• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

الكاتب الجالس القرفصاء (قصة)

محمد صادق عبدالعال

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 2/12/2012 ميلادي - 18/1/1434 هجري

الزيارات: 7285

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الكاتب الجالس القرفصاء


"ولما طال بالصيف المُقام، وملَّ الناس حروره ولهيبَه، وأحسَّ بكراهية مِن طول مقامِه، أراد أن يُلصِق التهمة بالشمس، فباتَ يُداعِب السحبَ الرباب ويُمنِّيها بالمقام الرفيع، والمحبة في قلوب الجميع؛ إذ أصبح البشر يَشترون الظلَّ بالغالي والنفيس؛ فلبَّت السحُب مطلبَه وألصقَت بالشمس الكبيرة تُهمة الحرور، ولما عَلمَت الشمسُ بما جرَى ودار، ابتسمَت وقالت للسحب:

أقبلي - ويحك - لقد خدعَك الصيفُ بمعسول الكلام؛ وغرَّر بك فما رأيت غيري سببًا لشظف العيش على الأنام؛ ولكنكِ ما زلتِ في مُقتبَل العمر مِن كل عام، وما علمتِ أنه مُوشِك لا محالة على الرحيل، فأراد أن يُقدِّم الجميل، ويُنسي الناس ما رأوا فيه مِن ويل وثبور.

 

فقالت السحب - بلطفِ -: لقد انتوى خيرًا.

 

فضحكت الشمس وقالت: ولِمَ لمْ يَعرِض عليك ذلك زمان عزِّه، ووقت مَجدِه؟، أم إنه حين أحس بتهاوي مُلكِه وعرشِه، أبدى السماحة والوئام؟!

 

باشِري عملك؛ لعلَّ ظلَّكِ يُنسيهم أيام الحرور.

 

ونَهبِط مِن مناوَشات الأفق هذا وحديثه الماتع، لنَهبِط على قرية جميلة حاضرة البحر والنهر معًا، فتلك مِن نعماء المولى عليها، فهل يا ترى عاد الحضور هذا عليها بخير أم بشرٍّ؟!

 

في مُنتصَف القرية الكبيرة - حاضرة البحر والنهر - قصر مُنيف عظيم، تُحيطه الأسلاك الشائكة، والجنازير العظيمة، والكلاليب أشبه بخيوط العنكبوت؛ لكنها قوية صلدَة لا تَعرِف المُرونة.

 

ومِن العجيب أنك تَرى زوَّار المدينة مِن خارج الديار - أو  كما يقال: الوفود الدولية - تراها خيوطًا رقيقة حفاظًا على الأمن العام وصاحب المقام، وما ذلك بمُحرَّم أو مُجرَّم؛ وذلك مما أبدعه مُصمِّمو القصر الذين حازُوا قصب السبق في الإبداع المزيَّف؛ فجمعوا بجَعبتهم الكثير مِن الأموال الطائلة.

 

اسمي (باسل) أسكن تلك القرية الجميلة حاضرة البحر والنهر معًا، رأيتُ ذات مرة - ومِن بعيد - موكبًا عظيمًا قيل: إن فيه السلطان الحاكم، سيارات كثيرة، ومما أذهلني وذهَب بالبقيَّة الباقية مِن رجاحة وأناة وحصاة عقلي: أني رأيتُ كل السيارات بزجاج أسود في عيونِنا يَبدو، فلا نعي مَن بداخلِها!

 

فسألت صديقي (سعيدًا) وقلت له: يا سعيد، لِمَ هذا الزجاج الذي يُخفي عنا وجْه المَلِك؟!

 

فضحك (سعيد) وقال: يا باسل، إن مما لا تعلمه أن هذا سمتُ الملوك في عصرِنا الحديث، فزمان الدخول على الملوك بغير إذنٍ قد انتهى؛ فقد صرنا في عصر التقنيات (والتكنولوجيا).

 

فقلت له: وهل هو يرانا؟

 

قال لي سعيد: إنه يرانا هو وقبيله؛ لكنَّنا لا نراه!

 

فتعجَّبتُ أكثر، وقلت له: ولمَ لا يَرانا ونراه؟!

 

فالتفت سعيد ثم ألجم لسانه وأعجمه، واكتفى بخائنة الأعين.

 

لكن صديقي الثاني (أكمل) قال لي: يا مُنصِف، لا تسأل عما يَسوءك؛ فما يُفيدُك السؤال كما لا تَعنيك الإجابة.

 

فتعجبتُ أكثرَ، وكرَّرتُ السؤال، فما وجدتُ غير انصرافٍ للجميع، مما أفزعني أن رأيتُ وجهًا يقبع تحت نظارته السوداء، يتأبَّط صحيفة لم أتمكَّن مِن اسمها، يقول لي: يا باسل، لا يَعنيك رُؤيا الحاكم وقبيله، لكنهم يَعنيهم أن يَرمقوك بأعينهم مِن وراء الزجاج الذي أزعجَكَ لونه، وربَّتَ على كتفي بشدةٍ ظاهرُها العطف وباطنُها العنف، وقال لي: إنك بأَعيُنِهم، أَفهمتَ؟!

 

فما وجدتُ غير أن أقول: فهمتُ، وكُفيتُ، ثم انصرفتُ.

 

سرتُ في طريقي أتحسَّس دربي؛ لكنِّي تذكرتُ قوتَ العيال وأمهم التي شاطَرتْني الأحزان والأتراح أكثر مِن الأفراح، فقلت لنفسي: صدق القائل، وما يَعنينا إن كان الزجاج لجةً أو مُعتِمًا؟

 

إن الدار أولى على الآن بحقلي الصغير، ورزق أولادي أولى مِن المَلِك وقبيله، والحمد لله الشمس اليوم قد رضيت بالسحبِ العباب تَحجُبها رفقًا بِنا وبقريتنا الطيبة.

 

هممتُ بالفأس أضرب وجه الأرض الرؤوم التي لا تقلُّ حالاً عنِّي؛ فهي تُقتَل كلَّ يومٍ ثم تَحيا لنحيا بها، ولما أصابني التعب، وتخطَّت دقات قلبي حدَّ المألوف، ارتميتُ على الأرض أستريح، فداعبني النوم في الظل الجديد غير المألوف في تلك الآوِنة مِن العام.

 

•  •  •

سمكة كبيرة تَخرُج مِن عمق البحر - كأنها تُنازِع البَرَّ الذي أخرجها مِن البحر - حتى ارتمَت بجواري، فأقبلتُ عليها وفَرحتُ فرحًا شديدًا.

 

وقلت: قوت اليوم والغد - بإذن الله.

 

فبينما أنا أحمل السمكة سقَط منها ما أحدث صوتًا يبدو أنه مَعدن، لم أنشغل به وسرت، ولكنى في الطريق قبل أن أبتعد قلت لنفسي، أو قالت لي نفسي: وما يُدريك لعلَّه خاتَم سليمان؟ فوقعتُ على الأرض مِن شدَّة الضَّحِك، وما تَمالكتُ نفسي إلا بعد حين، ثم قلت لنفسي الأمّارة ثانيةً: عندك حقٌّ وما العجب؟! هل كل خير حِكرٌ على المَلِك وبطانتِه الذين امتلأت بطونهم مِن خيرات أرضِنا وما أحسُّوا بنا - غير القليل منهم - ومَن تعاطَف يومًا معَنا لم يُعمر طويلاً وأُقصي وحُدِّدتْ إقامتُه، رجعتُ إلى المكان الذي عثرتُ فيه على السمكة فلم أبحَث طويلاً، عثرت عليها، طفقتُ أضحك ثانيةً؛ حيث وجدتُها خاتمًا كما توقعتُ، فجلست وفعلت مثلما أرى في (الأفلام) والمسلسلات، وشرعت بتنظيف الخاتم مما علَق به مِن أدران البحر وبطن السمكة، فإذا بي أرى دخانًا يتصاعد عاليًا ثم يَنخفِض، ثم هكذا دوالَيك، وأنا أضحك بصوت عالٍ، ثم ظهر لي مارد صغير، فضحكتُ مِن مَنظرِه كثيرًا، فتعجَّب الجنِّيُّ وقال: ويحك مثلك يَرتعِد حين يرى جِنيًّا أو ماردًا؟!

 

باسل: ما لا تَعرِفه أيها الجنِّيُّ المسكين أنه أصبح هناك مِن البشر مَن يُماثِلكم في كثير مما تقدِّمونه مِن الخوارق وغير المألوف.

الجنيُّ: كيف هذا؟!

 

باسل ساخرًا: مثلاً أنت ترانا دون أن نَراك، أليس كذلك؟

الجني: نعم.

 

باسل: هم في هذا القصر المنيف قد جلَبوا زجاجًا يَرونَنا مِن خلفه ولا نراهم نحن.

الجني باستغراب: ولِمَ؟

 

باسل - بسخرية - يقولون: إنها لِدواعٍ أمنية، لا تسأل حتى لا تُعتقَل، وأنت في القُمقُم.

ثم يسأل الجنيَّ متحديًا: لِكونكَ جنيًّا لو مرَّ الآن موكِب السلطان - سلطان القرية - هل كنتَ تعرف في أي سيارة يكون هو؟! فأكثر مِن اثنتَي عشرة سيارة تكون في شكل واحد، ولا نَدري في أيٍّ يكون مولانا السلطان، ولقد قيل لي: إن هناك مُبرِّرات لهذا وهي:...........

وقبل أن يشرَع فيما يقول ناهضَه الجنيُّ قائلاً: أتعبتَ رأسي بما تقول أيها الإنسي، ليس بيني وبينك الآن إلا طلب واحد أُلبِّيه لك بالشروط المذكورة، لا مال، لا عطية، لا مَنصب.

 

باسل زاهدًا: ما دمتَ لن تَمنحني مالاً أو عقارًا، ما جدوى الطلب؟!

الجني: يا هذا، لتكنْ لك همَّة عالية.

 

أطرق باسل ثانية ثم قال: صدقتَ أيها الجنيُّ المارِد.

الجنيُّ محفِّزًا: أراك شغوفًا بهذا القصر المنيف العالي المُمتدِّ مِن بحر القرية شمالاً لنهرِها العذب جنوبًا.

 

باسل: نعم؛ فوالله إني لشديد الشوق للتطلُّع إليه، لكنه لا يَنبغي لمثلي أن يَقترِب مِن أسواره العالية، وحواجزه المُجنزَرة بكلاليب وأسلاك شائكة.

أَتعرِف أيها الجني الطيب: إننا نراه بتلك الصورة البَشِعة، في حين يراه الزوَّار مِن خارج القرية أشبه بخيوط العنكبوت أَوهنِ البيوت، كما ذكر ربُّنا - عز وجل - في كتابه الكريم.

أعيادُهم كثيرة، نسمع عنها وعن مواسمها، ولكننا لا نرى منها غير القليل، حينما يَشبعون هم يُلقون إلينا الفتات؛ فمِنا القانع الراضي، ومنا المُعترِض الآبِه، ومنا الرافض بشكل واضح، ومثل هذا لا نراه كثيرًا.

الجني مُمازحًا: وهل تتوق الدخول؛ لكي تأكُل وتنعَم بما يَنعمون؟

 

باسل: هل مِن الممكن أن أتناول مِن طعامهم إذا دخلتُ؟

الجني: لا يَجوز، فكما قلت لك: كل ما سوف أقدِّمه لك هو مجرَّد وسيلة للدخول دون أن يراك أحد، وإذا قسا بك الجوع خرجتَ وشَربتَ وطَعِمتَ، ثم دخلتَ ثانيةً مدة عام كامل.

 

باسل: موافِق على أية حال.

الجِنيُّ: ولكن قل لي: ما الذي تَبغي التطلُّع إليه في هذا القصر المُنيف، وما يشغلك ما دمتَ لن تأكُل مما يأكلون، أو تشرب مما يَشربون؟

 

باسل: لا أُخفيكَ سِرًّا أن بهذا القصر المنيف كاتبًا مِن أحقاب بعيدة يَكتُب التاريخ في سجلٍّ كلَّما تقادَم به العهد، أفرَغ ما به مِن أسرار، فافتضح أمرُ الخواصِّ مِن الحكام والملوك، شريطة أن يَنقضي عهدهم ويَزول ملكُهم، وددتُ لو أعرف كيف سيَكتب عن أحوالنا كشعبٍ ورعيةٍ مَسلوبةِ الإرادة والحقوق، مُغيَّبة وسط شعوب تيقَّظتْ مِن دهور خلَت، وهل سيَرضى السلطان أن يَكتب في حقِّه ما يَشينه أو يُهينه؟!

وددتُ لو أراه...........

الجني: فكرةٌ ساميةٌ، وغرضٌ نبيلٌ.

 

ثم ضرَب الجني راحة يده اليُمنى باليُسرى، وتمتَم بكلمات لا أفهمها، ثمَّ تخيلتُ عقدًا ممرَّدًا كالقوارير بين يدَيه قلَّدني إياه حول عنقي، ثم قال لي: إن هذا العقد أمانة وعُهدَة، وإنه لن يُخفيك عن الناس إلا في القصر وأرجائه؛ فلا تفكِّر أو تظن أن تَشتهي به عملاً غير ذلك.

ابتسم باسل: تقنيات عاليَة أيها الجنيُّ أَشكرُك عليها.

يقول باسل: انطلقتُ وأنا أخشى أن يَكون قد توصَّل رجالات السلطان إلى ما يُبطل مفعول هذا العقد الجميل في إخفاء مَن يَلبسُه.

تقدَّمتُ بخُطًى كبيرة أزعجَتْني في بداية الأمر، لكنِّي أدركتُ أنها مِن تداعيات لبس العقد؛ هذا حيث وجدت نفسي أصعد الأسوار العالية للقصر دون حاجة لسلَّم أو رافِعة.

 

في القصر:

دخلتُ القصر المنيف المتعدِّد الحجرات والشُّرُفات، الكثير النوافذ، المُتداخِل الحجُرات، والدهاليز تَنتهي إلى بَهوٍ كبير، أيضًا وقعتْ عَيني على قادة الأنظمة - أعني: الوزراء - لهم بطون مليئة، ورابطات العنق حول رقابهم تَخنقهم؛ لكنهم مُجبَرين على لبسها احترامًا للسلطان.

تاقت نفسي لرؤية سلطاننا العظيم الذي يَرانا هو وقبيله هؤلاء ولا نراهم نحن كرعية.

أجبرت مُقلتي على التصويب نحوه فإذا هو شيخ كبير هَرم، ليس كالصوَر التي نَراها، كأن الصور لزمن مضى وولى، وكان صوته رقيقًا فقال لهم:

ما بالُكم؟

الحضور: بخير.

الملك: والرعيَّة؟

الجميع: بخير، والحمد لله، ثم يتناوبون الكلام.

نظام الداخلية: الأمن مُستقِر، وعُيونُنا ساهرة على خدمة سيدنا ورعيَّته.

 

نظام الحربية: حدودنا محميَّة بأسلاك شائكة وجنودٍ لا تعرف النوم، وما أضير لنا جنديٌّ مِن قِبَل الأعداء غير بعض رصاصات طائشات، وتقدَّموا باعتذار عما كان منهم، فقبلناه بعفو الإسلام وسماحة المسلمين.

نظام التعليم: استورَدنا أحدث الأنظمة، ورفَعْنا للمُعلِّم قدره، وسنُواكب كل جديد.

نظام الصحة: دوام الحال مِن المحال، وكل صحيح سيعتلُّ، ولن يَنجو من الموت أحد، لكنا نُقدِّم قدر المستطاع العلاج.

نظام الزراعة: القمح المستورَد يَكفينا مدة عام للنوم قليلاً، ثم نُفيق نفكِّر ممَّن تكون المَعونة القادمة.

السلطان - مقاطعًا -: يا وزير الزراعة، سمعتُ أن هناك أدويةً مُسرطنةً قد دخلت البلاد، فما قولك؟

الوزير: كلا وحاشا سيدي السلطان، فكل ما جئنا به هو مُقوٍّ ومُدعِّم للتربة، ثم يسأل السلطان: لو سَمح سيدي أن يُخبرني ما تلك؟ وكان يُمسِك بيده تفاحة، فقال السلطان ساخرًا: بطيخة حمراء؟

فضحكتُ بصوتٍ عالٍ فزاد خوفي، ولكنِّي اكتشفتُ أن مِن خصائص هذا العقد أيضًا كتْم الصوت، فضلاً عن إخفاء مَن يَتقلَّده.

فكنتُ كلما سمعتُ بِواحد منهم يتكلَّم قلت له: أفَّاق، كذَّاب، أَشِر.

 

السلطان: إذًا لا مشكلات تُذكَر، أو مُظاهَرات تؤرِّقنا؟!

 

التفتَ الحضور إلى بعضهم البعض بخائنة الأعين عن السلطان: ليُخفِ كلٌّ منا مساويه؛ لنظهر جميعًا بالشكل الأفضل.

قام رئيس الأنظمة بمُداخَلة بسيطة وقال: سيدي السلطان، لا يَخلو بلد مِن مشكلات أو بعض المعوِّقات، لكنَّنا - بعَون الله - نتغلَّب عليها جميعًا، والسادة الوزراء جميعًا بلا استثناء يَبذلون قصارى الجهد في مواجهة المشكلات والمعوِّقات التي تَحول دون عجلة التنمية.

 

تمنَّيتُ لو أرى تلك العجَلة التي أتعبوا رؤوسَنا بها دهورًا وسنينَ!

قال السلطان: تمام، تمام.

انتهى الاجتماع.

خرَج الجميع وأنا أرمقهم بعَيني، وددتُ لو خلعتُ هذا القيد - أقصد العقد - مِن حول رقبتي وأصرخ فيهم جميعًا وأقولها صريحةً: كاذبون، ومتى يُنعم الله علينا بمَن هم مِنَّا وأفضل منكم بكثير.

 

لاحظتُ رجلاً أبطأ به قدمه ما أسرع به غيره؛ ومالَ على السلطان، وسمعتُ كلمات: اعتِقال، مُعتقَل، إرهاب، لم أستطِع تجميع الحوار، لكنِّي وجدتُ وجه السلطان قد امتعَض وذهبَت حمرة الوجه التي أُشربها مِن تفاحة الوزير الكاذب، ثم انحنَى السلطان ووقَّع بخط يده على بعض أوراقٍ خرج بها كبير العسَس في القصر يَجري كأنها كانت ضالته.

 

انزويتُ في جانب مِن القصر حزينًا أُفكِّر وأقول لنفسي: مَن المُخطئ؟

الراعي أم الرعية؟ أم بطانة السوء الكاذبة تلك؟ أم نحن الخانِعون؟

لا شكَّ مِن وجود خيط يُعزِّز هؤلاء الكذابين الأفَّاقين، يَجعلهم يَتمادون في الإفك والضلال ومُماراة السلطان المُغيَّب عن رعيته، وأن لهم رجالات خارج القصر يَسيرون على نفس الدرب، ولكن بخطًى محسوبة، وأن الكعكة الكُبرى ذات مستويات؛ فمنهم مَن له الحشو مِن (الملبن والمكسرات)، ومنهم مِن له الأطراف، ومنهم مَن له الفُتات منها.

 

أحسست بالجوع يَخترق أمعائي الغليظة والدقيقة وأنا أرى صنوف الطعام لهؤلاء الطغاة، لكن ليس لي أن آكل مما يأكلون.

 

حقيقةً حمدتُ الله على سلبِ تلك الميزة مِن هذا العقد؛ لأني ساعتها سوف أُحسُّ بأني آكُل أموال اليتامى ظلمًا، وما أصبِر على النار شيئًا.

 

انطلقتُ ناحية الأسوار أَخرُج مِن القصر بخُطًى سريعة حتى انتهيتُ إلى مطعم شعبيٍّ استخرجتُ ما بجَيبي مِن بقايا المال، ثم دفعتُ بها للرجل فأتحفني بلِفافة مِن الطعام الشعبي للقرية العظيمة حاضرة البحر والنهر.

 

نظرتُ مِن حولي للجالسين، فإذا بؤسُ العيش يطلُّ مِن وجوههم، لكنهم أرادوا أن يُرجِئوه قليلاً؛ للاستِمتاع بالطعام.

 

تنهدتُ بَيني وبين نفسي قليلاً، ثم التفتُّ إلى طعامي أُجهِز عليه قبل أن يُجهِز عليَّ الجوع.

 

وبينما نحن جلوسٌ وجهاز التلفاز يُذيع بيانًا بالاجتماع الذي حضرته والمذيع يقول:

عُقد اليوم بمقرِّ القصر المنيف اجتماعٌ وزاريٌّ ضمَّ السادة الأنظمة كذا وكذا، وبينما المذيع يَسترسِل في حديثه، ملَّه الكثير.

 

غلبني الضحك بصوت عالٍ، فالتفَت الجلوس إليَّ باستغراب، ثم وجدتُ نفسي أُغلِق شفتي على ثَغري؛ مخافة أن يُكتشَف أمري.

 

انتهيتُ مِن طعامي الطيِّب، ثم خلوتُ لنفسي، لبستُ العقد وسرتُ سريعًا، اعتليتُ أسوار القصر الشائكة العالية، لم ترَني كلاب السلطان "المُدرَّبة" ولا كلاب السلطة البشرية "المُتذئِّبة".

 

دلفتُ أبحث هذه المرة عن هذا (الكاتب الجالس القرفصاء) الذي سَمعنا به كثيرًا، تعبتُ مِن البحث عنه، انتابني شعور باليأس؛ مخافة أن يكون خرافةً أو كذبةً ألَّفها الناس ككل ما يُقال لهم مِن قِبَل تلك الحكومة المارقة مِن عجلة التنمية والخطط بأنواعها.

 

وبينما أنا بين يأس وبؤس، إذ بعيني تقع على مصباح مضيء يَبدو أنه قديم، فاقتربت منه، فإذا برجل يَلبس حُللاً كثيرةً تَنتهي لعصور بعيدة لم يَتخلَّ عن خلعَةٍ منها، أيقنتُ أن هذا هو الكاتب الجالس القرفصاء الذي يَكتب التاريخ للأمم والبشر.

 

فقلتُ لنفسي: قبل أن أقترب منه هل العقد الذي أتقلَّده يَمنعه مِن رؤياي؟ لست أدرى، لكنِّي رجعتُ لنفسي وقلتُ: سأُجرِّب، لا ضير مِن هذا.

 

اقتربت منه وقلت له:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

فرفع رأسه القابعة بين صفحات كتاب له إهاب قديم وأوراق قديمة تشمُّ فيها عبق الزمن المُنصرِم، صفحات مُضيئة فوَّاحة العِطر، وأخرى قبيحة المنظَر سيئة العَناوين.

 

انتظرتُ حتَّى يردَّ السلام: فأشار بيده دليل الرضا، وانكبَّ ثانيةً على الكتابة.

 

ومما راعَني وهو يَكتُب رأيته يَترك مسافات بين السطور تسمح بالزيادة في الكتابة، فظننتُ أنها مِن أصول تجميل الصفحات وتزيينها.

 

دخل السلطان فُجاءةً فسلَّم على الكاتب، فردَّ الكاتب السلام بصوت مسموع، نظر المَلِك في الصفحات وقلَّب القديم منها والجديد.

 

ثم قال في رضا وقناعة: تمام، تمام.

 

وأنا أقف مذهولاً؛ لا أصدِّق.

 

انصرف السلطان إلى شؤونه، ثم شرعت أنا في النظر للكاتب.

 

تجرَّأتُ وقلتُ له: يا سيدي الكاتب، مِن حقِّي أن أنظر في تلك الصفحات التي تَكتُبها، فليس مِن حقِّ السلطان وحده وقبيلِه أن يَنظُروا ونحن الرعيَّة لا نَدري ما يُفعَل بنا؟ أتسمعني؟

 

فرفَع الكاتب رأسه ثم صوَّبَ مُقلتَيه الجاحظتَين نحوي، فوجدتُ نفسي أتقلَّب في عصور ولَّت، وأزمانٍ خلَت، وأمم رحلَت وانطوَى ذِكرُها وذكرُ مَن بعدَها.

 

فقال لي: كيف غشيتَ القصر؟ ألا تخشى قبيل السلطان!

 

قصصتُ عليه القصة، فابتسم وكشف عن ثغره قليلاً، ثم قال لي: ما كان لك أن تَغشى القصر إلا هكذا.

 

ثم سألني: ماذا تَبغي من القصر؟

قلتُ: لقد دخلت القصر المنيف الكبير هذا؛ لكي أَطَّلِع إليك؛ فقد سمعت عنك الكثير، وكنت أقول لنفسي: ربما هو مِن الخرافات أو الفزاعات التي يُطلِقها الناس.

 

الكاتب الجالس: وماذا أبصرت؟

باسل: أبصرتُ عجبًا.

 

الكاتب الجالس: وما وجه العجب؟ فأنا أَكتُب التاريخ، هل سمعتَ بأمة لم يُكتب لها تاريخ أو يَندثِر ذكرُها؟ حتى الأمم التي أهلكها ربها بذنبِها ومعاداتها لأنبيائه أورَد ذكرَها، وقصَّ حديثَها؛ للاعتبار والعظة، أليس كذلك؟

 

يا بني، أنا في هذا الكوخ أقبَع مِن قرونٍ خلَت، تعاقَب عليَّ مِن بعد الخلافة الراشدة المهديَّة أُمويُّون كثيرون، وعباسيُّون، وكرديُّون، وعثمانيون، ومماليك، حتى ثورتكم في القرن الماضي وتحوُّل البلاد إلى جمهورية، شاهد على تلك العصور جميعًا بأقلام الشرفاء والنبلاء، وعلى النقيض أيضًا بأقلام الكذابين المنافقين الذين قال لهم الحكام: سنُقرِّبكم منَّا وتُصبحون ندماءنا، فهلمُّوا سجِّلوا صفحات مزيَّفة يَحمدها لنا القادمون، ونَغيظ بها المُعاصِرين.

 

باسل: بلى، لكنَّك تَكتُب ما يُرضي الملوك والحاشية؛ خشية البطش والتنكيل بك.

ابتسم الكاتب ثانيةً، لكنِّي لاحظتُ في تلك المرة أن الأسنان البيض كاللؤلؤ قد تحوَّلتْ إلى أنياب زرقاء مُخيفَة، فارتعبتُ ثم زمَّ عليها الشفتين، وقال لي: يا هذا، ألا ترى تلك المسافات البينيَّة بين السطور؟!

 

قلت - وأنا أرتجف مِن هول ما رأيتُ؛ مِن أنياب تُنذر بشرٍّ -: أَراها سيدي الكاتب.

 

قال لي: انظر إليَّ وما أفعل.

 

وجدتُه قد أحضَر دواةً بها ما يُشبِه الحِبر السريَّ، ثم عَمد إلى ثلاثة أسطر فقطَّر على بداية كل سطر بنُقطَة.

فقرأتُ في السطر الأول:

ق

ج

ظ

فتعجبتُ أكثر، وقلت له: ما معنى تلك الأَحرُف المُتناثِرة.

 

قال الكاتب لا يتسنَّى لي الآن غير ذلك يا مواطن، إنها صفات ممقوتة وبفطنتِك وذكائك تستطيع أن تُبحِر في اللغة الرائعة؛ لمعرفة معانيها واستكمال نواقصها.

 

ثم تجرَّأتُ ثانيةً، وقلت له: ومتى تستطيع استكمال تلك الكلمات بأحرفها؟ كم يَستغرِق ذلك؟

 

فقال لي: ظننتُكَ ذكيًّا فطنًا.

 

قلتُ: سيدي الكاتب، أنا حاصل على مؤهِّل عالٍ مِن الجامعة؛ لكنِّي لم أعمل بالقطاع العام، فتحوَّلتُ لشؤون العمل الفرديِّ في حقلي، فأنا على علمٍ وثقافة بما تجري به الأمور، والحمد لله.

 

الكاتب مُعتذرًا: لم أقصد إهانتك، بل وددتُ تحريك الساكن فيك، كن ذا همَّة عالية يا هذا.

 

ثم يُداعِب الكاتب الجالس قائلاً: ربما تَستغرِق تلك العملية مِن إتمام تلك الكلمات عقودًا أو دهورًا أو أزمنةً كثيرةً.

باسل: ذلك على حسب مدة الحاكم وأتباعه.

الكاتب الجالس: صدَق فيك حدسي.

 

باسل: أشكرك، ثم يقول: سيدي الكاتب، أسألك سؤالاً ورجاءً ألا تُسيء فهمي.

الكاتب: سل ما تشاء.

 

ساعة أن تَكتُب أنت زلات السلاطين والملوك والحاشية وتُحوِّلها إلى مناقب ومحامد، ألا يتحرَّك ضميرُك ويَرفُضها؟

 

فكشف الكاتب ثانيةً عن أنيابه التي أزعجتني، فانزوَى إليَّ بعضي انزواء المُقرِّ بالخطأ، وقلت: عفوًا سيدي الكاتب؛ لم أقصد إهانةً!

 

قال لي: يا هذا: ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ﴾ [الرعد: 17].

فاطمأننتُ لسماع القرآن مِن فيه، وقلت له: فهمت.

 

وقال لي: إنني بمجرَّد أن يطَّلع الملوك على كذبات عصورهم وخداعاتهم المزيَّفة، أعمد إلى تلك الصفحات فأُحوِّلها لصفَحاتٍ بِيض يَكتبها الأحرار، لكن الحبر هذه المرَّة يَختلِف لونه عن لون البحر والنهر اللذين هما كُنْه الحياة.

باسل: ما هذا اللون؟

الكاتب: الأحمر القاني الساخن.

 

فلم أُعقِّب، وأدركت ساعتها أنه يعني: الدماء، ثم أردف يقول لي الكاتب الجالس:

اعلم - يا هذا - أنه ما مِن أمة إلا ولها ميقات معلوم، ومقادير ومعايير إدارة وقيادة، فمتى أخلَّت وتخلَّت ولم يَردعْها دين أو شارع، ابتُليتْ بثلاث؛ كما أورد القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل مِن بين يدَيه ولا مِن خلفِه:

أولُها: الدفع والتدافُع؛ ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251]. وثانيها: التداول والانتقال؛ ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140].

وثالثها: المفرُّ الأخير، وهو: الاستبدال والتغيير بالكلية؛ ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38][1].

 

والكون هذا الذي يَشتمِل علينا لا يَخلو مِن قيادةٍ - أيًّا كانت - إذ لا يَعرف الفراغ والهوائية، فمتى تخلَّى الكرام عن الديار والذَّود عنها، سكنها الذين ظلموا أنفسهم بالضرورة، فقرَّ عينًا، ولا تخشَ مِن الثعالب دخولَها عرين الأسد، فمتى زأر انفضُّوا جميعًا وقامت دولة الحق.

 

وأسوق لك مثالاً بسيطًا: الهجمة المغوليَّة الوقحة على بلاد المسلمين وحضارتهم لم يستطيعوا النَّيل منها، بل بالعكس لقد أُشرِبوا الحضارة الإسلامية ودانوا لها بالولاء؛ لأنها حقٌّ وعقيدة ومنهاج حياة.

 

لعبت بي رأسي مِن مجادلة الكاتب الجالس القرفصاء، وانزوَيتُ إلى بهوٍ مِن القصر المتعدِّد المداخل وغططتُ في نوم عميق.

بين الملك والأسرة:

تسرَّبتْ أشعَّة الشمس الجديدة إلى جسدي المُلقى كقطعة أثاث في جنبات القصر، فسرَت الروح به؛ إذ لم يكن قد قضى عليه الحق بالرحيل قبل الموعد المحدَّد، استيقظتُ على مشادة بين السلطان وعجوزٍ شمطاء ويقف مِن خَلفِها بنون لها، وهي تحفز السلطان لتمكين ولدها الأكبر مِن الحكم في ظل أبيه وسنوات مجده؛ فإن البلاد غير مأمونة، وإن الرعية غير مضمونة، فكثير مَن يتطلَّع للحكْم، وبخاصة مَن يَتحرَّكون ويلعبون على أوتار الحريات والمشاركة السياسية.

 

لم يَحر السلطان جوابًا، لكنه مِن الواضح يوافقها فيما تريد، وأطلق لبَنيه العنان في القرية، وقال لهم: سيحوا في القرية شريطةَ ألا تُسيئوا إلى أبيكم.

 

السلطانة الأم: بَنيَّ أشبه بالملائكة في الرقة والعطف، فلا تُقصيهم عن الناس رجاءً رجاءً...

 

وافَقَها السلطان فيما طلبَت وألحَّت في طلبه.

 

وعلَّلت السلطانة - زوج السلطان - أن ولدها يتمتَّع بحبٍّ مِن القاعدة العريضة مِن الشعب، والقرية كلها مِن البحر شمالاً للنهر العذب جنوبًا تتطلَّع لمُلاقاته وحبِّه، وهو لا يدَّخر جهدًا في إنقاذ القرى مِن الفقر والفاقة.

 

ثم خفضت صوتها قليلاً وقالت: إن العديد مِن المنظمات المحلية والدولية ترى فيه القيادة الرشيدة الحاكمة المستنيرة.

 

علمتُ ساعتها أن المسكين الكاتب الجالس القرفصاء سوف يَترك مسافات بينيَّة كثيرة، وأيضًا لن يستطيع تجديد الأحبار، ولن تنجلي الآن الأسرار؛ فما الولد بمَن يرضى أن تُسرَد لأبيه صفحات سود أو كلمات تُهينه.

 

غُمَّت نفسي أيَّ غمٍّ، ثم وجدتُ القصر الكبير بحجراته وشرفاته أضيقَ ما يكون، وأحسستُ بضيقٍ في صدري أيَّ ضيق، اتجهت نحو المخارج مِن القصر مُعوِّلاً على العقد الذي برقبتي، تقدَّمتْ بي الخطوات أسرع مِن خطى الثعالب والذئاب متى ركضَت، لكنِّي - والحمد لله - لا أتَّسم بما يتَّسمان.

 

أويت إلى صخرة على النهر العذب الرقراق، ولاحظتُ الأمواج تفتُّ مِن الصخور الفتات فتذوب في الماء.

ردَّدتُ أبيات الشاعر العربي:

ويفتُّها كالسُّقْمِ في أَعضائي

قلت لنفسي: برغم قوة الصخر، فإن صبر الماء على تفتيتها أقوى وأعتى، فإن للموج عزيمةً حتى ولو بدَت هيِّنة، فما للصخر أن يتحوَّل مِن موضعه، بيد أن الأمواج تَروح وتَجيء، تتجدَّد وتَكتسِب ألوانًا وأشكالاً عديدة.

وبينما أنا على ذلك، إذا براحة يَدي ترتطِم بصخرة يَظهر أمامي فجاءة الجنيُّ ويقول لي: يا باسل، ما لك تقبع هنا وحدك، ألا ترى أو تسمع؟!

فقلت في عجب: ما الذي جرى؟!

الجني: أوَ ما تدري ما كان؟!

 

باسل: ماذا حدث، أخبِرني؟

الجنيُّ: لقد اشتدَّ بالقرية الظلم وانتشَر الفساد، وفاحَ ريحُه الكَريه، حتى خرجَت دعوةٌ مِن كل الأطياف والتعدُّدات، تحثُّ الجميع للخروج على الظلم مِن قِبَل السلطان الجائر، كانوا بمثابة الطليعة الثورية.

هم الآن صوب القصر المنيف لهم مطالب عديدة، والسلطان خرَج إليهم مِن خلف الزجاج الذي طالَما أزعجك لونه كثيرًا، إنهم يُريدون رحيله، وليس لهم مطلب أسمى مِن هذا.

سرَت الروح في جسدي المُتعَب، وتسرَّبت الشمس المُنعِشة إلى جنباته، وقلت: سوف أذهب معهم مِن الآن، وسوف يُمثِّل لي هذا العقد دورًا كبيرًا في المشارَكة.

الجني: عفوًا سيدي المواطن؛ فقد بطل مفعول العقد مِن الساعة.

 

فغضبتُ وقلتُ له: ولمَ؟ أنا في شديد الحاجة إليه الآن!

 

الجني: حَكِّم عقلك، وأرض ربَّك، وتوكَّل حسْنَ التوكُّل، تَنَلِ المُنى.

 

وقعَت الكلمات على مسامعي موقع التلطيف بعد الحريق، أثلجت صدري المُلتهِب لوعةً على نفسي وأهلي.

 

انطلقت أجري - بدون العقد - أخترق الحواجز، تدفعني العزيمة نحو "الحرية الحمراء" دفعًا، قفزتُ، سرتُ، وقعتُ، وقفتُ ثانيةً، دخلت القصر، تحسَّستُ البهوَ المؤدِّي إلى موضع الكاتب الجالس القرفصاء؛ لكي أكتُبَ بدمي الذي يَسيل صفحات صادقة، وأمحو كلمات كاذبة، تعثَّرت وقعَت على الأرض، تخبَّطتُ كثيرًا؛ فقد كانت أنوار القصر مُطفأةً جميعها.

 

انتابني اليأس، ضربتُ - بيدي - عمودًا مِن خشب زانٍ آلَمني، وقعَت عَيني على (الكِتاب)، ارتميتُ عليه، ضممتُه إلى صدري ضمَّة المُشتاق إلى تاريخه وذكرياته وأصوله وعصره، ولما أسرعتُ وهممتُ بالخروج، إذ بيدٍ غليظة وأظافِر قويَّة تُمسِك بي وتَنتزِع الكتاب مِن يدي نزعًا.

 

قلتُ له: مَن أنت؟ إليك عني؛ هذا تاريخي وتاريخ مَن قَبلي، سأُعيد صياغتهُ بما رأيتُ وعلِمتُ.

 

فقال لي: أنا مَن كنتُ مَقهورًا مِن السلطان لعقود عديدة، وحان لي الآن أن أكتب التاريخ بيدي.

 

قلت له: ليس مِن حقِّك؛ فكلنا كان مقهورًا في زمان السلطان الجائر، فلا تجعل نبض الأمة تصفيَة حساب بينك وبين نظام بائد.

 

حاول نزْع الكتاب منِّي، تشبَّثتُ، لطَمني على وجهي لطمةً شديدةً رددتُها له، أعطاني الثانية أقوى، وقعت على الأرض.

 

فاستيقظت على أثرها والشمس قد أعمَلت أشعَّتها صوب رأسي الملقاة على صعيد الأرض الطيبة، حاضرة البحر والنهر، فقلت: اللهم اجعله خيرًا.

 

تمَّتْ بحمدِ الله

شخوص القصة:

• الصيف.

• الشمس.

• السحب.

• باسل (بطل القصة).

• صديقاه: أكمل وسعيد.

• كاتب التاريخ.

• الجني.

• السلطان.

• حاشية الملك والوزراء.

• كبير العسس.



[1] اقتِباس مِن "رسائل في فلسفة الحضارة" (بحث في السنن وعوامل التخلُّق والانهيار)؛ د. بتول أحمد جنديه (ص: 23) مِن موقع الألوكة الإلكتروني.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • صَـدَى – قصة
  • زوجان (قصة قصيرة)
  • رحلة عمر (قصة)
  • لصوص القلعة! (قصة قصيرة)
  • سيأتي قريبا (قصة قصيرة)

مختارات من الشبكة

  • تسهيل المسالك بشرح كتاب المناسك: شرح كتاب المناسك من كتاب زاد المستقنع (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • وصية للكتاب من عبدالحميد الكاتب (ت 132هـ)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • أدب الكاتب لابن قتيبة تحقيق محمد الدالي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عجلة الكاتب (قصة قصيرة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • قصة كتاب: مع كتاب "المشوق إلى القراءة وطلب العلم" في قناة المجد الفضائية(مادة مرئية - موقع الشيخ علي بن محمد العمران)
  • عرض كتاب: صناعة الكتاب المدرسي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • شرح كتاب الأصول الثلاثة: المؤلف والكتاب(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • ملخص كتاب كيف تقرأ كتابا: الطريقة المثلى للاستفادة من القراءة(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • شرح كتاب الصيام من كتاب العمدة في الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي (600 هـ) (PDF)(كتاب - ملفات خاصة)
  • كيف تراجع كتابا (نموذج مقترح لمراجعة كتاب)(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 18/11/1446هـ - الساعة: 8:24
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب