• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

شهيد الماء

شهيد الماء
دحان القباتلي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 31/1/2023 ميلادي - 9/7/1444 هجري

الزيارات: 2872

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

شهيد الماء

 

(1)

مثل الوردة اليانعة التي تنثر عبيرَها في الأرجاء، مثل الياسمينة يُعطِّر عبقُها كُلَّ مَن يمرُّ حولها، مثل الزهرة الأقحوانية التي تتفتَّح في فصل الربيع، بسمته تملأ الدنيا بهجةً وفرحًا وسرورًا؛ مثلما النهر العذب الزُّلال الذي يرتوي من معينه كلُّ ظمآن أثقله ظمأ الهجير.

 

كان عبيره يفوح في كلِّ جنبات المنزل، يتنفَّسُ من أريجه كلُّ مَن يلامسه أو يقتربُ منه! كأنه مَلاكٌ طاهر يمشي على الأرض، قد هبط علينا من السماء، فلما تعلقنا به وألِفناه وعشقناه؛ خطفته يدُ المنون مِنَّا وغيَّبته عنَّا في ظلمةٍ موحشة الجدران، كئيبة الأحزان، وتركتنا نعضُّ أصابع الندم على أننا لم نتضلع من رؤية عينيه الجميلتين، ولم نشبع من دفء أنفاسه الطاهرة، ولم نرتوِ من عذوبة حديثه.

 

إنه أجمل زهرة في بستان! وأعذب طفلٍ فاق كلَّ الأقران! إنه "يمان"، إنه "يمان"!

 

(2)

في قريةٍ صغيرةٍ من قُرى اللواء الأخضر في محافظة (إب) الخضراء، قريةٍ تحيط بها الجبال الخضراء من كلِّ جانب؛ كأنها بساط أخضر تتخللها الوديان الخصبة، وتنحدر منها مياه السماء كشلالاتٍ صغيرةٍ رقراقةٍ تسرُّ الناظرين.

 

تستيقظ هذه القرية كلُّ صباحٍ على زقزقة العصافيرِ، وعبير الورود، والأشجار المبلَّلة بقطرات الندى اللؤلؤية، في هذه الأرض الطيِّبة وُلِدَ طفلٌ جميل، تكسوه طهارة الطفولة، وتغمره رقَّة الطبيعة وجمالها ونضارتها، بولادته أشرقت شمسُ صباحٍ زاهية، وتفتَّحت ورودُ حبٍّ في قلوب أسرته، واخضرَّت صدور والديه بقدومه، بولادته بزغ نجمٌ في السماء، وتدلَّى إلى الأرض، إلى أحضان والديه المحبَّينِ العطوفينِ، الذي كان قدومه للدنيا بمثابة دربِ سعادةٍ لهما لا ينتهي،

 

كان ميلاد هذا الطفل بالنسبة لهما ميلادًا للحياة من جديد، وبشارة خير، وأمل، ونور، وبركة، وترسيخ لعلاقة حبٍّ خالدة بينهما.

 

(3)

مرَّت الأيام والسنون وابني الحبيب "يمان" يكبُر أمام عيني عامًا بعد عام، وكُلَّما ازداد يومًا من عمره؛ زاد حبُّه في قلبي أعوامًا، ويكبر "يمان" ويزداد حُسْنًا وبهاءً وجمالًا وأدبًا وأخلاقًا وذوقًا، ووضع الله له القَبول الحسنَ في قلوب كلِّ مَنْ يراه ويُعاشِره.

 

ولمَّا بلغ "يمان" السادسة من عمره، ألحقتُهُ بمدرسة الشهيد الحجري في قرية القحيزة - مديرية الرضمة، في محافظة (إب)، وفي الصفِّ الأول أثبتَ "يمان" جدارته وجدَّه واجتهاده، وظهر ذكاؤه الوقَّاد فيها، حتى تفوَّق على كلِّ أقرانه في الصفِّ، ولم يزد ذلك التفوُّق "يمانًا" إلا رِفْعةً ومكانةً في قلبي، ومركزًا مرموقًا عند مُعلِّميه وأساتذته الذين كانوا يشيدون بمستواه العلمي والديني والأخلاقي كلَّما رأوني، ولا يفتؤون يشكرونني على حُسْن تربيته وتعليمه؛ وردِّي عليهم دائمًا: "الحمد لله، هذا من فضل ربي ونعمته، فالحمد والشكر لله جلَّ وعلا".

 

حصل "يمان" على المركز الأول على جميع الطلاب، وعندما استلم نتيجته؛ عاد مسرعًا إلى البيت فرحًا مسرورًا كطيرٍ يُحلِّق في سماءٍ صافية، يتراقص طربًا وبهجة، ويُنادي بأعلى صوته: "لقد نجحتُ يا أبي وحصلتُ على المركز الأول!".

 

احتضنتُ "يمانًا" وكأنني ملكتُ الدنيا كُلَّها بين أحضاني؛ اعتزازًا به وفخرًا بعلمه ومستواه، وازداد حُبِّي له وتقديري له، وكأنَّ هذه الدنيا ما وُجِدت إلا لي وله فقط!

 

"يمان" الحبيب، كان فخري به يزدادُ كُلَّ يومٍ أكثر فأكثر.

 

(4)

ترعرع "يمان" في بيتٍ ملتزمٍ وهادئ، يملؤه الحُبُّ والحنان والأمان، ويكتسي ساكنوه حُلَلًا من الأدب والأخلاق الحسنة، ويتعاملون مع الناس في أقوالهم وأفعالهم وَفْق أحكام الدين الإسلامي الحنيف وأخلاقياته الراقية، وهذه الصفات انطبعت في شخصية الطفل، وزادته براءةً وطهارةً وحُبًّا وقبولًا من كل مَنْ عايشَه وعاشرَه.

 

"يمان" كان طفلًا بشوش الوجه، سمح الملامح، بهيَّ الطلعة، لمَّاح النظرات، ونورًا مبهجًا يشعُّ من جبينه الوضَّاء، وتضيء من عينيه اللمَّاحتين براءةُ الطفولة، وترتسمُ على مُحيَّاه العذب ابتسامة الصباح البهيِّ المشرق.

 

جميع تصرُّفات "يمان" كانت تُوحِي بأنه طيرٌ من طيور الجنة، فقد كان يُحِبُّ محاكاة أصوات الحيوانات وتقليد زقزقة العصافير.

 

"يمان" كان يمتلكُ حظًّا كبيرًا من الجاذبية، يُجبِرُ مَن يلتقي به على الالتفاتِ إليه والاهتمام به؛ ببسمةٍ تعلو مُحيَّاهم وتسرُّ أفئدتهم لرؤية هذا الملاك المميَّز، حتى بات يُضرَبُ به المَثَل في البشاشة، والابتسامة البريئة، والأخلاق الحلوة، والسلوكيَّات المُهذَّبة والذكية.

 

كبُرَ "يمان" ونشأ نشأةً صالحةً، وعندما بلغ سن الثالثة من عمرهِ أرادت والدتُه زيارة أهلها في دولةٍ أخرى، فكان ذلك أول فِراق بيني وبين طفلي الحبيب، فكأنما أراد الله أن يُدرِّبني على فِراقِ "يمان" تدريجيًّا، فكان ذلك أول موقف تنهمرُ فيه دموع الحزن سخيةً، ولم أكن أعلم أنَّ القدر سيغرقني في بحورٍ من الدموع التي لا نهاية لها! يومها ركب "يمان" الحافلة مع والدته وخاله وهو مجبر؛ إذ كان صوت صدى بكائه يملأ المكان، وهو يُردِّد بأعلى صوته: "أبي، أريد أبي!".

 

حاولتُ منع نفسي من البكاء، فاختنقتُ بعبراتٍ مريرةٍ خنقت صوتي، وقطَّعت أنفاسي، حتى انطلقت الحافلة متجهةً إلى خارج الحدود، فجلستُ أُكابدُ عبراتي، وأعصر ألمي الذي أتاح لصوتي المخنوق أن ينطلق متفجرًا من صدري، صارخًا بوجه اللاشيء: "أُريد ولدي! أُريد ولدي!".

 

فبكيتُ ما شاء ليَ البكاء حتى هدأت ثورةُ نفسي قليلًا، وخبا نبضُ قلبي نوعًا ما، ولم أكن أعلم أنها لن تكون أوَّل مرة أبكي فيها فِراق فلذة كبدي، وعدتُ أدراجي إلى المنزل الذي وجدته موحشًا لفِراق "يمان" وأمِّه.

 

حاولتُ التأقلم مع الوضع الجديد، برغم اتصالاتي بأسرتي التي لم تنقطع؛ إذ مكثوا هناك قرابة الشهرين كانت كأنها السنين الطِّوال، قاصمة للظهر، مُدميةً للفؤاد.

 

علمتُ بعدها بموعد عودتهم، فلم أتمالك نفسي من الفرح، وسبقتني أنفاسي ونبضات قلبي قبل خطى أقدامي، مسرعةً لاستقبال الأحِبَّة في صنعاء، كنتُ أحملُ فؤادي بين يديَّ لأُقدِّمه لفلذة كبدي "يمان الحبيب" ليرى بنفسه كيف ظلَّ فؤادي فارغًا بغيابه! كانت أول جملة سمعتها وهو في أحضاني: "أحبك أبي!".

 

(5)

أكمل دراسته في القرية حتى آخر لحظاته، لقد كان نِعْمَ الابنُ البارُّ، ونعمَ الأخُ الحنون، ونعمَ الصديق الوفيُّ، ونعمَ الطالبُ المُجدُّ المجتهد، كنتُ أعتبره مشروعي الأكبر في الحياة، والذي سأصنعُ منه بعد إرادة الله مثالًا للمجد والنجاح الخالد، يتوارثه الأجيال ويقتدون به.

 

عُرِفَ عن "يمان" الكَرَم في كلِّ مواقفه وتصرُّفاته وتعامله مع الآخرين، كان يتصدَّق بكلِّ ملابسه على الفقراء والأيتام والابتسامة لا تُفارِقه؛ راضيًا ومقتنعًا بكل ما يفعله، طالبًا الأجر والثواب من الخالق؛ لا من المخلوق.

 

أكثر ما كان يُميِّز "يمان" بين الناس البسمة وبشاشة الوجه، وقد عُرِف بها وكأنها صارت له شعارًا وعلامةً بين كلِّ مَن عرَفَه وعاشره.

 

كأنه ملاكٌ! هذا الصبيُّ قد هبط من السماء ليمشي على الأرض كالبشر، ملاكًا بأخلاقه، وبراءته، وطهارته، وكرمه، وتفانيه في خدمة الغير، وإتقانه لكل عملٍ يقوم به.

 

كان "يمان" السخيُّ، يجمعُ كل ما يحصل عليه من مالٍ أو هدايا أو عطايا في الأعياد والمناسبات العائلية والعامة، ويشتري بها جميع أنواع الحلويات ليُوزِّعها على أهل بيته وأصدقائه، راضيًا وسعيدًا بما يفعله للغير حتى إنه في بعض المواقف زارنا صديقٌ لي، فقُمْنا بضيافته، وجهَّزنا له مأدبة غداء، وبعدها همس الصديق لي قائلًا: "ما شاء الله! تبارك الله! لقد رزقك الله بطفلٍ كريم جدًّا، وعلى خُلُقٍ وأدَبٍ رفيع".

 

سألته: "كيف عرفتَ ذلك؟!"

 

قال لي: "لقد كان يأخذُ قطع اللحم ويضعها أمامي دون أن يشعر به أحد".

 

فحمدتُ الله وشكرتُه على هذه النِّعْمة العظيمة، ودعوت ربِّي راجيًا متوسِّلًا أن يُديمَها عليَّ ولا يحرمني منها.

 

(6)

تهتُ في زوبعةٍ من الأفكار السلبيَّة والهواجس، ولسان حالي يُردِّد: "اللهُمَّ سلِّم، اللَّهُمَّ سلِّم"، فقد طرقت عيناي طفلًا شبيهًا ليمان يمشي في السوقِ وقتَ الظهيرة، وعلى غير العادة؛ فقد كان يرجع إلى البيتِ مع حافلةِ المدرسة نظرًا لصغرِ سنِّه، ولبُعْدِ المسافةِ بين المدرسةِ والمنزل، ولا أعلم كيف قطع الطرقات سيرًا على الأقدام، وكيف سمحت له إدارة المدرسة! فتزاحمت الأفكار السيئة والحوادث المرعبة في عقلي، وصدى صرخات الخوف يرتدُّ إلى أعماق صدري حتى ظننتُ أني سأُجَنُّ ويُغْمى عليَّ، وما زلتُ أُردِّد: "اللهم سلِّم، اللهم سلِّم، اللهم لا تجعل مصيبتي في فلذة كبدي ولا تفجعني بفقده".

 

كان القلقُ جاثمًا على صدري، قد غرس أنيابه الحادَّة في طيَّات قلبي، حتى تغيَّرت ملامحُ وجهي كُليَّةً، وكساه الأسى والحزن والبكاء.

 

أطلتُ النظر إلى نهاية الطريق، وببصري كله حدَّقْتُ جيدًا، فإذا بي ألمحُ أطفالًا متجمِّعين بجانب طفلٍ خُيِّل إليَّ أنه حبيبي "يمان"، وبالأصح مَنَّيتُ نفسي وقلبي وعقلي أن يكونَ هو "يمان"، محاولًا تهدئة ثورة الخوف في قلبي وعقلي قليلًا.

 

تسمَّرتُ مكاني قليلًا، وجسدي ينتفضُ كالطائر المذبوح، ويرتجفُ خوفًا وتوتُّرًا وفزعًا وقلقًا وأملًا ورجاءً ودعاءً!

 

اختلطت كُلُّ المشاعر في جوفي حينها، وتزاحَمَت الأسئلة في عقلي بين يأسٍ وقنوط، وبين أملٍ ورجاء، حتى اتضحت الصورة أكثر وأكثر، وبَدَتْ لي جليَّةً واضحةً.

 

فإذا به "يمان" ابني الحبيب!

 

يا الله! ما أجملها من لحظةٍ حين عانقته حينها وبقوة! وكأنَّ كل عضوٍ في جسدي وكلَّ مسامٍ في جلدي وكلَّ خليةٍ ترجوه وتدعوه، وتطلب منه ألَّا يغيبَ عنِّي مرَّةً أخرى.

 

عُدْتُ به إلى المنزل وأنا لا أدري ماذا حصل؟! وكيف حصل؟! ولماذا حصل؟! ولكنني أخذتُ قراري يومها بأن يُكمِل دراسته في مدرسة الشهيد الحجري بالقرية؛ فهيَ أكثر أمنًا وأمانًا له ولي.

 

أكمل "يمان" صفَّه الثاني حائزًا على المرتبة الأولى، وقد سلبَ قلوب مُعلِّميه ومديريه وزملائه، حاصلًا على جوائز تقديرية في حفل تكريم نهائي في مدرسته: مدرسة الثريا بمدينة يريم- محافظة (إب).

 

(7)

استمرَّ "يمان" في دراسته في القرية، وكان يحرزُ نجاحًا وتقدُّمًا وتفوُّقًا في كلِّ عام، فخري واعتزازي به يزدادُ يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام.

 

اهتمامي بابني "يمان" كان كبيرًا، فقد كنتُ آخذه معي إلى كل صلاة، وأحفِّظه جميع الأدعية والأذكار؛ حتى إنه كان يدعو بدعاء الدخول إلى المسجد دون أن أُلقِّنه.

 

وصل "يمان" إلى درجةٍ عاليةٍ من الأدب والدين والأخلاق، بدت واضحةً في كل تعاملاته مع الأهل والأصحاب والجيران، كنتُ دائمًا أوجِّهه إلى الصواب، وأمدُّه بالنصيحة الخالصة؛ كونه أكبر إخوته، وأنه رجل البيت في غياب والده، فكان نِعْمَ المستمع للنصيحة والعامل بها، حتى جاءت آخر لحظة يريدُ الله أن يُكمِل اختباره لي بتوديعه للأبد؛ نويتُ فيها السفر إلى ماليزيا.

 

ذهبنا حينها أنا ووالدته وبعض أهلها ووالدي العزيز إلى (سيئون)، فسافرت إلى السعودية، وكان عند الوداع كلٌّ منا ينظر إلى الآخر، نظرات توديع حارقة، وليس بيننا أيُّ كلمات سوى الدموعِ التي كانت تتكلَّم عن كلِّ ما يجري حينها وسيجري بعدها! كانت النظراتُ والدموعُ تقول ليمان: "وداعًا إلى الأبد".

 

كان كلٌّ منَّا يبكي في جهةٍ بعيدًا عن الآخر حتى اختفينا، وذهب كلٌّ مِنَّا في وجهته.

 

(8)

في ماليزيا، عدتُ ذات يوم إلى السكن، وكنت متعبًا مُرهقًا، فنمتُ من شدة التعب والإرهاق في وقتٍ لم أتعوَّد النوم فيه.

 

كان هناك اتصالٌ هامٌّ يأتيني من صاحبٍ لي حينها؛ ولكنني لم أستطِع الردَّ عليه؛ لشدة إرهاقي وتعبي ونُعاسي.

 

حين استيقظتُ، كنتُ لا أزالُ مُتعبًا كأني لم أنَمْ للحظةٍ واحدة، وأجبتُ على اتصال صاحبي حينها، فباشَرَني بسؤاله عن عدم ردِّي على اتصالاته العديدة منذ أكثر من ساعة، فاعتذرتُ له، ثم طلب مني الذهاب إليه من أجل العمل والتدريس؛ لكنني اعتذرتُ وطلبتُ منه التأجيل وتأخير الموعد؛ نظرًا لإرهاقي الشديد.

 

رفض صديقي عذري وصمَّمَ أن أذهب إليه، فخرجتُ مسرعًا ملبِّيًا طلبه وجوعانًا أيضًا، ذهبنا إلى الصلاة، وعدنا لمقابلة المدير، وفي نفس اللحظة اتصلت زوجتي، فبشَّرْتُها بأني قد وجدتُ عملًا، وطلبتُ منها الدعاء لي بالنجاح والتوفيق والقبول.

 

كان ذلك يوم الأربعاء، واتفقنا على بدء العمل اعتبارًا من يوم الأحد القادم بفضلِ الله وتوفيقه.

 

(9)

كنتُ في لحظاتِ فرحٍ كبيرٍ وسرورٍ عظيم؛ لحصولي على عملٍ يُعينني على تحسين المستوى العلمي لي، وتحسين المستوى المادي لي ولأسرتي الصغيرة المقيمة في اليمن.

 

بعد خمس دقائق تقريبًا، حدث ما لم يكن بالحسبان! كان القدرُ يُخبِّئ لي حدثًا هائلًا ومصيبةً عظيمةً ما زلتُ أعاني أثرها حتى الآن، جاءت مصيبتي على هيئة اتصالٍ تلقَّيْته من ابن عمِّي، يسألني فيه عن أيِّ اتصالٍ قد وصلني من اليمن من طرف أهلي! أجبتُ بالنفي، وسألته عن جدوى سؤاله وسبب استفساره، أخذ ابن عمِّي يعظني، ويُذكِّرني بالله، ويمدحُ قوة إيماني والتزامي، ويُواسيني، ويطلب مني الثناء على الله وحمده وشكره.

 

كنتُ متلهِّفًا مندهشًا وسألته: "ما الذي حدث؟! وماذا يجري؟!".

 

وتكلَّم ابن عمِّي! أحسستُ بدقَّات قلبي تتسارع، وبسيوفٍ تنغرسُ في ظهري، وصدري، دون رحمةٍ أو هوادة، وما زال لساني يُردِّد على مسامعه: "ماذا هناك يا رجل؟! ما الذي حصل؟ قُلْ، تكَلَّم بربك!".

 

وجاءني الردُّ كصاعقةٍ هوت فوق رأسي، أخرست لساني وشلَّت عقلي، قال: "لقد ابتلاك الله بقُرَّة عينك وفلذة كبدك".

 

وكان لي حينها طفل آخر أسميتُه "يام" فظننتهُ هو! ولكنه قال لي : "يا أبا "يمان"، لقد ذهبَ ابنكَ "يمان" يسبحُ في سدِّ القحيزة، فغرقَ ومات!".

 

تمالكتُ نفسي حينئذٍ، وحمدتُ الله كثيرًا، ثمَّ عُدْتُ أسأله من جديد: "هل هو ابني يام أم ابني "يمان"؟!".

فردَّد مؤكدًا: "إنَّه "يمان"!".

 

فقلتُ: "الحمد لله والشكرُ لله"، وخانتني دموعي حينها، فبكيتُ وبكيتُ ما شاء ليَ البكاء!

 

كان ذلك هو الوعد الحقّ من الله سبحانه وتعالى حين قدَّرَ لي أن أُودِّع "يمان" الحبيب من قبلُ عدة مراتٍ لأعتاد على فراقه، هو الذي رزقنا إيَّاه، وجعله وديعةً وأمانةً عندنا، ثمَّ استردَّ أمانته؛ فلله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بمقدار.

 

أسأل الله أن يتقبَّل مني حُسْنَ تربيتي له، وأن أكونَ قد صُنْتُ الأمانة، وأحسنتُ تربيته إلى حين استردادها، فالحمد لك، والشكر لك عدد ما فاضت أعين الفاقدين على مَنْ فقدوا، وعددَ مَا سبَّحَ وحمدَ وشكر لك على عطاياك وقضائك وأقدارك.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الحمى والماء البارد
  • شرح حديث: إن الماء لا يجنب
  • شرح حديث: تحته ثم تقرصه بالماء
  • شرح حديث: يكفيك الماء ولا يضرك أثره
  • شرح حديث: الماء من الماء
  • حديث: إنا نتبع الحجارة الماء
  • فضل صدقة الماء وإهدائه (خطبة)
  • أثر صدقة الماء في زمن الابتلاء (خطبة)
  • الماء آية من آيات الله (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • هنيئا لمن مات شهيدا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فوائد المرض (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير قول الله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • لماذا سمي الشهيد شهيدا؟(مقالة - آفاق الشريعة)
  • العقد الفريد في بيان منزلة الشهيد وأحكامه (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الشهادة في سبيل الله تعالى (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أحجية الماء (قصيدة عمودية)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • حكم قول: (فلان شهيد)(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
1- عوضك الله
زائر - السعودية 01-02-2023 04:15 AM

قصة مؤلمة وقد حركت مشاعر الحزن بصدري لفقد ابني الله يعوضك ويجمعكم به في جنته

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب