- العام عرفًا: وهو ما عرف عمومه بعرف الشرع أو بعرف أهل اللغة، فمثال الأول قولنا: (المسلمون)، فهو جمع مذكر سالم، يشمل حتى النساء عرفًا.

العموم المعنوي:

قسم العموم من حيث معرفة طريقة عمومه إلى عموم لفظي ومعنوي؛ فاللفظي: هو المفهوم من الصيغ مع خصوص اللفظ الدال عليه من حيث الوضع، والمعنوي: ما فهم واستفيد من المعنى.

أنواع العموم المعنوي:

أ- العموم المستفاد بطريق الاستقراء:

ونعني به القواعد الشرعية الثابتة باستقراء فروع الشريعة، ومثاله: (الضرر لا يزال بمثله)، (الضرورات تبيح المحظورات)، (الميسور لا يسقط بالمعسور).

فهذه القواعد عُرِف عمومها بالاستقراء، مع أن النصوص التي وردت فيها خاصة.

ب- العموم المستفاد من اللفظ الموجه لواحد من الصحابة:

فاللفظ الموجَّه لواحد من الصحابة إذا اقترن به ما يدلُّ على خصوصيته، فهو خاص بالموجه إليه وحده، ومثاله: عن أبي بردة بن نيار خال البراء قال: يا رسول الله، إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي، فذبحت شاتي وتغديت قبل أن آتي الصلاة، قال: ((شاتك شاة لحم))، قال: يا رسول الله، فإن عندنا عناقًا لنا جذعة، هي أحب إليَّ من شاتين، أفتجزي عنِّي؟ قال: ((نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك))؛ "صحيح البخاري"، كتاب الجمعة، باب الأكل يوم النحر.

وإن لم يقترن به ما يدلُّ على خصوصيته، فأهل العلم مختلفون في عمومه، ومثاله: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: وقصت برجل مُحرِم ناقتُه فقتلته، فأُتِي به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((اغسلوه، وكفنوه، ولا تغطوا رأسه، ولا تقربوه طيبًا؛ فإنه يُبعَث يهلُّ))؛ متفق عليه، واللفظ للبخاري.

ج- عموم الخطاب الموجه لرسول الله للأمَّة:

الخطاب الموجَّه لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إن قام ما يدلُّ على خصوصيته له، فهو خاص به دون الأمة؛ كالخطاب بالزواج بأكثر من أربع: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].

وإن اقترنت بالخطاب قرينةٌ تدلُّ على العموم، فهو للعموم؛ كقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق: 1]، فصيغة: {طَلَّقْتُمُ} تدلُّ على عموم الخطاب للأمَّة، وإن استهلَّت بقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}.

د- عموم المفهوم: وهو قسمان:

الأول: مفهوم الموافقة: مثل قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، فنصُّ الآية حذر من أكل مال اليتيم، ومفهومها عام يشمل كلَّ تصرُّف يفوت على اليتيم ماله، سواء أكان أكلاً، أم لبسًا، أم صدقة.

الثاني: مفهوم المخالفة: مثل قوله - عليه السلام -: ((إذا كان الماء قلتين فإنه لا ينجس))؛ رواه أصحاب السنن، فمنطوق الحديث: أن الماء إذا بلغ ملء القلتين لا ينجس، ولكن المفهوم المخالف للحديث يفهم منه أن كل ماء لم يبلغ حد القلتين ينجس ويحمل الخبث، سواء أكان جاريًا أم راكدًا، وسواء أكان في إناء أم في بئر.


التقسيم الثاني: باعتبار استعماله في عمومه أو عدمه:

وينقسم إلى:

1- عام أريد به العموم قطعًا ولا يدخله التخصيص؛ كقوله - تعالى -: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النسا: 176].

2- عام يُراد به العموم ويدخله التخصيص، وهو الذي يسمى بالعام المطلق، الذي لم يقترن به ما يدلُّ على تخصيصه، ولا ما يدلُّ على أنه غير قابل للتخصيص.

3- عام أريد به الخصوص، وهو الذي لفظه عام من حيث الوضع، ولكن اقترن به دليل يدلُّ أنه مراد به مدلوله اللغوي؛ مثل قوله - تعالى -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، فلفظ (الناس) عام، ولكن لم يرد به عموم الناس؛ فالمراد في الأولى نُعيم بن مسعود، والمراد في الثانية أبو سفيان ومَن معه مِن الأحزاب.

الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص:

ألف الإمام تقي الدين السبكي في هذه المسألة رسالة مستقلة - مخطوطة - بيَّن فيها أهم الفروق بين العام المخصوص والعام الذي أُرِيدَ به الخصوص، وهذه الفروق:

1- العام المخصوص حقيقة في الباقي عند أكثر العلماء، والعام الذي أريد به الخصوص مجاز.

2- العام المخصوص ما كان مخصصه لفظيًّا، والعام الذي أُرِيد به الخصوص ما كان مخصصه عقليًّا.

3- العام المخصوص ما كان مخصصه منفصلاً، والعام الذي أُرِيد به الخصوص ما كان مخصصه متصلاً.

4- العام المخصوص ما كان الباقي تحته بعد التخصيص أكثر، والعام الذي أُرِيد به الخصوص ما كان المخرج منه أكثر.

صيغ العموم المشتهرة:

الألفاظ الموضوعة للعموم أكثر من أن تُحصَى، حتى إن الإمام القرافي أوصلها في كتابه الموسوم بـ"العقد المنظوم" إلى مائتين وخمسين صيغة، وسنقتصر بذكر الصيغ الأكثر شهرة، ومنها:

1- كل وجميع، وما يلحق بها من ألفاظ، كأجمعين وعامة وقاطبة:

وصيغة (كل) تفيد العموم ابتداء وتبعًا؛ فمثال الأول قوله - تعالى -: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41]، ومثال الثاني قوله: {فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30].

وصيغة (كل) تكثر إضافتها لتفيد الشمول والاستغراق؛ كقوله - تعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185].

أمَّا لفظ جميع، فلا يضاف إلا إلى معرفة؛ كقولنا: "جميع تلاميذ الفصل حاضرون"، ويكثر فيها حذف المضاف إليه فتنون اللفظة؛ كقوله - تعالى -: {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].

وإن جاءت مؤكدة فإنها تنصب على الحال غالبًا، كقوله - تعالى -: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} [هود: 55].

أمَّا الألفاظ الأخرى - كأجمعين، وأجمع، وأكتعين - فهي تأتي تابعة مؤكِّدة لما قبلها، ولا تُضاف لما قبلها.

2- الجمع المحلى بأل والمضاف: والجمع المحلى بأل يدلُّ على العموم عند أكثرية العلماء، شريطةَ أن تكون (أل) المقترنة بالجمع للجنس لا للعهد، ولا فرق في إفادة العموم بين الجمع المذكر والمؤنث وجموع التكسير والقلة والكثرة؛ بل الجميع يفيد العموم وإن اختلف العلماء في جمع القلة.

ومثال الجمع المحلى بأل الجنسية قوله - تعالى -: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ...} [الأحزاب: 35].

ومثال الجمع المضاف قوله - عز وجل -: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود: 40]، فلفظ (أهل) اسم جمع مضاف إلى معرفة، وهو الضمير، فاقتضى العموم.

3- اسم الجنس المحلى بأل والمضاف إلى المعرفة:

أمَّا الجنس المحلى بأل، فالعلماء يقولون بعمومه، وقد يكون مفردًا كالرجل والمرأة، وقد يكون ممَّا يستوي فيه القليل والكثير، وهو المسمَّى باسم الجنس الإفرادي كالذهب والفضة والتراب، وقد يكون ممَّا لا واحد له من جنسه كالرهط والناس، ويسمى اسم الجنس الجمعي.

4- أسماء الشرط، وهي أنواع كثيرة:

فـ(من) تعمُّ العقلاء؛ كقوله - تعالى -: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7].

و(ما) تعمُّ غير العقلاء؛ كقوله - سبحانه -: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197].

و(إذا) و(متى) تفيد العموم في الزمن؛ كقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، ومثال الثانية قولنا: (متى تحضر أحضر معك).

و(حيث) و(أين) و(أنى) تفيد عموم المكان، وكثيرًا ما يأتي عقبها (ما)، فمثال (حيث) قوله - تبارك وتعالى -: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، ومثال (أين) قوله - عز وجل -: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78]، ومثال (أنى) قولنا: أنى تذهب اذهب معك.

5- الأسماء الموصولة:

الأسماء الموصولة لا تفيد كلها العموم، بل بعضها، وهي:

أ- (من) الموصولة، وهي للعقلاء؛ كقوله - تعالى -: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وقد تأتي لغير العقلاء كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45].

ب- (ما) الموصولة، وهي لغير العاقل؛ كقوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وقد تُستَعمل للعاقل وغيره؛ كقوله - سبحانه -: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59].

ج- (الذي) و(التي) وهذه الموصولات تكون عامة إذا كانت جنسية لا عهدية، ومثال العام منها قول الله - عز وجل -: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، وقرأ الربيع بن أنس: "الذين جاؤوا بالصدق"؛ يعني: الأنبياء، "وصدقوا به"؛ يعني: الأتباع.

ومثال جمع المؤنث السالم: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15].

ومثال ما جاء لغير العموم قوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].

6- أسماء الاستفهام:
المشهور من أسماء الاستفهام التي تفيد العموم هو:
أ- (مَن) ويُستَفهم بها عن العقلاء؛ كقوله - تعالى -: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} [الإسراء: 51].
ب- (ما) ويستفهم بها عن غير العاقل؛ ومثاله قوله - تعالى -: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52].
ج- (أين) و(أنى) ويُستَفهم بهما عن المكان؛ فمثال الأولى قوله - تعالى -: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26]، ومثال الثانية قوله - تعالى -: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37].
د- (متى) و(أين) ويستفهم بهما عن الزمان؛ فالأولى مثل قوله - تعالى -: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51]، والثانية مثل قوله - سبحانه -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187].
هـ- (أي) الاستفهامية، مثل قول الله - تعالى -: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19].
و-
(كم) الاستفهامية، مثل قوله - تبارك وتعالى -: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا} [الكهف: 19].

7- النكرة في سياق النفي:

عدَّ بعض الأصوليين النكرة المنفية من أقوى صيغ العموم، ومثال النكرة المنفية قوله - تعالى -: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وقد تقوى دلالة النكرة المنفية إذا سبقها (مِن) كما في قوله - تعالى -: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65].

وقد تُسبَق النكرة بالنفي كقوله - تعالى -: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وتُسبَق بالشرط كقوله - تعالى -: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]، وقد تُسبَق بالاستفهام الإنكاري كقوله - تعالى -: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].

8- الظروف الدالة على الاستمرار:

وذلك مثل (أبدًا) (سرمدًا) (دائمًا) ونحوه، فإنها تفيد العموم، ومن الأمثلة لذلك قوله - سبحانه -: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]،
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71].
وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((ولولا حواء لم تَخُنْ أنثى زوجَها الدهرَ))؛ متفق عليه واللفظ للبخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله - تعالى -: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142].

الخلاف في وضع صيغة العموم:
ذهب الجمهور إلى أن للعموم ألفاظًا وُضِعت للدلالة عليه من غير الحاجة إلى القرينة، وهي الصيغ التي سبق ذكرها، وخالَف في ذلك طائفتان:
الطائفة الأولى: الطائفة الواقفية: وفي مقدمتهم القاضي الباقلاني والأشعري، وزعموا أن تلك الصيغ مشتركة بين العموم والخصوص، وأدلتهم في ذلك:
1- أن هذه الصيغ التي يرى الجمهور أنها للعموم وردت تارةً للعموم وتارةً أخرى للخصوص، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون مشتَرَكة بين المعنيين، والمشترك يجب التوقُّف فيه حتى ترد القرينة.
2-
أن وضع هذه الصيغ للعموم إمَّا أن يُعرَف بنقل أو عقل، أمَّا العقل فلا مدخل له في اللغات، وأمَّا النقل فإمَّا أن يكون متواترًا أو آحادًا، فالتواتر معدوم، والآحاد لا يكفي في هذه المسألة؛ لكونها من مسائل الأصول التي لا يكفي فيها الظن.

فالجواب عن الأول أن استعمال تلك الصيغ في الخصوص لا يكون إلا بقرينةٍ تصرفه عن العموم، والجواب عن الثاني أن الدليل على وضع تلك الصيغ للعموم هو النقل الموافق للعقل، أمَّا خبر الآحاد فهو حجة عند الصحابة وتابعيهم، مع أن الأدلة عند ضمِّ بعضها إلى بعض تصل إلى درجة التواتر المعنوي.
الطائفة الثانية: أرباب الخصوص: وهم طائفة من الواقفية، ولكنهم يحملون مدلول الصيغ على أخص الخصوص؛ أي: على أقل ما يُطلَق عليه اللفظ، وقد نُسِب هذا القول إلى محمد بن شجاع الثلجي من الحنفية، وابن المنتاب من الحنابلة، وروي عن الآمدي (انظر: "الأحكام" 2/201)، وقد استدلوا بما يلي:
1- أن هذه الصيغ استُعمِلت في العموم وفي الخصوص، وفي الخصوص أكثر، ما لم تقم قرينة تصرفها من الخصوص إلى العموم.
2-
أن دلالة تلك الصيغ على أخص الخصوص متعينة، ودلالتها على ما زاد على ذلك مشكوك فيها، فإذا عريت حُمِلت على اليقين، ووجب التوقف فيما زاد على ذلك.

فالرد عن الأول بردِّ الإمام ابن تيميَّة: "عمومات القرآن أكثرها محفوظة باقية على أصلها" (ينظر: "مجموع الفتاوى" 6/442- 444).

أمَّا قولهم: إن أخص الخصوص متعين، فهو صحيح، ولكن قولهم: ما زاد على ذلك مشكوك فيها، باطل؛ بل نقول: دلالتها على أخص الخصوص قطعية، ودلالتها على ما زاد ظنية، والظنيُّ يثبت به الحكم الشرعي.

أمَّا أدلة الجمهور على أن تلك الصيغ السالفة وُضِعت للعموم، فما يلي:
1- قوله - تعالى -: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45].
ووجه الدلالة أن نوحًا - عليه السلام - أخذ بعموم قوله - تعالى -: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت: 33]، فاستدلَّ نوح بعموم قوله: {وأَهْلَك} وأقره الله على ذلك، وأجابَه أن ابنه ليس من أهله؛ لأن المراد بالأهل في الآية الذين آمنوا به واتَّبعوه.

2- قوله - تعالى -: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت: 31- 32.
ووجه الدلالة أن إبراهيم تمسَّك بالعموم المستفاد من (أَهْل) المضاف إلى المعرفة، ولم ينكر عليه ذلك، بل بيَّن أن لوطًا مخصوص من العموم.

3- قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحُمُر الأهلية: ((ما أُنزِل عليَّ في الحُمُر شيء إلا هذه الآية الفاذَّة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8]))؛ متفق عليه واللفظ لمسلم، كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة.
ووجه الدلالة من الحديث: أن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهم العموم من لفظة (مَن).

4- إجماع الصحابة والتابعين على وجوب حمل تلك الصيغ على العموم ما لم تصرفها قرائن، ومن أمثلة ذلك:
• اختلاف الصحابة على مَن يخلف رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - واستدلال أبي بكر الصديق بحديث: (الأئمة من قريش))؛ "مسند الإمام أحمد"، مسند أنس بن مالك.
ووجه الدلالة: أن الإمامة لا تخرج عن القرشيين.

• اختلافهم في قتل مانعي الزكاة، فاستدلَّ عمر - رضي الله عنه - بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله))؛ "صحيح البخاري"، كتاب الإيمان، باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، فردَّ أبو بكرٍ استدلالَ عمر بأن الزكاة داخِلةٌ في الاستثناء الوارد في الحديث؛ فإنها حق المال.

قوة دلالة العام:
العام يتنوَّع إلى ثلاثة أنواع:
• عام اتَّفقوا على دلالته القطعية، وهو الذي يصحبه ما يدلُّ على أنه يُراد به العموم قطعًا؛ كقوله - تعالى -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، وقوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].

• وعام اتَّفقوا على دلالته الظنية، وهو الذي يصحبه ما يدلُّ على أنه يراد به الخصوص؛ مثل قوله - تعالى -: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]؛ لأن تخصيصه غالبًا ما يكون قائمًا على علة قد تتحقق في بعض الأفراد الباقين بعد التخصيص، ("المناهج الأصولية" ص534).

• وعام اختلفوا في قوة دلالته أقطعية هي أم ظنية؟ وهو العام العاري من القرائن المحددة لمعناه.

فالجمهور يذهبون إلى أن دلالة العام المطلق ظنيةٌ، واستدلوا بما يلي:
1- أن احتمال التخصيص قائم، ومع الاحتمال لا يمكن القطع.
2- أن أكثر آيات الأحكام العامَّة مخصوصة، وكثرة التخصيص تورث الشبهة.
3-
لو كانت دلالة العام قطعية، لامتنع تخصيصه بالقياس وخبر الآحاد، لكن التخصيص بهذين الدليلين واقع عند الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم، فعلم أن دلالته ظنية.

• أمَّا جمهور الحنفية، فيرى أن دلالة العام المطلق على استغراق جميع أفراده هي دلالة قطعية؛ ذلك أن منزلة العام عندهم بمنزلة لخاص، واستدلوا بـ:
1- أن اللفظ متى وُضِع لمعنى كان ذلك المعنى عند إطلاقه واجبًا لازمًا وثابتًا بذلك اللفظ، حتى يقوم دليل على خلافه؛ ("كشف الأسرار" 1/305).
2- ثم من جهةٍ أخرى فإنه لو جاز إرادة بعض مسميات العام من غير قرينة لارتفع الأمان عن اللغة؛ لأن كل ما وقع من كلام العرب من ألفاظ عامة يحتمل الخصوص، فلا يستقيم ما يفهم السامعون من العموم؛ ("التلويح" 1/40).
والراجح في هذه المسألة ما ذهب إليه الجمهور: أن دلالة العام ظنية.

وقد تولَّد عن هذا الخلاف خلافٌ في مسائل أصولية وفرعية، ومن ذلك:
1- جوَّز الجمهور تخصيص القرآن والحديث المتواتر بخبر الآحاد، ومنع الحنفية ذلك.
2-
أن الحنفية لا يُوجِبون النصاب في الخارج من الأرض، فيوجبون الزكاة في القليل والكثير؛ عملاً بعموم قوله - تعالى -: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، وقوله - عليه السلام -: ((فيما سقت السماء والعيونُ أَو كان عثريًّا، العُشرُ))؛ "صحيح البخاري"، كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري.

والجمهور يخصِّصون الآية بالحديث المتفق عليه: ((ليس فيما دون خمسة أوسُق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، ولا فيما دون خمس أواقٍ صدقة))؛ "صحيح مسلم"، وبهذا الحديث لا تجب الزكاة إلا فيما يُكال أو يُدَّخر، ويدلُّ أن المكيل لا تجب فيه الزكاة حتى يبلغ خمسة أوسق.

التخصيص:
تعريفه:
التخصيص لغة: التمييز والإفراد.
واصطلاحًا: بيان أن المراد بالعام بعض أفراده.

أركان التخصيص:
1- المخصِّص.
2- المخصَّص.
أما المخصِّص، فهو الدليل الأخص الدال على خروج بعض أفراد العام عن حكمه، أو أن العام لم يرد به جميع مسمياته.

وقد يطلق المخصِّص على المجتهد الذي رأى تخصيص دليل بدليل.
أمَّا المخصَّص، فهو العام الذي قام الدليل على تخصيص بعض مسمياته.
ومثال ذلك قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، فيقال: لفظ {النَّاسِ
} مخصص؛ لأن الصبي من مسميات هذا اللفظ العام قبل التخصيص.

الفرق بين النسخ والتخصيص:
فرَّق العلماء بينهما بالفروق التالية:
1- التخصيص بيان عدم دخول بعض أفراد العام في الحكم، أمَّا النسخ فهو رفع الحكم بعد ثبوته في بعض الأزمنة.
2- التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد، أمَّا النسخ فقد يعمُّ كلَّ الأفراد فيرفع الحكم عن الجميع أو عن البعض.
3- التخصيص قد يكون مقارنًا، أمَّا النسخ فلا يكون إلا متأخرًا.
4-
تخصيص المقطوع بالمظنون جائز، بخلاف نسخ المقطوع بالمظنون.

شروط التخصيص:
للتخصيص عند الحنفية شرطان لا ثالث لهما:
1- أن يكون المخصص مقارنًا للعام المخصوص، فلو تقدَّم لكان منسوخًا بالعام، ولو كان متأخرًا لكان ناسخًا لما يقابله من أفراد العام.
أمَّا الجمهور فيرون أن المخصص يمكن أن يكون مقارنًا أو متأخرًا أو متقدمًا.
2- أن يكون مستقلاًّ في إفادته، فلا يرون التخصيص بالمتَّصل.
والجمهور يرون التخصيص بالمتصل والمنفصل.

المخصصات:
مخصصات العام عند الجمهور قسمان: متصلة ومنفصلة.

فالمخصصات المتَّصلة هي:
1- الاستثناء: وهو إخراج بعض الجملة عنها بصيغ الاستثناء، والتي هي: إلا، غير، سوى، خلا، عدا، حاشا، ولكن.
ومثال ذلك قوله - تعالى -: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70].
فلفظ {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} عام؛ لأن {مَنْ} الشرطية من صيغ العموم، وقوله: {إِلاَّ مَنْ تَاب...} استثناء من عموم الآيتين.

2- الشرط: كقوله - عليه السلام -: ((الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا))؛ "صحيح البخاري"، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7].
فقوله: ((خيارهم في الجاهلية)) عام؛ لإضافة المفرد إلى المعرفة، وقوله: ((إذا فقهوا)) أخرج مَن لم يفقه في الدين، فإنه لا يكون خيارًا بعد الإسلام، وإن كان خيارًا في الجاهلية.

3- الصفة: ويُقصَد بها كل معنى يميز بعض المسميات، وهو ما يسميه النُّحاة النعت والحال والظرف والجار والمجرور وغير ذلك.
ومثال التخصيص بالصفة قوله - تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25].
فقوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} عام؛ لأنه جمع مضاف إلى المعرفة، فيشمل كلَّ الإماء والفتيات؛ ولكن قوله: {الْمُؤْمِنَاتِ} صفة خصَّت الفتيات المؤمنات بالنكاح.

4- الغاية: وهي نهاية الشيء، ولها لفظان: حتى وإلى.
ومثال التخصيص بالغاية قوله - تعالى -: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222].
فقوله: {لاَ تَقْرَبُوهُنَّ} نهي، يؤخذ منه العموم، وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} يؤخذ منه تخصيص العموم، فيخرج من عمومه ما بعد الطُّهر.

5- البدل: ومثاله قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].
فقوله: {عَلَى النَّاسِ} عام يشمل جميع الناس، وقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ} بدل عن العموم؛ ليدل على أنه لا يجب الحج إلا على المستطيع.
ولقد خالَف الحنفية الجمهورَ في عدِّ هذه الأنواع من المخصصات، وقالوا: إن الكلام لا يتمُّ ويستقيم إلا بعد تمامه وذكر المستثنى وجواب الشرط والصفة والبدل، ولأن هذه الأنواع لا تستقل بالإفادة، فلو قطعت عما سبقها لم تفد شيئًا.

ولكن الجمهور ينظرون إلى معنى اللفظ المفرد؛ فإذا وجدوه عامًّا ثم جاء بعده ما يخصِّصه عدُّوه مخصوصًا، هو عام في وضعه اللغوي، لكنه مخصوص في استعماله الشرعي.

القواعد المتعلقة بالمخصصات المتصلة:
شروط الاستثناء:
الشرط الأول: الاتصال:
والمراد اتصال المستثنى بالمستثنى منه لفظًا أو حكمًا.

والاتصال اللفظي يكون بعدم الفصل بينهما، والاتصال الحكمي يكون بالفصل اليسير بينهما الذي لا يدلُّ على انقطاع الكلام واستيفائه.
وقد اشترط هذا جماهيرُ العلماء
، واستدلوا على ذلك بأن تأخُّر النطق بالاستثناء دليلٌ على أنه لم يكن مرادًا عند التكلم باللفظ السابق، والإرادة الطارئة لا تصلح مخصصة لما قصد عمومه.

وأيضًا فإنه لو جاز الاستثناء المتأخر لما حصل الوثوق بعهد ولا عقد، ولا حنث حالف قط؛ لأنه سوف يستثني من كلامه السابق ما شاء متى شاء.
ومن أدلتهم النقليَّة قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن حلَف على يمين ورأى غيرها خيرًا منها، فليكفِّر عن يمينه، وليأتِ الذي هو خير))؛ رواه مسلم، كتاب الأيمان، باب ندب مَن حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها، أن يأتي الذي هو خير ويكفِّر عن يمينه.
وجه الدلالة: أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أرشد الحالف إذا رأى الخير في مخالفة ما حلف عليه أن يكفِّر عن يمينه ولا يأتي ما حلف عنه، ولو كان الاستثناء المتأخر صحيحًا لأرشده إليه، ولم يرشده إلى التكفير؛ لأن الاستثناء أيسر على المكلفين، والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ناصحٌ أمين لأمَّته.
واستدلَّ بعضهم على اشتراط الاتِّصال بأن الله أرشد أيوب - عليه السلام - إلى ضرب امرأته بعثكال النخلة بعد تجريده من التمر، فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ
} [ص: 44]، ولو كان الاستثناء المتأخر جائزًا لأرشده إليه.

"وحكى ابن النجار في "تاريخ بغداد" أن أبا إسحاق الشيرازي أراد الخروج مرَّة من بغداد، فاجتاز في بعض الطرق، وإذا برجل على رأس سلة فيها بقل، وهو يحمل على ثيابه، وهو يقول لآخر معه: مذهب ابن عباس في الاستثناء غير صحيح؛ إذ لو كان صحيحًا لما قال - تعالى - لأيوب - عليه الصلاة والسلام -: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44]؛ بل كان يقول له: استثنِ، ولا حاجة إلى هذا التحيل في البر، قال: فقال أبو إسحاق: بلدة فيها رجل يحمل البقل، وهو يرد على ابن عباس، لا تستحق أن تخرج منها.

وقد حكي أن الرشيد استدعى أبا يوسف القاضي وقال له: كيف مذهب ابن عباس في الاستثناء، فقال له أبو يوسف: إن الاستثناء المنفصل يلحق بالخطاب ويغيِّر حكمه، ولو بعد زمان.

فقال: عزمت عليك أن تفتي به، ولا تخالفه.
وكان أبو يوسف لطيفًا فيما يورده، متأنيًا فيما يريده، فقال له: رأي ابن عباس يفسد عليك بيعتك؛ لأن من حلف لك وبايعك رجع إلى منزله، واستثنى.
فانتبه الرشيد، وقال: إياك أن تعرف الناس مذهب ابن عباس، فاكتمه.
وقال ابن ظفر في "الينبوع": إذا حققت هذه المسألة ضعف أمر الخلاف فيها" ينظر: "البحر المحيط"، مباحث العام، مسألة شروط صحة الاستثناء، 3/286.

الشرط الثاني: عدم الاستغراق:
والمراد بالاستثناء المستغرق: إخراج جميع أفراد المستثنى منه بـ(إلا) أو إحدى أخواتها، كقول مَن له ثلاث زوجات: نسائي طوالق إلا ثلاثًا، وهذا باطل؛ لأنه ليس من كلام العرب.

ولكن لو قال مثلاً: عبيدي أحرار إلا مَن لم يصلِّ الفجر معنا، فتبيَّن أنهم لم يصلوا الفجر معه، فلا يعتقون.
فهذا الاستثناء يجوز وإن استغرق؛ لأنه استثناء من الصفة.

الشرط الثالث: أن يكون الباقي من الاستثناء أكثر من المخرج به:
وقد اختلف العلماء في هذا الشرط؛ فذهب البعض إلى عدم جوازه؛ لأن أهل اللغة لم يقرُّوه، والراجح عدم جوازه بالعدد وجوازه بالصفة، والأدلة على ذلك:
1- أنه جاء في القرآن استثناء الأكثر حينما يكون الاستثناء بالصفة لا بالعدد، ومن ذلك قوله - تعالى -: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83]، فاستثنى المخلصين من الغاوين ولا بُدَّ أن أحدهما أكثر.
2-
أن المتكلم لا يُعاقَب على تركه التحدُّث باللغة العربية الفصيحة في عاداته، ولو أبطلنا استثناء الأكثر لكان ذلك عقوبة له.

الشرط الرابع: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه:
ذهب العلماء - بعض العلماء - إلى منعه، وقالوا: إن ما جاء منه في القرآن والسنة مجاز، وأن (إلا) تأتي بمعنى (لكن) كما في قوله - تعالى -: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25، 26].
وهذا النوع جعلوه في الأقارير والتصرفات باطلاً.

وذهب آخرون إلى جواز ذلك وصحَّحوه في الأقارير والتصرُّفات، فقد نُقِل عن الشافعية "أن الاستثناء من غير الجنس صحيح؛ كقوله: ألف درهم إلا ثوبًا"، "روضة الطالبين وعمدة المفتين"؛ للإمام النووي، كتاب الوكالة، فصل في الاستثناء.

الشرط الخامس: أن ينوي الاستثناء حين النطق بالمستثنى منه:
والمراد ألاَّ يكون الاستثناء طارئًا بعد النطق بالمستثنى منه، فإن جاء طارئًا بعد التكلم به، لا يصح.

وهذا الشرط محل خلاف:
1- ذهب أكثر العلماء إلى اشتراطه، وحجتهم: أنه لو لم ينوِه قبل النطق بالمستثنى منه لكان الاستثناء إلغاء لبعض مراد المتكلم، والاستثناء عند أهل اللغة ليس إلغاء؛ وإنما هو بيان أن الجملة ليست مرادة بكاملها منذ إنشاء الكلام.
2- وذهب البعض إلى جواز الاستثناء وإن لم ينوه من أول الكلام، إذا اتصلَّ بالكلام، ودليلهم ما جاء في الصحيحين من طريق أبي هريرة: "أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عامَ فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأُخبِر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فركب راحلته فخطب فقال: ((إن الله حبس عن مكة القتل - أو: الفيل -))، قال أبو عبدالله: كذا قال أبو نعيم: واجعلوه على الشك الفيل أو القتل، وغيره يقول: الفيل ((وسلَّط عليهم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، ألا وإنها لم تحلَّ لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ألاَ وإنها حلَّت لي ساعة من نهار، ألاَ وإنها ساعتي هذه حرام، لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها، ولا تلتقط ساقطتها - إلا لمُنشِد، فمَن قُتِل فهو بخير النظرين: إمَّا أن يعقل، وإمَّا أن يُقاد أهل القتيل))، فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: ((اكتبوا لأبي فلان))، فقال رجل من قريش: إلا الإذخر يا رسول الله؛ فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا الإذخر، إلا الإذخر)
)؛ "صحيح البخاري"، كتاب العلم، باب كتابة العلم.

ووجه الدلالة أنه استثنى بعد سؤال العباس بن عبدالمطلب.
و(الإذخر) حشيشة طيبة الرائحة، يسقف بها البيوت، وتطيب بها القبور، ("لسان العرب"، مادة ذخر).
والراجح القول الأول، والحديث الذي استدلَّ به الفريق الثاني محتمل، لا تقوم به الدلالة على الدعوى.

الاستثناء المتعقب للجمل:
إذا جاء الاستثناء بعد جمل عطف بعضها على بعض: هل يعود للجميع؟
وهذه المسألة من المسائل الأكثر خلافًا بين العلماء.

ومحل النزاع في:
1- لا خلاف في أن الاستثناء المتعقب جملاً إذا قامت قرينة تدلُّ على أنه يعود إلى الجميع أو يعود إلى الأخيرة أو غيرها، يعمل فيه بالقرينة؛ وإنما الخلاف فيما خلا عن قرينة تبيِّن عود الاستثناء.
2- أن الخلاف يشمل الجمل المتعاطفة بالواو وغيرها من حروف العطف التي تدلُّ على التشريك، سواء أفادت مع ذلك الترتيب أو التعقيب أم لم تفده.

الأقوال:
1- مذهب الجمهور: الاستثناء يعود إلى الكل، ودليلهم:
أ- أن الاستثناء كالشرط في تعلقه بما قبله.
ب-
أن العطف يوجب الاتِّحاد بين المعطوف والمعطوف إليه، فتصير الجملتان جملة واحدة.

2- السادة الحنفية: أن يرجع إلى الجملة الأخيرة وحدها، واستدلوا بما يلي:

أ- أن العموم يثبت في كلِّ صورة بيقين، ورجوع الاستثناء إلى كل الجمل أمرٌ مشكوك فيه.
ب-
أن الجملة الأولى مفصول بينها وبين الجملة الثانية، والاستثناء لا يجب فيه الفصل.

3-
وذهب الغزالي إلى التوقف حتى تدل قرينة على عود الاستثناء.

وما رجَّحه العلماء هو القول الأول، وأجابوا عن أدلة الحنفية بـ:
قولهم: (العموم متيقَّن) ممنوع، بل هو عندنا مظنون، وعود الاستثناء إلى الكل مظنون وليس مستوِي الطرفين.
وقولهم: يلزم الفصل بين الاستثناء والمستثنى منه، يجاب بأن الفصل ليس بكلام أجنبي، وبأن المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه.

اختلاف العلماء في هذه المسألة جرَّ إلى اختلافهم في الفروع التالية:
1- القاذف المجلود إذا تاب هل تُقبَل شهادته؟
ذهب الحنفية إلى ردِّ شهادته، والجمهور إلى قبولها، ومردُّ الخلاف إلى قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
} [النور: 4].

هل يعود الاستثناء إلى وصفهم بالفسق ورد شهادتهم؟
قال الجمهور: نعم؛ لأن الاستثناء المتعقب للجمل يعود للجميع، ولم يقولوا: إنه يعود أيضًا إلى الأمر بالجلد؛ لأن الجلد حق لآدمي، فلا يسقط بالتوبة.
والحنفية قالوا: يرجع إلى الجملة الأخيرة، وهي قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
}، فأمَّا الجلد ورد الشهادة فلا استثناء منهما.

2- قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تَكْرِمَتِه إلا بإذنه))؛ "صحيح مسلم"، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب مَن أحقُّ بالإمامة؟
قال الإمام أحمد: الاستثناء يعود إلى الكل، فإذا أذن رب البيت في الجلوس بالمكان المخصص له، فلا بأس، وإذا أذن له بالصلاة وهو حاضر قادر، جاز.
وخالَف بعضهم في عود الاستثناء إلى الجملة الأولى، ومنع أن يؤمَّ أحد بحضرة السلطان أو الإمام إذا كان قادرًا على الإمامة.

الاستثناء من النفي:
اختلف العلماء في المسألة على قولين:
القول الأول: مذهب الحنفية: أن الاستثناء من النفي ليس إثباتًا، ودليلهم أنه لو كان الاستثناء من النفي إثباتًا، لكان قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تُقبَل صلاةٌ بغير طُهور))؛ "صحيح مسلم"، كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة - يثبت الصلاة بثبوت الطهور،
وليس كذلك باتفاق؛ إذ يمكن وجود الطهور مع عدم وجود الصلاة.

القول الثاني: مذهب الجمهور: أن الإثبات من النفي إثبات، واستدلُّوا بالإجماع على أن مَن قال: (لا إله إلا الله) فقد آمن، وأثبت الألوهية لله وحده، ولو لم يكن الاستثناء من النفي إثباتًا لما كان الناطق بهذه الكلمة مؤمنًا.
ومذهب الجمهور هو الراجح.
وقد ردُّوا على الحنفية أن الحديث يدلُّ على أن الصلاة لا تكون مقبولة إلا بطهور؛ لأن الطهور شرط الصلاة، ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط.

الشرط الذي يحصل التخصيص به:
المقصود بالشرط في باب المخصصات الشرط اللغوي، وأمَّا الشرط العقلي والشرعي فإنهما من المخصصات المنفصلة.

والشروط اللغوية أنواع:
1- الشروط الشرعية: مثل الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة في الصلاة.
2- الشروط العقلية: كالحياة للعلم، فلا يعقل أن يكون المرء عالمًا إلا أن يكون حيًّا.
3- الشروط العادية: مثل وجود السلم لصعود السطح.
4- الشروط اللغوية: مثل قوله - تعالى -: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
} [الزلزلة: 7].

قال القرافي: "للشروط اللغوية قاعدة مباينة لقاعدة الشروط الأُخَر، ولا يُظهِر الفرقَ بين القاعدتين إلا بيانُ حقيقة الشرط والسبب والمانع؛ أمَّا السبب فهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته، أمَّا القيد الأول فاحترازٌ من الشرط؛ فإنه لا يلزم من وجوده شيء، إنما يؤثر عدمه في العدم، والقيد الثاني احترازٌ من المانع؛ فإن المانع لا يلزم من عدمه شيء، إنما يؤثر وجوده في العدم، والقيد الثالث احترازٌ من مقارنة وجود السبب عدم الشرط أو وجود المانع، فلا يلزم الوجود أو إخلافه بسبب آخر حالة عدمه فلا يلزم العدم، وأما الشرط فهو الذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، ولا يشتمل على شيء من المناسبة في ذاته بل في غيره، فالقيد الأول احتراز من المانع فإنه لا يلزم من عدمه شيء، والقيد الثاني احترازٌ من السبب فإنه يلزم من وجوده الوجود، والقيد الثالث احتراز من مقارنة وجوده لوجود السبب فيلزم الوجود؛ ولكن ليس ذلك لذاته؛ بل لأجل السبب أو قيام المانع، فيلزم العدم لأجل المانع لا لذات الشرط، والقيد الرابع احترازٌ من جزء العلة، فإنه يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، غير أنه مشتمِل على جزء المناسبة فإن جزء المناسب مناسبة" "أنوار البروق في أنواع الفروق"،
الفرق الثالث بين الشرط اللغوي وغيره من الشروط العقلية والشرعية والعادية 1/230.

الشرط المتعقب جملاً:
إذا وقع الشرط بعد جمل متعاطفة، فالجمهور يرون أنه يعود إلى الكل، وقيل: يعود إلى الجملة الأخيرة كالاستثناء، والأصل الأول، ومثاله قوله - تعالى -: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، فقوله - تعالى -: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} شرط متعقب لما سبق من {إِطْعَام} و{كِسْوَة} و{تَحْرِير}.

ما بعد الغاية هل يدخل في حكم ما قبلها؟
واختلف العلماء في دخول ما بعد حرف الغاية فيما قبلها إلى أقوال:
القول الأول: أنه داخل فيه.
القول الثاني: عدم دخوله، وهو مذهب الجمهور.
القول الثالث: إن كان ما بعد حرف الغاية من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمها، وإلا فلا.
ومثال ذلك قوله - تعالى -: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6].
فعلى القول الأول أن المرافق داخلةٌ فيما يجب غسله.
وعلى القول الثاني عدم دخولها.
وعلى القول الثالث فالمرافق من جنس اليد، وبالتالي تدخل.

المخصصات المنفصلة:
وهي كل دليل يستقلُّ بنفسه ولا يحتاج في ثبوته إلى ذكر العام معه، وأنواع المخصصات المنفصلة هي:
1- الحس:
ومثال التخصيص بالحس قوله - تعالى -: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41، 42]، فالعام من قوله: {مِنْ شَيْءٍ} مخصوص بالحس؛ إذ الريح لم تجعل الجبالَ كالرميم.

2- العقل:
ومثال التخصيص بالعقل قوله - تعالى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، فالعقل دلَّ على أن الله لا يخلق نفسه.

3- النص:
والتخصيص بالنص يكون وفق الصور التالية:
أ- تخصيص القرآن بالقرآن: ومثاله تخصيص قوله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] بقوله - تعالى -: {وَأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، فالآية الأولى تفيد أن كل مطلقة عدتها ثلاث حيض، وخصت الآية الثانية الحوامل من العموم.

ب- تخصيص القرآن بالسنة: ومثاله تخصيص قوله - تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس للقاتل شيءٌ))؛ "سنن أبي داود"، كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، فأخرج القاتل من الإرث.

وقد اختلف العلماء في السنة الآحادية، فذهب الجمهور إلى جوازه مستدلِّين بما يلي:
• تخصيص آيات المواريث بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ))؛ "صحيح البخاري"، كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، وإذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له.

• تخصيص قوله - تعالى -: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] بحديث عمر بن الخطاب: أنه ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟! فقال عبدالرحمن بن عوف: أشهد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب))؛ "موطأ الإمام مالك"، كتاب الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس.

فهذان الحديثان وغيرهما اتفق على أنهما من أخبار الآحاد، وقد جرى التخصيص بهما.
وذهب بعض الحنفية إلى عدم جواز تخصيص القرآن بخبر الآحاد، إلا إذا سبق تخصيصه بقطعي.
وأنكر بعض المتكلمين تخصيص القرآن بخبر الآحاد مطلقًا.
والراجح ما اختاره الجمهور وعمل به الأربعة.

ج- تخصيص السنة بالسنة: ومثاله تخصيص قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا، العشر))؛ صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري، بقوله - عليه السلام -: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))؛ سبق تخريجه؛ فالحديث الأول يوجب الزكاة في القليل والكثير، والثاني بيَّن النصاب الذي تجب فيه الزكاة، ألا وهو (خمسة أوسق).

د- تخصيص السنة بالقرآن: ومثاله تخصيص قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمتْ علينا دماؤهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله))؛ "صحيح البخاري"، كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، يستقبل بأطراف رجليه، بقوله - تعالى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فالحديث دلَّ على مقاتلة جميع الناس حتى يوحِّدوا الخالق، والآية خصَّت أهل الكتاب، فإنهم لا يقتلون إذا أعطوا الجزية.

4- القياس:
وقد اختلف العلماء في تخصيص عموم القرآن والسنة بالقياس، على أقوال، أهمها:
• الجواز مطلقًا.
• المنع مطلقًا.
• جواز التخصيص بالقياس الجلي دون الخفي.
• جواز التخصيص بالقياس إذا كان العام قد سبق تخصيصه.

والصواب جواز تخصيص القرآن والسنة بالقياس الجلي دون الخفي؛ ومثاله تخصيص قوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] بقياس العبد على الأمَة والاكتفاء بجلده خمسين جلدة، وذلك أن حدَّ الأمَة ورد في قوله - تعالى -: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فيُقاس العبد على الأمَة؛ لعدم الفارق بينهما.

ومن المسائل المتفرعة على هذا الخلاف:
• حكم الجاني إذا لجأ إلى الحرم؛ قال - تعالى -: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] فعموم الآية يدلُّ على أن مَن دخل بيت الله الحرام كان آمنًا، سواء كان جانيًا أم لم يكن كذلك.
والعلماء اختلفوا فيمَن اقترف جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه: هل يقتص منه؟
فذهب الحنفية إلى عدم القصاص منه في النفس حتى يخرج من الحرم، وعلى سكان الحرم أن يضايقوه حتى يخرج فيقتص منه، أمَّا الجناية فيما دون النفس فيقتص منه داخل الحرم.
وذهب مالك والشافعي إلى الاقتصاص منه في النفس وفيما سواها.

• اختلاف العلماء في تضمين السارق المالَ المسروق إذا استهلك أو ضاع؛ قال - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38].
فذهب الحنفية إلى أنه لا ضمان عليه؛ إذ تمسَّكوا بعموم قوله - تعالى -: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}، وهذا العموم عندهم لا يقوى القياس على تخصيصه.
وذهب الشافعية وأحمد إلى وجوب الضمان.
وفرَّق المالكية بين الموسر والمعسر، فإن كان موسرًا ضمن، وإلا فلا ضمان له، وهذا التفريق هو من قبيل الاستحسان عند المالكية.

5- الإجماع:
ولا خلاف في جواز التخصيص بالنص، ومثله تخصيص العبد من عموم آية: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فيكون حده خمسين جلدة.

6- المفهوم: وهو قسمان:
أ- مفهوم الموافقة: وهو إثبات مثل الحكم المنطوق للمسكوت عنه الأَولى منه أو المساوي.
ومثال التخصيص به تخصيص حديث: ((مطلُ الغني ظلمٌ، ومَن أتبع على مليٍّ فليتبع))؛ متفق عليه، بقوله - تعالى -: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فإن مفهوم الموافقة من الآية أن الابن لا يجوز له أن يؤذي أباه بالشكوى إلى القاضي، ولا يحل له معاقبته إذا ماطله في حقٍّ ما.

ب- مفهوم المخالفة: وهو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، ومثال التخصيص به تخصيصهم حديث: ((الماء طهور لا ينجسه شيء))؛ رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة، بالمفهوم المخالف لقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث))؛ سبق تخريجه.

دخول العبيد والإماء والكفار في الخطاب العام:
اختلف العلماء في الدليل العام من القرآن والسنة: هل يشمل هؤلاء؟
وخلافهم راجع إلى أن هذه الصفات (الرق والكفر) هل تدل على تخصيص الخطاب العام؟
فذهب البعض إلى ذلك، وذهب الجمهور إلى دخولهم في العام، وأن صفة الرق والكفر ليست من المخصصات، ومن ادَّعى خلاف ذلك فعليه بالدليل.

المطلق والمقيد:
المطلق في اللغة: الخالي من القيود.
وعبارة صاحب "مسلم الثبوت" في المطلق شرعًا: "اللفظ الدال على أمر شائع، أو ما دلَّ على فردٍ ما منتشر" 1/288، وقال الآمدي في "الإحكام" 2/111: "المطلق عبارة عن النكرة في سياق الإثبات".
ومثاله قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا نكاح إلا بولي))؛ رواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم وأحمد.
فهذا الحديث يدلُّ على اشتراط وجود أيِّ واحد من الأولياء.

والمقيد: ما ثبت معينًا أو موصوفًا بوصف زائد على حقيقة جنسه.
ومثاله قوله - تعالى -: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]، فقد ورد الصيام مقيدًا بتتابع الشهرين.

حمل المطلق على المقيد:
اتفق العلماء على حمل المطلق على المقيد، لكنهم اختلفوا في الحالات التي يصح فيها ذلك.
فإذا ورد مطلق ومقيد في نصين، فإمَّا أن يكون الإطلاق والتقييد في سبب الحكم، أو في نفس الحكم.

الحالة الأولى: أن يكون الإطلاق والتقييد في سبب الحكم:
وهي مختلَف فيها؛ فقال الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد، وإنما يعمل بكل من النصين على حدة.
وقال الجمهور: يحمل على المقيد هنا.
ومثاله: حديث ابن عمر قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين"؛ رواه الجماعة، وفي رواية أخرى لم يذكر "من المسلمين".
الشاهد: الحكم في النصين واحد، وهو وجوب زكاة الفطر، لكن وجد التقييد في سبب الحكم، وهو الشخص الذي يمونه المزكي؛ إذ ورد أحدهما مقيدًا بأنه من المسلمين، وورد في الرواية الثانية مطلقًا عن التقييد.
الحكم: فالجمهور يحملون المطلق على المقيد، فلا تجب الزكاة إلا على مَن يعوله من المسلمين.
والحنفية قالوا: يجب العمل بكل منهما.

الحالة الثانية: أن يكون الإطلاق والتقييد في نفس الحكم:
ولهذه الحالة أربع صور:
الصورة الأول: أن يتَّحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب:
ومثاله: قوله - تعالى - في كفارة اليمين: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] يفرض صوم ثلاثة أيام من غير تقييد بالتتابع، مع قراءة ابن مسعود الشاذة: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات" فإنها توجب التتابع.
الشاهد: فالسبب هنا متَّحد، وهو الحنث في اليمين، والحكم متَّحد أيضًا وهو الصيام، فيحمل المطلق على المقيد.

الصورة الثانية: أن يختلف الحكم والسبب:
مثل قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقوله في آية الوضوء: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6].
الشاهد: لفظ {أَيْدِيَهُمَا} مطلق، ولفظ {أَيْدِيَكُمْ} مقيد، والسبب في الآيتين مختلف؛ وهو في الأولى: السرقة، وفي الثاني: إرادة الصلاة، والحكم مختلف أيضًا: ففي الأولى قطع يد السارق، وفي الثانية غسل اليدين.
ونظرًا لاختلاف السبب والحكم؛ لا يحمل المطلق على المقيد باتفاق أكثر العلماء.

الصورة الثالثة: أن يختلف الحكم ويتَّحد السبب:
مثاله قوله - تعالى -: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِق} وقوله - سبحانه -: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43].
الشاهد: الأيدي مقيدة بالمرافق في الوضوء، ومطلقة في التيمم، والحكم مختلف في الآيتين، فهو غسل في الوضوء، ومسح في التيمم، أمَّا السبب فهو متَّحد وهو الحدث وإرادة الصلاة.
فهذه الصورة ذهب فيها الجمهور إلى عدم حمل المطلق على المقيد فيها، ويعمل بكل منهما على حدة.

الصورة الرابعة: أن يتَّحد الحكم ويختلف السبب:
مثاله: لفظ الرقبة في قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وقوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فلفظ {رَقَبَةٍ} مطلق في الآية الأولى، ومقيد في الثانية بالإيمان، والحكم متَّحد في الآيتين، ولكن السبب مختلف، فهو في الظهار إرادة العودة إلى الاستمتاع بالمرأة، وفي القتل: القتل الخطأ.

شروط حمل المطلق على المقيد:
ذكر العلماء - وخاصة القائلين بحمل المطلق على المقيد - شروطًا لذلك الحمل، وهي:
• أن يكون القيد من باب الصفات، ولا يصح أن يكون في إثبات زيادة لم ترد في المطلق.
• ألاَّ يعارض قيدٌ قيدًا آخر، فإن وقع وجب الترجيح.
• أن يكون ورود المطلق في باب الأوامر والإثبات، أمَّا سياق النفي والنهي فلا يحمل المطلق على المقيد.
• ألا يقوم دليل يمنع من التقييد.

المنطوق والمفهوم:
قَسَّم الأصوليون الدلالة إلى منطوق ومفهوم:

والمنطوق هو: المعنى المستفاد من اللفظ الصريح المنطوق به، ومثاله: قوله - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، فالمعنى المستفاد من الآية، هو وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقوله - تعالى -: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، فمنطوق الآية أنه لا تحلُّ الذبيحة التي لم يُذكر اسم الله عليها.

أمَّا المفهوم فهو: المعنى اللازم للفظ ولم يصرح به فيه، ومثاله قوله - تعالى -: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فالآية نص يدلُّ بمنطوقه على تحريم التأفُّف والتضجُّر على الوالدين، وما يفهم من روح ومعقول اللفظ تحريمُ الضرب والسبِّ، وكل أنواع الأذى.

المعنى الإجمالي لهذه القاعدة: أن النصوص الشرعيَّة قد تدلُّ على معانٍ متعددة بطُرقٍ متعددة من طُرق الدلالة، وليست دلالته قاصرةً على ما يُفهم من عبارته وحروفه، بل قد يدل - أيضًا - على معانٍ تُفهَم من إشارته، ومن دلالته، ومن اقتضائه، وكل ما يفهم منه من المعاني بأيِّ طريق من هذه الطرق يكون مدلول النص، ويكون النص دليلاً وحجةً عليه، ويجب العمل به، وهذه الطرق بعضها أقوى من بعض، ويظهر أثر هذا التفاوت عند التعارض.

وهذا بيان لكلِّ طريقٍ من هذه الطرق الأربع للدلالة، مع أمثلة من النصوص الشرعيَّة:
1- دلالة الاقتضاء:
والمراد به دلالة اللفظ الذي لا يستقيم المعنى إلا بتقديره.
ويذكر الأصوليون مثلاً للاقتضاء حديثًا مشهورًا، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وضَع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه))؛ سبق تخريجه، فالمعنى المستقيم يقتضي تقدير رفع الإثم على الخطأ، أما الخطأ إذا وقع فلا يُرفع.
ومثله قوله - تعالى -: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، فالعقل يقتضي أن القرية لا تُسأَل، وتقدير الكلام: واسأل أهلَ القرية.
فهذا النوع من الدلالة يسمِّيه البعض بدلالة الإضمار، والمعنى المقدَّر يسمَّى المضمر.

2- الإشارة:
المراد بدلالة الإشارة: ما يُفهم من اللفظ بغير عبارته، إذ يحتاج فَهْمه إلى فضل تأمُّل حسب ظهور وجه التلازُم بين الإشارة والمعنى المتبادرِ من اللفظ.
ونمثِّل له بقوله - تعالى -: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، فإن هذا النص أفاد بعبارته أن نفقةَ المولود على والده، وأفاد بإشارته أن الولد تابِعٌ لأبيه، منسوب إليه، ويفيد بالإشارة - أيضًا - أن مال الولد للأب فيه شبهة ملك، ولذا لا يُساق الوالد بالولد، ولو أخذه لا يُعَدُّ سارقًا.

3- الإيماء:
وهو فَهْمُ التعليل من ترتيب الحكم على الوصف المناسب، ومثاله قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فهذا يدل على أن عِلَّةَ القطع السرقة، وقد رتَّب الشارع الحكيم الحكم بالفاء على وصف مناسب، وهو السرقة، وهذا يومئ إلى العلة.

4- المفهوم:
سبق أن المفهوم هو: المعنى اللازم للفظ ولم يصرح به فيه، وهو نوعان:
الأول: مفهوم الموافقة: وهو المعنى الثابت للمسكوت عنه، الموافق لما ثبت للمنطوق؛ لكون المسكوت أولى بالحكم من المنطوق، أو مساويًا له.
ومثال المفهوم الأولى، قوله - تعالى -: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فإنه يدلُّ بطريق الأولى على تحريم ضرب وشتم الوالدين.
ومثال المفهوم المساوي قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، فالنص يدلُّ بمنطوقه على تحريم أكل مال اليتيم، وبالمفهوم الموافق المساوي للمنطوق يحرم تفويت مال اليتيم.
ومفهوم الموافقة حجة عند جمهور العلماء، إلا من شذَّ منهم من الظاهريَّة.

الثاني: مفهوم المخالفة: يعرِّفه الأصوليون الذين يأخذون بهذه الدلالة بأنه إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، إذا قيد الكلام بقيد يجعل الحكم مقصورًا على حال هذا القيد.
فإن النص يدل بمنطوقه على الحكم المنصوص عليه، ويدل بمفهوم المخالفة على عكسه في غير موضع القيد.
وهذا القسم من الدلالة يسميه البعض بدليل الخطاب، أما الشرح التفصيلي لهذه القاعدة فيقتضي بيان أنواع مفهوم المخالفة، فهذا المفهوم يتنوَّع بحسب القيد الذي قُيِّد به منطوق النص إلى ستة أنواع:
1- مفهوم الصفة:
والصفة عند النحاة أعم من النعت؛ إذ تشمل النعت، والحال، والجار والمجرور، والظرف، والتمييز.
ومثاله قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وفي سائمةِ الغنم، إذا كانت أربعين، ففيها شاة))؛ سنن أبو داود، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة.
فتخصيص السائمة بالذكر يدلُّ بمفهوم المخالفة على أن المعلوفة لا زكاة فيها.

2- مفهوم الشرط:
وهو إثبات نقيض الحكم المعلَّق على شرط، ومثاله ما أخرجه البخاري من طريق أم سلمة أنه: جاءتْ أمُّ سُلَيْم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غُسْل إذا احْتَلَمَتْ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأتِ الماء))، فغطتْ أمُّ سلمة - تعني: وجْهَها - وقالت: يا رسول الله، أوتحتلم المرأة؟ قال: نعم تربتْ يَمِينُكِ، فبِمَ يُشبهها ولدُها))؛ كتاب العلم، باب الحياء في العلم، فيفهم من هذا أنها إذا لم ترَ الماء، فلا غُسْل عليها.

3- مفهوم العدد:
وهو ثبوت نقيض الحكم بعدد عند عدم توافر هذا العدد، ومثاله قوله - تعالى -: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فإن هذا الحدَّ أوجب الجلد ثمانين، فالزيادة لا تحل، وكذلك النقص، وهذا المنع ليس إلا أخذًا بمفهوم المخالفة، فحدود الله هي قدر مقدَّر لا يقبل الزيادة، ولا يقبل النقصان.

4- مفهوم الغاية:
وهو إثبات الحكم المقيَّد بغاية لما بعد الغاية.
ومثاله قوله - تعالى -: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، فمنطوق النص يدلُّ على وجوب استمرار الصيام إلى الليل، ومفهومه يدلُّ على أن الليل لا يجوز صيامه.
ومثله حديثه - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن استفاد مالاً، فلا زكاة عليه، حتى يحول عليه الحول عند ربِّه))؛ أخرجه الإمام مالك، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، واللفظ له، فمنطوق الحديث دالٌّ على نفي الزكاة قبل العام، أمَّا مفهومه دالٌّ على وجوبها عند حلول الحول.

5- مفهوم التقسيم:
وهو ما يُفهَم من تقسيم المحكوم عليه قسمين فأكثر، وتخصيص كل منهما بحكم.
ومثاله قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((الأيِّمُ أحَقُّ بنفسها من وليِّها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صُماتُها))؛ "صحيح مسلم"، كتاب النكاح، باب استئذان الثيِّب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت، فمنطوقه جلي واضح، ومفهومه: أنَّ كلَّ قسمٍ يختصُّ بحكمه، فالثيِّب أحق بنفسها من وليِّها، والبكر تُستَأذن وإذنها حياؤها.

6- مفهوم اللقب:
وهو أن يذكر الحكم مختصًّا بجنس، أو نوع، فيكون ثابتًا في موضع النص، منفيًّا فيما عداه.
ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مثلاً بمثل...))؛ رواه مسلم، كتاب المساقاة، باب الربا، فمنطوق الحديث واضح، أمَّا مفهوم اللقب فيه: أن ما ليس ذهبًا أو ورقًا، يجوز بيعه من غير مماثلة.

حجية مفهوم المخالفة:
يعتبر الجمهور مفهوم المخالفة حجةً وطريقًا من طُرق فَهْم الأحكام الشرعيَّة، واستدلوا لذلك بالأدلة التالية:

1- عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "لما توفي عبدالله بن أُبَي جاء ابنه عبدالله بن عبدالله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، تصلي عليه وقد نهاك ربُّك أن تصلي عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما خيَّرني الله، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80]، وسأزيده على السبعين،قال: إنه منافق، قال: فصلَّى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]؛ أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
ووجه الدلالة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - فهم من النص أن ما زاد على السبعين، حكمه مختلف على المقتصر على هذا العدد، فوعد بالزيادة على سبعين، لكنه نهي عن الاستغفار للمنافقين، والصلاة عليهم نهيًا تامًّا صريحًا.

2- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عمَّا يلبسه المحرم، فأجاب بذكر الممنوع عوض المسموح به، وهذا نص الحديث عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما يلبسُ المُحرمُ من الثياب؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلبسُ القُمُص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجدُ نعلين، فليلبس خُفَّين وليقطعهُما أسفل من الكعبين، ولا تلبسُوا من الثياب شيئًا مسَّه الزعفران، أو وَرْسٌ))؛ متفق عليه، واللفظ للبخاري، الحج، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب.

3- أن الصحابة - رضوان الله عليهم - فهموا من تخصيص الوصف بالذكر انتفاء الحكم عمَّا عداه، ومن ذلك:
عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار، والمرأة، والكلب الأسود))، قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني، فقال: ((الكلب الأسود شيطان))؛ رواه مسلم، كتاب الصلاة، باب قدر ما يستر المصلي.
ووجه الدلالة من الحديث أن الصحابي فهم تخصيص الحكم بالكلب الأسود من الوصف: ((الكلب الأسود شيطانٌ)).

وذهب السادة الحنفية إلى القول بعدم حجية مفهوم المخالفة، واستدلوا لذلك بأدلة منها:
1- أن النصوص الشرعيَّة واردة بما يدلُّ على فساد القول في الأخذ بالمفهوم المخالف، ومن ذلك:
أ- قوله - تعالى -: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].
فلو أخذ بمفهوم المخالفة لأدَّى ذلك إلى أن الظلم حَرام في الأشهر الأربعة فقط، وهذا محال.
ب - قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة))؛ رواه أبو داود، باب البول في الماء الراكد.
فإنه بمنطوقه يفيد النهي عن البول في الماء الراكد، والنهي عن الاغتسال به، ويفيد بمفهوم المخالفة حِل الاغتسال منه بغير الجنابة، والحق غير ذلك؛ فالاغتسال من الماء الراكد الذي لا يبال فيه منهي عنه، سواء أكان من الجنابة أم كان من غيرها.

2- أن الله - عز وجل - قد نص على مفهوم المخالفة حين يريد نفي الحكم، وذلك في آيات كثيرة منها:
أ- قوله - تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 11].

3- أن ما سوى المنطوق به مسكوت عنه، والمسكوت عنه ليس له حكم يؤخذ من اللفظ، بل يطلب حكمه من دليل آخر.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور.

شروط العمل بالمفهوم:
يشترط للعمل بالمفهوم شروط عديدة أهمها ما يلي:

1- ألا يكون تخصيص المذكور بالذكر جرى مجرى الغالب، فإن كان كذلك، لا يحتج به ومن ذلك قوله - تعالى -: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، فوصف الربائب بكونهن في الحجور جرى مجرى الغالب؛ إذ الغالب أن تكون بنت بنت الزوجة معها عند زوجها الثاني.
2- ألاَّ يكون للقيد الذي قيد به الكلام فائدة أخرى ثابتة، كالتنفير، أو الترغيب، أو الترهيب، ومن ذلك قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130]، فإن وصف المضاعفة هنا للتنفير؛ إذ لا يدل على جواز أكل الربا إذا كان قليلاً.
3- ألا يكون المذكور في اللفظ قد سبق ذكره؛ حتى يكون معهودًا، فإن كان معهودًا، فلا يدل ذكره على قصر الحكم عما عداه.
4- ألا يكون المسكوت عنه أولى من الحكم عن المنطوق به، وإن كان كذلك، فهو من مفهوم الموافقة، ويثبت المسكوت حكم المنطوق من باب الأولى، وقد ضرب المثال لهذا المقال سابقًا.

منهج الحنفية في تقسيم الدلالة:
عرفنا أن الجمهور يقسمون الدلالة إلى منطوق ومفهوم، أما الحنفية فيقسمونها إلى أربعة أقسام:
1- دلالة العبارة أو عبارة النص:
وهو ما يفهم من اللفظ بعبارته، ومثاله قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، فإن عبارة النص تفيد أنه من أشنع الظلم أكل مال اليتيم، ويستفاد من هذا أنه جريمة توجب عقابًا يوم القيامة، وتنكيلاً دنيويًّا يتولاه ولي الأمر.
وعبارة النص تقابل دلالة المنطوق عند الجمهور.

2- دلالة الإشارة أو إشارة النص:
وهو ما يدلُّ عليه اللفظ بغير عبارته، ولكن يجيء نتيجةً لهذه العبارة، فهو يفهم من الكلام، ولكنه لا يستفاد من العبارة ذاتها، ومثال ذلك قوله - تعالى -: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، فإن هذا النص أفاد بعبارته أن نفقة المولود واجبة على الوالد، وأفاد بإشارته أن الولد تابع لأبيه في النسب.

3- دلالة الاقتضاء أو اقتضاء النص:
وهي دلالة اللفظ الذي لا يستقيم معناه إلا بتقديره.

ومن ذلك تقدير كل مضاف محذوف يقتضيه الكلام، كقوله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فإن المراد تحريم الأكل لا تحريم ذاتها.

4- دلالة النص:
وهي ما تسمَّى عند الجمهور بمفهوم الموافقة، كما تسمَّى دلالة الأولى، وبعض الفقهاء يسميها القياس الجلي، وأمثلتها تقدَّمت في مبحث مفهوم الموافقة.
دلالة اللفظ من حيث الظهور والخفاء:
قسَّم الأصوليون اللفظ الدال من حيث ظهور دلالته وخفائها إلى ثلاثة أقسام: نص، وظاهر، ومجمل:
أولاً: النص:
النص لغةً: رفع الشيء وإظهاره، وفي "النهاية" من حديث عمرو بن دينار: "ما رأيت رجلاً أنص للحديث من الزهري؛ أي: أرفع له وأسند؛ "النهاية"، (3/ 148).
ومنه قول الشاعر:
وَنُصَّ الْحَدِيثَ إِلَى أَهْلِهِ        فَإِنَّ  الأَمَانَةَ   فِي   نَصِّهِ
أمَّا النص في الاصطلاح، فقد ردوه إلى المعنى اللغوي؛ فهو ما دلَّ على معناه دلالة لا تحتمل التأويل.
ومن أمثلة النص قوله - تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فهو نص في نفي التماثل بين البيع والرِّبا من ناحية الحل والحرمة.
ومن هذا الباب قوله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فهو نص في دلالته على وجوب اعتداد المطلقة بثلاثة قروءٍ.

ثانيًا: الظاهر:

الظاهر في اللغة: خلاف الباطن.
وفي الاصطلاح: هو ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر، كما يطلق الظاهر على المعنى الراجح الذي دلَّ عليه اللفظ مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحًا.
ومثاله دلالة الأمر على الوجوب مع احتمال الندب، ودلالة النهي على التحريم مع احتمال الكراهة.
وإذا ذكر الظاهر ذكر معه المؤول.

والمؤول في اللغة من التأويل بمعنى الرجوع، واصطلاحًا: هو حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح، وصرفه عن ظاهره بدليل قوي؛ ليكون التأويل صحيحًا، ومثال هذا التأويل الصحيح تخصيص العام بدليل خاص، مثل تخصيص قوله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، بالأحاديث الدالة على تحريم البيع على بيع أخيه، والبيع مع النجش، وبيوع الغرر.
ومنه تأويل قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة} [المائدة: 6]، على أن المراد: إذا أردتم القيام إلى الصلاة؛ لأن الوضوء يسبق القيام للصلاة.

ولصحة التأويل شرطان:
1- أن يكون اللفظ محتملاً للمعنى الذي يراد صرفه إليه في اللغة العربية، أو في عُرف الاستعمال.
2- أن يقوم على التأويل دليل صحيح، ومثال ما كان دليل التأويل فيه مستقلاً، كالتخصيص بالمخصصات المنفصلة، وحمل المطلق الوارد في موضع على المقيد في موضع آخر.
وقد تقدمت له أمثلة كثيرة.

ثالثًا: المجمل:
وهو في اللغة: المبهم والمجموع، قالوا: أجمل له الأمر: أبهمه، ويقال: أجمل له الحساب والكلام؛ انظر لسان العرب، والقاموس المحيط، المادة.
أما المجمل في الاصطلاح: فهو اللفظ الذي خفي من ذاته خفاءً جعل المراد منه لا يدرك إلا ببيان؛ سواء كان ذلك الخفاء لانتفاء اللفظ من معناه الظاهر في اللغة إلى معنى مخصوص أراده الشارع، أم كان لتزاحم المعاني المتساوية، أم كان لغرابة اللفظ نفسه.

أسباب الإجمال:
أشار التعريف إلى أسباب الإجمال، وهي كالتالي:

1- ما كان إجماله لسبب نقل اللفظ من معناه اللغوي الظاهر إلى معنى خاص غير معلوم أراده الشارع:
وهذا أغزر أنواع المجمل وجودًا، فكثير من المسمَّيات أعطاها الشارع الحكيم بعد الإسلام معنًى جديدًا حسب منهج الشريعة الجديدة، وكساها نوعًا من الإجمال.
ومن ذلك الصلاة، فهي في لغة العرب جاءت بمعنى الدعاء، قال الأعشى في "لسان العرب":
عَلَيكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي        نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ  الْمَرْءِ  مُضْطَجَعَا
ونقل الإمام النووي عن الزَّجاج أن الصلاة تأتي - أيضًا - بمعنى اللزوم؛ "تهذيب الأسماء واللغات".
وجاء الإجمال من إعطاء لفظ الصلاة معنًى شرعيًّا جديدًا خاصًّا، وهو تلك العبادة المعروفة التي اهتمَّ القرآن بها اهتمامًا بالغًا، وأتى على ذكرها في مواضع كثيرة، وتولت السُّنة النبويَّة بيان تفاصيلها، ومواقيتها، وعدد ركعاتها، وسننها ومبطلاتها، وما أجمله الله في شأنها شاء أن يكون بيانه من نبيِّه - صلى الله عليه وسلم.

2- ما يكون إجماله بسبب تعدُّد المعاني المتساوية، وتزاحمها على اللفظ:
وذلك كالمشترك الذي يحتمل معنيين فأكثر مع انسداد باب الترجيح فيه، مثل لفظ القروء في قوله - تعالى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإنه يحتمل الطهر والحيض، مع عدم وجود ما يدل على مراده صراحة.

3- ما كان إجماله ناشئًا عن غرابة اللفظ في المعنى الذي استعمل فيه:
ومثال ذلك في الكتاب لفظ الهلوع، في قوله - تعالى -: {
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19]، فإن المراد به الحريص الجزوع قليل الصبر، فإذا كان الهلوع كذلك، فإن استعماله في هذا المعنى غريب لا يمكن فَهْم المراد منه دون بيان، ولذلك بينه - تعالى - بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 20 - 21]، وهكذا بيَّن الله هذا المصطلح أفضل بيان، فالهلوع هو الإنسان الذي إذا أصابه شرٌّ جزع، وإذا ناله خير منع.

تقسيم الحنفية دلالة اللفظ من حيث الوضوح والخفاء:
قَسَّم السادة الحنفية اللفظ إلى واضح الدلالة، وخفي الدلالة، وقسموا واضح الدلالة إلى أربعة أقسام من الأدنى إلى الأعلى وضوحًا، وهي:

النص، والظاهر، والمفسر، والمحكم.

وقسموا الخفي إلى أربعة أقسام - أيضًا - من الأقل إلى الأكثر خفاءً، وهي على النحو التالي:
الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه.

وإليك تعريفًا مقتضبًا لهذه الأقسام، مع ضرب المثال لكل قسم:
أقسام واضح الدلالة:

1- الظاهر:
وقد عرفه فخر الإسلام البزدوي: "الظاهر اسم لكل كلام ظهر المراد منه للسامع بصيغته"؛ أصول البزدوي؛ بشرح عبدالعزيز البخاري، (1/ 46).
ومثاله قوله - تعالى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فالآية ظاهرة في حل البيع وتحريم الربا.
وحكم الظاهر وجوب العمل به، حتى يقوم دليل صحيح على تخصيصه، أو تأويله، أو نسخه.

2- النص:
والنص عند البزدوي: "ما ازداد وضوحًا على الظاهر؛ بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة"؛ المرجع السابق.
مثاله قوله - تعالى -: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فالآية نص في بيان العدد الحلال من النساء.
وحكم النص - كحكم الظاهر- وجوب العمل بما دلَّ عليه، حتى يقوم دليل على تخصيصه، أو تأويله، أو نسخه.

3- المفسر:
وهو اللفظ الذي يدل على الحكم دلالةً واضحةً لا يبقى معها احتمال للتأويل، أو التخصيص، ولكنه يقبل النسخ في عهد الرسالة.

ومثاله قوله - تعالى -: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30]، فالملائكة جمع عام، انسدَّ باب التخصيص فيه بذكر لفظ{كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30].
وحكم المفسر وجوب العمل به ما لم يقم دليل على نسخه من الكتاب أو السُّنَّة.

4- المحكم:
وهو اللفظ الذي دل على معناه دلالةً واضحةً قطعيةً، لا تحتمل تأويلاً ولا تخصيصًا ولا نسخًا، حتى في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم.

ومن أمثلة ذلك النصوص الشرعيَّة التي حوت أسماء الله - عز وجل - وصفاته، فهي لا يمكن أن تصرف من معناها إلى معنًى آخر مؤول، كما أنها لا تحتمل النسخ والإبطال.
ومن هنا كانت دلالة المحكم أقوى من جميع الدلالات السابقة؛ لانتفاء الاحتمال عنه بجميع أنواعه.

أقسام خفي الدلالة:
1- الخفي:
وقد حد السرخسي الخفي بالحدِّ التالي: "هو اسم اشتبه معناه، وخفي المراد منه بعارض في الصيغة يمنع نيل المراد بها، إلا بطلب"؛ أصول السرخسي،(1/ 186).
والمعنى أن الخفي لم يظهر المراد منه بسبب عارض راجع للصيغة، فجعلها ليست ظاهرةً للدلالة.
ومثاله قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فإن دلالة الآية على قطع يد النباش الذي ينبش القبور؛ لسرقة الأكفان، والطَّرَّار الذي يسرق الناس بنوع من الخفة والمهارة، دلالة خفية، وكان منشأ الخفاء اختصاص كل من النباش والطرار بهذا الاسم؛ لذا كان لزامًا على المجتهد زيادة الطلب؛ حتى يتبيَّن له المراد من اللفظين.
وقد نقل الاتفاق على اعتبار الطرَّار سارقًا، وذهب الحنفية إلى عدم قطع النباش؛ لأنه لا تتوفر فيه شروط السارق، فقال بتعزيره بما يردعه عن هذا العمل الشائن.
وفي ضوء ما تقدَّم ندرك أن حكم الخفي وجوب النظر والبحث والطلب؛ حتى يزول الخفاء والغموض.

2- المشكل:
والمشكل هو ما أشكل على السامع طريق الوصول إلى معناه؛ لاشتراك في اللفظ، أو لاستعمال اللفظ في مجاز.
ومن أوضح الأمثلة في ذلك قوله - تعالى -: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].
وبيان ذلك أن لفظ{أَنَّى} تتداخل المعاني في تعددها:
• فذهب فريق: إلى أن معناها: (كيف)، وهذا ما ورد عن ابن عباس، قال: "يأتيها كيف شاء، ما لم يكن يأتيها في دبرها، أو في الحيض".
• وذهب آخرون إلى تأويلها (بمتى)، وقد روي ذلك عن الضحاك؛ فعن عبيد بن سليمان، قال: "سمعت الضحاك يقول في قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}: "مَتى شئتم".
• وقال آخرون: "معناها كيف شئتم، إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا"، ونسب القول لابن عباس، وسعيد بن المسيب؛ "جامع البيان في تأويل القرآن"؛ للإمام الطبري، (4/ 397)، وما بعدها.

والذي عليه الصحابة، والتابعون، والعلماء من بعدهم، أن قوله - تعالى -: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، معناه: من أي وجه شئتم من وجوه المأتى؛ انظر: "أحكام القرآن"؛ للشافعي؛ جمع البيهقي،(1/194)، "الأم"، (5/ 156)، "أحكام القرآن"؛ لابن العربي المعافري، دفين فاس،(1/ 174)، "تفسير القرطبي"، (3/91)، وما بعدها.
وحكم المشكل النظر أولاً في المعاني التي يحتملها اللفظ، وضبطها، والاجتهاد في البحث عن القرائن التي توصل إلى المراد.

3- المجمل:
عرفه البزدوي بقوله: "هو ما ازدحمت فيه المعاني، واشتبه المراد منه اشتباهًا لا يدرك بنفس العبارة، بل بالرجوع إلى الاستفسار، ثم الطلب، ثم التأمل".
ومن أمثلته قوله - تعالى -: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فلفظ الربا في اللغة هي الزيادة، وليس هذا المعنى هو المراد في الشرع، لذا كان لزامًا على الشارع الحكيم بيان وتفصيل أحكام الربا، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم -تأكيد ذلك.
وحكم المجمل الإيمان بحقيقته والتوقُّف فيه؛ حتى يبيَّن ويفصل من طرف الشارع.

4- المتشابه:
وآخر ما عده الحنفيَّة من أقسام المبهم هو المتشابه، وقد اعتبروه أشد هذه الأقسام خفاءً وإيغالاً في الإبهام.
والمتشابه في الاصطلاح: وهو اسم لما انقطع رجاء معرفة المراد منه لمن اشتبه فيه.
ومن أمثلة هذا القسم الأحرف المقطعة، وكيفيَّات صفات الله - تعالى.
وحكم المتشابه اعتقاد حقيقته، والتسليم بترك طلب المراد منه، والاشتغال بالوقوف عليه؛ لأنه انقطع الأمل في بيانه.

البيان:
البيان اصطلاحًا: هو إخراج الشيء من حيِّز الإشكال إلى حيِّز التجلِّي.
ويطلق المبيَّن على الدليل الذي يحتاج إلى البيان كالمجمل مثلاً.
والبيان واجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقوله - تعالى -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].

والبيان يحصل بالأمور التالية:
1- القول: وهو الكلام المسموع، وأغلب أحكام الشريعة بيَّنت ووضَّحت بهذا النوع.

2- الفعل: وهو أن يفعله النبي - عليه الصلاة والسلام - ما يبيِّن مجمل القرآن والسُّنة، ومن ذلك بيانه - صلى الله عليه وسلم - صفة الصلاة، وعدد ركعاتها، وكيفية الحج، ومناسكه، قال - عليه السلام -: ((صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي))؛ رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر، إذا كانوا جماعةً والإقامة، وكذلك بعرفة وجمع، وقول المؤذن الصلاة في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة.
وقوله:((لتأخذوا مناسككم))؛ رواه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، وبيان قوله - صلى الله عليه وسلم - لتأخذوا مناسككم.

3- الكتاب: وهو أن يكتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يبين به بعض الأحكام، وخاصةً للبعيد من المدينة.

4- الإشارة: وذلك أن يشير - عليه السلام - إلى المراد ومنه حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا، وجمع كلها موقف))؛ صحيح مسلم، كتاب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف.

5- التنبيه: وذلك بإيمائه - عليه السلام - لعلة الحكم، مثل قوله - عليه السلام -: ((أينقص الرطب إذا يبس، فقالوا: نعم، فنهى عن ذلك))؛ رواه مالك، وأصحاب السُّنن.
وهذا إشارة إلى أن العلة في التحريم عدم تساوي الرطب والتمر.

الباب الرابع: التعارض وطرق دفعه:
عنون بعض الأصوليين لهذا الباب: بعنوان التعادل والترجيح، وبعضهم بالتعارض والترجيح، واكتفى البعض الآخر بالترجيحات.
والفائدة من هذا الباب واضحة جليَّة؛ إذ به يستطيع الفقيه المعاصر الموازنة بين أدلة المختلفين، والجمع بينها، أو ترجيح ما يراه راجحًا.

تعريف التعارض:
التعارض في اللغة: هو التقابل.
والتعارض اصطلاحًا: هو تقابل دليلين على سبيل الممانعة، بحيث يراهما الناظر أنهما متنافيان، يجب الإمعان فيهما؛ للجمع بينهما، أو ترجيح أحدهما على الآخر.
وذلك إذا كان أحد الدليلين يدل على الجواز، والدليل الآخر يدل على المنع.
فدليل الجواز يمنع التحريم، ودليل التحريم يمنع الجواز، فكل منهما مقابل للآخر، ومعارض له، ومانع له.
والتعادل في اللغة: التساوي، وفي الاصطلاح: تساوي الدليلين من كل وجه، بحيث ينسد باب الترجيح.

شروط التعارض:
لحصول التعارض اشترط الأصوليون الشروط التالية:
1 - التساوي في الثبوت، فلا تعارُضَ بين الكتاب وخبر الواحد، بل يقدم الكتاب.
2 - التساوي في القوَّة، فلا تعارُضَ بين النصِّ والظاهر، بل يُقدَّمُ النصُّ.
3 - اتحادُ الوقت، فلو اختلف الوقتُ، فالمتأخِّرُ مقدَّمٌ.
4 - اتحادُ المحل، فلو اختلف المحلُّ فلا تعارُضَ.
5 - اتحادُ الجهة، فلو اختلفت جهةُ تعلُّق الحكم بالمحكوم عليه، فلا تعارُض، مثل النهي عن البيع بعدَ نداء الجمعة الثاني، مع الإذن فيه في غير هذا الوقت.
6 - اختلافُ الحكم الثابت بكل من الدليلين، فلا تعارُضَ مع اتحاد الحكم.

موقف المجتهد عند تحقق الشروط السابقة في الدليلين المتعارضين:
اختلف العلماء في ذلك:

فذهب بعضهم إلى تخيير المكلف في العمل بين الدليلين، ونسب القول إلى الإمام الشافعي، والغزالي، والباقلاني.
وذهب بعضهم إلى التوقف.
وذهب البعض إلى أنه على المجتهد أن يأخذ بالأشد؛ لأن الحق شديد.
وذهب آخرون إلى الأخذ بالأيسر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَسِّروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا))؛ رواه البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم؛ كي لا ينفروا.
والراجح - ولله العلم- أن هذا في حق المجتهد، فإذا لم يتحقق له رجحان أحد الدليلين، وجب عليه البحث عن دليل آخر، فإن حضر وقت العمل ولم يترجَّح شيء، عمل بالأحوط، أو قلَّد الأعلم منه.
أما الذين يستفتونه فلا يجب عليه أن يفتيهم، بل عليه أن يدلهم على من هو أعلم منه، ويخبرهم أنه لم يترجح عنده شيء.
أما المقلد الذي لا يفهم الأدلة، أو لا يستطيع الموازنة بينها، فالواجب عليه أن يسأل من يثق في دينه وعلمه؛ قال - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وما ينبغي التنبيه له أنه لا يوجد تعارُض حقيقي بين النصوص، وإن بدا تعارض بين نصَّين، فإنما هو تعارض ظاهري فقط بحسب ما يبدو لعقولنا.

طُرق درء التعارض الظاهري:
لدفع التعارض الظاهري بين الأدلة ثلاث طُرق وهي:

1- الجمع بين الدليلين.
2- الحكم بنسخ أحد الدليلين بالآخر.
3- الترجيح.

وقد اختلف العلماء فيما يلجأ إليه أولاً:
فذهب الحنفيَّة إلى وجوب المصير إلى النسخ أولاً، فإن أعيانا ذلك، لجأنا للجمع بينهما وتأويلهما، أو تأويل أحدهما، فإذا لم يمكن ذلك، لجأنا إلى الترجيح.
أما عند الجمهور، فالمقدَّم هو الجمع بين الأدلة، فإن لم يمكن نظر في التأريخ، فعددنا المتأخِّر ناسخًا للمتقدم، وإن لم يعرف التأريخ، لجأنا إلى الترجيح.

و هذا بيان طُرق دفع التعارض الظاهري مع الأمثلة:
أولاً: الجمع:
وتعريفه: تبيان عدم التعارض بين الدليلين المتضادين، ويكون الجمع بينهما بتأويلهما، أو حمل كل دليل على حالة معينة.
ومثاله الجمع بين حديث: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا العشر))، وحديث: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))؛ سبق تخريجهما.
وذلك بحمل الأول على ما بلغ خمسة أوسق، فيكون معناه: فيما سقت السماء العشر إذا بلغ خمسة أوسق.

ثانيًا: النسخ:
النسخ في اللغة: الإزالة.
وفي الاصطلاح: هو رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخر عنه، أو هو إظهار دليل لاحق نسخ ضمنا العمل بدليل سابق.
ولا نسخ لحكم شرعي في القرآن أو السنة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أما في حياته، فقد اقتضت سُنَّة التدرُّج في التشريع، ومسايرته المصالح نسخ بعض الأحكام التي ورد في بعض نصوصها نسخ كُليّ، أو نسخ جزئيّ.
والنسخ لا خلاف فيه بين الأئمة أنه طريق لدرء التعارض الظاهري، وقد وردت أدلة ذلك الكتاب والسُّنة.
أما الكتاب، فقوله - تعالى -: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].
وأما السُّنة، فقول عائشة - رضي الله عنها -: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن"؛ رواه مسلم، كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات.

شروط الناسخ:
يشترط في الناسخ شروط هي:

1- أن يكون الناسخ نصًّا من القرآن أو السُّنة، فالأصل العام أن النص لا ينسخه إلا نصٌّ في قوته أو أقوى منه؛ لقوله - تعالى -: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، ولا يصح النسخ بالقياس، والإجماع عمومًا، كما لا يصح نسخ القرآن بخبر الآحاد عند جماهير العلماء.

2- أن يكون النص الناسخ متأخرًا عن المنسوخ.
أما وقوع النسخ، فمثَّل له العلماء بقوله - تعالى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]، يدلُّ على أن المالك إذا حضرته الوفاة عليه أن يوصي لوالديه وأقاربه من تركته بالمعروف، وقوله - تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11].
يدل على أن الله قَسَّم تركة كل مالك بين ورثته حسبما اقتضته حكمته - تعالى - ولم يعد التقسيم حقًّا للموروث نفسه، وهذا الحكم يعارض الأول، فهو ناسخ له على رأي الجمهور؛ ولذا قال - عليه السلام - بعد نزول آية المواريث: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث))؛ رواه أصحاب السُّنن إلا النسائي.

طرق معرفة النسخ:
يعرف النسخ بعدة طُرق نذكر منها:

1- النص على النسخ:
كما في الحديث عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مُسكرًا))"؛ رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربَّه - عز وجل - في زيارة قبر أمِّه.

2- تأخر أحد النصين المتعارضين عن الآخر.

3- اتفاق الصحابة على نسخ أحد النصين بالآخر:
كما ورد في نسخ مفهوم حديث: ((إنما الماء من الماء))؛ رواه مسلم، كتاب الحيض، باب إنما الماء من الماء، بحديث: ((إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها، فقد وجب عليه الغسل))؛ متفق عليه.

4- ترك الصحابة والتابعين العمل بالحديث من غير نصٍّ على النسخ:
عن معاوية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شرب الخمر، فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة، فاقتلوه))؛ أخرجه الخمسة عن معاوية، فهذا الحديث لم يعمل به الصحابة، فدلَّ ذلك على نسخه، وربَّما نسخ هذا الحديث بعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث إنه لم يقتل في الرابعة؛ فعن جابر بن عبدالله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن من شرب الخمر، فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة، فاقتلوه))، قال: "ثم أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك برجل قد شرب الخمر في الرابعة، فضربه، ولم يقتله"، وكذلك روى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا قال: "فرفع القتل وكانت رخصة، والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك في القديم والحديث، ومما يقوي هذا ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أوجه كثيرة، أنه قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه))؛ رواه الترمذي، كتاب الحدود عن رسول الله، باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه، ومن عاد في الرابعة فاقتلوه.

ثالثًا: الترجيح:
الترجيح هو: تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى لدليل، ولا يكون إلا مع وجود التعارض، فحيث انتفى التعارض، انتفى الترجيح؛ لأنه فرعه لا يقع إلا مرتبًا على وجوده.
ثم اعلم أنه لا تعارض بالحقيقة في حجج الشرع.
قال أبو بكر الخلال: "لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان، ليس مع أحدهما ترجيح يقدم به، فأحد المتعارضين باطل: إما لكذب الناقل أو خطئه بوجه ما من النقليَّات، أو خطأ الناظر في النظريات، أو لبطلان حكمه بالنسخ.
وقال إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة - رحمه الله -: "لا أعرف حديثين صحيحين متضادين"؛ "شرح الكوكب المنير"، (3/ 114).

شروط الترجيح:
1- أن يكون بين الأدلة، فالدعاوى لا يدخلها الترجيح وانبنى عليه أنه لا يجري في المذاهب؛ لأنها دعاوى محضة تحتاج إلى الدليل، والترجيح بيان اختصاص الدليل بمزيد قوة فليس هو دليلاً.
2- قبول الأدلة التعارض في الظاهر؛ إذ لا ترجيح بين دليلين متفقين في المدلول.
3- تعذُّر الجمع بين الدليلين، فإن أمكن الجمع بينهما لا ينتقل إلى الترجيح؛ لأن الترجيح يفضي إلى ترك العمل بالدليل المرجوح، والجمع بينهما فيه عمل بكلا الدليلين.
4- الوقوف على تاريخ كل دليل، فإن عرف التاريخ كان المتأخر ناسخًا للمتقدم.

حكم الترجيح:
اعلم أنه حق على المجتهد أن يطلب لنفسه أقوى الحجج عند الله، ما وجد إلى ذلك سبيلاً؛ لأن الحجة كلما قويت، أمن على نفسه من الزلل.
وإذا عرض عليه دليلان في الواقعة، ولم يتمكن من الجمع بينهما، ولا القول بالنسخ، وجب حينئذ أن يرجح أحد الدليلين؛ ليعمل بالراجح، وهذا ما أجمع عليه العلماء إلا من شذَّ منهم، كأبي عبدالله البصري، الملقَّب بـ(جعل)، وكذلك نقل عن القاضي الباقلاني، ولم يلتفت الفقهاء إلى خلافهما.

والدليل على وجوب العمل بالراجح ما يلي:
1- قوله - تعالى -: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55]، وقوله - تعالى -: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18].
ووجه الدلالة من الآيتين: مدح الله - عز وجل - الذين يتبعون القول الرشيد، والدليل الهادي الصائب.
2- أن الدليلين إذا تعذَّر الجمع بينهما، إما تركًا معًا، أو يترك الراجح منهما، أو يترك المرجوح.
فالأول باطل؛ لأن فيه إعراض عن الدليل.
والثاني باطل كذلك؛ لتقديم الدليل الضعيف على القوي.
أما الثالث، فهو المطلوب؛ أي: تقديم الراجح على المرجوح.
3- نقل الإجماع عن الصحابة على عملهم بالترجيح؛ قال الطوفي: "العمل بالأرجح متعيَّن، وقد عمل الصحابة بالترجيح"؛ "شرح مختصر الروضة"، (3/ 679).

وجوه الترجيح:
قال الإمام الزركشي: "القول في ترجيح الظواهر من الأخبار المتعارضة، وهو إنما يكون بالنسبة إلى ظن المجتهد، أو بما يحصل من خَلل بسبب الرواة"، وقال: "واعلم أن التراجيح كثيرة، ومناطها ما كان إفادته للظن أكثر، فهو الأرجح، وقد تتعارض هذه المرجحات، كما في كثرة الرواة وقوة العدالة وغيره، فيعتمد المجتهد في ذلك ما غلب على ظنه"؛ "البحر المحيط"، كتاب التعادل والترجيح، سبب الاختلاف في الروايات.
فالترجيح له طُرق متعددة، وجرت عادة الأصوليين أن يفصلوا بين الترجيح بين الأدلة النقليَّة، والترجيح بين الأدلة العقليَّة.

طُرق الترجيح بين الأدلة النقليَّة: وله أربعة أوجه:
• الترجيح من جهة السند.
• الترجيح من جهة المتن.
• الترجيح لأمر خارجي.
• الترجيح بين محامل اللفظ الواحد.

أولاً: الترجيح من جهة السند:
وله طُرق أهمها: كثرة الرواة:
فيرجَّح ما رواته أكثر على ما رواته أقل بخلافه، ومثاله رفع اليدين في الركوع؛ فعن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام إلى الصلاة، رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، وإذا أراد أن يركع، فعل مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع، فعل مثل ذلك"؛ سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب من ذكر أنه يرفع يديه إذا قام من الثنتين.

وعن البراء بن عازب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة، رفع يديه إلى قريب من أذنيه، ثم لا يعود"؛ سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع.
فالحديث الأول رواه جماعة من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وابن عمر، ومالك بن الحويرث، وأبو حميد الساعدي، ووائل بن حجر، وروى الرفع ثلاثة وأربعون صحابيًّا، والحديث الثاني رواته أقل.
فرجح حديث ابن عمر على حديث البراء؛ لكثرة الرواة.

فقه الراوي:
سواء كانت الرواية بالمعنى أو باللفظ، فتقدم رواية الفقيه على من دونه؛ لأنه أعرف بمقتضيات الألفاظ.
ومثاله تقديم رواية عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان ليصبح جُنبًا من جماع غير احتلام، ثم يَصومه"؛ صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب اغتسال الصائم، على رواية أبي هريرة ((مَن أَصبَحَ جُنبًا، فلا صوم له))؛ متفق عليه؛ "مسند الإمام أحمد".
فسبب تقديمه أن عائشة كانت أفقه من أبي هريرة.

وفي المسند - أيضًا - عن عبدالرحمن بن عتاب، قال:" كان أبو هريرة يقول: من أصبح جُنبًا، فلا صوم له، قال: فأرسلني مروان بن الحكم أنا ورجلاً آخر إلى عائشة، وأم سلمة نسألهما عن الجنب يصبح في رمضان قبل أن يغتسل، قال: فقالت إحداهما: قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جُنبًا، ثم يغتسل، ويتم صيام يومه، قال: وقالت الأخرى: كان يصبح جُنبًا من غير أن يحتلم، ثم يتم صومه، قال: فرجعا فأخبرا مروان بذلك، فقال لعبدالرحمن، أَخْبِر أبا هريرة بما قالتا"؛ "مسند الأنصار"، حديث السيدة عائشة.
وقال ابن دقيق العيد: "وهذا لا ينبغي تمثيله بالصحابة تأدُّبًا".
وقد مثل برواية إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله بن مسعود، مع رواية الأعمش، عن أبي وائل عن ابن مسعود، "فإن الأولين فقيهان مشهوران، والأخيرين، إما شيخان، أو دونهما في الفقه"؛ البحر المحيط، كتاب التعادل والترجيح، سبب الاختلاف في الروايات: كون أحد الراويين صاحب الواقعة، أو له صلة بما رواه، ومثاله تقديم خبر عائشة - رضي الله عنها - السابق على خبر أبي هريرة؛ لأن عائشة لها صلة قوية بالرسول - صلى الله عليه وسلم.

كون أحد الراويين ممن تأخَّر إسلامه:
فمن تأخَّر إسلامه دليل على تأخُّر حديثه، فيكون ناسخًا لمعارضه.
ومثاله تقديم رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أحمد في نقض الوضوء بمسِّ الذكر، عن رواية طلق - رضي الله عنه - عند الخمسة في عدم نقضه.

قوة الحفظ والضبط:
حكى هذا إمام الحرمين عن إجماع أهل الحديث، ومثله برواية عبيدالله بن عمر بن عبدالعزيز، على رواية عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز؛ لأن الشافعي قال: "بينهما فضل ما بين الدرهم والدينار، والتفضيل لعبيدالله"؛ المرجع السابق.

كثرة الصحبة:
فكثير الصحبة ترجَّح روايته على قليلها؛ لما يحصل من زيادة الظن بسبب كثرة الصحبة في المعرفة بأحوال المصحوب.
وقد نقل هذا عن بعض التابعين، فقدَّم رواية ابن مسعود على رواية وائل بهذه العلة، وبسبب طول الصحبة.

ثانيًا: الترجيح من جهة المتن:
وله طرق منها:
ترجيح الخاص على العام:
فالخاص يقضي على العام، وهذا هو مذهب الجمهور ما عدا أبو حنيفة، الذي يرى أن الخاص والعام سواء.
ومثاله تخصيص قوله - تعالى -: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا} [الأنعام: 145]، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَكْل كل ذي نَاب من السبَاع حرام))؛ رواه الجماعة من طريق أبي ثَعلَبَة الخشَني، واللفظ لمالك.
ولئن حمل حامل النهي على التنزيه بدلالة العموم وجد مقالاً.
ترجيح ما قلَّت مخصصاته على ما كثرت مخصصاته: كتقديم قوله - تعالى -: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، على قوله - تعالى -: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].
فالآية الأولى دلالة على حل ما ترك أهل الكتاب التسمية عليه من ذبائحهم.
قال ابن كثير في التفسير: "وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء، أن ذبائحهم حلال للمسلمين؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله".

ترجيح العام المطلق على العام الوارد على سبب:
فالعام الوارد على سبب يقصر على سببه بخلاف المطلق؛ لأن الوارد على غير السبب متفق على عمومه، والوارد على سبب مختلف في عمومه.
ومثاله تقديم الحديث الذي أخرجه البخاري من طريق ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن بَدَّلَ دينَه، فاقتلوه))؛ كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، على الحديث الذي أخرجه الشيخان من طريق ابن عمر: "أن امرأةً وجدت في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتولةً، فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان".

فحديث ابن عباس عام مطلق؛ لأنه لم يرد على سبب، فقُدِّم على حديث ابن عمر الوارد على سبب، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر ونهى عن قتل الصِّبْيَة، والنسوة في الحرب.
ترجيح الخبر الذي ذكرت فيه العلة على الخبر الذي لم تذكر فيه؛ لأن الانقياد إليه أكثر من الانقياد إلى غير المعلل، ولأن ظهور التعليل من أسباب قوة التعميم، كتقديم قوله - عليه السلام -: (مَن بَدَّلَ دينَه، فاقتلوه) على حديث النهي عن قتل النساء، من جهة أن التبديل إيماءٌ إلى العلة.

ترجيح مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة:
وقيل: تُقدَّم المخالفة؛ لأنها تفيد تأسيس الحكم، والموافقة للتأكيد على الحكم، والتأسيس أولى، وقيل: يتعارض مفهوم الغاية والشرط.
وينبغي أن يمثل له بقوله - تعالى -: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]، فإن مفهوم الغاية يقتضي حل القرب قبل الغسل، ومفهوم الشرط يقتضي المنع قبل الغسل.

ترجيح ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة:
ويمثل له بترجيح أحاديث تحريم الحمر الأهلية على الأحاديث المبيحة لها، ومن هذه الأحاديث المرجَّحة ما يلي:

• عن ابن أبي أَوفَى - رضي الله عنهما - يقول: "أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر، وقعنا في الحمر الأهلية، فانتحرناها، فلما غلت القدور، نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكفئوا القدور، فلا تطعموا من لحوم الحمر شيئًا.
قال عبدالله: فقلنا: إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها لم تخمس، قال: وقال آخرون: حرمها البتة، وسألت سعيد بن جبير، فقال: حرمها البتة"؛ متفق عليه.

• عن أم حبيبة بنت العرباض - وهو ابن سارية - عن أبيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن لحوم كل ذي ناب من السبع، وعن كل ذي مخلب من الطير، وعن لحوم الحمر الأهلية؛ أخرجه الترمذي.

• عن أنس بن مالك، قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا طلحة في غزوة خيبر ينادي: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية؛ فإنها رجس، قال: فأكفِئَت القدور"؛ "مسند الإمام أحمد".

ترجيح المثبت على النافي:
لأن مع المثبت زيادة علم خفيت عن النافي، ومن ذلك ترجيح حديث بلال - رضي الله عنه - في الصحيحين من طريق ابن عمر: "سألت بلالاً، فقلت: أصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة، قال: نَعَم، ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت، ثم خرج، فصلَّى في وجه الكعبة ركعتين"، ترجيحه على حديث أسامة - رضي الله عنه - عند مسلم: (أنه لم يصل).

فالحديثان وإن كانا في نفس الدرجة من الصحة، إلا أنه يقدِّم حديث المثبت على النافي.

ترجيح النص على الظاهر:
وقد سبقت أمثلته.

ثالثًا: الترجيح لأمر خارجي: وله طُرق أهمها:
اعتضاد أحد الخبرين بقرينة القرآن الكريم:
كتقديم الحج والعمرة فريضتين، على رواية العمرة تطوُّع؛ لموافقته لحكم القرآن من كتاب الله - تعالى - وهو قوله - تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196].
وترجيح حديث ابن عباس في التشهُّد؛ لموافقته لقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61].
كان الشافعي يقول: "ما وافق ظاهر الكتاب، كانت النفوس أميل إليه"؛ "البحر المحيط"، (6/ 176).

ترجيح القول على الفعل:
لأن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يفيد الخصوصيَّة ما لم يصحبه قول بالأمر.
فالعلماء رجَّحوا حديث النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة على حديث ابن عمر، قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستدبرًا القبلة مستقبلاً الشام"؛ متفق عليه، واللفظ للبخاري، كتاب الوضوء، باب التبرُّز في البيوت.

ترجيح ما كان عليه عمل أكثر أهل السلف:
لأن الأكثر يوفق للصواب ما لا يوفق له الأقل، كتقديم حديث تكبيرات العيد في الركعة الأولى، وأنها سبع سوى تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمس سواها، على حديث مذهب الحنفيَّة أنها في الأولى خمس، وفي الثانية أربع؛ لعمل الخلفاء الأربعة، وغيرهم على الأول.

ترجيح الدليل الموافق للقياس على آخر مخالف له:

كتقديم حديث جابر عند الدارقطني: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: ((الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء))؛ كتاب الطهارة، باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها.
على حديث الحسن بن دينار عن قتادة، عن أبى المليح، عن أبيه، قال: "كنا نصلِّى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رجل ضرير البصر، فتردَّى في حفرة كانت في المسجد، فضحك ناسٌ من خلفه، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة"، وقال الدارقطني: الحسن بن دينار متروك الحديث"؛ المصدر السابق.
فحديث جابر مقدَّم على الحديث؛ لموافقته للقياس وللمعقول، وما كان معقول المعنى غلب شرعًا.

ترجيح الخبر المقترن برواية راويه قولاً أو فعلاً، دون الآخر:
فيقدم ما فسَّره راويه؛ لأن صحته أوثق، كما في حديث ابن عمر، من طريق نافع عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا تبايع المتبايعان بالبيع، فكل واحد منهما بالخيار من بيعه، ما لم يتفرَّقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار، فقد وجب))، فقد فسَّر نافع راوي الحديث التفرُّق بتفرُّق الأبدان، فقال: "فكان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله، قام فمشى هنيةً، ثم رجع إليه"؛ كتاب البيوع، باب ثبوت خيار المجلس.

رابعًا: الترجيح بين محامل اللفظ الواحد:
من المعلوم أن اللفظ قد يتفق العلماء، أو يختلفون على ما يحمَل، واختلافهم هذا يحتاج إلى معرفة قواعد الترجيح بين المعاني المحتملة للفظ الذي اختلف فيه، وهذه بعض أهم تلك القواعد:
ترجيح الحقيقة على المجاز:
ومثاله ترجيح مذهب أهل السنة والجماعة على المذاهب الضالة في حمل صفات الله - عز وجل - على حقيقتها دون تكييفها، أو تمثيلها، أو تعطيلها.

ترجيح الحقيقة الشرعيَّة على الحقيقة اللغويَّة:
ومثاله حمل الصلاة على الصلاة الشرعية، ذات القيام والركوع والسجود، لا حملها على معناها اللغوي الذي يفيد الدعاء.
وحمل الحج على أداء مناسك الحج، من إحرام وطواف وسعي، دون المعنى اللغوي المفيد للقصد.
تقديم الحمل على المجاز على الحمل على الاشتراك؛ فالمجاز يعمل به، عكس المشترك الذي يحتاج إلى البيان.
ومثاله لفظ "النكاح" في قوله - تعالى -: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ} [النساء: 22]، فإنه مشترك بين الوطء والعقد، ويحتمل أن يكون مجازًا في العقد.
فمن جعله مشتركًا، إما أن يجعله عامًّا فيهما، كالشافعي؛ لعدم التنافر بين المعنيين، وإما أن يتوقف فيه ويطلب البيان من غيره، ومن حمله على العقد مجازًا، جعل عقد الأب على المرأة يحرمها، دون الوطء، والقاعدة تؤيِّده؛ لأن المجاز أولى من الاشتراك.

تقديم المعنى الذي لا يحتاج إلى إضمار على المعنى الذي يحتاج إلى إضمار:
ومثاله حمل الجمهور حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ذكاة الجنين ذكاة أمه))؛ رواه الخمسة، على أن ذكاة أمه تكفي عن ذكاته، والحنفية أضمروا لفظ (مثل)؛ ليكون المعنى: ذكاة الجنين مثل ذكاة أمه.
وترك الإضمار أولى من الإضمار.
تقديم التأسيس على التأكيد:
والتأسيس حمل الزيادة في اللفظ على الزيادة في المعنى، والتأكيد حمل الزيادة على تأكيد المعنى السابق.
مثاله: إذا قال الرجل لزوجته: أنت طالق طالق، فهل يحمل على التأكيد، فلا تقع إلا واحدة، أو على التأسيس، فتقع طلقتان، والقاعدة تؤيِّد الاحتمالَ الثاني عند من لا يعتبر النيَّة.

الترجيح بين المعقولين:
الترجيح بين المعقولين يقابل الترجيح بين المنقولين، والمراد بالمعقولين الأقيسة، وطرق الاستنباط الأخرى من استصلاح، واستصحاب، وغيره، ولكن المقصود هنا الترجيح بين الأقيسة.
وقد ذكر الأصوليون كثيرًا من طُرق الترجيح بين الأقيسة، بعضها يرجع إلى ترجيح حكم الأصل في أحد القياسَين على حكم الأصل الآخر، أو ترجيح دليل حكم الأصل على دليل حكم الأصل الآخر، ثم يزيدون عليها طُرق الترجيح بين العلل. 

ويعد الآمدي من أكثر العلماء إطنابًا في هذا المبحث؛ فقد ذكر في الترجيح العائد إلى حكم الأصل ستة عشر طريقًا، وفي الترجيح العائد إلى العلة خمسة وثلاثين طريقًا، وفي الترجيحات العائدة إلى الفرع أربعة طُرق دون التمثيل لذلك، والذين جاؤوا بعده عيال عليه.
وهذه أهم طرق الترجيح بين الأقيسة: تقديم القياس في معنى الأصل على قياس العلة، وقياس الشَبَه: كتقديم قياس العبد على الأَمَة على قياسه على الحر الذكر في تنصيف الحدِّ؛ لأن القياس الأول قياس في معنى الأصل.

تقديم قياس العلة على قياس الشَبَه، وقياس الطرد: كتقديم قياس البيرة المسكرة على الخمر؛ لعلة الإسكار على قياسها على عصير التفاح؛ للتشابه بينهما في الشكل واللون.

تقديم القياس الذي عِلَّته مطردة منعكسة، على القياس الذي ليس كذلك:
مثاله: تقديم تعليل الشافعي الربا في الأصناف الأربعة المذكورة في الخبر: (البُر، والتمر، والشعير، والملح) بالطعم، على تعليل مَن علله بالكيل: كالحنفية، وأحمد في رواية؛ لأن تعليل الشافعي يشمل القليل والكثير، والتعليل بالكيل لا يَشمل الشيء اليسير الذي لا يُكال.

تقديم القياس الذي علته منصوصة أو مشار إليها، على القياس الذي ليس كذلك:
مثاله: تقديم قياس الشافعيَّة التين على البُر في تحريم التفاضل، بجامع الطعم على قياس غيرهم التين على القَصَب بجامع عدم الكيل، فعلة الطعم منصوص عليها أو مشار إليها؛ كما يقول الشافعيَّة في حديث مسلم عن معمر بن عبدالله: "أنه أرسل غلامه بصاع قمح، فقال: "بعه ثم اشتر به شعيرًا، فذهب الغلام، فأخذ صاعًا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمرًا، أخبره بذلك، فقال له معمر: لِمَ فعلت ذلك، انطلق فردَّه، ولا تأخذنَّ إلا مثلاً بمثل؛ فإني كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الطعام بالطعام، مثلاً بمثل))، قال: وكان طعامنا يومئذ الشعير، قيل له: فإنه ليس بمثله، قال: إني أخاف أن يضارع".

تقديم القياس الذي علته مثبتة على الذي علته نافية: والمثال السابق صالح لهذا المقام؛ لأن علة الطعم مثبتة، وعلة الكيل نافية.
تقديم القياس الذي ثبت حكم أصله بالنص، على الذي ثبت حكم أصله بالظاهر: كتقديم قياس المذي على البول، على قياس المذي على المني في النجاسة؛ لأن نجاسة البول ثابتة بالنص؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - في شأن المعذبين: ((أما أحدهما، فكان لا يستتر من البول))؛ متفق عليه، ولقوله - أيضًا - عند الدارقطني من طريق أنس: ((تنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه))؛ كتاب الطهارة، باب نجاسة البول، والأمر بالتنزه منه، والحكم في بول ما يؤكل لحمه.

أما المني، فنجاسته ثابتة بالظاهر، حيث كانت عائشة - رضي الله عنها - تَحتُّه من ثوب رسول الله إذا كان يابسًا، وتغسله إن كان رطبًا.
تقديم القياس الموافق للأصول الثابتة في الشرع، على ما ليس له إلا أصل واحد: بأن تكون علة أصله على وفق الأصول الممهدة في الشرع، فيرجح على موافقة أصل واحد؛ لأن وجودها في الأصول الكثيرة دليل على قوة اعتبارها في نظر الشرع، فهي أولى.
تقديم القياس الموافق لظاهر للقرآن الكريم، أو السُّنة النبويَّة، أو قول الصحابي على ما ليس كذلك: كقياس الأجير المشترَك على المشتري، أو المستعير في ضمان ما تلف عنده بجامع القبض لمصلحته، على قياسه على المؤتمن في عدم الضمان، والأول متأيد بفعل علي - رضي الله عنه - وسكوت مَن حضر من الصحابة - رضي الله عنهم.


الباب الخامس: الاجتهاد
تعريفه: الاجتهاد في اللغة: بذل غاية الجهد في الوصول إلى أمر من الأمور.
وفي اصطلاح علماء الأصول: بذل الفقيه وسعه في استنباط الأحكام الشرعيَّة العمليَّة من أدلتها التفصيليَّة.

أركان الاجتهاد:
وللاجتهاد ثلاثة أركان هي:

1- المجتهد: وهو الفقيه البالغ العاقل ذو ملكة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مأخذها، وإنما يتمكن من ذلك بشروط سيأتي ذكرها.
2- المجتهَد فيه: وهو الواقعة المطلوب البحث عن حكمها بالنظر والاستنباط؛ لعدم ظهور هذا الحكم في النصوص، أو لتعارض الأدلة فيه ظاهرًا.
3- النظر وبذل الجهد: وهو فعل المجتهد الذي يتوصل به إلى الحكم.

الاجتهاد في عصر الصحابة والتابعين وكبار الأئمة:
في عصر النبوة كان - عليه الصلاة والسلام - هو المرجع والمعول عليه في الفتوى، ومعرفة الأحكام الشرعيَّة؛ لنزول الوحي عليه، ومع ذلك لم يكن باب الاجتهاد موصدًا أمام الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين، فهم "مثلوا الوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله"؛ "إعلام الموقعين"،(1/ 256).

وقد نقل إلينا أكثر اجتهاد الصحابة، ومن ذلك:
• أن ابن عباس كان لا يرى العول في الفرائض خلافًا لأكثر الصحابة الذين قاسوه على ضيق التركة عن سداد الدَّين، وتوزيعها على الغرماء، كل بحسب دَينه، بحيث ينقص ما يأخذه كل منهم بمثل نقص التركة عن مجموع الدَّين.

• اجتهاد الصحابة عندما بعثهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة، وقال: ((لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة)) فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحدا منهم؛ متفق عليه، واللفظ للبخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب، ومخرجه إلى بني قريظة، ومحاصرته إياهم.

وفي عهد التابعين اشتدَّت الحاجة للاجتهاد؛ بسبب كثرة النوازل والمستجدات، واختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى.
فتأثَّر التابعون بالصحابة في استنباطاتهم، فكان أهل العراق يأخذون عن ابن مسعود وعلي، وأهل العراق أكثر تأثُّرا بابن عمر - رضي الله عنهم - أجمعين.
ونشأ على إثر ذلك مدارس: كمدرسة أهل المدينة، ومدرسة أهل الحديث، ومدرسة أهل الرأي.

وفي عهد الأئمة الكبار - كأحمد، ومالك، وأبي حنيفة، والشافعي - وصل الاجتهاد ذروته، فأُسِّست بذلك مذاهب، ووضعت قواعد، وبسطت ضوابط، وأُلِّفت أسفار؛ للإفتاء والفتوى، والاجتهاد، فكان عصر هؤلاء عصرًا رائدًا لا مثيل له في استنباط الأحكام التكليفيَّة العمليَّة من أدلتها التفصيليَّة.

شروط الاجتهاد:
لقد أطنب الأصوليون في شروط الاجتهاد، فمنهم المتشدِّد، ومنهم المتساهل، ومنهم المعتدل.

وإليك هذه الشروطَ:
1- الإسلام: فغير المسلم - ومهما بلغ علمه بعلوم الشريعة - لا يقبل اجتهاده؛ لعدم أمانه؛ لقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100].

2- العقل: فالمجنون وما ضارعه لا يقبل قوله، فكيف يقبل اجتهاده وفتواه؟!

3- البلوغ: فعن عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر))؛ صححه الحاكم، ورواه أبو داود، الحدود، باب في المجنون يسرق، أو يصيب حدًّا.د

4- معرفة نصوص الكتاب والسُّنة: فإن قصر في أحدهما، لم يجز له أن يجتهد، ولا يشترط معرفة جميع الكتاب، بل ما يتعلَّق فيه بالأحكام؛ قال الغزالي، وابن العربي: "وهو مقدار خمسمائة آية".
وقد نازعهم ابن دقيق العيد - أيضًا - وقال: "هو غير منحصر في هذا العدد، بل هو مختلف باختلاف القرائح والأذهان، وما يفتحه الله على عباده من وجوه الاستنباط، ولعلَّهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالةً أوليَّةً بالذات، لا بطريق التضمُّن والالتزام".
وذهب كثير من أهل العلم إلى أنه يلزم أن يكون حافظًا للقرآن؛ لأن الحافظ أضبط لمعانيه من الناظر فيه، وقال آخرون: "لا يلزم أن يحفظ ما فيه من الأمثال والزواجر"؛ "البحر المحيط"، (6/166)، بتصرُّف.

5- معرفة الناسخ والمنسوخ: لأنه لو لم يعلم ذلك، لأفتى بالحكم المنسوخ، فهلك وأهلك.

6- معرفة مواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلافه: ولا يلزم حفظ جميع المواضع التي فيها إجماع، ومواطن الإجماع التي لا شك ورد الإجماع بالنسبة لها هي أصول الفرائض، والمواريث، والعبادات، والمحرَّمات، وغير ذلك من المقرَّرات الإسلاميَّة التي أجمع عليها العلماء.

7- أن يعرف بقية الطرق الموصلة إلى استنباط الحكم الشرعي: من قياس، واستحسان، واستصلاح، واستصحاب، وغيرها، وليعرف بشروط كل طريق وأركانه؛ لأنه مناط الاجتهاد، وأصل الرأي، ومنه يتشعَّب الفقه، ويحتاج إليه في بعض المسائل، فمن لا يعرف ذلك، لا يمكنه الاستنباط.

8- أن يكون عارفًا بلغة العرب: لأن القرآن عربي، ولأن السُّنة المبيِّنة له جاءت بلسان عربي، والقدر الذي يجب معرفته من العربية أن يعرف غالب المستعمل، ولا يشترط التبحُّر، وأن يعرف من النحو ما يصح به التمييز في ظاهر الكلام، كالفاعل، والمفعول، والخافض، والرافع، وما تتفق عليه المعاني في الجمع، والعطف، والخطاب، والكنايات، والوصل، والفصل، ولا يلزم الغوص في دقائقه.

9- أن يكون عارفًا بمراتب الأدلة، وطُرق الجمع بينها، وطُرق الترجيح عند التعارض: ومناط الاجتهاد كله على هذا الشرط، فمن لم يكن له دراية بطرق الجمع والترجيح، ويجهل المتقدم من المتأخر، لم يستطع الاجتهاد، وسيعييه الطريق، ويغلبه المسير.

10- العدالة: وهي ملكة تمنع المجتهد من اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر، فمن ليس عدلاً لا يقبل قوله في شرع الله، فالمجتهد العدل موقع عن الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم.

تجزؤ الاجتهاد:
والمقصود بتجزئة الاجتهاد: أن ينصب العالم على الاجتهاد في باب دون غيره، أو في مسألة دون غيرها من المسائل.

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول - وهو ما ذهب إليه الجمهور -: أن من حصَّل الشروط العامة للاجتهاد - وهي: المعرفة باللغة العربية، وبدلالات الألفاظ، ومباحث أصول الفقه - صح أن يكون مجتهدًا في المسألة المستقلة إن ضبط مآخذها، وكان محيطًا بالنظر في حيثيَّاتها، ولو لم يستطع الاجتهاد في غيرها من المسائل لقصوره عن الإحاطة بأدلتها.

واستدلوا على ذلك بأن أكثر العلماء كانوا يتوقَّفون في بعض المسائل؛ لعدم الإحاطة بأدلتها، مع الإفتاء في غيرها، وليس من شرط المجتهد أن يكون عالِمًا بكل مسألة ترد عليه، فقد سُئِل مالك عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين: لا أدري، وكثيرًا ما يقول الشافعي: لا أدري، وتوقَّف كثير من الصحابة في مسائل، وقال بعضهم: "من أفتى في كل ما سُئِل عنه، فهو مجنون".

القول الثاني: وذهب بعض العلماء إلى القول بعدم تجزؤ الاجتهاد، فالمجتهد هو الذي يستطيع الاجتهاد في كل المسائل، أما الذي يقدر على الاستنباط في البعض فلا يُعد مجتهدًا، وقالوا: "إن ملكة الاجتهاد لا تتجزَّأ"، فمن حصلت له ملكة، فهو مجتهد، ومن لم تحصل له، يتعذَّر عليه، والدليل أن مسائل الفقه متصلٌ بعضُها ببعض.

القول الثالث: وذهب البعض إلى أن الاجتهاد يتجزَّأ بالنسبة للأبواب، لا بالنسبة لمسائل الباب الواحد.
ودليلهم في ذلك أن المسائل داخل الباب الواحد مرتبطة فيما بينها، وأن الأبواب ليست كذلك.
والراجح - والله أعلم - أنه يجوز أن يتجزَّأ الاجتهاد في المسائل التي تكلَّم فيها الفقهاء الأوائل؛ لانحصار أدلتها.
أما مسائل النوازل المستجدَّة، فتحتاج إلى عالم نحرير، أحاط بأدلة الأحكام، عنده ملكة فقهيَّة كاملة في استنباط الأحكام الشرعيَّة.

اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجتهاد الصحابة في عهده:
1- اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم:
ذهب الجمهور إلى أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان ينتظر نزول الوحي عند النازلة، وإذا لم يأته اجتهد، واختلفوا في مسألة: فمنهم من يقول: إنه - عليه السلام - مسدَّد بالحق، لا يمكنه أن يخطئ في اجتهاده، ومنهم من يقول: إنه قد يخطئ في إصابة الحق، لكن الله يصوِّبه، ويبيِّن له الحق.

والقول الأخير هو الراجح؛ للأدلة التالية:
قوله - تعالى -: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43].
قوله - تعالى -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67].
قوله - تعالى -: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 1 - 3].
فهذه الآيات وغيرها، عتابٌ من الله - تعالى - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - على أخطائه.

2- اجتهاد الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -:
اجتهاد الصحابة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - جائز وواقع من الغائب والحاضر إن أذن لهم، وإن كان الأصل أنه لا يجوز للحاضر الاجتهادُ قبل سؤال النبي - عليه السلام - كما لا يجوز الاجتهاد قبل طلب النص، وإذا سأل النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - يجوز أن يكله النبيُّ - عليه السلام - إلى اجتهاده، ولا مانع من ذلك عقلاً ولا شرعًا، وإذا لم يأذن بالاجتهاد، فالواجب الإذعان والكفُّ حتى ينزل الوحي، فيحكم الله ورسوله.

فمثال الإذن بالاجتهاد للصحابة: عدم إنكاره - عليه السلام - على من بعثهم إلى بني قريظة، وقال: ((لا يصلينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة))، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي؛ لم يرد منا ذلك، فذُكِرَ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحدًا منهم))؛ سبق تخريجه.
وأما الدليل على المنع، فقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

المصيب في مسائل الاجتهاد واحد:
هذه المسألة عَنْوَن لها بعضهم بقوله: "هل الحق يتعدد في مسائل الاجتهاد؟".
ومحل النزاع إنما هو في المسائل الاجتهاديَّة العمليَّة، أما المسائل العمليَّة القطعيَّة والمسائل الاعتقاديَّة، فالحق فيها واحد لا يتعدد؛ لأننا نعلم بالضرورة أنها من دين النبي - عليه الصلاة والسلام - كتوحيد الباري - تعالى - وإبقاء أسمائه وصفاته على حالها دون تأويل، ووجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وتحريم الزنا والخمر.
واختلف العلماء في حكم أقوال المجتهدين: هل كل مجتهد مصيب؟ أو المصيب واحد؟

والثاني أرجح مع رفع الإثم عن المخطئ، وهذا مذهب الجمهور، والدليل من وجوه متعددة:
1- عن عمرو بن العاص أنه سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر))؛ متفق عليه.
والشاهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمَّى أحد المجتهدين مصيبًا والثاني مخطئًا.
2- أنه لو كان الجميع مصيبين، لما كان هناك حاجة إلى المناظرة والاستدلال على المخالف.
3- أن الحق واحد لا يتعدد، ولو كان يتعدد، للزم اجتماع الضدَّين في بعض صور الاجتهاد، وهذا محال.
4- إطلاق الصحابة وصف الخطأ على بعض أنواع الاجتهاد، ومن ذلك قول ابن عباس في المرأة التي لم يفرض لها صداق، ولم يجمعها زوجها إليه حتى مات: "سأقول فيها بجهد رأيي، فإن كان صوابًا، فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأً، فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء"؛ رواه النسائي، النكاح، باب إباحة التزوج بغير صداق.

فالأصل أن كل مجتهد مأجور، إما أجرًا واحدًا إن كان مخطئًا، أو أجرين إن كان مصيبًا، وشذَّ عن ذلك الظاهريَّة.
وقد أجمع العلماء على عدم تأثيم المجتهد المخطئ، والدليل على ذلك حديت ابن العاص السابق.

تجديد الاجتهاد وتغيره:
قد يتجدَّد الاجتهاد ويتغيَّر عما كان عليه سابقًا، وهذا التغيُّر مردُّه إلى الأسباب التالية:
1- الاطلاع على دليل لم يكن المجتهد قد اطلع عليه سابقًا.
2- التنبه إلى دلالة دليل على الحكم، لم يكن المجتهد قد تنبَّه لها قبل ذلك، وقد يكون هذا التنبُّه من المجتهد نفسه، وقد يكون من مجتهد آخر.
3- تغير الاجتهاد والفتوى واختلافها بحسب تغيُّر الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والنيَّات، والأعراف.
4- تغيُّر المصالح والمفاسد المترتبة على الفعل، فقد يترتب على الفعل مصلحة أو مفسدة في وقت من الأوقات، فيفتى بذلك، ثم يتغيَّر الحال، فتتغيَّر الفتوى.
5- عدم تحقُّق المناط في الواقعة الجديدة؛ إما لفوات الشرط، أو وجود المانع؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى أن تقطع الأيدي في الغزو"؛ رواه أبو داود، فهذا حدٌّ من حدود الله - تعالى - وقد نُهي عن إقامته في الغزو؛ خشيةَ أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، من لحوق صاحبه بالمشركين حميةً وغضبًا، كما قاله عمر، وأبو الدرداء، وحذيفة، وغيرهم، وقد نص أحمد، وإسحاق بن راهويه، والأوزاعي، وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تُقام في أرض العدو، وذكرها أبو القاسم الخرقي في "مختصره"، فقال: "لا يقام الحدُّ على مسلم في أرض العدو"؛ "إعلام الموقعين"، تغير الفتوى واختلافها، فصل النهي عن قطع الأيدي في الغزو.

القواعد المبنية على تغير الاجتهاد:
ينبني على تغيُّر الاجتهاد القواعدُ الأصولية التالية:

1- الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد: وهذه القاعدة تفيد أن المجتهد إذا اجتهد، ثم تغيَّر اجتهاده، فإنه لا ينقض اجتهاده السابق.

2-
الاجتهاد ينقض إذا خالَف نصًّا صريحًا، أو خالف إجماعًا صريحًا، ولا فرق بين أن يكون النص قطعيَّ الثبوت أو ظني الثبوت، إلا أنه لو كان النص ظني الثبوت، يشترط لنقض الاجتهاد به ألا يعارضه نص آخر يماثله، فإن وقع فلا نقض.

3- هل يلزم المجتهد إخبار من أفتاه بتغيُّر اجتهاده؟
اختلف العلماء في ذلك، والأكثر على أنه لا يلزمه، وقيل: يلزمه، وهو الراجح؛ لأنه من النصح لعامة المسلمين، ومن التعاون على البر والتقوى المأمور به في قوله - تعالى -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].

وقد أفتى ابن مسعود بجواز نكاح أم الزوجة إذا لم يدخل بها، فأخبره الصحابة بتحريم ذلك، فرجع إلى الحي الذي فيه المستفتي، وسأل عنه وأخبره بخطأ الفتوى.
4- لا ينكر تغيُّر الفتوى بتغيُّر الأزمان؛ فتغير الأحكام لتغير الأزمان أو الأحوال لا يغير من الحكم الشرعي، وإنما تخلف تعلقه بالصورة المشابهة في الظاهر للصورة السابقة؛ لعدم تحقق المناط، حيث كان موجودًا في الصورة السابقة وغير موجود في الصورة اللاحقة.

مثال ذلك: حكم النفقة للزوجة، فقد كان يقدر بشيء يسير من الطعام واللباس؛ لتعارف الناس عليه، وفي هذا الوقت لم يعد كافيًا، وكذلك السُّكنى، فإن الشرع لم يحدد نوع البيت الذي يجب أن يوفره الزوج للزوجة، وإنما ترك ذلك للعُرْف ولقدرة الزوج ويسره أو عسره، فهذا الحكم لم يتغيَّر، ولكنه جاء في صورة قاعدة عامة، يُترك تطبيقها للقضاة عند التخاصم، والمعتمد في تحديدها عرفُ أهل البلد وعاداتهم؛ ولهذا فقد يكون البيت الشرعي في عصر أو بلد غرفة واحدة، وفي بلد آخر مُكَوَّنًا مما لا يقل عن أربع غُرَف مع مرافقها.

الباب السادس: التقليد
تعريفه:

التقليد لغةً: مأخوذ من القلادة التي يقلد غيره بها، وفي الاصطلاح اختلف العلماء في تعريفه، وانبنى على هذا الاختلاف اختلافهم في حكمه؛ فقد عرَّفه البعض: قبول قول الغير من غير حُجَّة.

وهذا التعريف ذكره جماعة أمثال: الغزالي، وابن قُدَامة، والآمدي، وابن الحاجب، والشوكاني، وغيرهم.
وهذا التعريف يتضمَّن إشكالاً، وهو قولهم: "من غير حجة"، هل يقصد به أن القبول لا حجة عليه؟ أو أن القول نفسه ليس عليه حجة؟
فإن أريد أن القبول لا حجة عليه، لزم عدم اتِّباع العامي للعالم؛ لأن ذلك قد قامت حجته، وهي قوله - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، والإجماع على وجوب سؤال العامي للعالم.

وإن أرادوا أن القول هو الذي لا حجة عليه، فهذا مشكل؛ إذ اتفق العلماء على عدم الأخذ بالقول الذي لا دليل عليه ولا حجة.
والفريق الثاني: عرَّفوا التقليد بقولهم: "قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أين قاله: أمِن كتاب؟ أم سُنَّة؟ أم قياس؟ أم أخذ مذهب الغير من غير معرفة دليله؟".
وقد ذهب إلى هذا القولِ القفالُ، والشاشي، والمرداوي، وابن النجار؛ انظر: "البحر المحيط"، (6/ 270).

ويَرِد على التعريف الثاني اعتراضٌ، وهو: هل يخرج الإنسان من مرتبة التقليد إذا عرف دليل المسألة؟
والظاهر أنه لا يخرج؛ لهذا يجب أن يزيدوا قيدًا حتى يصدق اسم المقلد على من لا يعرف رجحان الدليل، وهذا القيد: هو أخذ مذهب الغير من غير معرفة رجحان دليله.
وهنا يلزم التمييز بين العامي الصرف الذي لا يفقه الدليل إذا تُلي عليه، والمتعلم الذي يمكنه معرفة الأدلة ووجه دلالتها؛ لكنه لا قدرة له على الترجيح بينها؛ فالأول مقلد والثاني متبع.

أركان التقليد:
للتقليد ثلاثة أركان، إليكها:

1- المقلِّد.
2- المقلَّد.
3- المقلَّد فيه.

فالأول هو العامي، والثاني هو المجتهد، والثالث هو الحكم المأخوذ من المجتهد بطريق التقليد.

حكم التقليد:
تكلَّم الأصوليون في حكم التقليد، واختلفوا بين التقليد في الأصول، والتقليد في الفروع؛ وسبب اختلافهم عدم الاتفاق على تعريف التقليد.
• فأصحاب التعريف الأول القائلون بأن التقليد: هو قبول قول الغير من غير حجة، قصدوا أن المقلد فيه (الدليل) لا حجة عليه، فذهبوا إلى تحريم التقليد الذي لا يُبنى على دليل، وهو مذهب الشوكاني، وابن القَيِّم، وابن حزم.
وهذا لا يعني بالضرورة عدم سؤال العامي للعالم، لكن إذا سأل، لزمه أخذ الفتوى مع دليلها.
وذهب ابن حزم أن السائل الذي يأخذ الفتوى المبنية على دليل، لا يُسمَّى مقلدًا؛ بل يُسمَّى متبعًا.
وأما ابن القَيِّم، والشوكاني، فقد اتَّجه ذمهما للتقليد إلى ما يفعله أتباع المذاهب من الفقهاء الذين يتَّبعون مذاهب أئمتهم ولو تبيَّن لهم أن الدليل قام على خلافها؛ فلهذا حرَّموا التقليد، وشنَّعوا على من أجازه.
ونقل الشوكاني: "أن مذهب جماهير العلماء تحريمه"؛ "إرشاد الفحول" (247).

• أما الفريق الثاني الذين عرَّفوا التقليد بأنه: قبول قول الغير من غير معرفة الدليل، فإنهم فرَّقوا بين التقليد في الأصول والتقليد في الفروع؛ فمنعوا الأول، وأجازوا الثاني.

وهذا بيان الخلاف المذكور في المسألتين:
التقليد في الأصول: المراد بالأصول: الدعائم التي يدخل بها الإنسان إلى الإسلام، وهي أركان الإيمان بالله، وعبادته، والإقرار بصدق رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم.
فهذه هي الأصول التي قال العلماء بمنع التقليد فيها، وإنها يجب على المعتقد النظرُ في الأدلة الدافعة للشُّبه، واستدلوا على ذلك بالآيات التي فيها ذم للتقليد، ومن ذلك قوله - تعالى -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وذمه - سبحانه - للمشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
وحملوا هذه الآيات على ذم التقليد في أصول الإيمان.

واستدلوا بدليل عقلي: إما أن يكون المقلد شاكًّا في صدق مَن قلَّده، فإن كان كذلك، فلا يصح إيمانٌ مع شك، وإن كان متيقنًا، فإما أن يكون بناءً على نظر واستدلال، أو بناءً على ثقته بمن يقلد، فإن كان بناءً على نظر، فقد استدل، وإن كان بناءً على ثقته بمن قلَّده، فهو كالنصراني المقلد للراهب والقس.
فالمسلم المتعلم يجب عليه أن يعرف ويتعلم أصول الاعتقاد من القرآن، وصحيح السُّنة، أما العامي غير المتعلم فإيمانه صحيح إذا لم يقدر على تعلُّم هذه الأصول - وإن كان الواجب عليه البحث والسؤال - وإذا لم يخالطه شك في تصديقه.
وقد خالف في ذلك الأشاعرة حينما قالوا بعدم صحة إيمان العوام، وهذا النقل لا يصح.

التقليد في الفروع:
ويقصد بالفروع: ما ليس من الأصول التي تدخل إلى الإسلام.
فيدخل فيها بعض مسائل الاعتقاد، ومسائل أصول الفقه والفقه، وقد اختلفوا في جواز التقليد في تلك الفروع.
فمذهب الجمهور جواز التقليد فيها، واستدلوا بقوله - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وما أخرجه الشيخان من طريق أبي هريرة: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: اقضِ بيننا بكتاب الله، وقال الآخر - وهو أفقههما -: أَجَل يا رسول الله، فاقض بيننا بكتاب الله، وأْذَنْ لي أن أتكلَّم، قال: ((تكلَّم))، قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا - قال مالك: والعسيف: الأجير - فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم، فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرَّجم على امرأته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمُك وجاريتك، فردٌّ عليك))، وجلد ابنه مائة، وغرَّبه عامًا، وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت رجمها، فاعترفتْ فرجمها"، فلم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم - سؤاله لأهل العلم.

وقوله - عليه السلام - فيما أخرجه أبو داود من طريق جابر، قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً مِنَّا حجرٌ، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصةً في التيمُّم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصةً، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بذلك، فقال: ((قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمَّم، ويعصر، أو يعصب - شكَّ موسى - على جرحه خرقًة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده))؛ كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمَّم.
والشاهد قوله - عليه السلام -: ((ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال)).

ومنع من التقليد في الفروع الشوكاني، وابن حزم، وكاد هذا الأخير يدعي الإجماع على النهي عن التقليد، ومنعهم مردُّه إلى تعريفهم للحديث.
ومن منكري التقليد مَن منع التقليد الذي يأتي بمعنى: الالتزام بمذهب معين دون البحث عن دليله، ودليلهم في ذلك أن هذا تعصُّبٌ للمذهب الواحد الذي لم يعرف عند الرعيل الأول من الصحابة.

ويجاب عليه أن عدم اشتهار التمذهب في الصدر الأول من الإسلام لا يدل على تحريمه، وأيضًا فإن المفتين في هذه الحقبة لم تكن لهم مذاهبُ معروفةٌ في جميع المسائل والفروع.
والتمذهب بمذهب صحيح موافق للمنقول، ليس عيبًا؛ بل العيب هو التعصُّب للمذهب مع ترك الدليل الراجح.

ولا ريب أن مثل هذا مخالفٌ لما عليه المحققون من أصحاب المذاهب، ومثاله تقليد العامة لبعض متأخري المالكيَّة في سدل اليدين في الصلاة، وهذا تعصُّب للمذهب مع ترك دليل القبض المجمع على صحته، والمتفق عليه بين المذاهب بما فيها المالكيَّة أنفسهم، فهذا الإمام مالك في "الموطَّأ" عقد بابًا سماه "باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة"، وجمع تحته حديثين.

منها ما أخرجه من طريق أبي المخارق البصري، أنه قال: "من كلام النبوة: إذا لم تستحِ، فافعل ما شئت، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة، يضع اليمنى على اليسرى، وتعجيل الفطر، والاستيناء بالسحور"؛ كتاب النداء للصلاة، وله حكم المرفوع.
وهذا محمد الخرشي المالكي في "مختصر الخليل"، قال في الوضع: إن له "أصلاً في السنة"، (3/ 418).

وذاك سحنون من كبار المالكية، عن ابن وهب، عن سفيان الثوري، عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنهم رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعًا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة"؛ المدونة، كتاب الصلاة الأول، الاعتماد في الصلاة والاتكاء ووضع اليد على اليد.

وقال ابن عبد البر: "لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلاف، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين"؛ "سبل السلام"، (2/ 95).
والأهم أن الناس على ثلاثة ضروب في التقليد: عامي، وعالم لم يبلغ رتبة الاجتهاد، ومجتهد.

أحدها: العامي الصرف: والجمهور على أنه يجوز له الاستفتاء، ويجب عليه التقليد في فروع الشريعة جميعها، ولا ينفعه ما عنده من علوم لا تؤدي إلى اجتهاد، وحكى ابن عبدالبر فيه الإجماع، ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم مرادون بقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، قال: "وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره في القبلة".

ومنع منه بعض المعتزلة، وقالوا: إن التقليد في الفروع كالتقليد في الأصول، ويجب عليه الوقوف على دليل الحكم وعلته، ولا يرجع إلى العالم، إلا لتنبيهه على أصولها، ونقَلَ القاضي عبدُالوهاب عن الجعفر بن مبشر وابن حرب مثل ذلك.

الثاني: العالم الذي حصَّل بعض العلوم المعتبرة، ولم يبلغ رتبة الاجتهاد: فاختار ابن الحاجب وغيره أنه كالعامي الصرف؛ لعجزه عن الاجتهاد.
وقال قوم: لا يجوز ذلك، ويجب عليه معرفة الحكم بطريقه.
وما أطلقوه من إلحاقه هنا بالعامي فيه نظر.

قال ابن المنير: والمختار أنهم مجتهدون ملتزمون ألا يحدثوا مذهبًا، أما كونهم مجتهدين؛ فلأن الأوصاف قائمة بهم، وأما كونهم ملتزمين ألا يحدثوا مذهبًا؛ فلأن إحداث مذهب زائد، بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين، متعذر الوجود؛ لاستيعاب المتقدمين سائر الأساليب.
والراجح: لا يمتنع عليهم تقليد إمام في قاعدة، إذا ظهر له صحة مذهب غير إمامه في واقعة لم يجز له أن يقلد إمامه، لكن وقوع ذلك مستبعد؛ لكمال نظر من قبله؛ البحر المحيط، بتصرف.

الثالث: تقليد المجتهد لمجتهد آخر: وهو مختلف فيه على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: عدم جواز التقليد للمجتهد مطلقًا، وهو مذهب الجمهور، وأدلتهم:
1- حديث: ((دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك))؛ رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد.
والشاهد أن ما يفتي به المجتهد الآخر مما يرتاب فيه المجتهد.
2- أن التقليد إنما هو إذنٌ للعاجز عن الاجتهاد، ويشمل القادر على الاجتهاد.

المذهب الثاني: لا يجوز له التقليد إلا إذا ضاق عليه الوقت، وحضر وقت العمل، ولم يتبيَّن له رأي، وهو مذهب الإمام ابن تيميَّة، ودليله:

1- أنه إذا لم يتمكن من الوصول إلى الحكم لضيق الوقت، فهو بمنزلة العامي الذي يجوز له التقليد؛ لعدم علمه.

المذهب الثالث: جواز تقليد المجتهد للأعلم منه، وهو مذهب الإمام محمد بن الحسن الشيباني، وحجته أن العالم مع من أعلم منه كالعامي مع العالم.

وهنا أقوال أخرى، منها: أن الصحابة هم الذين يقلَّدون؛ لأنهم قد نالوا رتبة الاجتهاد، وهم بالصحبة يزدادون رفعةً.
وهذا هو الصحيح إن علم دليله.

وقد قال الشيخ عز الدين في فتاواه: "إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام، لم تجز مخالفتُه إلا بدليل أوضح من دليله"؛ المصدر السابق.
والراجح القول الثاني: وهو جواز تقليد المجتهد للآخر، إذا ضاق الوقت، أو نظر ولم يجد حكمًا للمسألة التي أراد أن يعمل بها هو دون سواه، أما إذا سُئِل عن الواقعة، فليس له أن يفتي تقليدًا؛ بل يدل السائل إلى من هو أعلم منه، أو ينقل له الفتوى.

سؤال العامي من شاء من المفتين:
يجوز للعامي أن يسأل من شاء، وعند أكثر العلماء له أن يسأل الأعلم والأتقى مع وجود العالم؛ لأنه انعقد إجماع الصحابة على ذلك، فلم يُعهدْ عن أحدٍ من الصحابة أنه كان لا يُفتي مع وجود الأفضل منه في البلدة.

موقف المستفتي من اختلاف المفتين:
الواجب على العامي المستفتي إذا تعارضت لديه الفتاوى، أن يأخذ بفتوى من عرف علمه وعدالته، فإن تساووا أخذ بفتوى الأتقى، فإن لم يعلمه سأل عنه، ثم يأخذ بعد ذلك ممن يغلب على ظنه أنه الأعلم أو الأتقى.
ويجوز للعامي أن يطالب العالم بدليل الجواب؛ لأجل احتياطه لنفسه.
ويلزم العالم أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعًا به؛ لإشرافه على العلم بصحته.
ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعًا به؛ لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه فَهْم العامي.

تقليد الميت:
اختلف العلماء في تقليد الميت على أقوال:

القول الأول: يجوز تقليد الميت؛ لبقاء قوله، وهذا ما ذهب إليه الجمهور، قال الشافعي: (المذاهب لا تموت أربابها)؛ "حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع"، (6/ 26).
ودليل الجمهور في جواز تقليد الميت:
1- القياس على شهادة الشاهد إذا مات قبل الحكم بها.
2- تقليد الميت ضرورةً؛ لأنا لو لم نجوِّزه لأدَّى إلى حيرة الناس؛ لعدم وجود المجتهد المطلق.

القول الثاني: المنع من تقليد الميت مطلقًا، وهو مذهب الرازي، وبعض المعتزلة، وقول الشيعة.
ودليل هذا المذهب:
1- الميت لا يعتد بقوله في الإجماع، ولو كان لقوله بقاء لم ينعقد الإجماع؛ لبقاء المخالف.
2- أن تجديد الاجتهاد واجب، والميت لا يمكن أن يجدِّد اجتهادَه.
3- أن الفتوى تتغيَّر بتغيُّر الأزمنة، فما كان مفسدةً في وقت قد يكون مصلحةً في غيره، وما كان مصلحةً في وقت قد يعد مفسدةً في غيره، ولا يمكن تقدير ذلك إلا للأحياء.

وفصل الخطاب أنه يجوز تقليد المجتهدين الأموات من أصحاب المذاهب المعتمدة في المسائل المعروفة المجتهد فيها، وخاصةً إذا غلب على الظن أن تغير العصور لا مدخل له في تغير اجتهاداتهم.
وهذا الفصل خاص بالمسائل المجتهد فيها، أما النوازل والمستجدات - التي لا أصل لها - فالأصل فيها وجوب البحث عن أحكام لها.

التلفيق:
التعريف:

يطلق التلفيق عند العلماء ويراد به: الإتيان في مسألة واحدة بكيفيَّة لا توافق قول أحد من المجتهدين السابقين.
ومثاله: "إذا نكح بلا ولي تقليدًا لأبي حنيفة، أو بلا شهود تقليدًا لمالك ووطئ، فإنه لا يحد، فلو نكح بلا ولي ولا شهود - أيضًا - حد كما قاله الرافعي؛ لأن الإمامين قد اتفقا على البطلان"؛ "حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع"، الكتاب السادس في الاجتهاد، مسألة يجوز للقادر على التفريع والترجيح، وإن لم يكن مجتهدًا، (6/ 30).
فهذا النكاح لا يصح؛ لكونه خالف المدون عند المذهبين.

ومنه أيضًا: "من توضَّأ ومسح بعض الرأس على مذهب الشافعي، ثم صلَّى بعد لمس مجرد عن الشهوة عند مالك على عدم النقض"؛ المصدر السابق.
فهذه الصلاة لا تصح على مذهب مالك؛ لعدم مسح سائر الرأس، ولا على مذهب الشافعي؛ لكون الوضوء عنده قد انتقض بلمس المرأة، سواء بشهوة أو بدونها.

ويطلق التلفيق عند بعض العلماء على أخذ المقلد مسألةً على مذهب إمام، وفي مسألة أخرى على مذهب إمام آخر، حتى ولم يكن بين المسألتين تلازُمٌ.
ومثاله: أن يقلد المرء الإمام مالك في الصلاة، ويقلد الإمام الشافعي في الوضوء.
وهذا القول لا يمكن منعه، إلا على من يوجب على المقلد الالتزام بمذهب واحد في جميع عباداته.

أما التلفيق بمعناه الأول، وهو: "الإتيان في مسألة واحدة بكيفية لا توافق قول أحد من المجتهدين السابقين"، فقد اختلف في جوازه، وهو قد يقع من المقلد بقصد أو بغير قصد.

فإن وقع بغير قصد: فلا ريب في جوازه؛ للإجماع على أن له أن يعمل برأي من استفتاه، ولا مانع أن يستفتي شافعيًّا في الوضوء، ويستفتي مالكيًّا في نقض الوضوء، ثم يصلِّي بوضوء لم يعمم فيه مسح الرأس، وقد مس امرأة أجنبيَّة عنه.
أما إن وقع التلفيق بالقصد، فإما أن يحصل من مجتهد أو من مقلد، فإن كان من مجتهد، فيفرق بين أمرين:
الأول: إن كان يرى رجحان قول جديد مطلقًا، ففتواه صحيحة بهذا القول الراجح.
الثاني: إن كان لا يرى رجحان قول جديد، ففتواه باطلة.

أما إن حصل التلفيق المقصود من مقلد، فلا يصح لعلة مخالفته للنصوص الشرعيَّة من حيث لا يدري؛ ولأن عمل المقلد بقول جديد من غير استفتاء عمل بالهوى والتشهِّي، وهذا منافٍ للتديُّن الصحيح.

وقد اشترط العلماء لصحة التلفيق ما يلي:
• ألا يخالف نصًّا من الكتاب أو السنة أو يخالف إجماعًا.
• ألا يكون بقصد التحلُّل من عهدة التكليف.

تتبع الرخص:
يقصد بتتبُّع الرخص: الأخذ بأخف الأقوال في المسائل الخلافيَّة.
وهذا العمل قد يحصل من مجتهد أو من مقلد.
فالحاصل من المجتهد لا يصح حتى يؤديه اجتهاده إلى رجحان رخصة أخف من سابقها.

وأما من المقلد، فقد أجازه طائفة، ومنعته أخرى، فمن أجاز تتبع الرخص للمقلد، اشترطوا في هذا الأخير أن يكون له علم بالمذاهب، ومن منعوا عنه ذلك استدلوا بأن فرْضَ المقلد سؤالُ أهل العلم؛ لقوله - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ولأن تتبع الرخص يؤدي إلى التحلُّل من عهدة التكاليف الشرعيَّة؛ لهذا قال بعض العلماء: من تتبع الرخص، فقد تزندق.

ومن ذلك قول الإمام أحمد: "لو أن رجلاً عمل بكل رخصة، بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقًا"؛ "البحر المحيط"، (8/ 271).

ومن كان ديدنه تتبع الرخص، فهو آخذ بنوادر العلماء، وفي "السنن" للبيهقي عن الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام" (ج10/211).
أما مقلِّد المذهب: هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها؟

فالجواب الفيصل أنه: يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء من غير تَلَقُّط الرخص، ولا تعمُّد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك.

قال الإمام الزركشي في "البحر": "فأما العامي إذا قلد في ذلك، فلا يفسق؛ لأنه قلد من يسوغ اجتهاده"، (8/ 270).




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص أول)
  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص ثالث)
  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص خامس)
  • علم فقه الحديث
  • زاد العقول شرح سلم الوصول (1/ 17)
  • الفقه الميسر (كتاب الطهارة – باب المياه)

مختارات من الشبكة

  • المقدمات في أصول الفقه: دراسة تأصيلية لمبادئ علم أصول الفقه (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (3) علم أصول الفقه علم إسلامي خالص(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (1) علم أصول الفقه يجمع بين العقل والنقل (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • من قضايا أصول النحو عن علماء أصول الفقه (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • المصنف الفريد في علم أصول الفقه في ثوبه الجديد لعبدالحكيم مالك(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من قضايا أصول النحو عند علماء أصول الفقه (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تلخيص كتاب أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تلخيص كتاب أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
8- تشكرون على المجهود
مصطفى ملين - المغرب 06-07-2021 11:38 PM

شكر الله لكم على هذا التلخيص الرائع..

7- أرجو المساعدة
أروى - السعودية 26-02-2014 03:57 PM

السلام عليكم
ملخصك جميل وتشكر عليه
لكن أريد ان أستفسر عن الكتب التي تتكلم عن شروط التكليف عند الأصوليين وأثره في القواعد الفقهية
أرجو المساعدة فأنا بحاجة ماسة لهذه الكتب
وشكرا

6- شكرا لك ولأهل الألوكة الكرام
gehad ahmed - مصر 24-12-2013 02:15 PM

من الواضح أن هذه الشبكة من الشبكات القيمة التى يثق فيها المسلم
بارك الله فيكم
زادك الله عزا وعلما أخي الكريم

5- شكر
هيوا محمد كريم - كوردستان 07-11-2013 02:14 AM

اشكرك على هذا الموضوع الجيد شكرا جزيلا .

4- شكرا
ام عبدالرحمن - اليمن 03-05-2012 08:52 AM

شكرا لكم على هذه افادة والموضوعات القيمة التي لا نجدها في كثير من المواقع ولقد استفدت حقا وكنت أتمنى أن تذكروا أحكام الجاهل هل هو معذور عند ارتكابه المحرمات أم لا أتمنى الافادة, وبارك الله فيكم وجزاكم خيرا

3- جزاك الله خيرا
أميرة خريشي - فلسطين 27-01-2012 10:08 PM

جزيت كل خير على هذا التلخيص الرائع.. عندي امتحان غدا في أصول الفقه وأردت أن أقرأ شيئا سريعا ألخص فيه المادة فوجدت هذه المادة بفضل الله.. مثالية ومختصرة ورائعة.. جعلها الله في ميزان حسناتك وميزان المؤلف..ولا يحرمنا الأجر بإذن الله...
لقد وجدت هذا العلم من أمتع العلوم وأدعو الله أن أستزيد منه ..دعواتكم لي أيها الأخوة..بالعلم النافع والتثبيت

2- جهد مشكور
أبو عاصم البركاتي المصري - مصر 19-01-2012 04:00 PM

شكرا على هذا العمل والتلخيص الممتاز

1- هذا من فضل ربى
شمس - مصر 12-03-2010 12:06 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا من فضل رب
جزاك الله خيرا اخى عبد الحكيم
وجعل تلخيصك لهذا الكتاب القيم
فى ميزان حسناتك
وهنيئا لك الفوز
بعد جهدك الكبير فيما بذلتموه
وبارك لأهل الألوكة الكرم
فيما يقدمونه لنا من كتب دسمة
مليئة بالعلم النافع
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب