الرد والتنحي (1)

فقه التقاضي

الحلقة السادسة والأربعون

الرد والتنحي (1)

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصَحْبه، ومَن اهتَدى بهداه.

أمَّا بعدُ:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله مستمعي الأفاضل في برنامجكم "فقه التقاضي"، وقبل أن أَشرع في موضوع جديد حول التقاضي وإجراءاته، أَوَدُّ أن أتوقَّف قليلاً مستذكرًا أبرزَ الموضوعات التي أسْلَفتها في هذا البرنامج؛ كي يرتبط آخره بأوَّله، مرورًا بوسطه، وكي تُفهمَ طبيعة البرنامج وهدفُه المرسوم.

فقد كنتُ بدَأت حلقات البرنامج بالحديث عن القضاء وتعريفه وأهميَّته، وعرَّجتُ على شروط القاضي التي يَلزم توفُّرها لتنصيبه قاضيًا، وذكَرت الآداب التي ينبغي للقاضي أن يتحلَّى بها، ويتعاهدَ نفسه بها، ثم شرَعت في الحديث عن الدعوى وتعريفها، وأركانها وأهم شروطها، ثم وقفتُ طويلاً عند المبادئ والأُسس الرئيسة التي قام عليها النظام القضائي في الإسلام في 14 حلقة، مستشهدًا على تلك المبادئ والأُسس بما تيسَّر من النصوص الشرعيَّة وأقوال الأئمة، وقد بيَّنت جُملة من توفُّر هذه المبادئ والأُسس في النظام القضائي السعودي، من خلال استعراض الأنظمة القضائية السعودية، وعلى رأسها نظام القضاء الصادر عام 1428هـ، ونظام المرافعات الشرعيَّة الصادر عام 1421هـ، ونظام الإجراءات الجزائيَّة الصادر عام 1422هـ، ثم وقَفت عند الوثيقة العُمرية النفيسة، وأعني بها: كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في القضاء، ثم شرَعت في استعراض أبواب نظام المرافعات، والفصول والأحكام التي يَحويها كلُّ بابٍ، وكان من ذلك الحديث عن الباب الأوَّل وما تضمَّنه من أحكام عامَّة، وبيان إجراءات تبليغ الخصوم بالمواعيد، ثم انتقَلت إلى الباب الثاني المُخصَّص للحديث عن الاختصاص الدولي والمحلي والنوعي في القضايا، وبعده كان الحديث عن رَفْع الدعوى وقَيْدها في الباب الثالث، وفي الباب الرابع بيان ما يتعلَّق بحضور الخصوم وغيابهم، وفي الباب الخامس تناوَلت إجراءات الجلسات ونظامها، وأمَّا الباب السادس، ففيه بيان ما يَعتري نظر الدعوى؛ من دفوع وإدخال، وتدخُّل وطلبات عارضة، ووقَفت في الحلقة الماضية عند وَقْف الخصومة وانقطاعها وتَرْكها، وهي موضوع الباب السابع من نظام المرافعات الشرعيَّة.

وقد بَقِي من أبواب نظام المرافعات الشرعية ثمانية أبواب، أُعرِّج عليها - بإذن الله تعالى - في قادم الأيام بحول الله تعالى وقوَّته، والنيَّة معقودة - بإذن الله تعالى - على ذِكر نماذج كثيرة من القضايا وكيفيَّة التعامل معها بعد انتهاء الحديث عن أبرز أحكام نظام المرافعات؛ لتكون بمثابة التطبيقات على ما سبَق من تأصيل وبيانٍ، ولكي يكون البرنامج مُحقِّقًا هدفَه المرسوم في زيادة الوعي والفَهم بالجوانب القضائية وإجراءاتها، والله المسؤول أن يَرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يَستعملنا جميعًا في طاعته ونَفْع عباده.

وآن الآوان لمواصلة الحديث عن أبرز ما تضمَّنه نظام المرافعات الشرعية السعودي، وقد وقَف الحديث بنا عند الباب الثامن الذي حمَل عنوان: (تنحي القضاة وردهم عن الحكم)، والمراد بهذا الباب: بيان الحالات التي يُسوَّغ فيها للقاضي - من تلقاء نفسه - أن يتنحَّى عن التصدي لنظر القضية؛ لقيام موجبٍٍ مُعتبر لذلك، ويحيلَ القضية إلى قاضٍ آخرَ، وأما رَدُّ القاضي عن الحكم، فهو حقُّ الخصوم في طلب مَنْع القاضي من نظر الخصومة؛ لقيام مُوجبٍ معتبر لذلك، وقد بيَّنت مواد هذا الباب الأسباب الموجبة أو المسوِّغة للتنحي والرد، ومقصود هذا الباب مَنْع القاضي من النظر في قضيَّة له علاقة بها، أو يتأثَّر أو يستفيد بالحكم فيها؛ لوجود علاقة أو رابطة مع أحد الخصوم؛ إذ إنَّ من الواجب على القاضي أن يكون مُنصفًا بين الطرفين، ساعيًا إلى إحقاق الحقِّ والفصل في الخصومة، دون ميلٍ لأحد الطرفين، والنفس البشريَّة مَجبولة على الضَّعف والطمع، إلاَّ مَن رَحِم الله تعالى، ولا أحد من البشر غير الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يَملك العِصمة في تصرُّفاته، أو يستطيع التجرُّد من مشاعر الميل والود لأحد الأطراف، ممن تَربطه بهم علاقة، ويَسرُّه ما يَسرُّهم، ويُحزنه ما يُحزنهم؛ ولذا فإن القاضي لا يُؤمَن منه الحَيْف والميل مع أحد الطرفين؛ لوجود علاقة مؤثرة معه، ولذا حسَم الفقه الإسلامي هذا الجانب، فمنَع القاضي من نظر قضيَّة له فيها مصلحة، أو تَربطه رابطة قوية بأحد أطرافها، وكما لا تُقبل شهادة الإنسان لنفسه أو ولده أو زوجه، فكذا لا يُقبل أن يكون قاضيًا بين زوجه أو ولده وطرفٍ آخر؛ لأنه لا يُؤمَن منه الحَيْف بسبب ذلك؛ ولذا كان من الخير للقاضي وللخصوم ألاَّ يكون بينهم علاقة أو رابطة، تحول بين القاضي وتحقيق الإنصاف، أو تجعله محلَّ التهمة حتى ولو أنصَف من نفسه وحكَم على قريبه.

جاء في المادة التسعين من نظام المرافعات:

بيان الأسباب التي يُمنع القاضي بسببها من نظر الدعوى مَنعًا باتًّا، ونصُّها: "يكون القاضي ممنوعًا من نظر الدعوى وسماعها، ولو لَم يَطلب ذلك أحدُ الخصوم في الأحوال الآتية:

أ- إذا كان زوجًا لأحد الخصوم، أو كان قريبًا أو صهرًا له إلى الدرجة الرابعة.

ب- إذا كان له أو لزوجته خصومة قائمة مع أحد الخصوم في الدعوى، أو مع زوجته.

ج- إذا كان وكيلاً لأحد الخصوم، أو وصيًّا، أو قَيِّمًا عليه، أو مظنونة وراثته له، أو كان زوجًا لوصي أحد الخصوم، أو القَيِّم عليه، أو كانت له صِلة قَرابة أو مصاهرة إلى الدرجة الرابعة بهذا الوصي أو القَيِّم.

د- إذا كان له أو لزوجته أو لأحد أقاربه، أو أصهاره على عمود النسب، أو لِمَن يكون هو وكيلاً عنه، أو وصيًّا، أو قيمًا عليه - مصلحة في الدعوى القائمة.

هـ- إذا كان قد أفَتى أو ترافَع عن أحد الخصوم في الدعوى، أو كتَب فيها ولو كان ذلك قبل اشتغاله بالقضاء، أو كان قد سبَق له نظرها قاضيًا أو خبيرًا، أو مُحكِّمًا، أو كان قد أدَّى شهادة فيها، أو باشَر إجراءً من إجراءات التحقيق فيها".

وبيَّنت اللائحة التنفيذيَّة للمادة أنَّ القرابة والأصهار حتى الدرجة الرابعة هم:

1- الدرجة الأولى: الآباء، والأُمهات، والأجداد، والجدات وإن عَلوا.

2- الدرجة الثانية: الأولاد، وأولادهم وإن نزَلوا.

3- الدرجة الثالثة: الإخوة والأخوَات الأشقَّاء، أو لأبٍ، أو لأُمٍّ، وأولادهم.

4- الدرجة الرابعة: الأعمام والعَمَّات، وأولادهم، والأخوال، والخالات وأولادهم.

كما بيَّنت اللائحة التنفيذية أنَّ الخصومة مع القاضي أو زوجته، لا تَمنع من نظر الدعوى، إلاَّ إن كانت الخصومة قائمة قبل إحالتها إليه، أمَّا ما تَمَّ الحكم فيها، أو أُنْشِئت بعد البَدء في نظر الدعوى، فلا يمنعه من النظر؛ وذلك لئلاَّ يتحايل بعض الخصوم بتقديم دعوى ضد القاضي أو زوجته خلال نظر القضية؛ كي يَمنعه من المُضي في القضية بسبب وجود هذه الخصومة.

وإذا كان الوكيل قريبًا أو صهرًا للقاضي حتى الدرجة الرابعة، لَم تُقبل وكالته، ولَزِم الموكِّل إبداله، أو حضوره بنفسه.

والفتوى التي تَمنع القاضي من نظر الدعوى هي: ما كانت محرَّرة في القضيَّة نفسها.

كما يُمنَع القاضي من نظر القضية إذا كتَب فيها لائحة دعوى أو جوابًا، أو اعتراضًا أو استشارة ونحوها مما فيه مصلحة لأحد المتخاصمين.

وإذا كان القاضي قريبًا أو صهرًا للخصمين معًا، فيكون أيضًا ممنوعًا من نظر الدعوى.

وجميع الأحوال الواردة في هذه المادة تَمنع القاضي من نظر الدعوى في جميع مراحلها؛ سواء أكان ناظرًا لها، أم مستخلفًا في بعض إجراءاتها، وسواء أعَلِم القاضي والخَصم بذلك، أم لَم يَعْلَما؛ "لائحة مادة91".

وإذا وقَع من القاضي مخالفة هذه المادة، فإن حُكمه يقع باطلاً لا عبرة به؛ كما تنصُّ على هذا المادة الحادية والتسعون التي سأَبدأ بها - بإذن الله تعالى - في الحلقة القادمة.

والحمد لله ربِّ العالمين.

المرجع:

• نظام المرافعات ولائحته.