الوقاية قبل العلاج

الوقاية قبل العلاج

اعتاد بعض الناس على التمهل وطول التبصر في بعض المشاكل، ليس عجزًا أمامها، ولكن في سبيل مواجهتها من خلال مجموعة من الحلول لمعالجة ما خلفته وتخلفه هذه المشكلة أو تلك، وهنا تكمن المشكلة في حل المشكلات..إذ يغفُلُ البعض البحث عن جذور هذه المشكلات لاقتلاعها من المجتمع، ويشغَلون أنفسهم في البحث عن سبل العلاج.

مشكلة المخدرات اليوم في العالم من العمق والصعوبة بحيث إنها أصبحت تهدد مجتمعات غربية وشرقية متكاملة برجالها وأطفالها ونسائها وشبابها، تسربت المشكلة إلى المدارس الابتدائية، أدخلت في الحلوى وفي الزهور وفي أدوات الزينة والتزين، لم يترك المروجون وسيلة خداع لسلطات الأمن إلا اتبعوها، وهم بصدد خداع الكلاب التي تدرب على كشف المخدر أينما كان، هناك صناعة على مستوى عالٍ تهتم بسبل خداع الآخرين، ليست المشكلة مقتصرة على أفراد من أبناء مجتمع ما انحرفوا عن الطريق، هناك ما يسمى بالجريمة المنظمة التي تتبنى الترويج، في مجتمعات تعيش حروبًا طاحنة ضحيتها الأبرياء من الناس، في وقت لا يمكن أن تصل شظية طائشة حقلًا من حقول المخدرات، وانظروا إن شئتم المجتمع السياسي في بعض دول جنوب ووسط أمريكا وأماكن أخرى من العالم تجدون أن بعضًا من الرجال ناشطين يقفون وقفات واضحة لحماية حقول المخدرات التي تشغل حيزًا غير يسير من مساحة البلاد، حتى فكرت بعض البلاد التي تضررت من هذه الحقول بإبدال مخدراتها بمحصولات تنفع الناس والأنعام من الحبوب والخضر والفواكه، ولكن ما ينفع الناس قليل المكسب لدى هؤلاء السماسرة ممن باعوا مع المخدرات ضمائرهم وسعادتهم، فكانت لهم من المصائب ما لا يستطيعون لها صمودًا فأنفقوا فيها ما كسبوه من حقول المخدرات، والله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل.

إذًا فمشكلة المخدرات في تلك البلدان أن هناك مَن يحميها ومن يملِك القوة في حمايتها، ومن هنا يجب أن يبدأ التفكير في اقتلاع هذه المشكلة من جذورها، قد يتصور المرء أن هناك أسلوبًا سحريًّا يمكن أن يعين في القضاء على هذه المشكلة كما تقضي الطائرات "الزراعية" على الجراد من خلال رشها بالمبيدات، وكذا مزارع المخدرات يمكن أن ترش من الطائرات بمحلول يصيرها إلى هشيم تذروه الرياح، ولكن هذا توقع نظري.

ولأن وضع المخدرات على هذه الشاكلة يتعين أن ينظر إلى المشكلة على أنها لن تحل بين يوم وليلة؛ فالأمر هنا يعود إلى القنوات النظامية في الهيئات الدولية التي يقع على عاتقها حماية المجتمع العالمي من الآفات التي تصيبه ويعاني منها، فالمفترض في اليونسكو أن تقضي على الجهل عند الأمم، والمفترض في اليونيسيف أن تهتم بالطفل والجوانب الصحية فيه، والمفترض في الفاو أن تعالج القضايا الزراعية وهكذا، ولا بد من أن تهتم منظمة أو أكثر من هذه المنظمات مسنودة من مجلس الأمن ومن الحكومات الأخرى في سبيل شن حملة عالمية ضد هذا الوباء الشامل.

وبعض الحكومات أصدرت ونفذت العقوبات الصارمة ضد فئة المروجين، وهذه قرارات حكيمة تحمي تلك البلدان من الترويج في الداخل، ولكنها قد لا تستطيع - بحكم الأنظمة الدولية - أن تلاحق المروجين من الخارج، أولئكم الذين يمونون المروجين الصغار.. كما اتجهت المجتمعات التي تريد حماية نفسها من هذا البلاء إلى إنشاء مؤسسات تعنى بالعلاج في وقت يوجد فيه بعض من ابتلوا بالتعاطي والإدمان.

وإذا كانت الإفادة من تجارب الآخرين واردة إلا أن حلولًا وضعت لبعض المجتمعات لا ينتظر منها بالضرورة أن تكون قابلة للتطبيق في جميع المجتمعات؛ نظرًا للتفاوت في النظرة إلى الحياة بشكل عام، أولئك يبحثون كثيرًا في العلاج على حساب الوقاية، ونحن بحكم الدين لسنا بأية حال وعلينا التركيز على هذا والدعوة إليه، وإن التعاليم عندنا لا تتهاون في الحكم على كل من يهدد أمن واستقرار المجتمع بأي شكل من أنواع التهديد، وأن الموضوع في هذه التعاليم تقويم لا يدع مجالًا للمناظرة أو النقاش حول تطبيق حكم أقل صرامة من حكم آخر؛ لأن فضائلَ تطبيق أحكام الله لا حصر لها في اجتثاث الجريمة من المجتمع، وذلك سلوك غير سوي.

ثم تأتي بعد ذلكم حملات التوعية على جميع المستويات، تبدأ في المسجد فالمدرسة فالبيت فالصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون والمحاضرات والندوات والمنشورات والتحذيرات، وغيرها من الأساليب التي تبين للناس خطر المخدرات، وتؤكد لهم أن بلادهم عازمة من خلال قيادتها على حمايتهم وحماية الأجيال القادمة من الوقوع في هذا الداء، وأن هذا الأمر أصبح اليوم من أوليات اهتمامات الدولة.

وقد يتصور البعض أن الاتفاق الدولي من خلال المنظمات والهيئات الدولية غير متحقق الآن في عالم الواقع، ولكن هذا التصور يحتاج إلى التعديل؛ لأن الأمر هنا لا يصطدم بأي ثقافة ترفضه، كما قد يُفرض أسلوب ثقافي على حساب ثقافات أخرى وهو لا يحتاج إلى مزيد من التضحيات في الأنفس والأموال؛ فالأموال التي تنفق على المخدرات والضحايا التي تسقط نتيجة الإدمان أكثر بكثير مما ينفق على بعض مستلزمات الحياة اليومية، ولعل ما يَزيد الأمر سوءًا في كثير من الدول الصناعية التي ابتُليت بتفشي المخدرات أن الضحايا قد تبقى في أجسامها حين تذهب عقولها، فتكون عالة على المجتمع، تقام لها المؤسسات والمصحات والبيوت الخاصة، وعليه فلا بد من النظر إلى القضاء على المشكلة على أن فيه توفيرًا ماليًّا وبشريًّا للأمم، وستفقد الكثير إن لم تعمد إليه، هذا بالإضافة إلى أن هناك اتفاقًا دوليًّا على خطر المخدرات على العالم كافة، ولعل لقاء فيينا في العام المنصرم 1407 - 1987م يعتبر خطوة إيجابية في تحديد سياسة موحدة للقضاء عليه، ولن يقف في طريق هذا المشروع إلا ذوو المصالح الذاتية المؤقتة في تلك الدول التي تشجع زراعة هذا البلاء، وهي لا تتعدى مجرد الطمع في الكسب الحرام حينما يكون هؤلاء أسرى الشيطان يصرفهم كيفما يريد.

وإن المرء ليتطلع إلى اليوم الذي يرى فيه المجتمعات البشرية وقد اجتثت من واقعها داء المخدرات، وكان الله في عون الجميع!

الجزيرة - العدد 5784. السبت 17 ذو الحجة 1408هـ - 30 يوليو 1988.