• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

الدكتور خشاب ( قصة )

د. رضا صالح

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 2/7/2014 ميلادي - 4/9/1435 هجري

الزيارات: 10846

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الدكتور خشاب

 

دائمًا يبدو محاولاً ألا يعترف بهذا الواقع الذي يُلجمه، لا يعترف بالزمن الذي ذهب أدراج الرياح، لا يعترف بأن ما حدث هو إهانة له، أو إهانات متكررة له، أبطل مفعول ذاته، تقهقر وانسحب مداريًا شعورًا خفيًّا بالذل والفشل، كسرت نفسه من الداخل، شرخ عميق لا يستطيع - بالرغم من محاولاته - أن يداريه أو يتغلب عليه، غير مقتنع بتلك الشخصيات الكاريكاتورية الهزيلة التي يراها تتشقلب وتتفوه حوله بما يليق وما لا يليق، عاش داخل محارة خلقَتْها أحداث الزمن، فصَلته عن العالم، تعوَّد أن يتناسى تلك اللحظات السخيفة التي كثيرًا ما تجرأ عليه خلالها الآخَرون، كانوا ينهشونه بألفاظ بذيئة، ويشبِّهونه تشبيهات رذيلة.

 

مساءً جاءني اتصال تليفوني يسألني المتحدث بصوت أجشَّ: إن كنت أعرفه أم لا، للوهلة الأولى لم أعرف الصوت، أردف: نسيت الخشاب؟ أهلاً دكتور خشاب.. رحبتُ به، بالرغم مما ذكر آنفًا فإن الدكتور "خشاب" له كاريزما خاصة، تذكرت تاريخًا عريضًا بالمستشفى وسكن الأطباء! عرفت أنه في الجناين، أردت أن أراه وأن أتحدث معه، قررت الذهاب إليه، اصطحبت معي "باهر"، في الطريق شعرنا بالحر الشديد، أوقفنا السيارة أمام محل آيس كريم، اتبعنا الوصف حتى وصلنا إلى العنوان، هناك سألنا عنه، قال بعض الصبية: عم خشاب في الأرض، أجبت مستنكرًا: في الأرض؟ نعم، يسقي، اليوم ميعاد سقاية أرضنا.. مشى أمامنا اثنان من الصبية، تبعتهما حتى أوصلانا إليه، كنت متشوقًا لرؤيته، عن بُعد شاهدته منحنيًا على الأرض، لاحظت بيده فأسًا، كان يعزق بها، نادى أحد الصبيين عليه "آبا.. يابا".. تعجبت! أبوك؟ أبو هذا الطفل الريفي؟ لم تكن للخشاب علاقة بالريف من قبلُ، تلفت إلينا قبل أن يعتدل من ركوعه، شاهدت لحية بيضاء شعثاء، قد تشعب لونها الأبيض الثَّلجي ليصل إلى منابت الشعر، ترك الفأس المدلاة من يده تقع على الأرض، وظهرت ملامح ابتسامة على وجهه وقدم إلينا، كان يرتدي جلابية مخططة، ويسحب شبشبًا مهملاً في قدمه، نظر لي ضاحكًا.. أهلاً بالباشا.. مد يده وتصافحنا بالأحضان، قلت: باشا؟! كيف حالك يا خشاب؟ ما الحكاية؟

 

أبدًا... الدنيا تغيرت، سلم على باهر وسار أمامنا إلى الظل.. تحت شجرة كافور سامقة جلسنا على مفرش موضوع على الأرض، قال لأحد الصبية: اطلب من أمك تجهيز الشاي، الدنيا لا قيمة لها.

 

ضحك باهر، أردف الخشاب: مطامعنا فيها كبيرة، وهي جزمة، كان يتكلم كأنه داعر يفتش في أفكاره ويعرضها على من حوله، ويتفنن في عرضها دون انتظار أجر منهم! أو كأنه رجل يحمل هدايا مجانية، يعرض هدايته على الناس دون مقابل؛ لأنهم في الحقيقة لن يستطيعوا أن يوفوه أجره، قال: إنه توجد صيدلية بالمنطقة تعوَّد الناس أن يلجؤوا لعامل بالصيدلية كان يرتدى "بالطو" أبيض، وينادونه بلقب: دكتور مكاوي، يلجؤون إليه للكشف والعلاج، لديه بالصيدلية سماعة وجهاز ضغط وترمومتر، وبالطبع الشاش والقطن والمطهرات، الميكروكروم والبيتادين والسافلون والديتول والمراهم بأنواعها، وبعض الأدوات اللازمة لعمل تحاليل سريعة للكشف عن السكر والأسيتون في الدم والبول، امتنع الناس تقريبًا عن الذهاب إلى العيادات في القرى المجاورة إلا قليلاً، مرت سنوات والدكتور خشاب بالمستشفى ما زال نائبًا، كان يعمل أحيانًا في عيادة الاختصاصي أثناء غيابه، حكى لنا ذلك الموقف الرهيب الذي تعرَّض له عندما كان صاحب العيادة على سفر، همَّ ليفتح لمريض خرَّاجًا صغيرًا بقناة الأذن الخارجية، جلس المريض على الشيزلونج، وشرع خشاب في رش أذنه بمخدر موضعي، أخذ يتحاور مع المريض ويسأله عن الطقس، وعما أكل اليوم، وعن رأيه في السياسة، أدخل مسبرًا في قناة الأذن، تأوَّه المريض ثم أغمض عينيه وأدار رأسه ولم يردَّ، شعر الخشاب بالهلع الشديد عندما سكَت المريض، أمسك الخشاب بفكيه وحاول أن يضغط عليه، نادى، زعق في وجه المريض، لم يردَّ بالرغم من كونه ما زال جالسًا على الشيزلونج، اطمأن الخشاب إلى جلوس المريض مما يدل على أنه ما زال واعيًا، اقتنع بتفسيره العلمي: إنها مجرد نوبة رد فعل مؤقت للألم الناتج عن الحقن، نطق بصوت مسموع .. شوك. Neurogenic shock، نادى على المريض مرة ثانية بصوت أعلى، اقترب منه وربت على صُدغيه، مال المريض بوسطه، وفجأة سقط على الأرض فاقدًا الوعي، برَك الخشاب بركبتيه على الأرض أمام مريضه وسحب سماعته بسرعة ووضعها على صدر المريض كأنما يرجوه أن ينتبه، وضَع أصابعه على مِعصمه ليتحسس النبض ليعرف قوته وسرعته، نظر في ساعة يده، بعدها لطم المريض لطمة على خدِّه جعلته يتأوه.. آه.. أراد خشاب أن يشتمَه قائلاً: "قوم يا بن الـ...."، أمسك لسانه في اللحظة الأخيرة حتى لا ينطقها، ربما يكون أبواه بريئين من ذنبه، وحتى لا يبدو صفيقًا أمام زبائنه، اكتفى بوضع غيار على الخراج، وأشار على أهله أن يحضروه في يوم آخر، وحدد لهم اليوم، انتظرنا أن يكمل حكايته، أخذته نوبة من الضحك وكأنما ينظر إلى داخله.. "أعطيتهم ميعادًا يكون صاحب العيادة رجع.. ها ها!"، تابع المريض بعينيه وقد أحاطه ذووه كأنما يزفونه سائرًا على قدميه، بمجرد خروجهم من باب العيادة هرول الخشاب إلى الحمام ليفك حسرته وهو ينطق بالشَّهادتين!

 

استوفى الخشاب مدة النيابة، ولم يتمكن من الحصول على دبلوم التخصص، في أعماقه كان يشعر بضياع، سنوات الحرب ومشاكله، والمشاكل العائلية التي مر بها كانت أسبابًا مؤهلة لإحساس بالإحباط، كان أحيانًا يلجأ إلى حيلته التي هُيئ له أنه اكتشفها، عندما تضيق به الدنيا يبتعد قليلاً عن الناس، وسيلة سهلة صعبة في آنٍ واحد، يبتعد عن الضوضاء، يغلق عليه محارته لينعم بالهدوء، كل الناس تفعل هذا ولكنه لم يدرك هذه البديهية إلا متأخرًا بعد أن صار كِيانه بلا كيان، كان يقول: إن والده ضحية من ضحايا العمل السياسي أيام عبدالناصر، دخل السجن مددًا طويلة، شعر الخشاب بالإرهاق، غادر المستشفى مضطرًّا، لم يتخذ أي قرار إلا بعد انفراط عِقد المسائل وانبعاجها، فصارت روحه كإطار الكاوتشوك المنبعج المهلهل الذي يشبه البطيخة، يجعل الراكب يشعر بحركة رجراجة عجيبة مموجة غير مستقرة، لا يجدي معه أي حلٍّ سوى خلعه بعد أن تهرَّأ وصار مصدرًا للآلام والخسائر المضاعفة، ارتبط خشاب بالمدينة ارتباطًا يقول عنه: إنه كاثوليكي! ويقول ضاحكًا: إنها مدينة الغريب، كنا نسمع منه ولا نلقي بالاً، أرادت الوزارة أن ترسله إلى منطقة نائية ولكننا فوجئنا بعودته، تعجب البعض من عودته هذه، وقلنا: نريد أن يغذَّى المستشفى بأصحاب الخبرات، لا العكس، المهم أنه انتقل إلى وحدة خارج المستشفى.

 

الهدوء يشملنا، العصافير وأبو قردان وصوت خرير المياه وحفيف الأشجار حولنا، بين لحظة وأخرى ينعِق حمار أو تتهادى إلينا نسمة خريفية، ضحكنا، قال باهر وهو يلعق الآيس كريم: الدنيا لا تساوي.. هي فعلاً كالحذاء! علينا أن نقلعها ونرتدي أخرى جديدة، جلد ماعز .. ها ها.. يجب أن نجدد أفكارنا دائمًا، وألا نتوقف عند أي مشكلة! وأشار إلى خشاب.. هذا المسكين الذي خرج إلى المعاش ولا يعرف يعمل فلوسًا، من المفروض أن يشتغل "حرامي"، ولكنه لا ينفع؛ لأنه لم يتعوَّد!

 

أتى الولد بصينية الشاي، وضعها أمامنا على الأرض، حدثنا الخشاب عن الظروف التي مر بها، طلَّق زوجته أثناء حملها، جاء إلى المدينة ليعمل نائبًا بالمستشفى، انتقل منها إلى الطب الوقائي، كانت الوزارة تلاعبه كما تلاعب غيره ممن لا واسطة لهم، لعبة الإقصاء، طالما لم يبدِ حماسًا لنيل درجة التخصص في فرع الطب الذي اختاره أو زُجَّ فيه حسب مجموعه، تغيرت به المواقع، ألحق الخشاب بمكتب لاستخراج الشهادات الصحية؛ حيث أوهموه أنه سيجد فيه راحة ومتنفسًا.. قضى ردَحًا من الزمن داخل مبنى كريهٍ تحت السلم، حجرتين ودورة مياه تفوح روائحها بين حين وآخر، علقت عليه لافتة خشبية صغيرة "مكتب فحص العاملين بالأغذية" كان معه طاقم من عمال وفنيين وباشكاتب للوحدة، كان الباشكاتب حريصًا على كسب ثقة الطبيب وإدخال السرور على نفسه بشتى الطرق، أحيانًا بالنكات الفاحشة، أو السجائر وأكواب الشاي وفناجين القهوة، يطمئنه دائمًا على سير العمل بالمكتب، ويطلب منه أن يأخذ راحته في الحضور والانصراف، ظل يوقع على شهادات خلو من الأمراض، كان يقابل طوائف البشر المتعاملين مع الطعام، سماكين وجزارين وأصحاب متاجر الأغذية، مثل: البقالين والفرانين والطباخين وباعة الخضار والفاكهة والباعة الجائلين، وكذلك المسافرين بالبحر أصحاب جوازات السفر البحرية السوداء وغيرهم، تعوَّد أن يضع إلى جوار مكتبه كشافًا يشع ضوءًا باهرًا موجهًا ناحية وجه المنتفع لكي يستطيع أن يكتشف أي مرض ظاهري، أو علامة من علامات الأمراض الباطنية، وفي نفس الوقت يضايق هذا الضوء الباهر النظر؛ مما يجعل المنتفع لا يطيل الكلام مع الطبيب، تؤخذ عينات بول وبراز ودم، ثم يذهب طالب الشهادة إلى مستشفى الصدر لعمل الأشعات المطلوبة، تعُود النتائج بعد أيام، أحيانًا يصر صاحب الشهادة على محاولة استلامها في نفس اليوم؛ إما بدفع مبلغ، أو الوقوف والتذلل، أو المشاجرة، كان البعض يحاول أن يضع عملات ورقية داخل ملف الشهادة القديمة؛ لكي ينهي طلبه في أسرعِ وقت، كان الخشاب يرفض هذا السلوك بشدة، معظم الناس في عجلة، الكل يريد أن يقضي مصلحته في نفس اليوم، بينما يقتضي النظام المعمول به أن ينتظر عدة أيام حتى تظهر نتيجةُ الفحوص، زهق من المكان بعد أن أمضى فيه عدة أشهر، أخيرًا تناهى إلى سمعه أن الباشكاتب يفتح الدرج الخاص به أمام الزائرين، ويطلب مبالغَ مالية مدعيًا أنها رسوم خاصة بالطبيب، بينما لا يعلم هو عنها شيئًا، لم يستطع أن يثبت ذلك، كان الباشكاتب لا يتورَّع عن استخراج الشهادات في نفس اليوم في غياب الطبيب، ويختمها بخاتم النسر الشهير المستقر داخل درج مكتبه، دون انتظار لنتائج التحاليل، يومًا عرضت عليه موظفةٌ بدينة نفسها مقابل غض البصر عن مواعيد حضورها وانصرافها، تأذى عند سماعه كلامها، وشعر بالغرابة في سلوك البشر، سحب ختم النسر من الباشكاتب ووضَعه في مكتبه وأغلق عليه بالمفتاح، بعدها قال لي عبدول: إنه من دواعي سرور الخشاب أنه لم يستمر طويلاً في هذا الموقع؛ فقد سَرَت شائعة تقول: إنه يعطل مصالح العباد، ويفرض إتاوات على أصحابها مما سرَّع بنقله وانتشاله من مكانه اللعين ببير السلم.

♦ ♦ ♦ ♦


تعجَّب الخشاب من ذلك المشوار الطويل الذي كانت تقطعه زهيرة العاملة يوميًّا، ظل معجبًا بها من أيام وجوده بالمستشفى، كانت تجهز الوجبات للأطباء، وتحكي له أنها كانت تقضي أكثر من ساعتين ذهابًا وإيابًا من وإلى المستشفى، في الوصول إلى المحطة وانتظار المواصلة، بالرغم من أن راتبها ربما لا يتبقى منه سوى الفتات بعد اقتطاع مصروفات الانتقال.

 

انتهى الحال بالخشاب خير مآل، كنا نلاحظ مراقبته لزهيرة وشغفه بها واقترابه منها ونظراته الغارقة في الشبق، تنشئته الدينية كانت تزجره عن الوقوع في الفحشاء، لم يرِدْ أن يخالف ما نشأ عليه من احترام للأصول وتقدير للدين، طال نظره وانتظاره لحبيبة قلبه، لم يتكلم مع أحد، ولم يصارح أحدًا حتى إذا ما حانت الفرصة، كان على وشك الخروج إلى المعاش، جاءت المناسبة وأفصح لها عن رغبته، في البداية قوبل بمضايقات الزملاء وتعليقاتهم الغليظة، وإيماءاتهم وغمزهم ولمزهم، كأنما أراد أن يخرج من مشواره الطبي بغنيمة ما، دلَّه حدسه على تلك المرأة التي أعجبته.

 

وافقت زهيرة على الفور بعد أن طلق الطب وخلعته مديرية الشؤون الصحية، تزوج زهيرة وذهب ليعيش معها في بيتها الريفي بقرية فايد المتاخمة لشاطئ البحيرات المرة، بتحويشة العمر اشترى فدادين تُعَد على أصابع اليد، أرض شبه بور تحيط بيتها، ورُبَّ ضارة نافعة، يبدو أنَّ بُعده عن مجال الطب وزواجه من زهيرة فتحَا له أبواب الجنة، تلك الزيجة التي تعرَّض بموجبها لإهانات وتقريع لا حد له من الجميع، هي السبب في ذلك الفتح الذي هبط عليه من السماء كماء منهمر، تغيرت حياته كثيرًا؛ فقد ارتبط بالريف والزراعة وتربية الطيور والحيوانات، كل ما يشمل حياة القرية، يكفي أنه كان مشاركًا في حرب العبور! تذكرت أنه قال لي يومًا: إن الأديان تهتم ببناء الروح والنفس والعقل والجسم، وقال يومها: إنه كأنما تعرض إلى اعتقال وتعذيب داخل المستشفى، وأحس بالغربة، لم يتعرض لمثل تلك الصدمة عندما شارك في حرب 73.

 

مع انتهاء الغزو الأمريكي للعراق، أحيل إلى المعاش، يبدو أن الخشاب قرَّر التحدث مع نفسه كثيرًا، أحيانًا بدون صوت، وغالبًا بصوت ظاهر، كان من يراه يظنه مجنونًا أو فاقدًا للأهلية، كان يقول: إن البلد في حاجة لمن يخرج بها من المستنقع، لم تعُدِ الشعارات تجدي، الجنة هي بلادنا! وممكن يكون ترابها زعفران، "واللي يشرب من النيل لازم يرجع تاني"! كل هذا الكلام انتهت صلاحيته! البلد في حاجة لقائد كل همه الإحساس بالبشر، إحساس عارم بمعاناة الناس، زعيم يخرجنا من الزحام القاتل.. زعيم يبحث عن متنفس جديد للعباد، يؤسس مدنًا جديدة يحوطها بالمزارع والمصانع، ويرسل الشباب إليها، ويكون من وظيفة وزارة الشباب ليس إقامة مباريات كرة فقط، ولكن مراعاتهم وتوظيفهم، وإعادة توزيعهم على أرض مصر ليعيشوا مثل البشر!

 

اعتاد على نظرات مستهجنة من الناس، بمرور الزمن أقنع نفسه أنه: لا يهم! الناس لن ينفعوني بشيء ولو اجتمعوا عليه، طالما أن الله لم يكتبه لي، والعكس صحيح، هكذا تعلمنا، إذا شاءت الأقدار لشيء أن يحدث فإنه لا محالة واقع رغم أنف الجميع، اتخذ سمته مظهرًا صوفيًّا بأسلوبه وملبسه البسيط الذي نادرًا ما يغيِّره، بنى بيتًا مسلحًا وسط أرضه الزراعية، حيث نوى قضاء باقي حياته، لم تمضِ سنوات قليلة حتى شاهد قصورًا بازغة في المنطقة المجاورة، انتشرت سريعًا كألسنة اللهب على ساحل البحر، تعجَّب لهذا التغيير الذي حدث، جاء إليه أحد السماسرة قائلاً: إن أرضك في لسان الوزراء... لسان الوزراء! نعم، ومن حُسن حظك أنك داخل في طرف اللسان، في طرف اللسان، أرضك صارت عاليةَ القيمة، لها سعر مرتفع!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • مرضى لا يشتكون (قصة)
  • " إسلام " والمريض (قصة للأطفال)
  • البطانية المبروكة ( قصة )

مختارات من الشبكة

  • تعقيب على رد الدكتور المزيني على الدكتور البراك - مشاركة صحفية(مقالة - موقع أ.د.سليمان بن قاسم بن محمد العيد)
  • هولندا: الدورة الشرعية رقم 25 لمؤسسة الوقف(مقالة - المسلمون في العالم)
  • فضل الأم على الأبناء كما تتحدث عنها قصص (كلم) للأديب الدكتور سعد الرفاعي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الدكتور وائل (قصة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • قصة التفريغ الثقافي ووقفة مع الدكتور طه حسين ورجوعه(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • رحيل العالم البحاثة الأديب الدكتور محمد شفيق البيطار(مقالة - موقع أ. أيمن بن أحمد ذوالغنى)
  • كلمة في رحيل الدكتور شفيق البيطار(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مغني اللبيب بتحقيق الدكتور فخر الدين قباوة(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • طرب الزهور وشذاها في شعر الدكتور عبدالرحمن العشماوي (نماذج مختارة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الصباح ودلالاته في بعض المقطوعات الشعرية للشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب