• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

الصياد والشبل

الصياد والشبل
جواد عامر

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 31/7/2023 ميلادي - 13/1/1445 هجري

الزيارات: 2034

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الصَّيَّادُ والشِّبْل

 

كان الصَّيَّادُ "عَلِيٌّ" يعيشُ في قرية يتكلَّمُ أهْلُها الأمازيغِيَّةَ، قرية جميلة تقع على بين تلالٍ خضراءَ يانِعَةٍ، يتوسَّطُها نَهْرٌ جارٍ مَلِيءٌ بالأسماكِ، يصطاد كغيره من أهالي القرية بزورقه الصغير بعض السمك ويذهب به إلى سوق المدينة فيبيعه هناك، فيحصل موردًا كافيًا له ولزوجته وأمه المجاوزة للـثَّمانِينَ، كان "علي" رجلًا كبيرًا في السن، لكنَّ العافِيَةَ كانت ناطقةً بكل جارحةٍ من جوارِحِهِ، يُجَدِّفُ زورقَهُ بقوة قد لا تُلْفِيها في شباب العشرين والثلاثين، وهو الرجل الذي أشرف على السَّبْعينَ من عمره، لم يُرْزَقْ "عليٌّ" أبْناء، ومع ذلك فقد كان راضيًا بقَدَرِه، وكان يحمَد الله كثيرَا على نعمه، لم يُعْرَفْ عنه أنه بَرِمَ يومًا من الحِرْمان من الذُّرِّيَّة؛ فهو يعتَبِرُ أبناء القرية أبناءه، وهم أيضًا كانوا ينادونه بالعم "علي".

 

لم يكن "علي" صيادَ أسماك يجوب النهر الذي خَبَرَهُ منذُ صغره فَحَسْب، بل كان صيادًا خبيرًا بمجاهلِ الجبال والغابة، يَعْرِفُ كلَّ صغيرةٍ فيها وكبيرةٍ، فكان بين الفينة والأخرى يتوغل في الأدغال، وينْصِبُ بضْعةَ فخاخٍ على مقْرُبَة من أوكار الأرانب وأعشاش الطيور، فكان لا يعود من رحلة صيده إلا وهو غانم أحد الطيور أو ظافرٌ بأحد الأرانب، يعود بها إلى كوخ صغير فُرشت فيه بضعة بُسُط تقليدية، صنعتها على النول زوجتُه الماهرة في نسج الزَّرابيِّ، لكن أغلبها أتت عليها السنون؛ فبهتت ألوانها، وكادت زخارفها الأمازيغية أن تضيع، رَحًى حجرية تصْلُحُ لطحنِ الحبوب تتولى مهمتها زوجته الخمسينية العاقر.

 

لم تكنْ رحلةُ الصيد سهلة؛ فقد كان العمُّ "عليٌّ" يقْطَعُ لأجلها مسافة طويلة سيرًا على الأقدام، متوغلًا بين الأشجار الكثيفة، ومتوخِّيًا حذرَه من الأفاعي والعناكب السامة، وبعض المفترسات التي قد تجوب المكان أحيانًا؛ لذلك كان أهالي القرية يتجنبون التوغل كثيرًا في أعماقها؛ خوفًا على أنفسهم من مفترس ضارٍّ؛ كالدِّببة التي قد تترك أمكنة صيدها تعقُّبًا لعسل النحل الذي كان منتشرًا في أماكن متفرقة من الغابة، أو مجموعات الذئاب التي كان عُوَاؤها يصل إلى مسامع أهل القرية ليلًا، دون أن تجرؤ على الوصول إلى تجمعات السكان، بخلاف الدببة التي كانت تقترب أكثر من النهر؛ بحثًا عن الأسماك، متعقبة زوارق الصيد الصغيرة، فهي تعلم بذكائها أنها وسائل للحصول على السمك، فقد كان بعض الصيادين يُلقُون إليها ببعض الصيد حينما يجود النهر عليهم بسمك وفير، كانت الدببة معتادةً صنيع الإنسان؛ لذلك لم تكن تتَجَرَّأُ على أذيَّتِهِ، أو اقْتِحامِ تجمُّعاته السَّكنِيَّة؛ لذلك لم تشْهَدِ القريةُ صِدامًا بين الإنسان والدِّبَبَة على الإطلاق، وأغلب أمكنة صيدها كانت تقع عند جُرْفٍ صخريٍّ تتجمعُ فيه الأسماكُ، غيْرَ أنها اعْتادَتْ على عَطاءِ الصَّيَّادين، فكان بعضها لا يجهد نفسه في عناء الترقُّب والصيد.

 

كان العم "عَلِيٌّ" من أكثر الصيادين عطاءً للدِّبَبَة خاصة تلك الصغيرة منها، مما لم يكن يجيد فن الصيد بعد، فهو لا يحتاج غير قليل من السمك؛ إذ لا أبناء له كي يعولَهُمْ، فيَكْفِيهِ القليلُ من الصَّيْدِ، بل كان إذا حصل الكثير منه جاد ببعضه على أطفال القرية؛ حتى لا يَفْسُدَ ويضيعَ، فهو لا يُحِبُّ أكْلَ السَّمك كثيرًا؛ لذا كان يعشقُ الذهاب إلى الغابة والصيد هناك، ينصِبُ الفِخاخَ وينتظرُ في مكان آمِنٍ حَريزٍ، وقد دَجَّجَ نفسه بسهام ورمح لا تخطئ أهدافها إذا ما ظهر صيد يستحق أن يُصادَ، لم يكنْ يلجأ إليها إلا في ضرورات قصوى دفاعًا عن نفسه أمام مفترس ضارٍّ يحاولُ الفَتْكَ به، فالنُّدُوبُ الظاهرةُ على جَبينِ وذِراعِ العَمِّ "عليٍّ" كانت نتاجًا لصراعه مع فهد، حينما كان في عنفوان شبابه، تمكَّن الصياد الشجاع من قتله وإحضاره إلى القرية في مشهد بطولي مثير؛ جعل كل أهل القرية يشيد بشجاعة العم "علي" وبطولته النادرة، فكان يُعرَف بقاتل الفهود، كان يومًا رائعًا لا يُنسَى كلما تذكره العم "علي"، زاده قوة وعنفوانًا وثقة في النفس، فالجبال والغابات الشاسعة كانت مَوْئِلًا للمفترسات الضارية، وقد تحين المواجهة مع الإنسان في أي ظرف يتجرأ فيه البشر على اقتحام أماكن عيشها؛ فهي لن تتوانى في الدفاع عن مملكتها.

 

نصب الصياد "علي" فخًّا في مكان ألِف فيه الحصول على الغنائم، وراح يتجول في الغابة يستطلع المكان الذي يعرفه شبرًا شبرًا، يتعقب كل أثر يقع عليه بصره ويفحصه فيعرف صاحبه، مضى في طريقه، فإذا بأثرٍ لأقدام لم يأْلَفْها من قبل في المكان، دقَّق النظر أكثر فأكثر، فاحتار في نوع الحيوان صاحب الأثر الغريب، إنه قريب من أثر الفهد والضبع، لكن الفهود والضباع لم تعد موجودة هنا، أو ربما يكون أثرًا لأسد الجبل جاء يتعقب بعض الطرائد هنا، هكذا قال العم "علي" في قرارة نفسه، فهو لم يجد جوابًا عن أسئلته، لأول مرة يعجز عن فكِّ لغز في الغابة الكبيرة، عاد الصياد إلى حيث نصب الفخ، فلما دنا، سمع صوت أنين، فاقترب من الصوت يتبيِّنه، فإذا هو بشبل عالق، يصيح بأعلى قوته طالبًا النجدة، والإجهاد قد أخذ منه مأخذًا كبيرًا، استغرب الصياد لأمر الشبل فقال: "لا بد أن أمه ستكون قريبة من هنا، يجب أن أخلصه من الفخ"، هَمَّ العم "علي" بالاقتراب من الشبل الصغير، فنظر إليه بعطف كأنه يلتمس منه الخلاص، فك العم "علي" قدم الصغير من الفخ الحديدي، وحمله بين ذراعيه، فقد أصابه الفخ بجرح غائر لا يستطيع معه أن يسير وحيدًا، فلا بد أنه تائه في الغابة، وأن أمه تركته في أجَمَةٍ، فغادر المكان حبًّا في الاستطلاع، استغرب العم "علي" أمر وجود الشبل؛ فالغابة نادرًا ما تأتيها الأسود التي تعيش في مجموعات بعيدة عن الغابة، أخذ الصياد الشبل الصغير وهو يعلم أن أمه ستبحث عنه متتبعة رائحته، لكنه آثر إنقاذ هذا الشبل ورعايته، حتى يقوى على السير، وإعادته إلى الغابة من جديد، لقد فهِم الآن أن الآثار الجديدة إنما تعود للشبل وأمه، متسائلًا عن سبب اقتحام اللبؤة وشبلها للغابة، فأغلب الأسود تتخذ محميات لها في البرية بعيدًا عن هذا المكان.

 

أسرع الصياد يحث خُطاه مخافة الاصطدام بأم الشبل؛ لأن الأمر حينها سيكون شديد الخطورة، فاللبؤة لن تتوانى في الدفاع عن شِبْلِها وهو بين ذِراعَيِ الصياد، بلغ العم "علي" القرية وأخفى الشِّبْلَ الصغير في كوخ صغير متوارٍ عن الأنظار، وأغلق عليه الباب، فذهب مسرعًا إلى ضفة النهر ليحضر بعض النبات المخصص للجروح، دقَّه بحجر حتى صار لَبْخَة، وأحضر قطعة من ثوب اتخذه ضِمادةً فلفَّ العشب المدقوق على الجرح، فأنَّ الشِّبْلُ أنينًا، وأحْكم الصَّياد لَفَّ الثوب على القدم، ترك الصيادُ الشبل الصغير في مكانه، وأحْضر له بعض اللبن، فتولى إطعامه كل يوم وتغيير ضمادته، حتى قوِيَ الشبل وتمكَّن من السير.

 

أخذ الصياد الشبل قبيل طلوع الشمس إلى الغابة، وهو يعلم أن الأم متشوقة إلى لقاء صغيرها، يحمله بين ذراعيه، وهو يختلس النظر يمنة ويسرة؛ حتى لا يفطَن إليه أحد، فلما اطمأنَّ إلى خلوِّ المكان من الأعين الصغيرة والكبيرة، سمح للشبل بالنزول، فظل يتعقب خُطى مُنْقِذِه، وبين الفينة والأخرى يفرك رأسه بساق العم "علي"، فقد ألِفه وأحب صحبته رغم الأيام القلائل التي مكث فيها معه، نظر الصياد إلى بعض الآثار المتفرقة ففحصها، فهي آثار جديدة لم تتيَبَّسْ بعْدُ في تُربة الغابة النَّدِيَّة، فأدرك بفِطْنَة الصيَّاد وخِبْرَة الغابِ، أنَّ الأمَّ قريبةٌ من المكان، ولا بد أنها ستظهر في أي لحظة بعد أن تشتمَّ رائحةَ الشبْلِ، أمر الصياد الشبل الصغيرَ بالانطلاق عبر الطريق إلى أمه، لكنه كان يهم بالعودة إلى أحضان الصياد، فيصرفُهُ ويَنْهَرُهُ للابتعادِ؛ فأمُّهُ ستحضُرُ لأخَذْهِ بعْد قليلٍ، وما عليه غير التَّوَغُّل قليلًا، نظرَ الشِّبْل إلى الصياد نظراتٍ ملؤُها الاستعطافُ والرَّجاءُ، وعاد إليه في لهفة يقفز بين أحضانه، وهو يلْعَقُه ويُصْدِرُ أصواتًا رقيقة كأنه يتوسل إليه ألَّا يُفارِقَه، لكن الصياد غَلَّبَ منطق العقل على العاطفة، فحياةُ الشبل يجب أن تكون في الغاب وتحت رعاية أمه؛ ليتعلم قانون الغاب، ويعيش في البرِّيَّة؛ حيثُ الحرية المطلقة.

 

سمع الصياد زئيرًا قادمًا، فعرَف أنها الأم فحثَّ خطاه بعيدًا عن المكان، وهو فرِحٌ بلقاء الشبل وأمه، عاد العم "علي" إلى القرية، واتجه نحو زورقه الصغير، فقد مضى وقت لم يصطَدْ فيه السمك، غنِم الكثير من الصيد فأعطى للدببة الصغيرة بعضها، وجدف زورقه عائدًا إلى الكوخ القابع في هدأة الغاب.

 

ظلت صورة الشبل مرتسمة بين عينيه لا تكاد تفارق مُخيِّلَتَه، فقد أَلِفَ هُوَ نفْسُهُ ذاك الشِّبْلَ الجميل، لكنَّ الواجِبَ يُحَتِّمُ أن يَعيشَ في كَنَفِ أمه، فهي القادرة على رعايته وتعليمه، هكذا أقنع الصياد نفسه، وخَلَدَ للنَّوم بعد تعَبِ يوم طويل.

 

ظلَّ الصياد يُمارس نشاطَهُ كعادته دون أن يخبر أحدًا بأمر الشبل الصغير، فقد آثَرَ أن يَبْقى الأمْرُ سِرًّا مَكْتُوما، مضتْ شهورٌ عدة وأُصيبت زوجة الصياد بمرضٍ عُضالٍ، أقْعَدَها أيامًا، فأمَرَهُ أحدُ الشُّيوخ من ذوي الحكمة في الطب بإحضار نبتةٍ لا تنمو إلا عند سفح الجبل الكبير خارج الأدغال، وصف الشيخ النبتة للصياد بدقة متناهية فقرر "علي" أن يتوجَّه نحو السفح، رغم علمه بالمخاطر المحدقة، أعد عُدَّتَه دون أن يخبر زوجته وأمه بأنه متوجه نحو السفح الخطير، فلا أحد من أهل القرية قد سبق له أن زار المكان، حتى إن الصياد "عليًّا" كان يسمع عن أساطير الأجداد التي كانت تتحدث عن وجود أصناف من الذئاب الضارية هناك، تقتل كل داخل إلى أراضيها؛ لذلك ظل المكان متوشِّحًا بالرهبة لا يقربه أحد، لكن الصياد "عليًّا" لم يكن لِيَهاب السفح ولا الجبل، وهو المضطر للذهاب إنقاذًا لزوجته من الموت، لذلك كتم أمر الرحيل عن زوجته وأمه، حتى لا يمنعاه من الذهاب خوفًا على حياته، لكن "عليًّا" كان يمتلك الشجاعة التي لم يكن غيره يملكها، مع كبر سنه.

 

توجَّه الصياد الشجاع في صباح اليوم التالي يشق طريقه في الغابة مسلكًا مسلكًا، يتخطى العوائق أمامه من أغصان وسيقان من نباتات تحجب الرؤية أمامه، وهو يزيحها برمحه متوخيًا كل الحذر من الأفاعي والعناكب، التي قد تتخذ مثل هذه المواضع مخابِئَ لها في انتظار فرائس عابرة، مضى مُتَّئِدَ الخُطى وصورة النبتة ذات الساق الأخضر والورق الملفوف الأصفر المائل إلى البني تتراءى أمام عينيه، مثلما تتراءى له صورة زوجته طريح الفراش وهي تَئِنُّ أنينها المقطِّع للفؤاد، توغَّل الصياد كثيرًا في الغابة الكثيفة، أدغال تحجب ضوء الشمس، والهدوء يعم المكان فلا شيء يتحرك هنا سوى ورق من شجر تدفعه يد، والرمح باليد الأخرى يتحسس ما في الأمام والجوانب، لم يصادف الصياد أي خطر محدق، لكأن كل الغابة تعرفه فتهيأت له بكل ما فيها، أشرف على الجبل العظيم الذي بدأت قمته تلوح من بين ثنيات الأشجار، فأدرك الصياد أنه الآن على موعد مع تحقيق الهدف، لكنه ما لبِث أن خلَّف الغابة وراءه، حتى رأى قطيعًا من ذئاب يتقدمهم قائد عجوز لا بد أنه خبير بتسيير القطيع، إنها الذئاب حاكمة مملكة السفح والجبل.

 

نظر "علي" إلى المشهد ذاهلًا، فلم يسبق له أن وقع في مثل هذا المأزق من قبل، لا بد أن ما كان يحكيه الأجداد صواب؛ فمواجهة هذه الأعداد من الذئاب الهائجة أمر مستحيل، لأول مرة يحس الصياد الشجاع بشيء من الخوف يسري في عروقه، فرجل السبعين ليس هو الشاب العشريني الذي هزم الفهد وجاء به قتيلًا إلى القرية، توقف "علي" في مكانه، وهو يُشهر رمحه في وجه القائد بعد أن استجمع شيئًا من رباطة جأش تبقَّت داخله، فهو يعلم أن هزمه لقائد الذئاب طريق إلى بثِّ الخوف في نفوس البقية، خبَر هذا الأمر مما كان يسمعه عن أجداده من بطولات في مواجهة الذئاب، صرف نظره عن البقية، ووهم القائد بأنه سيواجهه بالرمح المسنن القاتل، لا بد أن القائد خبير بالمعارك من هذا النوع، فهو لن يقترب من الصياد إلا بعد أن يأمر القطيع بتطويقه، حتى يتمكنوا منه، لكن الصياد "عليًّا" كان على دراية بأنه إذا طُوِّقَ سيهلِك، فكان يلجأ إلى خطة التراجع والتقدم معًا في تناسق لا يُمَكِّنُ الذئاب من تطويقه، وبينما كان "عليٌّ" متخذًا وضعيةَ المواجهة، انسلَّ ذئب من المجموعة على حين غِرَّة، فكاد يصيب الصياد بعضة في ساقه، لكن حيوانًا قويًّا تمكن من الذئب، فنهش لحمه، وأصابه بجرح لينقذ الصياد من عضة قوية.

 

نظر الصياد فإذا بالمدافع عنه أسد بَدَتْ لِبْدَتُه الصغيرة على وجهه، فأخذ يصول ويجول مُدخِلًا الرعب إلى قطيع الذئاب الذي أخذ في التفرق، والتحقت بالأسد لبؤة قوية، ما إن رآها القطيع حتى فرَّ أدراجه يجر أذيال الهزيمة، ارتعب الصياد ولم يصدق ما يراه أمام عينيه، انهارت كل قواه وعرف أنها النهاية، قدم الأسد نحوه والرهبة تسري في دمه، وجعل يفرك رأسه بجسمه ويلعقه كما كان يصنع صغيرًا؛ إنه الشبل الصغير الذي أنقذه "علي"، لقد صار أسدًا قويًّا، أحضره القدر ليرد الجميل في قصة عنوانها الوفاء، نظرت الأم إلى الصياد "علي"، وتقدمت نحوه تلعقه هي الأخرى، لكأنما ترسل إليه عبارات الشكر والامتنان أن أنقذ صغيرها من الموت، فرح الصياد "علي" فرحًا شديدًا، وتحول خوفه إلى سكون، هدأت له جوارحه، لم يصدق الصياد نفسه، وكأنه يعيش حُلْمًا؛ فالشبل لم يَنْسَه على الإطلاق، رغم مرور شهور طويلة على الفراق، مضى الصياد نحو السفح، وبرفقته الأسد تتقدمهما اللبؤة الأم، واتجه نحو النبتة المقصودة، وقطف منها ما يحتاج في العلاج، ثم عاد أدراجه إلى القرية، وبرفقته الأسد يؤمِّن له الطريق من كل خطر، يلاعبه بين الفينة والأخرى كأنه يستذكر في ملاعبته له ذكرياتِ طفولته، وما كان من صنيع الصياد المنقذ له من الموت.

 

اقترب الصياد من القرية، فتوقف الأسد الصغير عن المسير كأنه قد فطِن إلى أنه مجبر على عدم تجاوز تلك الحدود، نظر الصياد على الأسد نظرات ملؤها الحب والإعجاب بصنيع قلما يجده الإنسان في الإنسان، فالمفترس الضاري وأمه لم يَمَسَّاه بسوء، في الوقت الذي كان بإمكانهما افتراسه بكل سهولة.

 

فرمحه لن يكون قادرًا على مواجهة الأنياب أو المخالب الضارية للأسد وأمه، وإن كان الصياد "عليّ" قد فهِم قصة الوفاء من الشبل، فقد ظل فعل اللبؤة أمرًا محيِّرًا له؛ فهو لم يصنع لها شيئًا سوى أنه ردَّ شبلها، ربما كانت اللبؤة قد فطِنت إلى صنيعه يوم رد الشبل إليها، دون أن يؤذيه؛ فالقطط الكبيرة حيوانات ذكية، وتستطيع أن تستوعب ردود فعل الإنسان نحوها، هكذا أقنع العم "علي" نفسه وهو فرِحٌ بصداقة الأسد وأمه، في حوار جميل ونادر بين الإنسان وعالم الحيوان الضاري.

 

اقترب الصياد من الأسد وعانقه عناقًا شديدًا كأنه يودعه، ولسان الأسد لا ينفك عن لعق صاحبه، وهمسات صوته تخترق أذن الصياد كأنما هي كلمات تعلن عن ضرورة تجدُّد اللقاء بين الصياد والأسد الوفي، ودَّع الصياد صديقه، وانطلق الأسد بسرعة عائدًا من حيث أتى مخترقًا الأدغال، حتى توارى عن ناظري الصياد، لحظات فراق مؤثِّرة لم يُطِق فيها الأسد فراق صاحبه، لكن غريزة البَرِّيَّة كانت تناديه، فقد فهِم ذلك من الدرس الأول يوم أمره الصياد بالانطلاق، لكن ذلك لا يعني أنه لن يلاقي صاحبه؛ فقد شهد التاريخ أن اللقاء بين الأسد والصياد تكرر مرارًا في عالم الغاب.

 

ذهب الصياد بالنبتة إلى الشيخ ليتأكد من هُوِيَّتِها، فما إن رآها حتى شرع يقلبها بين يديه مندهشًا من الصياد علي، فالشيخ يعلم أن الحصول عليها من السفح الكبير يحتاج إلى معجزة خارقة، حاول الشيخ أن يعرف كيفية تمكُّن الصياد من النبتة، فالمكان هناك مليء بالمفترسات والأفاعي والعناكب السامة، حاول الصياد عليٌّ أن يصرفه عن الجواب بسؤاله عن كيفية استعمال النبتة، فأخبره الشيخ بضرورة طبخها في الماء حتى الاستواء، وشرب مائها دافئًا لمرات متعددة، مع أكل القليل من النبتة، ذهب الصياد إلى الكوخ على عَجَلٍ فصنع مثل ما أخبره الشيخ الحكيم، وقدم الدواء لزوجته، بعد أيام بدأت تستعيد عافيتها، وشعرت بتحسن كبير، لم يمضِ أسبوع كامل حتى غادرت الفراش الذي ظلت فيه طريحًا لردح من الزمن، فسألت زوجها عن الدواء، فأخبرها ما كان من أمر النبتة دون أن يحكي لها قصة الوفاء التي جمعت بينه وبين الشبل، فقال العم "علي" في نفسه: كيف يكون هذا الأسد قمة في الوفاء، ولا أكون وفيًّا لهذه الزوجة التي حُرِمت الأبناء بسبب عقمي، وما شَكَتْ ولا تبرَّمت يومًا؟

 

عاش العم "علي" رفقة زوجته وأمه في كوخهما الصغير حياة سعيدة، وبين والفينة والأخرى كان الصياد يقتحم الأدغال، كلما اشتاق إلى صديقه الأسد ليمضي معه وقتًا رائعًا في عالم الغاب الجميل، راسمًا واحدًا من أجمل فصول الحياة في قصة عنوانها الوفاء.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الصياد

مختارات من الشبكة

  • الصياد: كن صيادا من أولي الألباب، لا من أولي الهباب(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)
  • الأميرة وزوجة الصياد ( قصة للأطفال )(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الصياد الصغير(مقالة - حضارة الكلمة)
  • ماجد الصياد الماهر (قصة للأطفال)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الصياد الطائش (شعر تفعيلة للأطفال)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • لون شكل الصياد(كتاب - موقع عرب القرآن)
  • الرسام، الصياد (قصيدتان للأطفال)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • أضف لذاتك وكن صيادا للخبرة(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • ميانمار: مسؤول يفرض غرامات تعسفية ضد صيادي الروهنغيا المسلمين(مقالة - المسلمون في العالم)
  • العصفور والصياد (شعر للأطفال)(مقالة - حضارة الكلمة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 17/11/1446هـ - الساعة: 9:44
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب