• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

على أعتاب الثلاثين

على أعتاب الثلاثين
عامر الخميسي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/1/2022 ميلادي - 14/6/1443 هجري

الزيارات: 17879

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

على أعتاب الثلاثين


ذكريات ثلاثين سنة مضت من عمري:

أرِقت البارحة وأنا أتذكر أيام عمري التي تتساقط تباعًا، لأقف على عتبات الثلاثين، وبينما كان خاطري يجول في أفكاره، تذكرت ما قاله حبيب الأندلسي وهو يتذكر الثلاثين من عمره:

ثَلاثُونَ مِنْ عُمْرِي مَضَيْنَ فَمَا الذي
أُؤَملُ مِنْ بَعْد الثلاثين مِنْ عُمْري؟
أطَايبُ أيامي مضيْن حَميدةً
سِراعًا وَلَمْ أَشْعُرْ بهن وَلَمْ أَدْرِ

 

أيام تمضي، وأيام تأتي، مشاريع تبدأ، وأخرى تأفل، أهداف تتحقق، وأخرى تتعثر، دروب تتسع، وأخرى تضيق، مدن ترحب بنا، وأخرى تضيق بنا، ذكريات تُبهج، وأخرى تُزعج، والزمن يمر، والسنوات تولي، والشهور تنصرم..

 

لحظات تبهجنا بسعادتها، وأخرى تنغص عيشنا، الشتاء غير الصيف، والربيع غير الخريف، واليوم خلاف الأمس، والصبح لا يشبه الظلام، والإشراق مختلف عن الغروب..

 

ظروف كثيرة ومتغيرات يعيشها الشاب إلى أن يصل الثلاثين، وهناك يقف على هذا العمر منتصبًا ناظرًا ما خلفه من عمر تساقط كأرواق الشجر..

 

ما يكون مشكلة في الثلاثين قد يصبح حلًّا بعدها والعكس، وما تراه صعبًا قد يصبح سهلًا، وما كان بعيدًا ربما يكون في متناول يدك، والتجارب تعلمك الكثير..

 

ترى عمرك كشجرة تتساقط أوراقها بين يديك، تتعاقب أوقاتك، بين ليل ونهار، وصبح ومساء، تقابل وجوها جديدة وتودع أخرى، ومع كل تحول، تنتقل من حال إلى حال، ولا دوام لحال مدى الحال.

 

عرجتُ البارحة على قريتي التي عشتُ فيها طفولتي الناعمة، لأَشُم أريج تلك الأيام الخوالي العطرة التي احتضنت ملاعب طفولتي ومغاني صباي، محاولًا تذكُّر أصدقائي الصغار الذين أصبحوا كبارًا حين كنا نتسابق مع بزوغ كل شمس ركضًا إلى المدرسة، ثم نعود إليها عصرًا لحلقات التحفيظ، ثم نفرح إن بقي لنا متسع من الوقت، لنتحلق حول كرة مهترئة حتى غروب الشمس، ثم نعود إلى القرية لصلاة المغرب والعشاء، ثم نتحلق حول الضوء، فنذاكر ونقرأ ونكتب، ونحل واجباتنا، ووالدي يتوسطنا إلى أن ننهي الواجبات ثم نخلد إلى النوم..

 

أذكر مرةً عندما كنتُ في سن الثامنةِ تقريبًا، حينَ كانتْ أيامي تعبقُ بنسائم الطفولة البريئة الغضة، وكنتُ أذهب أجلب الماء من البئر، ودخل رمضان وتسحرت مع والدي وإخواني في أجواء مفعمة بالحب مليئة بالرضا والانتعاش، وفي الصباح ركبت الحمار وذهبتُ للبئر، فلقيتني فتاة متعلمة رزينة غفر الله لها، فقالت: يا عامر، هل أنت صائم؟ أجبتها بزهو وافتخار: نعم، فقالت: "البسكوت" لا يفطر، فسألتها بفرح واستبشار: هل صحيح ما تقولين؟ فحلَفَت لي بالله أن نعم، وأنا طفل بريء لا أعرف الألغاز ولا الأحاجي ولا اللف والدوران..

 

عدتُ إلى البيت وبقيت صائمًا إلى وقت الظهر والجوع قد أخذ مني مأخذه، وتسللتُ خفية أبحث عن "البسكويت" الذي كانت تخبئه أمي لإخواني الصغار، ولما أن عرفتُ موقعه هجمتُ عليه، فالتهمتُ أكثره، ولكن أمي اكتشفت الأمر، وقُدمتُ إلى المحاكمة بتهمة الإفطار عمدًا في نهار رمضان، ولم يكن هناك بد من أن أخبرها بالفتوى، وقلت لها بكل جرأة: "البسكوت" لا يفطر في رمضان، فقالت: مَن أفتاك بهذا، ولما أن أخبرتها ضحكت ثم بينَّت لي أن المرأة قد لعبت على عقلي، ومعنى كلامها أن "الكوت؛ أي الجاكيت إذا لبسته في رمضان لا يفطر"، وهي تأمرني عندما قالت: "البس"، وليس البسكويت، فعرفتُ من يومها الحيل والخدع، وصارت القصة أضحوكة القرية، وليس لموسم رمضاني واحد، ولكن لا زال يتردد صداها إلى اليوم منذ أكثر من عشرين سنة..

 

لقد كانت أمي روضة غناءَ، وكانت حكيمة وصاحبة قلب نقي وابتسامة بشوشة، فما أجمل روحها النقية العطرة التي فتحت عيني على الحياة..

 

كانت تعلمني بابتسام يأخذ موقعه إلى القلب، وأتذكر أني كنتُ عرضة للأمراض خاصة في مواسم الأمطار وانتشار البعوض، فإذا مرضتُ قامت في الصباح وأخَذت سريري الصغير المصنوع من أعواد الخشب، واستقبلت بي الشمس حتى أتعرض لأشعتها، وقد كنتُ نحيل الجسد، فأخي عبدالرحمن الذي لما حملت به بعد ستة أشهر من ولادتي، سبقني بمراحل طولًا وعرضًا، وأنا النحيف الصغير الذي يبدو أمام الناس، وكنتُ أقول في نفسي: ما الرجلُ إلا الطويل السمين القوي، ولكن لما عركتني الحياة وعرفتها، صار همي ألا أن يرزقني الله إلا علمًا وأدبًا وفهمًا وحكمة، وكانت أيامي الطفولية مترعة بالجمال ما بين المدرسة والحلقة وجلب الماء على الحمار من البئر، وبيت القش الذي نأوي إليه، وكان يعدل عندي قصور الدنيا لما أرى فيه من حب وانسجام وسكينة، فإذا جاء المطر وهبت العواصف، لم يكننا ذلك البيت من المطر والرياح، فندخل في زواياه مع أبي وأمي وحتى شويهاتنا وغنمنا وحطبنا الذي كانت أمي تدخله البيت قبل نزول المطر حتى توقد لنا في الليل منه، فإنه إن غرق بتنا بلا عشاء..

 

إنها ذكريات تأخذ بعقلي، وتجعلني أحن من جديد إلى تلك المرابع وكيف لا يحن المرء إلى وطنه وقد قال الشاعر:

وحُبب أوطان الرجالِ إليهمُ
مآربُ قضاها الشبابُ هنالكا
إذا ذكروا أوطانَهُم ذكرتهمُ
عُهودَ الصبا فيها فحنوا لذلكا

 

من أعظم من أثر فيَّ في زمن الصبا أستاذي طاهر علي قايد النمير، وهو أستاذ جاءنا من مدينة (إب)، فمكث عندنا أربعين يومًا لا أنسى جمال تلك الأيام، وقد كان اسمه كاسم أبي، واسم أبيه كاسم جدي، وكان داعية مؤثرًا، صنع فيَّ بصمة خاصة، فليتني اليوم ألقاه، ومن عجائبه أنه كان يقول لنا: اختاروا متى تريدون أن أوقظكم من الليل، فنحدد الساعة والدقيقة، فيفعل ذلك، وقد جربت مرة أن أعجزه فلم أستطع..

 

ولقد كان والدي شديد الحُنو عليَّ، وكان يسعى في تعليمي وإفادتي، وكلما سمع مركزًا علميًّا فتح، أو دورة شرعية تبدأ، إلا تجده قد سجَّلني فيها، وقد بدأت رحلتي في طلب العلم وأنا في العاشرة تقريبًا عندما كنتُ أذهب في العطلة الصيفية إلى مثلث عاهم، فأسكن مع عمي في عزبته؛ إذ كان حينها يشتغل في الخياطة، وأدرس في حلقات القرآن وأسمع دروس العلم، وأذكر أن الشيخ حسن الشافعي ذات مرة مر من مثلث عاهم، وأعطى خاطرة، فتجمع الناس حوله وازدحموا، وأول مرة في حياتي أرى عالِمًا يجتمع الناس حوله، ويسلمون عليه، وأرى هيبته، وسمعتُ الناس يقولون: جاء الشافعي، هذا الشافعي، مرحبًا بالشافعي، فظننتُ أنه الإمام الشافعي الذي جلب لنا والدي ديوانه إلى البيت، فلما انتهت العطلة ورجعت إلى البلاد، وسألني والدي عن أعجب ما رأيت، قلتُ له: "رأيت الإمام الشافعي"، وقعدت أحدثه عن جلاله وهيبته وحب الناس له، ووالدي يبتسم ولم يقل لي شيئًا، وأظنه ما كان يريد أن يعكِّر فرحتي أو يفسد جو الصفو الذي عشته، وإنما واصل السؤال عن رحلتي العلمية، وهكذا استمرت الرحلة إلى مثلث عاهم سنتين أو ثلاث إلى الأستاذ حفظ الله الريمي، والأستاذ محمد الأسلمي، وكان في تلك الحلقات أجد لذة لا تعدلها لذة في الدنيا.

قد يهون العمر إلا ساعةً
وتهون الأرض إلا موضعَا

وكان مدرسو التحفيظ يتعاقبون على قريتنا، وآخرهم كان الشيخ محمد الأهدل من باجل، وقد اصطحبني مرة معه إلى دار القرآن؛ حيث كان مشرف الدار ابن خالته، ومن ذلك الحين أحببت العيش في الدار..

 

ثم دخلت بعدها دار القرآن الكريم في عاهم؛ حيث دفع بي والدي للدار، وسكنت مع الطلاب، وكنتُ حينها في بداية الصف الثامن "الثاني متوسط"، وعشتُ بعيدًا عن أهلي، فلا أراهم إلا مرة في الشهر، وقد مكثتُ في الدار قرابة سنتين، تعلمت فيها وأكملت القرآن إلى جانب دراسة بعض المتون العلمية؛ كالآجرومية والبيقونية والعقيدة الواسطية والدرر المضية وشرحها، وغيرها..

 

كان الشيخ أحمد القاضي رجلًا استثنائيًّا، فهو مؤسس الدار وشيخه، وقد كان مديرًا للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن في جازان مدة عشر سنوات، ثم رغب في الرجوع إلى اليمن ليؤسس الدار، فكانت تلك الثمار اليانعة من مئات الطلاب الذين استفادوا من الدار.

 

كان الشيخ أحمد يَستقبلنا أحيانًا بيته الهادئ الجميل إذا رغبنا في زيارته، فيقرأ علينا من كتب العلم، يشرح لنا بأسلوبه الجميل، وطريقته الرائعة، فإذا بدأ درسه نصغي كأن على رؤوسنا الطير، ننتظر بشغف تحليلاته ونُكَتَه العلميةَ التي كان يجود بها علينا بين الفينة والأخرى، وأكثر ما كان يروقُ لنا في تلك المجالس البهية سمو همته وبعد نظره، فقد كان من أهل الاجتهاد والعلماء الراسخين، كنتُ أعيشُ خارجَ دنياي لأحيا في أحضان تلك اللحظات المُشرقة التي كان يَسردها على مسامعنا، فقد كان يحيي سيرة السلَف الصالحين، وأذكر أنا كنا لزيارته تتهلل أساريره، وينفتح قلبه، فقد كان يرى فينا قصة شباب طامح يتوثب همة، وهو كريم جدًّا يصدق عليه قول الشاعر:

تعودَ بسط الكف حتى لو أنه
ثناها لقبضٍ لم تُجِبهُ أنامِلُهُ
ترَاه إذا ما جئته متهللًا
كأنك تُعطيهِ الذي أنتَ آمِلُهُ
ولو لم يكن في كفه غيرُ رُوحِهِ
لجاد بها فليتق اللهَ سائلهُ

 

لا زلت أحفظ الكثير من مواقفه معنا عن ظهر قلب، والحِفظُ في الصغر كالنقش على الحجر، ولا أظنني سأنسى ذلك مهما بلغَ بيَ الْكِبَرُ، وكيفَ أنسى من صنع في بصمة لا يمكن أن يمحوها الزمان.

 

من الدار كان انطلاقتي نحو الخطابة واعتلاء المنابر؛ حيث كان طلاب الدار الخطباء يتوزعون على القرى المجاورة، فكانت فرصة ذهبية لا تقدَّر بثمن؛ حيث يجد الحافظ نفسه وسط مجتمع أمي فلا خوف إذًا من الخطأ في اللغة وتكسير الإعراب في بداية أمره، ومما لا أنساه أن أخي ورفيق دربي أسامة فراج عرض علي نصعد معًا قرية الحفاوة، وهي قرية في منتصف الجبل المطل على الدار من الناحية الشرقية الجنوبية، وكانت أول خطبة يخطبها، وكان الحضور في المسجد لا يجاوزون خمسة عشر في تقديري أغلبهم من كبار السن، وأذكر أن أسامة كان معه كتاب خطب لأحد علماء السعودية، فخطب ذلك اليوم وكان يرتجف خوفًا، ثم أكرمونا وتغدينا عند شيخهم، وانحدرنا من الجبل نمر على عيون الماء التي تجري، ولست بقادر أن أصف ذلك الجمال وتلك الزروع والأشجار والفواكه والخضار، حتى ما كنا نجد الطريق لأقدامنا، فإما صخرة كبيرة ملساء، وإما عين ماء تجري، وإما نبتة قائمة على أصولها محمَّلة بثمارها، وكانت تجربة ناجحة؛ لأن ينطلق أسامة، فمن يذكره بهذا الموقف وتلك الخطبة، وقد أصبح اليوم مراسلًا للقنوات ومتكلمًا فصيحًا.

 

من دار القرآن الكريم بعاهم كنا نتوزع للخطابة في سوق عاهم ومزرعة وبني شهر، والعبيسة والمغربة وسودين والجحاشة، وبني سعيد والعريض ومستبا وأسلم، وبني حملة وقارة ووشحة، وكل المناطق المجاورة، وكانت لنا أيام لا تنسى مع خطب أستاذنا عبده هجيني الذي جاء في المرتبة الثالثة على مستوى اليمن في الخطابة، وهو ضمن ثلاثة صنعوا لدي الجرأة في الإلقاء، وتأثرت بهم كثيرًا زمن الطلب، وكانت أول خطبة كتبتها معالم السرور؛ حيث كلفني بها أستاذي وصديقي ورفيق دربي محسن دوش، وقد خطبت بها بعد ذلك، وأظنها لا زالت مكتوبة معه وقد طال العهد عليها منذ ثماني عشرة سنة تقريبًا، ورعى الله تلك الأيام التي كان يوجهنا فيها أستاذنا محمد مهدي وخليل القاضي وعلي نور الدين، فقد كان لها طعم آخر، ومذاق شهي، ومن لا يحن إلى صباه الجميل..

 

إنني اليوم أحِن إلى ربيع ذلك الزمن الذي عشتهُ قبلَ دخولي معترك الثلاثين؛ حيثُ الهمة العالية في الطلب، ولقد بت ليلتي مضطربَ القلب تكويني ذكرياتي، فلو ذاتُ سوار لطمتني لهان الخطبُ، ولكن لفح السنين:

ألمْ ترَ أني منْ ثلاثينَ حِجةً 
أروحُ وأغدو دائمَ الحسراتِ

فيا ربيع أيامي التي أتأسف عليها، هل لك من عودة ..

 

إنني اليوم أشتاق لمكتبة دار القرآن التي عاث بها الحوثيون، وبهاء الدار الذي محوا جماله وصحبة الدار، وأنس الدار، وجو العيش فيه مع أساتذتي وزملائي الذين تفرَّقوا تفرُّق أولاد سبأ، اشتقتُ لمسجد السوق الذي كلفني الشيخ أحمد القاضي بأن أنوب عنه في محاضرته كل أحد؛ حيث كان رواد ليلة الاثنين يجتمعون بحب، فيا لله كم من ذكريات ينوء بها قلبي، وكم من حنين واشتياق لتلك الثلة الطاهرة في ذلك المسجد، وكم تابوا فيه من شباب كانوا لصوصًا وسراقًا، وقطَّاعَ طرق، وتاركي صلاة، وكم جلسنا فيه مع شباب يضيء النور من بين أيديهم:

شبابٌ ذللوا سبل المعالي
وما عرفوا سوى الإسلام دينَا
تعهدهم فأنبتهم نباتًا
كريمًا طاب في الدنيا غُصونَا

 

لقد اشتقتُ لزمن اللعب في الدار؛ حيث فرق القادسية واليرموك وحطين، اشتقت للأمسيات الجميلة والأناشيد الندية، وصوت أستاذنا محمد الوصابي وهو يشدو كالبلبل الغريد، اشتقت لزيارة صديقي عبدالناصر الحملي؛ حيث ضرب لنا موعدًا نزوره فيه، فقطعنا جبالًا شاهقة إليه، فوصلنا قبيل العصر؛ حيث أخبرنا أنه قد فاتنا الغداء، ولمحسن حيث كان ينشد دومًا: "وخير جليس في الزمان المصحف"، ولصديقي إبراهيم؛ حيث كان لا يمل من الدوران وهو يقرأ حتى ضرب به المثل، وللنزهة على قمة جبل الشتير؛ حيث كنا أحيانًا نركب الجبل ونصعد قمته، وهو جبل عالٍ جدًّا مطل على مدينة عاهم، ومنه اصطاد البعض الأرانب، وأحد الطلاب اصطاد يومًا ثعبانًا ووضعه في قارورة، فكان يخيف به زملاءه، واشتقت لمديرنا محمد مهدي؛ حيث كان يقضي كل وقته في المكتبة، فإذا خرج إلينا خرج بعصاه، فيفر الطلاب منه كأنه قسورة، تذكرت الصعود إلى أعلى قمة القلعة في بني شهر برفقة من لا أنساه أبدًا إبراهيم الحجوري توءم الروح في زيارة دعوية نحاضر ونخطب ونزور الناس..

 

اشتقت للشيخ خالد معيض وصوته الجهوري وقصائده التي راسل بها شعراء الحجاز، ونبرة الأستاذ حسين عكوش وهو يتلو علينا قصيدة مالك بن الريب، والأستاذ ناصر مشعل وهو يقص علينا قصص الصحابة والتابعين كل يوم بعد صلاة الظهر، والأستاذ ناصر مشعل وهو يزمجر خطيبًا، ويعلِّمنا في دورة الخطباء؛ حيث جئت الأول في تلك الدورة..

 

اشتقت للبحث في مكتبة الدار كنحلة تتنقل من زهرة إلى زهرة، ولإبريق الشاي الساخن بعد صلاة العصر حيث كنا نتقاتل عليه، ولتلك الشموع والكبريت الذي كنت أقوم كل فجر، فأكتشف أنه من آثار شيخنا أحمد القاضي؛ حيث كان يبيت ليله متهجدًا وتاليًا، فأعرف أنْ لا ثمة أحد سواه يفعل ذلك الصنيع.

 

اشتقتُ للشيخ صادق قرسوس وخطبه المؤثرة التي تجعلك ترى معارك بدر وأحد والقادسية وحطين رأيَ العين، اشتقتُ لرفقة صالحة كنت أسافر معهم الليالي ذوات العدد، من أجل الدعوة إلى الله في جبال أسلم برفقة عبده جربان وعبدالله ربيع، وقوم كرام من بني مهجر والشافعي، ووادي الشوارق والعجرى وبني اليزيدي، أولئك القوم الكرام الذين ورثوا المجد كابرًا عن كابر..

 

لله كم عشقت الصعود إلى أعلى قمة في العبيسة؛ حيث الأنوار الليلية المطلة على متاجرها التي تشبه مدينة حجة في بيت أخي الشيخ علي الدريني، ويزيد الحنين إذا تذكرت وادي الشيق الذي تجري فيه العيون وتغرد فيه الأطيار؛ حيث زرناه مع زملائي الكرام، فارتسم عشقه في الذاكرة، وكانت الرحلة إليه من أجمل الرحلات أيام دراستي في الدار، ففيه العين الجارية والفاكهة النضيجة، وقد زرناه قبيل الغروب، فلا تسل عن جماله حينها:

وَلِلنَسيمِ اِعتِلالٌ في أَصائِلِهِ
كَأَنهُ رَق لي فَاعتَل إِشفاقا
وَالرَوضُ عَن مائِهِ الفِضِي مُبتَسِمٌ
كَما شَقَقتَ عَنِ اللَباتِ أَطواقا
يَومٌ كَأَيامِ لَذاتٍ لَنا انصَرَمَت
بِتنا لَها حينَ نامَ الدَهرُ سُراقا
نَلهو بِما يَستَميلُ العَينَ مِن زَهَرٍ
جالَ النَدى فيهِ حَتى مالَ أَعناقا

 

وإلى جانب دراستنا في الدار، كنا ندرس في الصباح في مدرسة يحيى عياش بعاهم، وكان من الزملاء الذين لا أنساهم أحمد عوشة، وقد أصبح داعيةً ملهمًا ومربيًا حكيمًا، وكان معنا من الأذكياء فيصل غادر وأسامة فراج وعلي جعبس، وكان معنا أيمن الأسلمي، ومن نوابغ تلك المدرسة عاصم السلال، وكنا في البرنامج الصباحي نتنافس مع بقية الصفوف، وأذكر ذات مرة كتبت قصيدة وأنا واقف في الصف من أربعين بيتًا ردًّا على طالب آخر، ورفعت يدي للمشاركة، وكان آخر يوم في السنة والبرنامج ذلك اليوم مشترك، فصعدت وبدأتُ القصيدة ذاكرًا فيها ما قاله الطالب، ورادًّا على كلماته التي ما ارتضيتها ولا زال زملائي يذكرون هذا الموقف..

 

لقد كانت أيامي في دار القرآن الكريم في عاهم من أحفل أيامي بالذكريات، وبعدها سافرتُ لطلب العلم، وكان السفر هذه المرة بعيدًا جدًّا، لقد كانت وجهة السفر إلى مدينة الحديدة لحفظ القراءات السبع ودراسة المذهب الشافعي، وذلك في سن السادسة عشرة تقريبًا كان شيخي في القراءات السبع بصيرًا، وكان يأتينا الثامنة صباحًا، فيدرسنا ساعتين يوميًّا، وكنتُ آخذ بيده من الحلقة إلى البيت بعد انتهاء الدرس، فيغتنم ذلك الوقت القصير الذي لا يجاوز خمس دقائق بتحميسي وإثارة همتي، ومنه تعلمتُ كثيرًا من الدروس التي لا أنساها لقد كان لطيفًا ودودًا بسَّامًا، حسن الخلق جميل المعشر، وما زالتْ صُورَتُهُ مُنطَبِعةً في ذاكِرتِي، واضِحةً كالشمس في النهار منقوشةً كالْوَشْمِ فِي ظاهِرِ اليَدِ، وعشنا مع رفقة كالأقمار يشدون بالقرآن كما تشدو بنغمتها الأطيار..

 

لله ما أحلى جامع القدس ونحن نتسابق إلى رياضه في دورات المراجعة والإتقان، وكان أول مسجد دخلته في حياتي به جمال وزخارف وأناقة تسلب اللب، وتحيِّر الناظر، فما ظنك بابن القرية يدخل مسجدًا تفوح منه الروائح العطرة، وتحيط به حديقة نضرة، وأذكر أن أول مرة دخلته خلعت حذائي في بابه الخارجي لما رأيت نظافة ممراته وجمال حديقته، فضحك عليَّ أحد الزملاء وقال: لا تُضحكِ الناس عليك لا زلت بعيدًا عن مكان خلع الحذاء..

 

وفي جامع الرحبي مكثتُ أتردد على سماع خطب الشيخ إسماعيل عبدالباري، فكأنما صب لي العسل من أول خطبة سمعتها له، فما فارقتُ سماع خطبه حتى غادرت مدينة الحديدة بعد سنتين من سكناها، لقد كان عالِمًا أصوليًّا فقيهًا بليغًا متمكنًا عنده القدرة الفائقة على الإمساك بأزمَّة القلوب، وكان مجتهدًا بصيرًا بواقع أمته حصيفًا محبوبًا تشرئبُّ لطلعته الأبصار، وتُحييه الأفئدة، وكنتُ أنتظر موعد الجمعة أسبوعًا كاملًا وأنا أغلي من الشوق...

 

وفي مدينة الحديدة كنتُ أذهب لشيخنا محمد عاموه قبل صلاة الفجر، لأقرأ عليه صحيح البخاري برفقة أخي الشيخ غالب جيلان، فكنا نتجهز قبل الفجر ونستعد للذهاب والطريق تأخذ منا قرابة عشرين دقيقة إلى مسجده، فإذا صلينا الفجر معه دخل مكتبته، وجاء طلبة العلم زرافات ووُحدانًا، فكل واحد يقرأ درسه ويشرح له الشيخ، والدور عند الشيخ للأسبق، والمكتبة مكتظة بالطلاب فمن انتهى من درسه خرج، وإذا خرج واحد دخل اثنان، والدرس لكل واحد لا يجاوز خمس دقائق لكثرة الطلاب، ولا زال الشيخ يشرح لكل طالب درسه حتى يرتفع النهار، ثم يأتي الشيخ إلى الدار، فيكون عندنا ساعة أو ساعة ونصف يشرح لنا الرحبية ومتن غاية التقريب في فقه الشافعية والآجرومية من الساعة العاشرة إلى قبيل الظهر..

 

أحِن إلى كُتُب الطنطاوي التي فتَحتْ عيني على حديقة الأدب الوارفة، وجعلتْني أذوب في جماله، وأكرع من زلاله، وأشتاق إلى مسامراته، وأَهيم مع مغامراته، أُحب الرجوعَ إلى تلك الأيام الذواهب حين كنتُ أقرأ في البداية والنهاية لابن كثير، وسير أعلام النبلاء للذهبي، وصلاح الأمة في علو الهمة لعفاني، وأضواء البيان للشنقيطي، أهيم طربًا بتلك الساعات التي كنا نقضي جلها مع الشاطبية وشرحها، فقد كانت هي مؤنسنا وسميرنا ولها ارتحلنا، وقد كانت تلك الليالي عامرة بالحفظ والتكرار، وكان حين يهدأ ضجيج الحياة ويأتي المساء مُحملًا بظلامٍ يُغري بالاسترخاء، أُومِئ كالغصن ساعتين، ثم أستيقظ لأحتضن الشاطبية، وأبدأ معها مشوارًا من الحب ينسيني كل ما حولي من فراش ونوم، ذلك دأبي معها، فكأنها ثمرة لذيذة وفاكهة يانعة أقوم لها وقد وكانت والله أشهى من كل أطباق الحلوى وثمرات المن والسلوى، وعندما ترتعد الحديدة كلها بالأذان الأول وقت السحر، أكون قد انتهيت من محفوظي، فأُهرع إلى مناجاة تأخذ بقلبي إلى عالم آخر؛ حيث كنا نصلي الوتر، ثم أجلس مستغفرًا متأملًا منتظرًا الأذان لأبدأ يومًا جديدًا في الطلب..

 

ذكرتُ أيام الجامعة ولياليها الغر وغربتي في صنعاء، وبُعدي عن أهلي، وأنا البعيد عنهم منذ أن دلفت إلى الثالثة عشرة، وسار فكري إلى حلقات العلم ونفحاتها العطرة، حينما كان يهبط المساءُ سريعًا، فنتحلق حول شيخنا العلامة إبراهيم الشنقيطي في منزل الشيخ فارس الكبودي، وهو إن كان قبلي بأربع سنوات إلا أنه كان يسارع لالتقاط الأذكياء من طلبة العلم في الجامعة، وينسق لهم دروسًا مع المشايخ، ويحفزهم ويأخذ بأيديهم، وقد تزاملنا طيلة سنة كاملة في حلقة شيخنا الشيخ إبراهيم، فشرح لنا كتاب لب الأصول وهو صعب المرتقى عظيم الفائدة، وشرح لنا كتاب الموافقات للإمام الشاطبي، واختصره وقد كان يأتي في كل درس من درس الموافقات بأوراق التلخيص في يديه، فإذا رأينا الأوراق هشت نفوسنا وبشت، فكنا نتسابق لأخذ الأوراق من يديه عشقًا وشغفًا لفوائده، وكان خطه جميلًا يذكرنا بخط القدامى وكان يحبِّره ويزيِّنه، ويشكل بعض كلماته، فتبدو زاهرة كجواهر عروس تخطر في حللها، فيا لله ما أحلى تلك الليالي التي كلما ذكرتها أسفت على مضيها، ووَدِدت أن لو عادت الآن لجمالها وحسنها وبهائها..

 

وكان الشيخ أحيانًا يُطربنا بالأحاديث الأدبية، والنكات العلمية، والمسائل الفقهية، فنسبح معه في بحر من الفوائد ودرر من الفرائد..

 

لا زلتُ أذكر جيدًا دورة الاستقبال يوم أن دخلتُ الجامعة، وكانت مدتها أربعين يومُا، وفيها كنا نتذوق قيام الليل والعيش مع نسمات الأسحار، وفيها تذوقنا الأخوة الصادقة، ومن أول سنة فتحت عيني على أهمية العلم ودوره في الحياة..

 

أذكر أنه في دورة الاستقبال كان الشيخ شرف يأتي لنا بأكابر علماء اليمن يقصون علينا مسيرتهم في الطلب لنزداد حماسًا، وكانت تلك الجرعة كافية لسبع سنوات، وما ذكرت تلك الأيام إلا وضعت يدي على قلبي أردد:

وَأَذكُرُ أَيامَ الحِمَى ثُم أَنثَنِى
عَلَى كَبِدِى مِن خَشيَةٍ أَن تَصَدعَا
وَلَيسَت عَشِياتُ الحِمَى بِرَواجِعِ
عَلَيكَ وَلَكِن خَل عَينَيكَ تَدمَعَا

 

كانت دروس الشيخ أحمد عالي الشنقيطي والشيخ محمد سعيد الشنقيطي، تلهب عزائمنا، وكان الدكتور حسن الأهدل والعلامة الديلمي والقاضي العمراني رحمهم الله أعلام اليمن وشيوخه، يوجهون الركائب ويرشدوننا في مسيرة الحياة..

 

واستفدنا من الدكتور العلامة فضل مراد تأصيله، والشيخ عارف الصبري تنزيله، والشيخ شرف الوصابي تزكيته، والدكتور الحميقاني تنظيره وحججه، والملاهي لغته، والخميسي نحوه وصرفه، والحاشدي حديثه، والوقشي فقهه..

 

كانت لي أجمل الذكريات مع رفاقي في سكني الجامعي إبراهيم الإبي ونعمان وعلي الضباري وعايد البناء، والجالدي وأديب والمحولي، وعبدالله إسماعيل وأحمد هديش ومحمد المثيل، وكمال الهمداني، وردفان، وربيع، وحسن عبدالنور، وشعيب، وغيرهم كثير بالآلاف من اليمن وجنسيات أخرى، نسيتُ أسماءً كثيرة منهم، عسى الله أن يجمعني بهم غدًا في مستقر رحمته..

 

في سنة ٢٠١١م كنتُ أخطب الجمعة في ميدان حورة وسط مدنية حجة، وكانت القنوات اليمنية تبث الخطبة، وكذلك خطبتُ العيد أكثر من مرة، وكنتُ أخجل حين أرى بين الحاضرين مشايخي وأساتذتي الذين شابت لحاهم وأنا في الثانية والعشرين من عمري أخطب في أكبر جمع بالمحافظة بأكملها، وفي سنة ٢٠١٤م قدمت أول برنامج تلفزيوني على قناة رشد في مجالس إيمانية، وافتتحتُ سنتها برنامج الصحيحين الذي رعته مؤسسة سنان أبو لحوم عدة أشهر ثم أوقف البرنامج، وكان عندي خمسة عشر طالبًا أعدهم نجومًا، فتغير الوضع وساءت الأحوال وأُوقِف البرنامج، فلله على تلك اللقاءات وتلك الأنوار وذلك الزمان.

 

لقد هاج ذكر صنعاء في نفسي، ونشر في مُخيلتي ما انطوى من ذكريات عقد من الزمان عشته فيها، لقد تواردت إليَّ تلك الذكريات، حتى كأني لكثرة شوقي إليها وإيغالي في ادِّكارها أعيش في جنباتها، وأشتم نسيمها، فسلام عليك يا صنعاء، سلام على ليالينا بين الرصافة والجسر، سلام على الروضة التي عشت فيها، ومسجد القدس وإمامه الشيخ صالح الحداد؛ حيث تهفو إليه الأفئدة، وباب اليمن إذ نبحث فيه عن الروائح العتيقة، ونلج الجامع الكبير نقلِّب صفحات التاريخ، و"صرف"؛ حيث شربنا فيها الهوى صرفًا مع أحبة كنجوم السماء، فما أجمل صلاة التراويح فيها، وزخمها وروحانيتها؛ حيث كان الشيخ هزاع المسوري يصلي أربعًا وأصلي أربعًا، والوتر ليلة هو وليلة أنا، وكذلك الخاطرة بين الأربع، وكانت الحشود تأتي من كل مكان قاصدةً المسجدَ، حتى لُقِّب بالحرم الصنعاني، فسلام على تلك الليالي الغر، والنفحات الزهر، ما أجمل عبقها وأعطر فوحها وكاذيها وقيصومها، سلام على مسجد الفردوس أجمل مساجد صنعاء، وجبالها نقم وعيبان وعصر؛ حيث نصعد نستنشق الهواء الطلق، وذهبان حيث مسجدي وجمهوري الذي عشت معه ثلاث سنوات..

 

من حل فيك بعد يا دار؟ هل صوح لبُعدنا الزهر، وطُمس الأثر، أم ماذا جرى؟

خبريني فقد انقطع الخبر، لقد أصبح حالي حال من يردد:

يا ليلة السفحِ هلا عُدتِ ثانية
سقى زمانَك هطالٌ من الديمِ
لم أقضِ منك لباناتٍ ظفرت بها
فهل لي اليومَ إلا زفرةُ الندمِ

 

ولى الربيع وصوح النبت وذبل الزهر، من أين لي باللبن الصافي وقد جف ضرع شاتي، ومن أين لي بالزهر الفواح وقد يبس زرع روضتي.

وقائلة في الركبِ: ما أنتَ مُشتهٍ؟
غداةَ جزعنا الرمل، قلتُ: أعودُ

لا زلت أذكر الشابين المجتهدين الأستاذين وضاح سلطان وعبدالله مرشد، وهما يجتهدان في التحضير الإعلامي لخطبي ودروسي وبرامجي، وجلال وهو يحفظ جزءًا فيه اليوم، وسهيل وهو يجمع الشباب، وآل الشهري الكرام، وبيتهم المفتوح للسَّمر والنقاش العلمي، وعبداللطيف وإخوانه المناصرين، وجاري أمين الوفي المحب المخلص وأولاده الأقمار، والحاج علي البعداني وعلي الأدور وهما يصليان بعدي ويموتان في أسبوع واحد...

 

سبع سنوات سمان عشتها في الجامعة حفِظت فيها الصحيحين والسنن وألفية ابن مالك ومراقي السعود والمعلقات العشر ومتونًا أخرى، وكنت من أوائل دفعتي، وكان لنا بفضل الله فيها جهد طيب بارك الله فيه، ثم ثلاث سنوات خرجتُ فيها إلى الناس، وكوَّنت جمهورًا، ورتبت لي جدولًا ما كنتُ أفتر عن القيام به لا حرمني الله أجر ذلك الزمن ونفعه وبركته..

 

حُبب إليَّ الكتابة ولقد كتبتُ أول مقال وأنا في الصف الخامس الابتدائي، ونشرتْه لي مجلة الشهاب التي كان يصدرها المعلمون في منطقتنا الخميسين، وبقيت أكتُب باستمرار حتى عندما دخلت دار القرآن بالحديدة أُقيمت مسابقة في بحث وأعلن عن فوزي كأفضل كاتب وكان زملائي مائة طالب يزيدون قليلًا أو ينقصون قليلًا، وعندما دخلت الجامعة كنت أراسل بعض الصحف والمجلات، فأكتُب وقد سألني أحدهم يومًا: ماذا تجني من وراء هذه الكتابات؟ فأجبته: إنني يا صديقي أشعرُ برغبة جامحة تدفعني للكتابة، وعندما أرى مقالي ينشر أجد متعة لا تُقاوَم، وسعادة لا تعادلها حُمر النعم، ثم فوقَ هذا كله قد تجد دعوة من قارئ يستفيد حكمة أو علمًا أو رأيًا أو نصيحة وتبيينًا، فيضاعف الله لك الثواب ويُعظِم لك الأجر، وقد تُرشد حيرانًا، وتبصر تائهًا، فأنت بهذا تضع لبنة خير في هذه الأمة، ويومًا تغادر هذه الحياة ويبقى أثرك..

 

هز صديقي رأسه وقال: إذًا يحق لك أن تكتب..

 

كنتُ أشتاق أن أسمع كلمة أستاذ وشيخ ودكتور، واليوم بعد أن أُطلقت عليَّ هذه الألقاب، أنِفت منها ومللتُها، وصار أجمل ما أُدعى به اسمي المجرد، وأشعر بتكلف من يناديني بغير اسمي المجرد، أقول هذا بعد أن عرف الناس كتاباتي، ولقد طفت قبل يومين على عدد قراء مقالاتي في شبكة الألوكة، فوجدت أن بعض مقالاتي جاوز عدد قرائه ثلاثين ألف، ومن الطرائف أن مقالي: "أول مرة أركب الطائرة"، ظننت أنه لن يقرأه أحد، وما كتبته إلا لنفسي، والآن قد أصبح زواره قريبًا من عشرين ألف قارئ، وكانت بعض مقالاتي يقرأها في نفس اليوم مائة ألف، وعند وصولي السودان استضافوني في تلفزيون السودان، فأفتيت في ثلاثة مواسم رمضانية، وقدمت مائة درس في إذاعة بلادي بعنوان: "علَّمني الهدهد"، وبرنامج "شواهد ومشاهد"، وقدمت برنامجًا في تلفزيون الخرطوم دام سنتين برُفقة الأستاذ الداعية الموفق الأديب محمد الحبر مدير مكتب الندوة العالمية للشباب الإسلامي بالسودان بعنوان: "معًا نرتقي"، وزرتُ والده العالم اللغوي المفسر البروفيسر الحبر نور الدائم أكبر علماء السودان في اللغة والتفسير تلميذ البروفيسر عبدالله الطيب، وخطبتُ في مسجده بدعوة منه، والعلامة الحبر موسوعة لغوية متحركة، ولا أظنه إلا يحفظ غالب الشعر الجاهلي، والمرة التي خطبت فيها في مسجده الذي بجوار بيته سألتُ عنه ذلك اليوم: أين هو؟ فقالوا: في (سروراب)، فقلت مباشرة للتو هذا البيت:

(سرورٌ آب) أزمانا عديدة
عليكم شيخنا مُددًا مديدة

قلت البيت متفائلًا بهذه الكلمة الجميلة، مبينًا معنًى مستترًا فيها، ثم كتبتُ قصيدة له وأرسلت بها مع ولده الأستاذ محمد ومنها:

غذاكَ اللهُ بالنعماء دوما
وأبقى كل أيامكْ سعيدة
وتبقى دائما دوما مُعافى
وخصك بالكراماتِ العديدة

 

وقد اختارني الأستاذ محمد الحبر أن أكون في الإشراف العلمي لحلقات سكنات طلاب للندوة، واستمريت معه إلى أن غادرت السودان، واستضافني البروفيسر عبدالله الزبير في مسجده، وكان حينها نائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي، فأقمت في مسجده ثلاث سنوات إمامًا ونائبًا عنه في منبره، وفي السودان جلست في نفس المنصة الإذاعية التي كان يجلس فيها أعلم أهل السودان بلغة العرب والحائز على جائزة الملك فيصل العالمية البروفيسر العلامة عبدالله الطيب، حين كان يفسر القرآن في إذاعة أم درمان عندما استضافني الحبيب الشيخ مجدي حسن، وقد أخبرني أحد الشباب قبل أيام أن الرئيس السابق عمر البشير يقرأ حاليًّا وهو في السجن كتابي "فردوس الرضا"، وقد دامت الرحلة إلى السودان أربع سنوات وما كانت إلا لإكمال دراستي الجامعية، فلما حصل المقصود رغبت في السفر إلى الصومال، ومنذ سنة تقريبًا وأنا في هذه الديار، وقد شدني الحنين إلى اليمن، فسافرت إلى مدينة بربرة الصومالية، ووقفت على ساحلها أتأمل جمال عدن وثغرها الباسم من خلف الأمواج، ثم عدت إلى مستقري في هرجيسا من أرض الصومال، فلله تلك الأيام التي عشتها وهذه الذكريات التي أصارعها..

يا إلهِي لقَدْ مَضَى شَطرُ عُمْرِي
فَاعْفُ عَني إذَا وُرِيتُ الترَابا
مَا شَرِبْنا مِن أُم لَيلَى مسَاغًا
أوْ عَشِقْنَا مِن أم دَفْرٍ جَنَابا
أوْ لَهَانا عَنِ الهُدَى وَصلُ دَعْدٍ
أو خَلَعْنا في اللهوِ عنا الثيابا
إنْ خَسِرنا مِن الدنَى كُل شيءٍ
حَسْبُنا رِبحًا أنْ حَمَلْنا الكِتَابا




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • حديث الثلاثين
  • خطة بناء دولة في ثلاثين شهرا

مختارات من الشبكة

  • تقدم لي شخص معدد فهل أوافق؟(استشارة - الاستشارات)
  • شرح البيقونية (الخاتمة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أحكام الصيام(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
  • الإرشاد في شرح ثلاثين حديثا في الاعتقاد (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • صلاة التراويح تعدل قيام ليلة من سلسلة (الموقف الأريح في احتساب ثلاثين نية لصلاة التراويح)(مقالة - ملفات خاصة)
  • فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إذا لم ير الهلال أتم شعبان ثلاثين(مقالة - ملفات خاصة)
  • حديث: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا(مقالة - موقع الشيخ عبد القادر شيبة الحمد)
  • لطائف الإشارات للقشيري، وتاج التفاسير للميرغني من الجزء الثامن والعشرين إلى الجزء الثلاثين: دراسة تحليلية مقارنة (PDF)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • ختام المسابقة الوطنية الخامسة والثلاثين للقرآن الكريم بنيجيريا(مقالة - المسلمون في العالم)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 17/11/1446هـ - الساعة: 9:44
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب