• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مواقع المشرفين   مواقع المشايخ والعلماء  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    خطبة (المرض والتداوي)
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    تحية الإسلام الخالدة
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    آداب التلاوة وأثرها في الانتفاع بالقرآن الكريم
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    الأحاديث الطوال (22) حديث أم زرع
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    أمثال القرآن: حكم وبيان (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    خطبة .. من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    نتائج بحث بلوغ المرام في قصة ظهور أول مصحف مرتل
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أثر الإيمان بالكتاب المنشور يوم القيامة، وفضائل ...
    الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري
  •  
    شرح كتاب السنة لأبي بكر الخلال (رحمه الله) المجلس ...
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    ابن تيمية وعلم التفسير
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد من قصة يونس عليه السلام (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    طبيعة العلم من المنظور الإسلامي
    أ. د. فؤاد محمد موسى
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / أ. د. عبدالحليم عويس / مقالات
علامة باركود

التربية وإصلاح الأمة في مقالات محمد عبده

أ. د. عبدالحليم عويس

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 2/3/2014 ميلادي - 29/4/1435 هجري

الزيارات: 50901

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

التربية وإصلاح الأمة في مقالات محمد عبده


لا نستطيع أن نُنكر أن القرن التاسع عشر الميلادي (الثالث عشر الهجري)، كان قرن جمود وتخلُّف، وكان الاستعمار يسعى إلى تعميق هذا التخلف من جانب، وتغريب الإنسان المسلم من جانب آخرَ، وهما أمران يؤدي أحدهما إلى الآخر، فما دام المؤمن بالإسلام - كما  يزعمون - متخلفًا، فمن الطبيعي أن يأخذ عن المتقدمين الذين يستعمرون بلاده ويسيطرون عليها: سياسيًّا وتربويًّا واجتماعيًّا.

 

وقد استسهل بعضهم بسذاجة الاستسلام للحل التغريبي، القائم على الذوبان في حضارة الغرب، بينما رأى كثيرون للأسف ضرورة الثقة في ديننا وحضارتنا بطريقة جامدة، لا تسمح للتطور أن يتفاعل مع الموروث الأصيل؛ حتى يتمكَّن الأصيل من مواجهة العصر، وصناعة إنسان وحضارة مختلفين يأخذان صحيح التراث، وصحيح الحضارة الأوروبية، فيتحرك بالتالي النقل والعقل معًا، ويتآزَر الدين والعلم.

 

وكلا الطرفين تصلَّب في موقعه، فهذا ماضَوِي يعيش في القرون الماضية غير متفاعل مع التراث تفاعلاً عصريًّا، وذاك ساجد في قِبلة الغرب - بخيره وشره - كما ظهر عند بعض المتشنجين في لبنان ومصر.

 

وكان الشيخ محمد عبده في بدايات حياته قد عانى من جمود الدراسة في الأزهر، وفي المسجد الأحمدي في طنطا بخاصة، فقد جعل الفقهاء كتب الفقه القديمة وكتبهم - على علاتها - أساس الدين، حتى وإن عارض بعض ما فيها الكتاب والسُّنة، فانصرفت الأذهان بالتالي عن القرآن والحديث، وانحصرت في كتب الفقه، وقد رأى الإمام بقاء الأزهر على حاله مُحالاً، فلا بد من إصلاح شأنه، وإلاَّ بقِي في الذيل، تابعًا لا متبوعًا، وظُلِمت بالتالي علوم الإسلام وبقية العلوم.

 

وقد وضع الشيخ محمد عبده لائحة لإصلاح الأزهر، يهدف منها إلى حذف الحشو الموجود في المناهج، وإضافة علوم جديدة يستفيد منها التلميذ، كذلك عدم معاملة التلميذ بالقسوة والإهانة؛ حتى نُنمي فيه الكرامة والاعتزاز بالنفس، كذلك النظر في القائمين على التدريس، ومراقبتهم، وأن نبثَّ في نفوسهم حبَّ هذه المهنة، وأن يجعلوا هَمَّهم الأكبر هو مستقبل الجيل الذي يعلِّمونه، وليس الحصول على الراتب الشهري.

 

إنه الجيل الذي يجب أن ينشأ صاحب نظرة في كل ما يحيط به، بعيدًا عن أن يكون مجرد آلة للصانع؛ ليصبح هو الآلة والصانع والبدن والرأس في آنٍ واحد.

 

ونعتقد أن الإمام كان أكثر توفيقًا من الدكتور محمد عمارة الذي خالَفه في بعض آرائه؛ رغبة منه في الاعتماد على السياسة بطريقة كبيرة لا يميل إليها الإمام محمد عبده[1]، كما كان الإمام موفقًا في النظر إلى التربية الدينية على أنها أساس يَسبق التربية في مجال الزراعات والصناعات والتجارات، وهو رأي اختلف فيه معه أيضًا الدكتور محمد عمارة الذي بالَغ، فوصَف موقف الإمام بأنه موقف شديد المحافظة؛ يُنكر دور العلوم الدنيوية في تأديب النفس وإحيائها، ويستغني عن الاستفادة من التراث الإنساني، ووصفه أيضًا بالتالي بأن أُفقه ليس رحبًا، وأنه واحدي الجانب، يكتفي بالتركيز على أمور الدين بطريقة لا تخلو من غُلوٍّ في تقدير جانب من العلوم، والتقصير في تقدير جوانب أخرى[2].

 

يقول الإمام محمد عبده:

"إن مطلوبكم المحبوب هو العلم، كان العلم فيكم وكان الحق معه، وكان الحق فيكم وكان المجد معه.

 

كل مفقود يُفقد بفقْد العلم، وكل موجود يوجد بوجود العلم، أما العلم الذي نحس بحاجتنا إليه، فيظن قوم أنه علم الصناعة، وما به إصلاح مادة العمل في الزراعة والتجارة مثلاً، وهذا ظن باطل، فإنا لو رجعنا إلى ما يشكوه كل منَّا، نجد أمرًا وراء الجهل بالصناعات وما يتبعها.

 

إن الصناعة لو وجدت بأيدينا، نجد فينا عجزًا عن حفظها، وإن المنفعة قد تتهيأ لنا ثم تنفلت منا لشيء في نفوسنا، فنحن نشكو ضَعف الهِمم، وتخاذُل الأيدي، وتفرُّق الأهواء، والغفلة عن المصلحة الثابتة، وعلوم الصناعات لا تفيدنا دفعًا لما نشتكيه، فمطلوبنا هو علم وراء هذه العلوم، ألا هو العلم الذي يمس النفس، وهو علم الحياة البشرية، العلم المحيي للنفوس هو علم أدب النفس، وكل أدبٍ لها هو في الدين، فما فقَدناه هو التبحر في آداب الدين، وما نحس من أنفسنا طلبه هو التفقُّه في الدين، ولا أريد أن نطلب علمًا محفوظًا، ولكنا نطلب علمًا مرعيًّا ملحوظًا، فإذا استكملت النفس بآدابها، عرَفت مقامها من الوجود، وأدركت منزلة الحق في صلاح العالم، فانتصبت لنصره، وأيقَنت بحاجتها إلى مشاركيها في الوطن والدولة والمِلة، وإننا في تحصيل هذا العلم الحيوي لا نحتاج إلى الاستفادة من البُعداء عنا، بل يكفينا فيه الرجوع لما ترَكنا، وتخليص ما خلطنا، فهذه كتبنا الدينية والأدبية حاوية لما فوق الكفاية مما نطلب"[3].

 

وهذا النص فيه دَلالة على طبيعة أسلوب محمد عبده في فن المقالة التربوية، فالأسلوب - مع تطوره وخلوِّه من السجع - متأثر بكتابات سابقيه ومعاصريه، وفيه الدلالة على الأسلوب السائد في عصره، بل نكاد نزعُم أن هناك تناغمًا بين أسلوب الأفغاني، ومحمد عبده (في مرحلة ثوريته الأفغانية)، ومحمد رشيد رضا (في مرحلة استقلاله بالمذهب الإصلاحي)، والأسلوب سهل مشرق، مناسب للعصر.

 

وجدير بالذكر أن الدكتور محمد عمارة قد اعترف بأن النظرة الدينية للإمام لا تعني أن الرجل كان داعية تعليم ديني فقط؛ لأن الإمام فرَّق بين (التعليم الديني) والتعليم المؤسس على مبادئ الدين، وهذا يعني أن التعليم المدني يجب أن يَستجيب لظروف عصره، ويقيم مع التعاليم الدينية الصلات التي يُنبه على ضرورتها الأستاذ الإمام، وبهذا يقترب الدكتور عمارة مما قصد إليه محمد عبده، وهو قيام تحصيل العلوم المدنية على الأساس الديني الذي يعطي المفاتيح الصحيحة للتعامل مع الله والكون والإنسان، والذي يجعل كل العلوم تلتقي عند النية السليمة في التحصيل، والآليات السليمة في البحث، والغايات الربانية الإنسانية كهدف.

 

وما ضلَّ التعليم في الشرق والغرب، وكاد يدمر الإنسانية إلا عندما فقَد هذه المفاتيح  الدينية.

♦ ♦ ♦ ♦


ويرى الشيخ محمد عبده طبقية التعليم، فليس كل الناس قادرين على التعليم الروحي أو الإبداعي، وهي وجهة نظر أثبَت الواقع الذي نعيشه اليوم صِدقها، فالطبقة الأولى: العامة من أهل الصناعة والتجارة والزراعة، والثانية: طبقة الساسة وضباط العسكرية، وأعضاء المحاكم، ومأموري الإدارة، والثالثة: طبقة العلماء من أهل الإرشاد والتربية، وهي أعلى الطبقات[4].

♦ ♦ ♦ ♦

 

وقد اهتم الإمام محمد عبده بتعليم المرأة وتنويرها إسلاميًّا؛ ولهذا قام الإمام بتشخيص الحالة المزرية التي انتهت إليها المرأة المسلمة في عصره - كمرحلة أولى - موضحًا كيف أن النساء قد ضرب بينهنَّ وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن أو دنياهن بستارٍ لا يدري متى يُرفع، ولا يخطر بالبال أن يعلمن عقيدة أو يؤدِّين فريضة سوى الصوم، وهو ينفي أن يكون هذا الجهل هو سبب العفة والحياء كما كان يزعم خصوم تعليم النساء؛ ذلك أن ما يحافظن عليه من العفة، فإنما هو بحكم العادة وحارس الحياء، أو قليل جدًّا من موروث الاعتقاد بالحلال والحرام، وكيف أدى هذا الوضع بالنساء إلى أن أصبح حشو أذهانهن الخرافات، وملاك أحاديثهن التُّرَّهات، اللهم إلا قليلاً منهن، لا يستغرق الدقيقة عدهنَّ.

 

لقد نادى الإمام بتعلم المرأة، وتمنَّى أن تنهض القلة المستنيرة من النساء المتعلمات بتكوين جمعية نسائية، تقيم المدارس لتعليم البنات، وحبذ هذا الدور لهنّ على ما يشغلهن من أمور السياسة، واستقبال علية القوم في الصالونات[5].

 

ويأخذ بعضهم على الشيخ محمد عبده أنه عاب على المسلمين إرسال أولادهم إلى مدارس أجنبية طمعًا منهم - كما يقول الشيخ - في تعليمهم علومًا؛ ظنًّا في نفعها في معيشتهم، أو تحصيلهم بعض اللغات التي يرونها ضرورية لسعادتهم في مستقبل حياتهم، وكأنه يقول: إنه لا ضرورة من تعليم اللغات في الوقت الذي تعلم هو نفسه اللغة الفرنسية، ورأى أن تعلُّمها شيء ضروري، فلكي تأمَن عدوَّك لا بد أن تعرف لغته؛ كي تعرف كيفية تفكيره، وقد برر الشيخ محمد عبده موقفه هذا بأنه يخاف على الدين، وأن دخول هؤلاء التلاميذ تلك المدارس يمثِّل خطرًا على العقيدة[6].

 

ولكنني ألتمس العذر للإمام محمد عبده، فهذه المدارس الأجنبية كانت في ذلك الوقت تقوم على التنصير الواضح وسلْخ الأمة عن عقيدتها وحضارتها ولغتها، وكانت مصر ضعيفة أمام الضغط الأجنبي الذي زاد الطين بلة عندما أصبح استعمارًا عسكريًّا وسياسيًّا أيضًا، أما في عصورنا شبه المستقلة، فإن هذه المدارس تعمد إلى إخفاء وجهها الحقيقي، وتُخفف من جرعات التنصير المباشر، وإن كانت الغاية البعيدة واحدة!

♦ ♦ ♦ ♦


لقد كانت الرؤية الفكرية والعملية للإمام واضحة، حملتها مقالاته فكرًا، وحملتها جهوده وبرامجه ومشروعاته التي قدمها لتطوير الأزهر وتطوير التعليم عملاً وتطبيقًا.

 

وتعبِّر مقالاته في إصلاح الجانب التربوي والتعليمي عن خصائص المقالة عند محمد عبده، فهي تتراوح بين مقالة متوسطة (انظر: مقالة "الكتابة والقلم"، ومقالة "المعارف"، ومقالة "الغاية من علم التوحيد)[7]، ومقالة طويلة؛ مثل: مقالته "العلوم الكلامية والدعوة إلى العلوم العصرية"، ومقالة "تأثير التعليم في الدين والعقيدة"[8].

 

ونستطيع أن نقول: مقالاته الست المنشورة بجريدة المؤيد سنة 1900م (1318هـ) ردًّا على "مسيو هانوتو" في دعواه أن المسيحية أفضل من الإسلام، وأن تمدُّن الجنس الآري أفضل من الجنس السامي، وأن تمدن الأوربيين أفضل من تمدن المسلمين - هي من النوع الطويل، وحسبها أنها أصبحت بحثًا موضوعيًّا رائعًا، كشف حقيقة الفروق الدقيقة بين الإسلام والنصرانية في قضايا العقيدة والعلم والمدنية.

 

ونحن نلحظ أنه في هذه المقالات الطويلة تتجلى عبقرية الإمام في المقال؛ أسلوبًا، ومضمونًا، وتحليلاً، وارتباطًا كاملاً بين اللغة الجزلة الرصينة والأفكار السديدة التي يسعى إلى توصيلها.

 

وبهذا غلب على مقال الإمام محمد عبده المقال الطويل لرغبته الدائمة في بسْط أفكاره بسطًا جامعًا مقنعًا، وربما أيضًا للتعبير الصحيح عن القضايا التي تتضمنها هذه المقالات، لكن هذا لا يعني أن المقالين المتوسط والقصير - وهو الأقل - ليس معبرًا عن غايات الإمام، لكنه غالبًا ما يكون حول موضوعات لا تحتمل إلا هذا اللون من المقالات.

♦ ♦ ♦ ♦


في مقاله الطويل "العلوم الكلامية والدعوة والعلوم العصرية"، يبدأ الإمام محمد عبده حديثه ببيان الفروق بين عهد جاهلية العرب، وعهد العقل وتحصيل العلوم، فبعض طلبة العلم الكرام قد بذلوا جهودهم في التحصيل وخلعوا ثياب أوزار البطالة والتعطيل، وافتدوا براحتهم لتنوير بصيرتهم - قد تحرَّكت إلى المعالي هِمته، ودعته إلى التفنن غَيرته، فأخذ في دراسة بعض الكتب المنطقية والكلامية التي كان قد صنَّفها بعض أفاضل المِلة الإسلامية.

 

ويتدرج الإمام إلى الدفاع عن قضية العلوم الكلامية، فهي أحكام لتأييد القواعد الدينية بالأدلة العقلية القطعية، ثم ينتقل بنا إلى ربط هذا الكلام الاستهلالي إلى تقديم قصة واقعية، لا ينقصها إلا قدر ضئيل من شروط القصة، فقد أُشيع عن فتى انشغاله بهذه العلوم الكلامية، ووشى به بعض أحبائه وأصفيائه وأقربائه، الذين يؤثرون خيره ولا يرتضون ضرره، ومنهم عزيز عليه جدًّا، اهتز لذلك واضطرب، وأعجب كل العجب، وأخذه من الحزن على ذلك الطالب ما شاء الله أن يأخذه، وأوسع لذلك الطالب النصيحة، ويا لها من فضيحة أي فضيحة، قائلاً: كيف تدرس علوم الضلالات حتى تقع في الشبهات؟! ألا فارتدع، وبحالتك اقنَع، وكن كما كان الأب والجد، وجِد فيما كانوا عليه، فمن جَدَّ وجَد، فأجاب الطالب المسكين سؤاله، وطوى سجل علمه، ونشر جهله، ومع ذلك لم تدعه ألسنة حُسَّاده المُتألبين على عناده، ولم يزالوا مصرين على سَفه الكلام، ورمي سهام المَلام، يقولون إلى الآن في ضلاله القديم، لم يميز بين المنتج والعقيم، والمخدوش والسليم، حتى إن بعض ذوي الجهل من أهل بلاده، المخلصين في وداده، الساعين في إسعاده، وشوا بهذا الطالب إلى والده، وأنصحوا له القول بشأن ولده، قائلين: إن الرجل منا إذا سمع أن ولدك يشتغل بالعلوم، تتناوله أيدي الهموم، يقوم ولا يهنأ له طعام ولا شراب، ويَبيت ليله في اضطراب، ويظل نهاره في اكتئاب، أسفًا على هذا المسكين، كيف ترك جهالتنا؟! ولم يعمل على مثالنا، ألم تعلم أن الإنسان كلما قوِي في العلم اجتهاده، وبدا له رشاده، يتزلزل اعتقاده؟ فكيف بك وهو ثمرة فؤادك وأرشد أولادك؟! فتحرك في والده عرق الحَميَّة، وأسرع ذاهبًا إلى مصر المحمية؛ ليرى هل صح الخبر أو كذب الناقل وفجَر؟ فوصل إلى ولده في الساعة الثالثة من الليل، ومن آن وصوله أخذ يُنذر ولده بالثبور والويل، إن كان لتلك الأقاويل صحة، فأجابه الطالب: إن ذلك من كذب الناقلين، وبغي الحاسدين، وإنني من يوم سعيت في منعي، وقطع نفعي، لم تقر عيني بنظرة في رياض تلك العلوم، ولم أشف قلبي بأخذ منطوق منها ولا مفهوم، فلم يصدقه حتى تمسك بالحبل المتين، وأحلفه بالله ربِّ العالمين أن الناقل كذَّاب، وأنه في أمره غير مرتاب، فحلف وهو الصادق في حلفه[9].

 

وعلى هذا النحو من جزالة الأسلوب وبلاغته، وتتبُّعه للحالة النفسية لكل من الطالب ووالده، مع أسلوب حافل بالسخرية اللاذعة، ومن ثَمَّ يتدرج من هذه اللقطة يُحلل الإمام محمد عبده مواقف أبطال هذه الواقعة، ثم يتعجَّب من هؤلاء الإخوان في الوطن، أرباب البصائر والفطن، كيف مالت بهم الحرارة إلى الهبوط حتى آل أمرهم إلى السقوط.

 

ويشير إلى أن هذه العلوم تقرأ في جوامع المسلمين، ومشارق الأرض ومغاربها، وأن الأكابر المحققين - كأبي حامد الغزَّالي، وفخر الدين الرازي وغيرهما - قد جعلوا تعلُّم هذه العلوم من فروض الأعيان.

 

ثم يتساءل: إذا كان هذا حالنا بالنسبة إلى علوم قد أرضعت ثدي الإسلام، وغُذِيت بلبانه، وتربَّت في حجره، وتقلَّدت في إيوانه، من زمنٍ يزيد عن ألف سنة، وتناولتها أيدي الخُلَّص منا، وتناقلتها عنهم الألسنة، فما حالنا بالنسبة إلى علوم جديدة مفيدة، هي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان، وكافَّة عنا أيدي العدوان والهَوان، وأساس لسعادتنا، ومعيار لثروتنا وقوتنا، لا بد لنا من اكتسابها، وبذل المجهود في طلبها.

 

ثم يظهر محمد عبده ألَمه على حال المسلمين المؤمنين بالتخلف والمدافعين عنه، فيقول: وكنا نؤمل أن "المبنج" يفيق بشم روح "النوشادر"، وأن هؤلاء يهتدون إذا ارتفعت الموانع وأقبلت البشائر، ويقومون من غفلتهم إذا قام مَن يوقظهم، ويخرجون عمَّا هم فيه إذا نادى بهم مَن يعِظهم، ولكن تعذر ذلك الأمر منهم في زمان جرى فيه سيل العلوم حتى عم أنحاء الكرة على العموم، وهم فيه غرقى من حيث لا يشعرون، ووقع فيه الارتباط بيننا وبين الأمم المتمدِّنة، ورأينا ما هم عليه من الأحوال الحسنة، وظهر لنا التوازن بينها وبين أحوالنا الهجنة؛ كثروتهم وفاقتنا، وعزَّتهم وذِلَّتنا، وقوتهم وضَعفنا، وقدرتهم وعجزنا، وصولتهم وانهزامنا، وغير ذلك من المزايا والرزايا التي لا تُعد، وبها يعتد، بل في زمان خرج فيه العلم من الأذهان إلى الأعيان، وتنزل من مرتبته الروحانية، وتجلى في الصور الجسدانية، وفتَح لنا رياضه، وهيأ للغرس غياضه[10].

 

ثم يتطور من هذا الواقع الأسيف إلى مناشدة الحاكم والمحكوم لانتهاز الفرصة قبل انقضاء آجالهم، فيحاسبهم الله على هِمتهم الضعيفة، مستعينين بالطائفة الشريفة التي تعد بمنزلة الروح لهذه الأمة (يقصد بهم رجال الأزهر) الذين يأمل في إقلاعهم عن جمودهم.

 

يقول الإمام: أليس من البيِّن أنه لا دين إلا بدولة، ولا دولة إلا بصولة، ولا صولة إلا بقوة، ولا قوة إلا بثروة، وليس للدولة تجارة وصناعة، وإنما ثروتها بثروة أهاليها، ولا تمكن ثروة الأهالي إلا بنشر العلوم فيما بينهم؛ حتى يتبينوا طرق الاكتساب، فإن ذلك أمر قد خفي على ذوي الألباب فضلاً عن غيرهم، كيف لا وقد ولَّت أزمنة كان التحارُب فيها بالأخشاب والنبال، والسهام وخزف الجبال، وحَضَرَنا زمان نضطر فيه إلى المراكب المدرعة، ومدافع "المتراليوز" و"الكروب"، وبنادق الإبرة، وغير ذلك من الأسلحة التي تجددت وستجدد فيما بعدُ؟! وكيف نتمكن من حفظ مِلتنا ودولتنا وديننا من شر هذه النيران، بدون أن يكون عندنا ما يماثلها، إن لم نقل ما يزيد عنها؟!

 

ولعمر اللهِ، قد كان ذلك خير الأعمال وأحبها عند الله؛ لأن إعلاء كلمة الحق وحِفظ بيضة الإسلام مقدَّم على جميع الشعائر، فإنه بعد زوال الرأس لا يبقى لسائر البدن إلا الرَّمس، كما هو بيِّن عندهم، وغير خاف عليهم.

 

نعم، إننا نحتاج زيادة على هذه المدارس إلى مدرسة عمومية تتكفل ببيان أن العلم نافع، والجهل ضار، وإفصاح الفرق بين غسق الليل ورابعة النهار، بل هي ألزم من جميع اللوازم، فإنه ما لم تتوفر الرغبة في شيء لا يتحقق الإقدام عليه، بل يكون مبتذلاً عند النفوس، مرموقًا بعين البؤس، تشمئز منه الطباع، وتَنفِر منه الأسماع.

♦ ♦ ♦ ♦


إننا نرى في هذه المقالة صورة من صور تألُّق الإمام محمد عبده الأدبية الفكرية، فقد تدرَّجت المقالة كأنها قصة، إلاَّ أنها تقريرية مباشرة جامعة بين مجموعة العناصر المكونة لمقالة فيها أدب وتربية، وفِكر ممتزج بالواقع، وفيها تشويق قَصصي، وبيان لمنهج الإصلاح المتكامل بين الحاكم والمحكوم، بطريقة ذكية، ومحاولة لكسْر الحواجز بين الشعب بنُخبته المفكرة من جانب، والحاكم الذي يصوره الإمام متجاوبًا حريصًا على رُقي أُمته من جانب آخر، حتى إن لم يكن هذا الحاكم أهلاً لذلك، لكن الإمام يسعى إلى دفْعه إلى الاهتمام بهذا الجانب بطريقة حكيمة!

 

والأسلوب الذكي يستعمله نفسه مع علماء الأزهر الجامدين الذين يسميهم (الأشراف) تقرُّبًا إليهم؛ حتى يقلعوا عن العصبية والجمود إلى موقع الاجتهاد والتطوير.

 

وفي المقال تطبيق لمنهجه الإصلاحي حين يشير إلى ضرورة الاهتمام بالدين تعليمًا وتطبيقًا، من خلال برنامج تعليمي وبرنامج سلوكي مدرسي؛ لأن ذلك هو الطريق لتخريج رجال أخلاقيين يبنون المجتمع كما بناه الرسول العظيم القائل: ((إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق)).

 

وقد صِيغَ المقال بأسلوب بليغ وبيان يعتمد على السجع اللطيف المقبول وليس المرذول، والطبيعي وليس الصناعي.

 

أما معجمه اللغوي، فيجمع بين الألفاظ الأصيلة والألفاظ الجديدة، لكنها كلها فصحى، يستطيع أن يتعامل معها المثقفون والقارئون للصحف من المتأدبين وأشباه المتأدبين، فهي لغة موجهة للصفوة أولاً، ولمن دونهم ثانيًا دون ابتذالٍ، ومع ذلك فقد ضمَّ قاموسها اللغوي كلمات قليلة تركية وأجنبية؛ مثل كلمة: "خوجة" بمعنى المعلم الصغير، ومثل كلمة "المتراليوز" و"الكروب"، وهما نوعان من الأسلحة.

♦ ♦ ♦ ♦


في رده على "مسيو هانوتو" (وزير خارجية فرنسا) بجريدة المؤيد، نجد لونًا آخر طريفًا من أساليب فن المقالة عند الإمام، وهو لون يجمع بين العمق العلمي والسخرية الهادفة والأسلوب القوي، الذي يعكس تطورًا في الكتابة المقالية عند الإمام، فهذه المقالات نُشِرت سنة 1900 م بعد أن كان محمد عبده قد سبر غَور فنون القول، ومرَّ بتجارب كثيرة، صقَلت فكره وأسلوبه معًا.

 

يوضح الإمام في مطلع حوار أورده على "هانوتو" أن هانوتو يدعو قومه إلى وضع قاعدة لمعاملة المسلمين الذين يدخلون تحت ولايتهم - (أي: استعمارهم) - أو يجاورنهم في ممالكهم، وذلك لا يتم على مذهبه إلا بالبحث في طبيعة الأمر الذي صار به المسلمون غير المسيحيين، وبه يُفضِّل المسلمون سلطة إسلامية على سلطة فرنساوية، فإن أمكن تلقيح ما عليه المسلمون بالولاء الفرنساوي، وسَهُلَ الجمع بين ما وقَر في نفوسهم وبين الخضوع الأعمى لسلطان فرنسا - طاب الجوار في قلوب الملة لعقيدة الإسلام، والطاعة لكل أمر يصدر عن آخر فرنساوي في طبقته، صح للدولة الفرنساوية أن تمنَّ على المسلمين بالبقاء في الأرض، وإلاَّ وجَب عليها أن تحمل عليهم، فتَبيدهم من البسيطة، أو تُجليهم إلى قارة أخرى[11]!.

 

أما غاية "هانوتو" في البحث، وتناوله بيده، فمحضاء، (والمحضاء هو العود الذي تزداد به النار اشتعالاً)، يحرك به نيران العداوة في قلوب الفرنساويين، تثير عزائمهم إلى حرب المسلمين، وليكون (مسيو هانوتو) للأمة الفرنساوية مثل ذلك الراهب الذي أثار تلك الحروب المعروفة (يقصد الحروب الصليبية وبطرس الناسك)، فذلك أمرٌ نَكِلُ فائدَته إليه، وإلى علمه بمكان دولته من القوة، ومنزلة تمدُّنه من المرحمة والإنسانية، ونستلفت إليه ذكاء بعض شباننا من المسلمين الذين يعرفون اللغة الفرنساوية، ويتجملون بآداب الأمة الفرنساوية، ويَطرَبون إذا ذُكِرت المدنية الفرنسوية.

 

ولو لم يتعرض "مسيو هانوتو" إلى الطعن في أصل من أصول الدين، ما حركت قلمي لذِكر اسمه، وكان حظي من النظر في مقاله هو العظة والاعتبار، حظ الناظر في أحوال الأمم وعمال رجالها، حظ المؤرخ الذي يقرأ ليَفهم، ويفهم ليَعلم ويَحكم، ولا يهمه أخطأ القائل أو أصاب.

 

أما ما جاء به من التحكك بأصل الدين، فهو الذي أغْمِزُه بما أكتب اليوم:

يرى الناظر في كلام "مسيو هانوتو" لأول وَهلة، أنه مقلد في التاريخ، كما هو مقلد في العقائد، وأنه جمع خليطًا من الصور وحشرها إلى ذهنه، ثم هو سلط عليه قلمه ينثرها كما يشاء القدر؛ ليدهش بها من لا يعرف الإسلام من الفرنساويين، وهو جمهورهم[12].

 

إني أكيل "لمسيو هانوتو" إجمالاً بإجمال، والتفصيل لا يجهله قومه، وكثير من مُنصفيهم لم يستطع إلا الاعتراف به.

 

إن أول شرارة ألْهَبت نفوس الغربيين، فطارت بها إلى المدنية الحاضرة، كانت من تلك الشعلة الموقدة التي كان يَسطع ضوءُها من بلاد الأندلس على ما جاوَرها، وعمل رجال الدين المسيحي على إطفائها مدة قرون، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، واليوم يرعى أهل أوروبا ما نبت في أرضهم بعد ما سُقيت بدماء أسلافهم المسفوكة بأيدي أهل دينهم في سبيل مطاردة العلم والحرية وطوالع المدنية الحاضرة.

 

إن الناظر في التاريخ تحمرُّ عيناه من مناظر الدماء المتجسدة على جليد الأزمان، ذلك مما سفَكه أهل ذلك الدين المتحد (المسيحية) بالمدنية الآرية؛ ليقاوموا دعاة تلك المدنية ويُخمدوا نارها.

 

إن صح الحكم على الأديان بما يُشاهد في أحوال أهلها وقت الحكم، جاز لنا أن نحكم بأنْ لا علاقة بين الدين المسيحي والمدنية الحاضرة، فإن الإنجيل بين أيدينا نقرأه ونفهمه، ولا يغيب عنا شيء من دقائق معناه، يأمر الإنجيل أهله بالانسلاخ عن الدنيا والزهادة فيها، يوجبُ عليهم إذا سلبهم السالب قميصًا أن يعطوه الرداء أيضًا، وإذا ضربهم الضارب على خدهم الأيمن، أن يديروا له خدهم الأيسر، وأن يَفنوا بكُليَّتهم في الأب، ويقص عليهم أن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني ملكوت السموات، وما أشبه ذلك من الوصايا الملكوتية التي تليق برسول إلهي رباني يدعو الناس إلى الانقطاع من هذا العالم الفاني؛ ليليقوا بالانتظام في أهل ذلك العالم الباقي.

 

هل خطر ببال "مسيو هانوتو" أن يجعل "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"؛ كما أوصى الإنجيل؟ وهل رأى مثالاً لذلك في المدنية الآرية التي ناخت مع الدين المسيحي؟

 

العيان يدلنا على أن شيئًا من ذلك لم يكن، فإن هذه المدنية إنما هي مدنية الملك والسلطان، مدنية الذهب والفضة، مدنية الفخفخة والبهرج، مدنية الختل والنفاق، وحاكمها الأعلى هو "الجنيه" عند قوم، و"الليرا" عند قوم آخرين، ولا دخل للإنجيل في شيء من ذلك.

 

أوصى المسيح بأن يترك ما لقيصر لقيصر؛ حتى لا يشغب المسيحيون على ملوكهم من غيرهم، فانقلبت الحال بهم وأصبحوا لا يحتملون أن يروا لهم رعايا من غير دينهم، فضلاً عن ملوك[13].

 

وقد أخذ الغرب الآري عن الشرق السامي أكثر مما يأخذه الآن الشرق المضمحل عن الغرب المستقل، فلم يبق من معنى للمدنية يريده حضرة الكاتب إلا الدين، وقد ظهر في كلامه أن الدين السامي يراد منه التوحيد، والدين الآري يعني به ما يقابله.

 

وإني أقرر لهذا الوزير الشهير حقيقة بديهية يعرفها صبيان المكاتب، وهي أن دين التوحيد ليس دينًا ساميًّا، بل هو دين عبراني فقط، عرف به إبراهيم - عليه السلام - وبنوه، ومنهم عيسى من جهة أمه وأصحابه، وأنصاره الأوَّلون، أما بقية الساميين من عرب وفينيقيين وآراميين، وغيرهم من الأمم المذكورة في الكتاب المقدس، وهو يعرفها - فقد كانوا وثنيين مُشبهين، ولم يُخالفوا في ذلك بني عمِّهم أو أعدائهم الآريين.

 

وهنا يكشف الإمام جهل "هانوتو" وزير خارجية فرنسا بحقائق بديهية، ثم يقول:

وقبل إلقاء القلم، أذكر الذين يتفانون في إجلال مثل هذا الوزير كما يتفانى المسلم في الله على رأيه، أني إن صغَّرتُ شأن "هانوتو" في معارفه التاريخية؛ فذلك لأنه صغير فيها حقيقة، وكثير من قومه يعرف ذلك منه؛ لأنه لا أمير في العلم إلا العلم. والسلام.

♦ ♦ ♦ ♦


وفي مسألة الإيمان بالقضاء والقدر يذكر الإمام أن "هانوتو" قارَن - بجهل فاضحٍ - بين الديانتين المسيحية والإسلامية، وقال: إنهما تمثلان ذينك المذهبين؛ أي: مذهبي الناس في القدر، وأن الأولى ربانية توارَثت ما ترك الآريون، والثانية بشرية أخذت ما ترك الساميون، وأن الأولى ترقى بالإنسان إلى المقام الإلهي، والأخرى تنزل به إلى أسفل درك حيواني، ويظهر ميل كل من الديانتين ظهورًا بيننا في الأصل الذي بُني عليه كل منهما، فأصل الأولى: هو إيجاد الإله الأب للإله الابن، حتى كان إلهًا بشرًا، واتصال الإلهين بروح القدس، وأصل الثانية: تنزيه الإله عن البشرية وتقديسه إلى حدٍّ تنقطع فيه النسبة بينه وبين الإنسان.

 

ثم رجع بعد هذا إلى الخلط بين الدينين، وردَّهما إلى أصول واحدة، وعقد التشابه بينهما إلى آخر ما أطال به على غير جدوى.

 

ويتساءل الإمام:

هل عُهِد بين الكُتَّاب وأهل النظر تشويشٌ في الفكر وخللٌ في المقال، يشبه ما جاء به هذا الكاتب؟ أدَعُ الحكم في ذلك لمن له أدنى إلمام بمذاهب الأمم وآرائهم.

 

ويَفضَح الإمام "هانوتو" حين يكشف جهله حتى بدينه هو، فيعلمه كيف أن مسألة القضاء والقدر قد عظُم الخلاف فيها بين المسيحيين أنفسهم، وبدأ النزاع بينهم قبل الإسلام، واستمر إلى هذه الأيام، ولعل "هانوتو" اطَّلع على مذهب "التوميين" - أتباع القديس توما - أو الدومينيكيين، وهم جبرية، وأشياع "لو ايولا"، وهم قدرية.

 

ثم يقول الإمام:

هل سمعت بيهودي استلقى على قفاه، وترك العمل اتكالاً على القدر؟ هل سمعت بأحد من الفينيقيين - وقد وصلوا بزوارقهم ذات المجاديف إلى جزائر بريطانيا - أنه كان ينام ويتلذذ بالأحلام اعتمادًا على ما يسوقه إليه الغيب؟

 

لكن سمعنا بذلك في الأديرة، وبين الرهبان، وعرفنا أخبار ذلك الجيش العرمرم من المتَّكلين الذين كانوا يعيشون عالة على الناس؛ حتى ضجَّت منهم أوروبا في زمن من الأزمان، وطلبت الخلاص منهم بالسيف البتَّار.

 

أما في الإسلام، فقد جاء القرآن الشريف - وهو الكتاب المنزل بالإسلام - يعيب على أهل الجبر رأيهم، وينكر عليهم قولهم: ﴿ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [الأنعام: 148]، وأثبت الكسب والاختيار في نحو أربع وستين آية، وما جاء به مما يتوهَّم الناظر فيه ما يخالف ذلك، فإنما جاء في تقرير السنن الإلهية العامة المعروفة بنواميس الكون؛ كما في آية: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [هود: 118].. إلخ ونحوها.

 

وجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في عمله وقوله بما يؤيِّد ذلك، فكان العامل الذي لا يكلُّ، والدائب الذي لا يَمل، والساهر الذي لا ينام، والجاد الذي لم يبلغ شأْوَه أحدٌ من الأنام.

 

هل تقول عنه: إنه اتكأ يومها على وسادته، واكتفى بالتسليم للقدر في إتمام دعوته، قائلاً: الذي كفل لي النصر يكفيني التعب، وضمانة الله لإعلاء كلمة دينه تغنيني عن النَّصَب؟ كلاَّ، بل لم تكن تزيده الوعود الصادقة إلا نشاطًا، ولا تجد العصمة الإلهية من نفسه إلا حزمًا واحتياطًا.

 

ولكن، وا أسفاه! نتَأَت رؤوس بين المسلمين كأنها رؤوس الشياطين، واحتملت غثاءً من قمش (الفتات والرديء من كل شيء) الآريين، وقذَفت به في الأرض الطاهرة، فتدنَّس به أديمُها، وانتشر قذرُهُ وعم مزره[14].

♦ ♦ ♦ ♦


وهكذا.. لا نكاد نصل إلى السنوات الأخيرة من عمر الإمام محمد عبده (ت 1905م) - رحمه الله - إلا ونجده قد نبَغ في فن المقال، ولا سيما المقال السياسي، والتربوي، والتعليمي، والإصلاحي بعامة، وأيضًا المقال الذي يدافع به عن الإسلام دون انهزامية.

 

وكل ذلك في تألُّق بياني وعلمي يَجعله بحقٍّ إمامًا في المقال، كما كان إمامًا في الإصلاح، لقد كان محاميًا ناجحًا عن قضية دينه وحضارته وأُمته العادلة، فرحمه الله رحمةً واسعة.



[1] الأعمال الكاملة، ح1، ص 158 - 159.

[2] الأعمال الكاملة، ح1، ص 161 - 162.

[3] الأعمال الكاملة، 1 / 161.

[4] الأعمال الكاملة، 1 / 174؛ بتصرُّف.

[5] الأعمال الكاملة، ج 3 / 81 وما بعدها.

[6] نقلاً عن عرض كتاب؛ د. عبدالرحمن بدوي (الإمام محمد عبده والقضايا الإسلامية)؛ للدكتورة فاطمة عبدالرحمن، مجلة حصاد الفكر، عدد 161، سبتمبر 2005، ص 75.

[7] الأعمال الكاملة، ج 3 / 9، 33، 159.

[8] المصدر السابق، 3 / 15، 57.

[9] الأعمال الكاملة، ج 3 / 16.

[10] الأعمال الكاملة، ج3 / 18.

[11] الأعمال الكاملة، ج 3 / 219.

[12] الأعمال الكاملة، 3 / 220.

[13] الأعمال الكاملة، 3 / 222، 223.

[14] الأعمال الكاملة، 3 / 224 - 227 بتصرُّف.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تملق لتتسلق!
  • الأستاذ الإمام محمد عبده ودوره في الدعوة إلى إحياء التراث

مختارات من الشبكة

  • مؤتمر علمي عن التربية والتعليم بكلية التربية الإسلامية بجامعة بيهاتش(مقالة - المسلمون في العالم)
  • سؤال التربية بين الخطاب الرؤيوي والبديل السوسيوثقافي من خلال كتاب: إشكاليات التربية بالمغرب لمحمد أمزيان(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • إسبانيا: وزارة التربية والتعليم تعلن تدريس التربية الدينية الإسلامية العام المقبل(مقالة - المسلمون في العالم)
  • مناهج التربية العقدية عند الإمام ابن تيمية "بحث تكميلي" لرسالة ماجستير التربية(رسالة علمية - آفاق الشريعة)
  • قطاع التربية والتعليم حرز الأمة وسر النهضة (نبش في حفريات الذاكرة التربوية المغربية)(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • تربية الأمة الإسلامية تربية ربانية من خلال الاتعاظ بأحوال الأمم(مقالة - موقع أ.د. مصطفى مسلم)
  • التربية الجمالية في الإسلام ومفهومها(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مقاصد الصيام (2) مقاصد التربية (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)
  • التربية الإسلامية الشاملة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • "حب بحب" حب الأمة لحاكمها المسلم "مسؤوليات الأمة تجاه الحاكم"(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب