• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

حكايات سلمى (1)

حكايات سلمى (1)
محمد صادق عبدالعال

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 21/7/2014 ميلادي - 23/9/1435 هجري

الزيارات: 5851

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

حكايات سلمى (1)


-1-

(الثلاثية المفخخة)

على شاطئ بحر الهوى خرجت (سلمى) تتهادى مع المُتتابعات المتتاليات موجةً موجة؛ فمرة تنال الأمواج من طرف ثيابها، ومرة تنجو سلمى بجلبابها، فصار الأمر بينهما كمدٍّ وجزْر، وأخذ وردٍّ.

 

ولفت ذلك انتباه الكثير من الورى، فاجتمعوا إليها، والتفُّوا حواليها، فاتخذت موضع الزاهد الواعظ القائم على إنارة درب العابدين.

 

فقالت: "يا أبناء اليم والطين، إن الديار لتَرفل في النعيم رفلة العروس في الثوب القشيب، يظن أهلها أنها إلى استدامة وطول إقامة وما هي إلى هذه ولا تلك، وسبحان من بيده الملك".

 

قالوا - وقد أخذتهم الرجفة والدهشة من بيان سلمى - : ما أروعك (سلمى)! لولا أن تضربي لنا أمثالاً مما عُلمت؛ حتى لا يقال: إن (سلمى) تلحن في الحديث وفي المقال ولا تسوق المثال.

 

غضبت ذات الدلِّ (سلمى) وقالت: ويحكم أبناء العاجلة، هلا انتظرتم حتى أُتمَّ قولي ونصحي!

قالوا: معذرة (سلمى)، تفضلي.

 

فاسترسلت تقول: وإن دنيانا القصيرة تلك لثلاثة نفر لا تكاد تَخرج عنهم.

 

فأما الأول هو الهائم بها حبًّا، المتيَّم بها عشقًا، أصابه الوله فصارت كظله لا يُقلُّها وهي تقلُّه، وضعَها نصب عينيه، فما رأى غيرها وما اتبع سواها، نعوذ بالله أن نكون على تلك الشاكلة.

 

قالوا جميعًا: آمين، وكان من بين جلسائها فتى فتيُّ ريق البشر، غض الإهاب، رمقته بعينَيها ثم صرفت ناظرها سريعًا عنه حتى لا يعرض هو عنها إذا دقَّق في ملامحها.

 

رجعت (سلمى) تَستكمِل كلامها ثانية وتقول: والثاني هو الغالب فيكم، وليس بممقوت مقت الأول، والمولى الحكيم قد أعطاه الرخصة بأن يكون كذلك، ألا تتذكرون الأمر الإلهي ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]، فابتغى أولاً وسعى لنَيل نصيبه منها، فمحمود صنيعه، ومشكور سعيه.

 

وأما الثالث وما أدراكم!! ما الثالث؟ قليل هو، قلما يُعثَر عليه، وكانت سلمى نفسها تبحث عنه تتمنى لو تَعثر عليه كأنه ضالتها فما عثرت عليه، فأنهت خطبتها ولملمت ثيابها، وقالت: انتهى درس اليوم يا سادة.

 

ثم نظرت لمن كان يتطلع إليها بشغف فإذا هو شاخص بعينَيه نحوها؛ فمشت على الشاطئ تتدلل وكأنها لم تكن من قبل واعظةً له ولهم، وبينما هو من خلفها استدارت إليه وقالت:

أعجبك حديثي اليوم؟

قال: نعم.

قالت: وما رأيك في هذا البحر الجميل؟

قال: أجمل منه الجواري المنشآت اللواتي تتمايلْن على ظهره.

قالت: أوَتهواها يا فتى؟

قال: ومَن لا يهوى الجمال والروعة والعز والشهرة؟

قالت: أترى تلك السفينة العالية؟

قال: نعم أراها غايةً في الجمال والإتقان.

قالت: هي لك، أنت رُبَّانها وبحَّارها من الآن.

 

تعجب الفتى وسأل نفسه: ما سبب تلك المِنحة وما الداعي؟ لكن زهو الهدية، وجمال العطية أنسياه أن يصرِّح بما فكر في قوله.

 

ركب الفتى الجميل السفينة الأجمل، ورفع الأشرعة البيض تباهيًا على كل السفائن القليلة حظًّا في الروعة والبناء وطول الشراع، والتي أرجأت مرورها حتى تمر تلك البارجة العالية مقلَّة ذلك الفتى الجميل، وحلَّقت من فوقه النوارس تستطلِع له أمر السماء واليمِّ، ولربما اهتدت به في رحلة الشتاء والصيف.

 

وبينما هو في نشوة القائد وصلف الآمر أتاه رجل يحمل بين ذراعيه خارطة البحر والبوصلة (الإسطرلاب)، فقال له الفتى الجميل: ما تلك يا هذا؟!

قال: البوصلة والخريطة سيدي الربَّان.

فقال الفتى: ألقِهِما يا هذا في عرض البحر!

فتعجب الفتى وقال: سيدي، هما الدليل لنا متى ضللْنا الطريق أو عصفت بنا الريح أو...

قاطعه الفتى الجميل وقال: أنا الربان والبحار يا فتى، فافعل ما آمرُك به وإلا...

الفتى: أمرك سيدي البحار.

 

ثم راح يقول لنفسه: أنا مَن له البحر هادئ، وجميلتي (سلمى أميرة البحار) لن تذرني وحدي متى أخلَّ البحر بوثيقة الولاء والسمع والطاعة.

 

وكانت (مليكة النجوم) قد شابَها الكبر فراحت تجمع ما نشرت على وجه النهر منذ صباحه الجميل حتى نزعَت عن البحر كل ما ألبسته من حلل فبدت سوءته، نظر الفتى في صفحة السماء فرأى النجوم بدأت تتناثَر تناثُر الدراهم على العروس، فقال لمن حوله متهكِّمًا: وبتلك نهتدي؟

 

قالوا: نعم، وعلامات وبالنجم.

 

فقال مستكبرًا هاجرًا: وحتى لو زالت تلك ولم تُنثر في السماء فسوف أهتدي؛ إن محبوبتي (سلمى أميرة البحار) قد أولتني العناية والرعاية، فلترحلِ النجوم.

 

أغارت كلمات الفتى صدْر السماء، فدعت لعاجل اجتماع مع السحُب السوداء؛ إيذانًا بمعاقبة البحر الذي يُقلُّ مثل هذا المغرور ويحمله على ظهره.

 

لبَّت السحُب مطلب السماء، وعقدوا العزم والإجماع على معاقبة البحر الذي يَرضى بمثل هذا الغر ربانًا؛ فصار البحر يتأوَّه من سياط المطر الشديدة، والريح العاتية تصفَع الأمواج كل صفعة جعلت باقي السفن تلوذ بالمرافئ؛ ترتجي سكون تلك الخافقات وسلوان الشواطئ.

 

أحسَّ الفتى بالخطر، ولا بد له من اتخاذ قرار يحميه.

فقال لمن حوله: أنزِلوا قوارب النجاة.

قالوا: لا يوجد غير قارب واحد.

 

فقال: أخرجوه، فأخرجوه، ثم ركبه وحده وتركهم فكانت الأمواج ترفعه وتحطه ويُصارعها وتصارعه، يتعجب من تخلي (سلمى أميرة البحار) عنه في أحلك الأوقات، وأصعب المواقف، وقبل أن يَلتقمه الحوت فلربما استغفر ألقته الأمواج على الشاطئ جثةً تنتظر أشعة الشمس الجديدة حتى تعيد لها الروح وتنتشر في شتى أعضائها.

 

- 2 -

انقضى الليل الذي تمرد على نجومه، وهدأ البحر الذي اصطلى من المطر سياط العقوبة وقارعة التأديب، والفتى الغر الجميل قد داعبته الشمس ثانية لتعيد له الروح التي كادت أن تذهب ولا تعود، وإذا بها تربِّت على كتفه وتداعب خده الجميل الغضَّ فيستيقظ فإذا هي كـ(سلمى).

 

فتقول له: حمدًا لله على السلامة.

 

فيعتدل استحياءً ويقول: كدت أهلك يا (سلمى يا أميرة البحار).. لم تركتِني وحدي؟

تبتسم: ثم تقول: اسمي (سلمى) لكني لستُ أميرة البحار؛ أنا أميرة البستان.

 

ضرَب الفتى على جبهته قائلاً: معذرة (سلمى أميرة البستان) فإن الشبه بينكما كبير لولا ثيابك الخضر تلك!

قالت: لعل دوار البحر قد أتعبك!

قال مُستسلمًا: هو ذلك.

ثم وضع يده على بطنه وقال: كم أنا جائع يا (سلمى)!

قالت: لهفي عليك، هلم معي تطعم من بستاني وتأكل حتى تشبع.

ولما أقبلا على البستان أبصراه مُصفَّدًا.

قال الفتى: إن البستان موصد، فكيف نغشاه؟!

 

قالت: إن الرجل الذي هو عاملي والقائم على أمر بستاني على سفرٍ وسيصل قريبًا، لكن دانيات القطوف من الشجر تكاد تلامس الأرض من كثرتها وما أثقلت به الأغصان، فكل يا فتى هنيئًا مريئًا فستكفيك لتشبع حتى إذا جاء البستاني فتح لنا بابَه المُغلق ودخلت لتقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

 

راح الفتى يأكل من دانيات القطوف على شتى الصنوف، ثم قال في انتشاء: لقد خُدعنا!

 

قالت مدعية الاستغراب: فيما؟

قال: أوهمنا أن للفواكه نوًى وشوكًا، وها هي سهلة مستساغة، فضلاً عن تواجدها معا جميعًا في فصل واحد!

 

ابتسمت (سلمى أميرة البستان) وقالت: قد تُبالغ!

قال الفتى الغر الجميل: لا والله لا أبالغ؛ فالبستان رائع جامع، غير مانع ثماره، بواكير قطوفه، دانيات للطالبين.

 

قالت (سلمى أميرة البستان): أيُعجبك؟

ابتسم الفتى وقال: وإن أعجبني، إنه مجرَّد مرور عليه، ثم ينصرف كل منا لشانه.

 

قالت: وما شأنك؟ أتبتغيه؟

غضَّ الفتى الطرف استحياءً منها وعلامة على الرضا إن هي وهبتْه إياه.

 

فقالت في حماسة: هو لك، دامت ثماره وأشجاره، لم يسأل الفتى نفسه: ما سبب العطية والهِبة تلك.

فانتعش وانتفش كزهو الحائز لثروة لم يَعرق فيها جبينه وقال باستحياء: أشكرك، ماذا فعلت لكي تهبيه لي؟

 

مدَّت أصابعها الجميلة تداعب خده الغض وقالت في رقة:

لا تتدلل يا فتى، هو لك!

لكن لي طلب أخشى أن تسيء الظن بي وتقول: إن سلمى ربطت الطلب بالمرغوب!

 

قال في حماسة الرجال: لا تقولي هذا يا (سلمى) أنا كلي لك.

قالت: ما أروعك في كلمة: "كلي لك أنت".

 

ثم غضت طرفها مُظهرةً الاستحياء المصطنع وقالت:

إن في البستان صنوفًا وألوانًا بكثرة للشجر، ولكن لا يوجد بالبستان سوى شجرة (رمَّان) واحدة أخفى أبي - رحمه الله - تحتها عقدًا من الألماس والأحجار الكريمة لا يُقدَّر بثمن، لو علم بأمره الملوك لفتشوا عنه ولهدموا حائطي هذا، وإن أنت اجتهدت وأحضرته لي كان البُستان كله لك بما تُقله أشجاره وما تَجري به أنهاره وجداوله العذبة.

 

سكَتَ الفتى هنيهة ثم قال:

ألم تقولي بأن البُستاني على وشك الوصول، فبمجرد أن يصل نَدخل البستان ونطلع أمر العقد الثمين؟

 

قالت، وقد غضَّت الطرف ثانية: لقد كذبتُ عليك كذبة كذبتها على الجميع، ولكن لو علمت السبب لعذرتني!

 

قال آسفًا وقد تغير لونه: وما تلك الكذبة يا جميلة الرياض؟

قالت: قلت لك ولغيرك: إن البستاني على وشك الوصول، غير أنه لن يعود الآن، فهو في سفر طويل، وإن خوفي من اللصوص هو ما جعلني أقول ذلك ليتهيَّب مَن يُفكِّر في السطو على بستاني مكانه وبطْش حارس البستان.

 

مد الفتى هذه المرة يده الناعمة يَمسح (لسلمى أميرة البستان) دمعاتها الباردة ويقول لها: لك أن تقولي ذلك، فإن الناس لا يُؤتمنون، ولكن كيف سأغشى البستان وسوره عالٍ عال، ألا يوجد سلَّم؟

 

قالت وقد انتعشت بعد رضًا من الفتى بإنجاز المهمة: لا عليك سوف أساعدك!

 

وجعلت تبسط أصابعها العشرة ليقف الفتى عليه بقدميه، فجعل يرتقي ويتعلق ويتسلق حتى وصل قمة السور العالي، ثم التفت إليها قائلاً: سلمى، وكيف النزول إذًا، ألا يوجد سلم هنا؟!

 

قالت: تشبَّث ببروز الجدار، واستمسك بها حتى تصل إلى المستقر.

 

فظل الفتى يفعل ما تأمُرُه به حتى هبط أرض البستان فارتمى على الأخضر مُتعبًا ليُداعِب خدَّه النومُ فنام.

 

ثم استيقظ بعد ساعة فقال لنفسه: ويلي، إن (سلمى أميرة البستان) تَنتظِر لا أريد أن أخيِّب ظنَّها فيَّ، التمس منجلاً وفأسًا، وكان بالقرب من الشجرة نفسها فظلَّ يقطع الحشائش التي كانت تُموِّه على الناس احتمالية وجود العقد في هذا المكان متى هم عرفوا سرَّه، ثم راح يَضرب الأرض بالفأس ضربات مُتتالية لا يكل ولا يملُّ حتى نزفت الأرض ماءها؛ ابتلت ثيابه فلم يُبالِ، اختلط الطين بها فاتخذَت لون الأرض والطين فلم يَلتفِت، وما زال العقد مختبئًا.

 

فجأة سمع الفتى صوتًا للبوابة الحديدية الخاصة بالبستان فقال: ربما يكون البستاني، ولكن (سلمى أميرة البستان) قالت: إنه على سفر طويل أيكون قد أتى فجاءة؟!

 

أقبل الرجل مسرعًا، وكان ضخم الجثة فقال:

من أنت أيها المخبول؟ وما تفعل في بستاني؟

الفتى: إن (سلمى أميرة البستان) هي من أمرتني أن أفعل ذلك!

 

لطمه البستاني لطمة قاسية، وقال: ومن تكون (سلمى أميرة البستان) يا أحمق، لن أدعك حتى أقتلك؟

أحس الفتى أنه لا محالة هالك، فرفع الفأس بقوة الراغب الطامع الخائف على ما قد حصل، وشج رأس البستاني فأصابت موضع القتل، فخر البستاني صريعًا ينزف دمًا، فاختلط الدم بالطين بالماء، وبدا ذلك على ثياب الفتى الغض الجميل.

 

هرول ناحية الباب يلتمس (سلمى أميرة البستان) ليقصَّ لها ما حدث، لم يجدها: أين ذهبت؟

عاد للبستان ينظر الجثة الهامدة وقد بدلت لون الماء والطين، تذكَّر ما صنع الغراب ليُعلم (قابيل)، ندم وارتمى مغشيًّا عليه من فعلته!

 

- 3 -

داعبت الشمس خده الجميل هذه المرة ولكن بدَعةٍ أكثر - فقد دنا وقت زوالها - حتى استيقظ، فلما أفاق قال: سبحانك إني كنت من الظالمين، تربَّع وقد قتله العطش وتمنى لو يرى حتى السراب نفسه فيَنصرف إليه.

 

ما هذا؟ فتاة جميلة تحمل جرة ماء تكاد تنبض من عذوبة الماء، يا ليت تلك الفتاة تمر من هنا

مرت الفتاة من أمامه وكانت تدلل!

فقال: يا فتاة، أصلحك الله، هلا سقيتِني شربة ماء؟

 

ابتسمت الفتاة وقالت: بالطبع؛ الماء لا يمر على ظمآن، أخرجت كأسًا لونها كلَون السماء وقت الصفاء، تكاد تنبض هي الأخرى بالنقاء، يُخيَّل للعطشان أنها مملوءة بالماء، ثم جعلت تصبُّ الماء فيَبلع الفتى ريقه يتمنى لو يَصير الكأس كالإبريق فيشربه كله.

 

ثم مدت يدها الجميلة للفتى بالكوب، فلما شرب وثمل نظر فإذا بيد الفتاة ناعمة جميلة، ودقق في وجهها النظر فقال في لهفة: (سلمى)؟

قالت: أتعرف اسمي؟

قال: (سلمى أميرة البستان)!

ابتسمت وقالت: لست أميرة البستان، وما لنا من بستان!

 

أنا فتاة من تلك القرية، وهذه الدار داري، أحيا في حمى أبي (الشيخ الكبير)، يهابه الناس لعلمه وخبرته بالحياة، وتلك دارنا التي على مقربة منك يا فتى.

 

نظر الفتى فإذا هي دار جميلة رائعة، تتدلى غصون العنب على شرفاتها، والقناني الممتلئة بالماء العذب على قارعة وحافة كل شباك منها، ونافذة ألوانها رائعة بديعة تريح أعين الناظرين.

 

تركت (سلمى الثالثة) للفتى وقتًا يَسترجع فيه الذكريات مع السفينة وقت أن كان ربانها وبحارها العظيم، والبستان وقت أن كاد أن يكون صاحبه بما أقلَّ من شجر وثمر، فجعل يقول لنفسه: تمنيت الفلك في البحر وكدتُ أغرق، وتطلعت للبستان وصاحبته وكدت أهلك، لا يعوزني الآن سوى تلك الفتاة (سلمى) زوجة لي، وتلك الدار دارًا لي، كم هي رائعة تلك الدار؟! وأفضل ما في الأولى دار فسيحة، وزوجة مريحة، وها هو أبوها شيخ كبير لن يعيش طويلاً فأكون أنا الصاحب في السفر والإقامة.

 

قطعت (سلمى الثالثة) دابر أحلامه وقالت: أستأذنك يا فتى.

 

قال الفتى: إلى أين؟

قالت: إلى دارنا، أخشى أن أتأخر فينهرني أبي، أنت لا تعرفه، إنه يحمل أخلاق الرجال القدامى في الشدة والجد.

 

قال الفتى بانكسار وتطلع في آن واحد: تفضَّلي سلَّمكِ الله يا سلمى.

قالت: وسلمك يا فتى.

 

مشت (سلمى الثالثة) أمامه بغير استحياء، كأنها تتعمد أن تُظهر محاسنها ونعمة الجمال لديها، فما غض الطرف ولا رفع البصر حتى انتهت للدار ودخلت، فأتاه النوم يطلبه فلبى مطلبه، وأقال ساعة ثم أفاق، وكانت الشمس قد أوشكت على جمع ما نشرت في الصباح، لكن ما زالت تتريَّث حتى يؤذن لها.

 

مد الفتى ناظره ثانية ناحية الدار البعيدة يتمنى لو يَسكنها ولو لساعة، وأن تخرج الفتاة (سلمى) الجميلة!

 

استيأس ثم وجَّه ناظره في الأرض لحظةً ورفعه فإذا هي (سلمى صاحبة الدار الجميلة)، وتَحمل الجرة التي شرب منها قبل، وهي تخرج من دارها تتدلل أمام عينيه المتطلعتين الطامحتين.

 

تابعها باهتمام وترقُّب: عادت دون أن تملأ الجرة، فتعجب، فوجد في السؤال عن سبب الرجوع بلا سُقيا أداةً للربط، وصلة الموصول والمطلوب، فاقترب منها وقال: سلمى!

 

فقالت بحزن: لم أتمكن من أن أملأ الجرة تلك المرة!

فقال متعجبًا: ولمَ؟

 

قالت: لقد ألقى الرعاء على صفحة البئر حجرًا كبيرةً ونسوا حظي من الماء، سأرحل الآن وآتي في الصباح.

 

قال الفتى لنفسه قبل أن يصرِّح لها: هل تكون الدنيا قد ابتسمت لي ثانية في ابتغاء الدار الجميلة لكي تكون من حظي، فأملأ للفتاة الجرة، فتقص على أبيها قصتي معها ومع البئر والحجر فيطلبني زوجًا لابنته، أتُعاد القصة ثانية؟!

 

لطم نفسه بالعصا وقال: أتكون يا قاتل مثل هؤلاء؟! أنى ذلك، ثم إنك قتلت نفسًا بغير نفس.

 

فاستلمه شيطانه ليملي له ويُهيِّئ له فقال: ونبي الله موسى عليه السلام قتل نفسًا ثم أناب وتاب عليه ربه.

 

بترَت سلمى فكرة الرد والصد مع شيطانه حتى لا يرد إلى أصله وقالت له: أخشى أن أتعبك وتقولي أني أستغلُّك لكوني سقيتُك عن ظمأ من قبل.

 

قال لها: لا تقولي هذا يا صاحبة البيت الجميل، انطلق الفتى الغر الجميل وشمر عن ساعديه وبدت مفاتنه لمفاتنها، حتى تشجع ورفع الحجر، وألقى الجرة في البئر، فخرجت بعذب الماء وأصفاه.

 

فشكرت له سلمى صنيعه، نهاها عن الشكر انتظارًا لرد فعْل أبيها الشيح الكبير، وعاد ثانية يفكر في إمكانية أن ترجع سلمى لتملأ؛ فجرَّة ماء واحدة لا تكفيها.

 

وبالفعل رجعت (سلمى) هذه المرة ولم تكن الجرة معها، بل كانت تمشي تَختال، تُذكِّره بما طمع وطمح إليه حتى رأى نفسه يَحيا ما تمنى شبرًا شبرًا.

 

قالت له بغير حياء: أبي يَشكرك، ويدعوك لتطعم عندنا طعام الغذاء.

فتدلل الفتى قائلاً: أشكرك (سلمى)، إني سأرحل الآن.

 

قالت بشغف جعلته يُعزِّز حلمه الجميل: لا ترحل، ثم حاولت أن تواري اللهفة فقالت:

إن أبي سيُجازيك أجر السُّقيا ويرجو لو يتعرف بك.

 

انصاع الفتى مظهرًا الخجل، ثم تشابكت الأيدي، ونسيَ وتناسى أن مصافحة الأجنبيات حرام شرعًا، فلما مر من أمام البئر التي كانت سبب المعرفة ابتسما معًا ثم صرخت سلمى: ويحي!

 

قال الفتى متلهفًا: ما حدث؟

قالت وهي تبكي: سقط خاتمي ذو الفصِّ الألماس في البئر، وَيحي! سيعاقبني أبي عليه عقابًا شديدًا، ناهيك عن كونه إرث أمي الأميرة!

 

قال الفتى: هل هو غال الثمن يا سلمى؟!

قالت في عصبية: أقول لك الألماس، إن الملوك لو علموا قدرَه لقتلوني أنا وأبي لأجله!

 

قال الفتى - لنفسه وقد علا طموحه واستبانت لسلمى نواياه: أنزِل أُحضره لك، وقد أخفى ما تكنه نفسه من انضمام الخاتم ذو الفص الألماس إلى الدار والزوج الجميلة -:

لا تحزَني وقري عينًا، دمعك غالٍ عندي يا ابنة الشيخ الطيب، سوف أنزل حتى آتيك به.

 

قالت وهي تبكي: عليك بأن تنضَح البئر بالجرة، فلربما خرج مع أي مرة تملأ فيها.

قال: لا تقلقي، شرع الفتى ينضح وينضح، يتصبَّب عرقه، لا يسمح لليأس بأن يُراوده؛ فالدار جميلة، والفتاة رائعة، والخاتم ثمين!

 

وفي كل جرة يرفعها يسأل: سلمى، هل عثرت عليه؟

سلمى ترد: للأسف ليس بعد، اجتهد أعانك الله!

 

فلما نضبت البئر وصارت صلدة قيعان لم يَذكر الفتى سوى أبسط ما تمنى: شربة الماء العذبة التي شربها في أول مرة لما أفاق.

 

قال: يا سلمى، هلا سقيتني شربة ماء؟ ضحكت سلمى بصوت عالٍ وقالت - وقد تغيرت من حال المسكنة والدعة إلى الشراسة والصلف -:

أسقيك وأنت في بئر الماء.

قال: لقد نضبتُ البئر.

 

ثم راح ينادي عليها فلم تُجبه، صرخ بصوت عال يَقتله القلق بأن تكون ككل سلمى مرت به، فإذا هي تطل عليه من فوهة البئر عجوز شَمطاء رأسها كأنها متَّقدة من جهنم، فصرَخ ثم خرَّ مغشيًّا عليه.

 

ولما أفاق وجد نفسه بين جملة من الذين كانوا يَستمعون (لسلمى الأولى) وما تقول فأراد أن يُنبهِّهم لمكرها وحيلتها في الدهاء واصطياد الورى لكن لسانه قد عجم عن الكلام، خطرت بباله فكرة الاستشهاد بالشمس لكنها قد حلقت لمستقرٍّ لها.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • ليس ذنبي (حكايات أنس - 1)
  • الصديق عند الضيق (حكايات أنس - 2)
  • المؤمن القوي (حكايات أنس – 3)
  • حكايات سلمى (2)
  • سلمى العربية
  • سلمى وشجرة التوت.. الحكاية الأخيرة (2)
  • حكايات قصيرة (قصيدة)

مختارات من الشبكة

  • الحكاية الشعرية: حكايات أحمد شوقي نموذجا(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • سلمى وشجرة التوت .. الحكاية الأخيرة (3)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • سلمى وشجرة التوت .. الحكاية الأخيرة (1)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • حكايات العلماء لسعيد بن سعد آل حماد(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الخصائص البلاغية في حكايات شوقي المنظومة للأطفال(كتاب - حضارة الكلمة)
  • مع العشر الأواخر لنا حكايات(مقالة - ملفات خاصة)
  • حكايات طبيب في ألمانيا(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • حكايات اليم (1)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • حكايات حفصة (قصة للأطفال)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • فرنسا: كتاب يرصد حكايات المسلمات مع ارتداء الحجاب(مقالة - المسلمون في العالم)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 14/11/1446هـ - الساعة: 17:59
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب