• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

كير اليساري (قصة قصيرة)

أ. محمود توفيق حسين

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/3/2010 ميلادي - 23/3/1431 هجري

الزيارات: 7235

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر
وقفتُ على أوَّل مجلس العزاء في والده (الرَّقيب) بقدمين متردِّدتين، في دار المناسبات التَّابعة لأكبر جامعٍ يُقام به سرادق صفوة البلد، ولعله أوَّل وآخر رقيبٍ يُقدَّم فيه هنا واجب العزاء، وقفتُ متهيبًا الحاضرين، مُحرجًا من أن يسألني عن هُويَّتي وكينونتي بين العمالقة أحدٌ من أصحاب النَّظرات الصَّارمة، أُرجِع البصر إليه، هذا أنت وقد صرتَ من الكبار إذًا وعزَّ ناديك؛ فهنا الوزير والمحافظ، وقيادات حزبيَّة، ورجال أعمالٍ، وإعلاميُّون، ودبلوماسيُّون شقرٌ من (روضة خاخ)[1]، بقفزةٍ واحدةٍ كأنها من فهدٍ ربضت بين هؤلاء واستقررتُ، فلا أنت مستكثرٌ على نفسك وجودك بينهم، ولا هؤلاء يترفَّعون عليك، والهيئة تعدَّلت يا ولد، احمرَّ وجهك، وسمنتَ قليلاً، واسترسل شعرك المجعَّد المترب، وارتديتَ ربطة عنقٍ باريسيَّة، وشفيتَ من عادتك العصبيَّة على التَّحديق في السَّقف.

لم يعرفني، وأنا أيضًا شعرتُ كأني لا أعرفه، ليس ذاك الذي أبحث عنه، وأفقتُ، واعتبرتُ أن مجيئي إلى هنا خفَّة، خفَّة يعلم الله أنها خفَّة في البحث عن إجابةٍ لا غير، ولست ممن يبحثون عن وسيلة للسَّراة والمتنفذين، فقط كنتُ أبحث عن إجابةٍ للسُّؤال الوحيد: هل تغيَّر؟ أو أننا كنَّا سذَّجًا لا نعرف الرِّجال؟ وتراجعتُ قبل أن أتقدَّم إليه وأعزِّيه، وخرجتُ من هناك عنيدًا لأبحث عنه في مكانٍ آخر، وأبحث عن كتابي الذي أعرته إيَّاه.

على أوَّل الشَّارع الآن، ويحدوني الشَّوق إلى جيبٍ هامشيٍّ من جيوب الذِّكرَى، ثلَّة الجامعيين التي تجمع أخلاطًا من كل اتِّجاه، وجادِّين وعابثين، وبين بين، والقاصّ والشَّاعر، والصحفي المتمَرِّن، والرَّسَّام والمسرحي، كانوا يفدون إلى هنا أحيانًا، فتزدحم بهم الحجرة البسيطة فوق سطح البناية الشَّعبيَّة، عند الشَّابِّ اليساري النَّحيف المغرور غريب الأطوار، يحكون، ويحلمون، ويحتجُّون، ويقرضون الشِّعر، ويثرثرون وقت الطَّبخ، وقد تناثرتْ حولهم الأطباق والأدوات والعلب وشرائح البصل، وهو يسمع كثيرًا ويحكي قليلاً، يخرج ألفاظه بثقلٍ وهو ينظر للسَّقف، ويجيب عن أماكن الأشياء دون أن يرفع وجهه عن الكتاب الذي بيديه، وإنه التاريخ، لذاك الذي عزَّاه النَّاس في أبيه.

يا سَطحي، يا مدَّعٍ، يا مغيَّب، يا تافه، تلك هي الألقاب التي كان يستخدمها (العبقري) بهدوءٍ لمحاورة الشَّباب من حوله، وكانوا يستظرفونها، طرد الثُّلَّة من بيته عدة مراتٍ، خرجتُ أنا مع الأولَى ولَم أعد، كنت متعجِّبًا من النَّازلين معي على السلَّم، يضحكون ويتندَّرون بالطَّردة، نزلتُ تاركًا خلفي كتابًا قديمًا قيِّمًا، قد أعرته إياه، وأعارني هو إحساسًا بالخيبة والخوار عندما بهتنا بتعليقٍ من تعليقاته الصَّادمة، وآخذتُ نفسي كوني لم أردَّ على هذا الخائض، وكان يحزُّ في نفسي شيءٌ بدا لي مؤلمًا أكثر من سكوتي: وهو أنني في دخيلة نفسي أقدِّره وأحترمه ومعجبٌ به، كنت أغبط السَّلفي الذي كان يراه دجَّالاً وحقودًا وجشعًا، كان يبصر فيه شيئًا ما لَم نره، وقد زرته بعد الطَّردة ألعق جرحي عنده، فقال لي مبتسمًا وبغير شماتة: (خذ مِنْ كِيره؛ حتى تُنقَّى من تقديره).

لَم يعد هناك فوق السَّطح، أي سطحٍ وقد صار من سكَّان الأبراج الفاخمة؟! لم يعدْ هناك، لكن كتابي لا زال هناك، وأنا ذاهبٌ وحدي بالشَّوق والوجل، كنت أشعر أنني أنتهك حرمة ماضٍ قد انتهى بعد أن تفرَّقتْ بنا الدُّروب: هذا قد سافر، وهذا انتقل إلى مدينةٍ أخرى، وذاك انشغل، وذاك انطوَى على نفسه، وهناك من لا أعرف عنه شيئًا، وأنا في طريقي إلى هناك قامتْ خيالات أصحابي، وانبعثتْ كأشباحٍ بشوشة باهتةٍ، وارتفعتْ ضحكاتهم، ووقع خطواتهم على السُّلَّم نازلين، وتباريح قصصٍ عاطفيَّةٍ فاشلةٍ، أحدهم كان يبكي على فتاته التي خُطِبتْ فيما كان العراق يُقصَف، ورائحة مطعم الكباب الذي تحت بناية العبقريِّ، كانت تصعد إليه فتلعب بأنفه وتدمِّر أعصابه، والطَّعم المميَّز للشَّاي على موقد الجاز ذي الشَّرائط، وحبر الجرائد الطَّازجة الذي يلتصق باليد، وذاك الضَّحك الذي ما زال يتصاعد مع الذِّكرى، أخذ يخفت ويغيم شيئًا فشيئًا، حتى هسهس من رماده بكاءٌ مكتومٌ وزفراتٌ، أخذ يتصاعد شيئًا فشيئًا، حول جنازة السَّلفي الذي مات في الجامع ساجدًا، وذهبنا خلف خشبته، وقد تذكَّرنا الآخرة، وخشينا الموت، غير أنها جملةٌ اعتراضية وانتهت، وعاد الشَّباب يدورون مع ساقية الكلام، والأصالة والمعاصرة، ومشاريع النَّهضة، والحركة القوميَّة، والتَّجديد والحداثة؛ فأخذ صوت البكاء والآهات يخفت، حتى صار هنينًا، ثم عاد ضحكًا مكتومًا، أخذ يعلو حتى صار قهقهةً، قهقهة مخيفة، من سعيرها يشعُّ شيءٌ من بكاء شاعرنا الذي بلَّل دمعه الطَّرس، سهر للصُّبح يكتب أشعارًا عن فتاته التي خُطبتْ، فيما النَّاس حوله يبكون العراق!

الآن اقتربتُ، بعض عيون المارِّين تنظر لي كأنها تعرفني، أوَيعرفونني حقًّا أم تلك أوهامي؟ هذا بائع الجاز حليق الرَّأس الذي كان يتبادل معي أحاديث سريعةً لطيفة، والسَّلام عليكم، وعليكم السَّلام، وهاتان ساقا الميكانيكي المنبطح تحت العربة، ممدَّدتان للخارج دائمًا، ولا يخشَى أن يمرَّ عليهما عابرٌ أو سيارةٌ مسرعةٌ، والتفتُّ، فإذا به الجرس المميَّز لعربة بائع الحليب، وبائع الحليب ينادي: هيَّا يا غادة، هيَّا يا محمد؛ كل شيءٍ طازجٌ لَم يتغيَّر كأني كنتُ هنا أمس مساء؛ يا إخوتي المدهشين حولي، ويا أيهذا الميكانيكي الذي لم أرَ وجهه قطُّ، ويا جرس عربة الحليب الصَّاخب، لقد مرَّ زمنٌ خارج هذا المكان، فكيف توقَّف كلُّ شيءٍ هنا؟!

هذا باب البيت أخيرًا، رجلٌ يجلس على كرسيٍّ تحت حائط البيت يتبادل التَّعليقات مع الجالسين على المقهى قبالته، يوقفني، إنه المغني الشَّعبي، نعم هو، نفس السِّحنة التي تجمع بين علامات التَّخنُّث والإجرام، والشعر المبلَّل بالماء والليمون، وياقة القميص المرفوعة، والحاجب المنتوف، وحوله اخضرارٌ مقرفٌ! لم أستطع أن أفلت من الرَّجل وأعتذر إليه، نادى على ساقي المقهى فأحضر لي كرسيًّا وكوبًا من الشَّاي، وحكى لي مأساته مع صاحبنا ساكن السَّطح الذي أخذ منه مبلغًا من المال على سبيل القرض، ووعده بأن سيقوده لمنتج شرائط غنائية؛ ليرعَى موهبته ويقوده إلى سلالم المجد، ومضى من هنا ولم يعد البتَّة، ولم يهلَّ وجهه على المغنيِّ قط وفي يمينه منتِجٌ؛ وأنا قد تكدَّرت، الرَّجل لم يتغيَّر إذًا! بل كنا لا نعرفه، تلك مواهب ما عرفناها عنه، إلَّا السَّلفي الذي لم يخدعه الخبُّ.

وأخذ ينفث سجائره في وجهي، وهو يمضغ الكلمات اللزجة بأسنانٍ صفراء، ويحكي لي بصوته النُّحاسي معاناته في سبيل المجد والفنِّ، يحاول أن يبدو أحيانًا رقيقًا مهذَّبًا، ويحاول أحيانًا أن يبدو صارمًا مهدِّدًا بشكلٍ غير مباشرٍ؛ فقد وقع على رجلٍ من بطانة من خدعه، وعندما أخبرته أنني ما عدتُ أعرفه وما عاد يعرفني، نظر لي نظرة مكذِّبٍ آلمتني، وأخذ مني رقم جوَّالي، وتأكَّد منه من خلال الرَّنِّ عليه أثناء جلوسنا، وآلمني هذا كثيرًا، وكلما هممتُ بالقيام فتح لي موضوعًا جديدًا، أو عرض عليَّ كلماتٍ سيغنِّيها، أو أسمعني مقطعًا من أغنيةٍ، أو ترحَّم على زمن الفنِّ الجميل، وكلَّ حينٍ يندب حظَّه وغفلته: الله يسامحه، تلك أوَّل مرةٍ يحتال عليَّ أحدٌ؛ وكلما كرَّرها كان ينتابني شعورٌ مخلَّطٌ من الإعجاب والحنق تجاه اليساريِّ الهارب من فوق السَّطح إلى (روضة خاخ)؛ لقد خدع رجلاً ثقيلاً باردًا لزجًا بكلِّ يسرٍ، بينما تعثَّرتُ فيه أنا بغير ذنبٍ كذبابةٍ ورطتْ في شبك عنكبوت، وكلَّ قليلٍ يمرُّ أحد المارَّة، ويصافحنا ويقف وقتًا ما يحكي في أيِّ شيءٍ، ولا مانع من أن يستشهد بي وبصوتٍ عالٍ غير مبرَّرٍ، يستشهد بي على فلانٍ أو حتى على زوجته المصرَّة على أن تذهب يوميًّا لبيت أمِّها، يرضيك هذا يا أستاذ؟ لا، لا يرضيني، ولكن خذها بالنُّصح والرَّأفة.

وهذا الشَّاي أو يسيح دمي مثله...

يا رجل، لا تحلف بغير الله، حتى أَلَمَّ بي الصُّداع، وشعرتُ بأنني على وشك أن أصرخ وأركل المنضدة أمامي وأطلق ساقيَّ للرِّيح، وبدا لي وجه السَّلفي مبتسمًا ومستديرًا كالبدر، وهو جالس القرفصاء: خُذ من كيره حتى تنقَّى من تقديره، والوقت يمرُّ، والرَّجل لا شيء عنده، إنه يعذِّبني بالملل، لا شيء عنده غير أني تعرَّيت أمامه كرجلٍ مهذَّبٍ يمكن ابتزازه والضَّغط عليه، وبدأ يطيل النَّظر إلى الأرض ناحية أقدامنا، وقال لي بطريقةٍ لزجةٍ بعد أن أخذ عنواني أنه سيمرُّ عليَّ بعد أسبوعٍ؛ ليعرف ماذا صار في أمر ماله أو المنتج، وبينما كنت هاشًّا بالفرَج والفكاك، إذ بدا لي هذا الميعاد الذي ضربه كإِذْن منه بالانصراف، صدمني بطلبٍ يفتقد للذَّوق واللياقة: أن نتبادل الأحذية؛ فلديه حفل (فرح) سيحييه الليلة، وحذائي مناسبٌ جدًّا للبذلة التي سيرتديها! وحاولت أن أردَّه بلطفٍ إلَّا أنني فشلْتُ، وخلعْتُ حذائي وأنا مغلوبٌ على أمري، وارتديتُ حذاءه الرِّياضي القديم الذي لا يُناسب ملابسي، وقمْتُ مهمومًا شاعرًا بأذى وإهانة مما أصابني من كير اليساريِّ.

دخلتُ البيت، ألقيتُ السَّلام على رجلٍ في سبيله للخروج، كنت أراه هنا من سكَّان البيت، لم يردَّ، صعدت السلم حزينًا من جفائه، حتى وصلت للطابق الأوَّل، كان هناك على باب شقَّته يفتحها، ذلك الرَّجل البسيط المضياف، ألَحَّ عليَّ في الدُّخول، اعتذرتُ، شدَّني شدًّا، ويبدو أنني كنتُ بحاجةٍ لشيءٍ من الحفاوة بعدما عانيتُ من المغنِّي ومن جفاء الرَّجل، وهناك في حجرة الاستقبال، تقاطر عليَّ أهل البيت جميعًا، واحدًا تلو الآخر، ثم دخلتِ ابنتهم حزينةً وقورًا، وبدأ الأب والأمُّ يحكيان كيف أن صاحبي خطبها في الأيَّام الأخيرة، وقدَّم لأبيها أوراقه ليساعده في الحصول على وظيفةٍ حكوميَّةٍ، واقترض منه بعض المال، وقد كانت تهزُّ رأسها المخفض تؤكِّد كلامهما، وأنا في قمَّة عجبي، أيخرج كلُّ هذا منه؟!

ثم حكتْ هي - وبكلِّ تلقائيَّة - كيف شاغلها وغازلها وعرض عليها الارتباط حتى تعلَّقتْ به، وأبواها ينظران إليها بشفقة وحنان، وأصرَّا على أن آكل من الكيك الذي صنعتْه الفتاة، (أصلها ست بيت ممتازة)، ثم مشروب بارد، ثم شاي، وكلما قمتُ واستأذنتُ، ضغط الرَّجل على كتفي وأجلسني، ثم أصرَّ أن يريني شريط فرح بنت أخته حتى أتعرَّف على العائلة، لَم أعرف إن كان يريد أن أغري بهم الخطيب الهارب فيصل ما انقطع؟ أم يغريني أنا شخصيًّا؟ وتبدَّدتْ ظنوني شيئًا فشيئًا، عندما خرجتِ المرأة للصَّالة لتشاهد صور فرح جارةٍ لهم، تبدَّدتْ ظنوني إذ نادتِ المرأة على زوجها، فخرج نشيطًا ليشاهد الصور، وتلاه محسن، فحسين، فأكرم، فنادية، فعلاء، فألفت، كان مشهد خروجهم متتالين بديعًا وموسيقيًّا، ولم يبق إلَّا أنا وخطيبة صاحبي، وتحرَّجتُ، وتحجَّجتُ، وقمتُ، فنادتْ أباها، فأقعدني بشدَّة، وأقسم بالطَّلاق أن أمكث، بل وأن أرتدي جلبابًا من جلابيبه:
كيف؟
وماذا بها؟ خذْ راحتك.

وتعلَّلتُ بصعودي لأعلى السَّطح، فأصرَّ على أن ألبس الجلباب لأصعد به للسَّطح ثم أنزل لأقضي سهرتي معهم في هذا الجوِّ الأسريِّ، ودخل مسرعًا لغرفته، وعاد بجلباب مقلَّم باللون الأخضر أطول وأعرض من مقاسي، ورماه في صدري وحلف بالطَّلاق مرَّة أخرى.

ودخلتُ الغرفة وارتَدَيته مغلوبًا على أمري،
وأخذ مني ثيابي على ما يبدو حتى يضمن أن أنزل إليه مرَّة أخرى، وعلَّقها في خزانته، وقال: إنه سيعدُّ الفول السُّوداني واللب، وفيلم فيديو لـ(أميتاب باتشان)، وخرجتُ وأنا أتنفس الصعداء، تاركًا خلفي عائلة مضيافة مسكونة بالفرح، وألفت بنت السَّادسة وقد حزَموا وسطها وشدُّوا جلد الطَّبلة على النَّار، حتى علا ضجيجهم، وأنا أرتقي السلم بجلبابٍ طويل واسع مقلَّم باللون الأخضر، وقد مسكتُ طرفه بيدي، وفي قدمي حذاءٌ رياضي قديمٌ كريه الرَّائحة، كأنِّي رجلٌ آخر!

خرج أحد سكَّان الطَّابق الثَّالث بجلبابٍ بنيٍّ قديمٍ، واستند إلى جلفق السلم[2] ناظرًا إلى أسفل تجاه الشَّقة المزعجة في الطَّابق الأوَّل، بوجهٍ مائلٍ عابسٍ غائر العينين كأنه أسد عجوزٌ في الأسر، ما كنت أعرف سرَّ هذه الوحشة في وجهه التي طالما تعجَّبتُ منها حينما كنت آتي إلى هنا، صعدت مستندًا إلى الجلفق ناظرًا إليه، وقد توزَّع عليه الضَّوء والظلُّ، وهو كان يتفحَّصني، حتى تهلَّل وجْهُه بابتسامةٍ ضعيفةٍ عندما تعرَّف عليَّ، أخذتْ تتضح شيئًا فشيئًا، كاشفًا عن فمٍ فقد منه سنًّا من أسنانه، وقال بصوتٍ جهوري: أنادت الحجرة صاحبك؟ أعائد هو أخيرًا؟ طال انتظارنا للطَّقش المغربيِّ فاتح الكنوز، ولك عندي يا وجه الخير وزنك ذهبًا؛ لم أردَّ، وبلعتُ ريقي، حتى وصلت إليه قلقًا، ومددت يدي المرتعشة بالسَّلام، مد يده وإصبعه بتشنُّجٍ كأنه يشير به إلى كارثةٍ، وقد شبَّ على أطراف قدميه الحافيتين، وأخذ يغمغم بشيءٍ من (البرهتية)[3] دون أن يصافحني: (بعزة بِرْهَتِيهٍ بِرْهَتِيهٍ، كَرِيرٍ كَرِيرٍ، تَتْلِيهٍ تَتْلِيهٍ، طُورَانٍ طُورَانٍ، مَزْجَلٍ مَزْجَلٍ، بَزْجَلٍ بَزْجَلٍ، تَرْقَبٍ تَرْقَبٍ، بَرْهَشٍ بَرْهَشٍ، غَلْمَشٍ غَلْمَشٍ)، ثم زمجر، وسال من فمه اللعاب، واندفع داخل شقته كأنه ذاهب ليأتي بشيءٍ، ففررت لأعلى، لا آمن أن يأتي هذا الذي جنَّنه (التَّقدميُّ المستنير) بسكِّين، وصلتُ للطَّابق الرَّابع، وقلبي يدقُّ بكلِّ عنفٍ، وقعدتُ على الأرض، وأخذت ألتقط أنفاسي، وأنا لا أعرف إن كان عليَّ أن أنزل لطابق مجنون المال، ثم طابق مجنون العيال، ثم الشَّارع حيث مجنون الشُّهرة، فيتصيَّدوني واحدًا تلو الآخر؟ أم أصعد إلى حيث الحجرة أعلى البناية، حجرة اليساريِّ الذي تخلَّى وأخلى؟

وأنا في حيرتي هذه فزعتُ برؤية الرَّجل يخرج من الباب ثانية متهيِّجًا، يذرع ما بين شقق الطَّابق كما يفعل أسد عجوزٌ محبوسٌ في قفص، وقمتُ وظهري للحائط، وخفتُ أن يصعد إليَّ يسألني عن الطقش المغربي فاتح الكنوز المرصودة، ويثور عليَّ ويقتلني، لكنني اطمأننت بخروج طفلٍ صغيرٍ من داخل الشَّقة خلف الرَّجل، وصاح به ليدخل، فدخل الرَّجل صاغرًا مستسلمًا، فيما مشي الولد خلفه بكلِّ صلفٍ وكبرياء!

فانزلق ظهري على الحائط حتى قعدتُ، وشعرتُ بالإعياء والضعف، علاوةً على شعوري بالخزيِّ لكوني خفتُ من رجل يخيفه الأطفال، رميت بوجهي بين كفّي، وأخذت أناجي ربِّي وألجأ إليه كي يعتقني مما أنا فيه، وبدأت أتلذَّذ برائحة الرَّيحان الذي عند باب الأرملة، خرجتِ الأرملة صاحبة البيت وابنها بكوبٍ من الماء لي، وتكلَّما معًا بصوتٍ واحدٍ، كأنه صوتٌ وصداه، ودون أن يسألاني عن سرِّ جلوسي هنا أو حكاية ملابسي الغريبة، أو عن اليساريِّ وأين أراضيه، قالا: خرج من الحجرة بليلٍ ولَم يَعُدْ قط، الحجرة أنحسها قدمه فلم يسكنها أحدٌ بعده، و...!

أمَّا أنا فقد طغَى بي شوقي للماضي، والمراهقة السِّياسية، والظُّنون البسيطة السَّاذجة، فأعطيتهما ظهري قبل أن يكملا، ارتقيتُ السلَّم ببطْء، بأعصاب خائرة من شدَّة الانتباه، أتخيَّل أنها هي الأشياء كما كانت، إلَّا ما اعتراها من أثر الهجر، ملابسه القديمة وقد عملتْ بها العثَّة، ورائحة المعسِّل، وصورة (كارل ماركس) على الحائط مصفرَّة، وقد لطَّخها ونيم الذُّباب، ومرتبةٌ هابطةٌ لَم تعرض على الشَّمس قطُّ، ومكتبةٌ من خشبٍ رقيقٍ مليئةٌ بالكُتُب قد نسج عليها العنكبوت، الغرفة يسكنها كل أشيائه، حتى خوفه، خوفه من الجوع والبطالة، وتخيَّلتُ كتبًا كثيرةً ملقاةً خارج الحجرة، مرَّ عليها مطر شتاءٍ وشمس صيفٍ وأقدام الدَّجاج الملوثة بالزبل، وسمعتُ صوته الهازئ يأتيني من أعلى وهو يوزِّع اتِّهامات الانتهازيَّة والعمالة للأمريكان على الجميع، ويخصُّ الإسلاميين بالمزيد؛ مَن يصدِّق؟! هذا قد ذهب فجأةً إلى (روضة خاخ)، روضة خاخ التي لا تفضُّ كتبها المخبوءة، ولا يقدر أحدٌ على أن يُوقِّف جواسيسها، ذهب بقدميه إلى السِّفارة الأمريكيَّة خلف الذين ذهبوا، وتموَّل، وافتتح مركزًا لحقوق الإنسان.

فوجئتُ: أمامي طابقٌ آخر، طابقٌ آخر؟! لقد كان يسكن أعلى حزن الأرملة واليتيم، وليس بينهما شيءٌ، هذا ما أذكره، واجتزتُ الطَّابق وارتقيتُ السلَّم حتى صعدتُ إلى السطح ووجدتُ فيه حجرةً، لكن السَّطح غير السَّطح، وكذلك الحجرة غير الحجرة، حجرةٌ ينبعث منها تلاوة القرآن، نزلتُ إلى الأرملة وابنها، وقبل أن أسألهما، قالا معًا، كأنَّه صوت وصداه: لو كنت قد دقَّقتَ في البناية من الخارج قبل أن تدخلها ما دخلتها، كنت ستعلم أننا قد بنينا طابقًا جديدًا، فانمحَى كلُّ شيءٍ من ذكرى السَّطح وذكرى صاحبك كأنهما ما كانا، فتأمَّل.

ولقد تأمَّلتُ ورضيتُ، وشكرتها ونزلت بهدوء وسكينةٍ، وقد تنقَّيتُ تمامًا من تقديره، وآية ذلك أنني لَم ألقَ أحدًا في نزولي.
 
ــــــــــــــــــ
[1] روضة خاخ: موضع ضُبط به لدى امرأةٍ خطابٌ إلى مشركي مكة به بعض أمْرِ الرسول - صلى الله عليه وسلم.
[2] الجلفق: الدرابزين.
[3] البرهتية: قسم على الجن يعوذ به بعض البشر برجال من الجن.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • المثقفون العرب.. المزورون العرب
  • المثقفون العلمانيون كذابون ومزيفون
  • حرز الجوشن (قصة)
  • اجتماع
  • الليلة الأولى " الغرفة رقم 36 " ( قصة قصيرة )
  • درس في التربية ( قصة قصيرة )
  • ظروف وارمة ( قصة قصيرة )
  • رؤية.. (قصة قصيرة)
  • سألتني
  • الكشري والتين (قصة قصيرة)
  • هدايا الموج (قصة قصيرة)
  • ألوان الفاجعة (قصة قصيرة)
  • عندما فر القطيع
  • الشرفة (قصة قصيرة)
  • تسع لوحات (قصة قصيرة)

مختارات من الشبكة

  • فرنسا: ممثلو الحزب اليساري يطالبون بحظر سوق الخنازير(مقالة - المسلمون في العالم)
  • بنجلاديش: إضراب يساري لإغلاق الأحزاب الإسلامية(مقالة - المسلمون في العالم)
  • نتنياهو يعرب عن خوفه من تحالف الإسلاميين واليساريين ضد اليهود(مقالة - المسلمون في العالم)
  • هولندا: تطاول يساري على الإسلام(مقالة - المسلمون في العالم)
  • نافخ الكير ومذكي الفتن(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة الموطأ برواية ابن بكير (النسخة 3)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة موطأ الإمام مالك برواية يحيى بن عبدالله بن بكير (ج4)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة الموطأ رواية ابن بكير (النسخة 2)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة ​الموطأ رواية ابن بكير(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • الشيخ عبدالرحمن عبدالله بكير: فكره وجهوده الإصلاحية (PDF)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
9- تفصيل لا أشعر معها بالملل
جليس السواني 08-04-2010 02:10 PM

طريقة مشوقة في السرد
رغم التفاصيل الكثيرة الا انني لم اشعر بالملل

جميلة ومضحكة وحزينة وفيها تنوع

8- هدف القصة
محمود توفيق حسين 03-04-2010 10:12 AM

شكرًا لكل من الأخوة زينب حسين و كلبهار وأبي يحيى وطوفان على حضورهم الكريم ..
بالنسبة لملحوظة الأخ طوفان ، فالحذر صحيح ، ولكنه كان حذرًا فنيًّا ، للمحافظة على مغزى القصة وهدفها الأساسي ، فكل مسلم يؤمن بأن هو الإسلام وحده ولا بديل له ، ولكن بعض المسلمين يؤمن بأن هو الإسلام ومن الممكن ان يكون شيء ما معه ، مثل اليسار ، ومعنى القصة أن المسلم لابد أن يتخلص من إعجابه بالأفكار الوضعية التي تزاحم الإسلام في قلبه ..
وفكرة السفارة وارتباط بعض المثقفين العرب بها هي امر خطير ، ولكنني أحببت أن أحافظ على مغزى القصة الأساس المتعلق بهوى بعض المسلمين تجاه الأفكار الوضعية الذي قد يبقى منه آثار في النفس ، ولو شرحت وبيَّنت في أمر الاتصال بالسفارة وكيف تغير بعض المثقفين اليساريين وأصبحوا من رجال الغرب لانفلت مني هدف القصة ..
دمتم جميعًا بخير

7- روضة خاخ
طوفان 17-03-2010 10:03 PM
القصة جميلة جدا كما تعودنا من هذا القلم العميق الجذاب
أحداث مثيرة يتخيلها القارئ ويعيش معها ويتمنى أن لا تنتهي


همسة : روضة خاخ ، تشبيه أكثر من غريب ورائع ، ومع ذلك فأنت لم تعطي هذه النقطة حقها ، وركزت على جوانب أخرى ، الاهتمام بمن يتصلون بالسفارات الأمريكية عارضين خدماتهم كان يستحق اهتماما منك أكثر من ذلك في هذه القصة .. وشعغرت أنك كنت حريصا وحذرا بغير داعي ..
6- بداية موفقة ونهاية موفقة
أبو يحيى - السعودية 17-03-2010 08:01 AM
بداية موفّقة ونهاية موفّقة أيضاً .. وحبكة متميّزة...
5- جميلة
كلبهار - العراق 17-03-2010 07:59 AM
شدّتني القصّة من أولها إلى آخرها... مشكور أخوي محمود.. في انتظار جديد دوماً
4- شكر وثناء
زينب حسين - سوريا 17-03-2010 07:57 AM
دائماً مبدع... شكراً لك أخي محمود.. وإلى الأمام
3- شكرًا
محمود توفيق حسين 10-03-2010 06:37 PM
شكرًا للأخ عمران على حضوره الراقي ، وبارك الله فيك أخي
وشكرا للأخت لامعة في الأفق ، سعدت بتمتعك بالقصة معنى وحكاية
2- جميل
لامعة في الأفق - السعوديــــة 10-03-2010 12:13 AM
استمتعت بالقصة وبأحداثها ...منها مايدعو للتبسم والفكاهه ومنها مايشغل التفكير والبحث ..
جميل
1- بوركتم
عمران - السعودية 09-03-2010 04:33 PM
بارك الله فيكم ...... رائع مقالكم وعذب كلامكم .
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب