• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

المخبر في فتاقه (قصة)

أ. محمود توفيق حسين

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 2/12/2012 ميلادي - 18/1/1434 هجري

الزيارات: 7309

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

المخبر في فتاقه


كوجه شبحٍ مُستتر، حريصٍ على الغياب عن أعين الفضوليين، كان وجهه الضخم يُطِل بجَنبه من زاوية مُعتمة إلى الشارع الذي يَعِجُّ بالحركة، من نافذته الخشبية القديمة المُواربة في الطابق الثاني.

 

الظل الذي غمَر معالم النصف الظاهر من الوجه الضخم، والشعر الحليق النابت كالعُشب المقصوص الذي يَظهر من تحته جلد رأسه، وغَمْرُ الهالة السوداء حول العين الغائرة، جعَل له إطلالة غريبة في عين مَن ينظر إليه بمَحْض الصدفة من العابرين، كأنها بالفعل إطلالة شبحٍ كبَّلته حادثة قديمة، فظلَّ يَسترجعها وحْده كلَّ حينٍ من مَكمنه، أو في أحسن احتمال هي كإطلالة مجنون وَقور مُستسلم، مرَّت به السنون هنا تحت تحفُّظ أهله الذين منَعوه من النزول للضوء والشارع.

 

إنه المخبر المتقاعد (زيدان) عند نافذته، يُحدِّق في العربة السوداء في الشارع.

 

منذ ثلاث أُمسيات باردة تَجثِم تلك العرَبة المُظللة السوداء الفارهة رسمية الطابع، في الشارع العام من الحي الشعبي، عند حائط الجامع الحجري القديم، قابعةً في صمتٍ وقور، موسومة على زجاجها الأمامي بوسْمٍ ذهبي جليل، عبارة عن مُلصق لنسر الجمهورية، واضعًا جناحيه، تَنعكس على سطوحها الصقيلة الواجمة أنوارُ المساء المُحتشمة، وينعكس بريقٌ أرستقراطي كبريق الفِضة الخالصة من مقابضها وجنوطها الكروم اللامعة، أما في الظهيرة فتتجلَّى أكثر بانهمار الضوء على الواجهة، وتضع ظلها تحتها، فيَنكشف عُنفوان هيكلها، وثراء امتدادها الواثق.

 

المخبر المتقاعد زيدان، أو (العقرب)؛ كما اشتَهر في عمله بالجهاز الراعب، يَلحظ من مَكمنه كيف أن حضور العربة - المَهيب المُريب - فاجأ الكل في الحي بصَلَفه وكبريائه الكاسح، وأحرَجهم جميعًا، وأخذ يُعرِّي ضَعفهم وقلة حِيلتهم، ويَكشف انحناء ظهورهم الذين يُدارونه في نفْخ الصدور.

 

هكذا التقَط العقرب من مَرقبه تلك الصدمة الأولى التي تَلَقَّوها، وسجَّلها بشيءٍ من الشماتة في دفتر الخواطر البائس، بأنبوبة القلم (البيك)، ثم سجَّل من بعد ذلك وبنفْس أسلوبه العامي الركيك، كيف أنهم سرعان ما امتصُّوا غُصَّتهم بوجودها، وتغطَّوا معًا برُوح التجاهل والادِّعاء الجماعي، فلم يَجهر بشأنها أحدٌ على الإطلاق مع آخرَ، ولم يَتناجَ زوجان في أمرها تحت ألْحِفة الشتاء، محاولين التصرُّف جميعًا باعتبارها مجرَّد سيارة مركونة، أما عيونهم الهاربة، فكانت تَعترف رغمًا عنها بشيءٍ آخر، وهي تنظر للعربة الجاثمة نظرات جانبية أثناء المرور، ومن وراء أخصاص النوافذ المغلقة، ومن بين رؤوس الجالسين على المقهى القريب، ومن خلف النظارات الشمسية المقلَّدة.

 

لقد فرَضت نفسها على الجميع، حتى على الأطفال الذين يُبدِّلون بين سيارات المنطقة التي اعتادوها، يكتبون الأسماء على الزجاج المتَّسخ، يرتقون المقدمة، يطبِّلون على الخلفية، أما هذه فهابوها وتجاوزوها بغير تحذيرٍ إلاَّ من هيئتها الصارمة، وفرَضت نفسها على المعتادين على المشاجرات اليومية السريعة والانفعال من روَّاد المقهى والسكان عامة، من هؤلاء الذين كانوا يعاركون ذِبَّان وجوههم، صاروا أكثر ميلاً للصبر وسَعة الصدر.

 

كذلك فرَضت العربة نفسها، حتى على بعض المُصلِّين الوادعين، ممن يُؤثرون السلامة ويخافون من شرِّ كل مُختبئ، فانصرَفوا لصلوات الجماعة في جوامعَ أخرى قريبة، وتذاكَروا ثواب الخُطى الكثيرة إلى المساجد.

 

وأمام ناظِرَيِ المُخبر الواقف الآن في نافذته، ها هي تَفرض نفسها حتى على هذين القِطَّين وصراعهما الذي ردَّهما إلى طبيعتهما السِّنَّوريَّة، يَتقافَزان في حركات بهلوانية في نُواءٍ زاعقٍ، ويقطعان مسافة على الأرض من التقلُّب والاشتباك بسرعة جنونية، كألعاب الأطفال البارودية التي تتالَت انفجاراتها على الأرض، ويتشنَّج أحدهما ويضع ظهره على الأرض، ويُشهر مخالبه وخوفه المخيف في وجه غريمه الذي أوشَك على الانتصار، والمخبر المشدود الأعصاب في المتابعة، يَبلع رِيقه مشتهيًا هذا الصراع، وخائفًا في ذات الوقت من تقلُّبهما في اتجاه جناب العربة المحرَّمة، وبالرغم من ضَراوة الصراع السِّنَّوري المتوحِّش، فإن المُجريات بينهما - وبوحي من سرٍّ عجيبٍ - التزَمت بحَرَمها الذي لا يتخطَّاه البشر، فلا المهاجم ولا الباحث عن سبيل النجاة، أعماهما الغضبُ والخوف؛ ليتحرَّفا إليها لاستئناف القتال أو للفِرار منه، فهزَّ العقرب رأسه راضيًا مُطمئنًا.

 

المخبر المتقاعد أو العقرب، الذي كان إلى وقتٍ قريب أحدَ العناصر المتوحشة والمخلصة في جهاز الأمن الرهيب، المتوحِّد هنا بعد أن رحَلت زوجته مع اندلاع الثورة، ترَك على الطاولة الخشبية الملاصقة لسريره كوبًا من شاي الصباح الساخن، يتصاعَد منه البخار، وقرصًا محشوًّا بالعجوة، وترَك على حرف الطاولة دفترًا قديمًا مفتوحًا، بغلاف أخضرَ من ورقٍ رديءٍ، على صفحاته التي أصابها الاصفرار من آثار بُقَعٍ مائية، كان من ضمن ما أصابه المطر قديمًا في مخازن الداخلية، فأخذه مما استغَنت عنه المخازن، وعلى الدفتر المفتوح أنبوبة قلم جاف من ماركة (بيك)، بسنٍّ عريضٍ تجلَّطت عليه نقطة من نزيف الحبر، فقد تحمَّس حماسة طفولية لكتابة خواطره، مقلدًا بعضَ المثقفين المعتقلين الذين كانوا يُثيرون استعجابه باشتهائهم لورقة واحدة ولو ورقة (بفرة)، وقلم رصاص في حجم عقلة الإصبع، وبتلك اللوعة - وهم فيما هم فيه من هوانٍ - على ما بَرِق في أذهانهم من خواطرَ وأبيات شعرٍ طارَت، ولم يتمكَّنوا من تدوينها.

 

ما أغراه بالعزم على الكتابة هو شوقه الجنوني للإنجاب، فقد أثاره ذلك الحزنُ العظيم الذي عاناه هذا الكاتب المعتقل شديد النحافة، أخذ يعوي عندما صادَروا بعض أوراقه التي كتَبها في الظلام، كان يعوي طوال الليل ككلبة نهَب الصِّبيَة القُساة جِراءها حديثةَ الولادة، وتركوها للدمع وللأثداء المُمتلئة بغير داعٍ.

 

اقتحَم عليه حُرمة حزنه السوداوي، واستفسَر منه بصوت خفيضٍ بنَبرة مكابرة تُخفي فضوله، إن كنا نشعر حقًّا بأن هذه الأشياء الجليلة - التي تَهبِط على رؤوسنا لنَكتبها ولو في الظلام - كأنها الولد من الصلْب، فهزَّ الكاتب رأسه معترفًا، وبغير ملامح الشكوى، فهو لا يَطمَع في المواساة من المخبر متقلِّب المزاج، وإن فاجَأه هذا السؤال الرقيق الشغوف، واستدار المخبر ببطءٍ، وفي ذهول أهل الشوق والوَلَه، وانصرَف بجسده الوحشي وبغنيمة من الوعد أبى أن يَشكر الكاتب المعتقل عليها.

 

له أشهر وهو يَفتح الدفتر أمامه تحت إلحاح فورة داخلية جيَّاشة، تَضطرِم فيها الصور والحكايا والعذابات، وإلهام المُراقبة السرية، والعَفَن المُنبعث من الأحقاد القديمة المتراكمة، غير أن كل هذا لم يُسفر عن شيءٍ حي، فكلما ألقى ما عنده على الأسطر المُتهيِّئة، نزَل بغير حياة، فشطَب أغلبه بغير أسفٍ، آملاً في أن يكون له في القادم ذريَّة من الكتابة.

 

ترَك طاولته التي كان يَستند إليها بمِرفقيه وهو جالس على حرف سريره، وتحرَّك في جلبابه الحائل اللون وفي آلام فتاقه، يَرقُب العربة السوداء المَهيبة من فُرجة حَذِرة في نافذته الخشبية الهالكة في الطابق الثاني، باهتمام خاصٍّ ليس كاهتمام غيره من أهل الحي والجيران، ممن تَشغَلهم حاجات العيال وهموم الحياة، وصَخَبُها الفارغ، كان يرى عيونهم وهي تتعلَّق بها، مُستريبة في الذهاب والمَجيء، أما هو فتعثَّر بها فراغُ أوقاته الواسع، الذي يقضيه في جِلسة المقاهي، وفي متابعة البرنامج الليلي الطويل للدكتور (توفيق عكاشة)، وفي التحديق في ساعة حائط قديمة ألمانية صناعة 1890، نهَبها من بيت أحد المعتقلين، ورمى بها من الشُّرفة هي وحذاء جديد من جلد تمساح طبيعي، لم يَنتعله صاحبه، على كومة من الرمل أمام البيت الملاصق الذي ما زال تحت الإنشاء، خلف السور الخشبي المُهلهل الذي يَستر موقع العمل عن الشارع، ونزَل وتعذَّر إلى سعادة الضابط أثناء المغادرة: (عايز أعمل زي الناس لا مؤاخذة)، فمضَوا بالمُعتقَل وترَكوه، واقتحَم الظلام الكهفي القابع في البناية بكشَّافه الضوئي الذي يُصدر خيطًا رفيعًا من الضوء، وتحسَّس حتى عثَر على شيكارة أسمنت فارغة، قطَع منها ورقتين، وفكَّ حزامه تحت عمود عريض أخَذ يدقُّ عليه، مستنكرًا ذلك الإسراف فيه في الأسمنت والحديد، وقعَد يقضي حاجته من تحته على مَهَلٍ، وهو يتشمَّم رائحة الخرسانة الجديدة، ويَلعن هؤلاء الذين (أكلوها والعةً)، يَبنون الأبراج بالأسمنت المسلح فوق العشرين طابقًا، كأنهم يطبعون النقود، ونحن لدهان الشقة نشترك في جمعية، آه يا أولاد الفاجرة! سكت قليلاً ثم بدأ في استخدام الورقتين وهو يَلعن الغبي هذا الذي أُلقِي القبض عليه منذ قليلٍ، يَسكن في مثل هذه المنطقة الراقية، ويمتلك زوجين من جلد التمساح، ويُعرِّض نفسه للاعتقال من مباحث أمْن الدولة؛ من أجْل مطالب عُمَّال المحلة المشحَّمي الثياب! حلال فيه الضرب والسرقة، حتى يفيق ويَحمَد ربَّه على النعمة.

 

خرج نشيطًا إلى الجهة التي رمى فيها الساعة والحذاء، برَك عند الكومة الرملية الكبيرة، وجلس على رُكبتيه في الظلام يَمسح الرمل ناحيةً ناحيةً وهو يَبحث بكفَّيه الضخمتين، وقَعت كفُّه على الساعة بعد قليلٍ، فجمَعها بحفاوةٍ إلى يده وحضنه، وتولَّى البحث عن الحذاء بكفٍّ واحدة إلى وقتٍ أطول، حتى عثَر على فردة واحدة، حشَرها في حزامه العريض، يفتِّش من حولها عن الثانية، ويفتِّش، ويفتِّش بغيظٍ، ولا فائدة، أصابه الغضب وهو يَنسحب من المكان قبل أن يَغمُره غَبَشُ الفجر حاملاً الساعة والفردة.

 

في صُبحٍ مثل هذا الصبح، اصطدَم وهو يدخل شقته مسرورًا - ليَفحَص الغنيمة - بأن الساعة قد فَقَدت في حادثة الارتطام دِيكَها وعقربَي الدقائق والثواني، ولم يَعد هناك إلا عقرب الساعات البطيء، المُمل في المتابعة، وها هو يَستدير بعد أن ألقى نظرة من نافذته إلى العربة السوداء ووجه الصُّبح المُفعم بالإبهام، يَنظر في عقرب الساعات الذي عند الرقْم سبعة، ويُخمِّن هو بشأن الدقائق: إذًا الساعة الآن هي السابعة والنصف إلا خمسًا، فراغ، فراغ عريض من بعد حياة مهنيَّة طويلة، قضاها ينظر في عَتمة الأَقْبِيَة الرطبة في الضوء الخافت للكشاف، في وجوه المعتقلين الشَّبحية التي تَنتظر الفرَج المعلَّق وقد علَتها معاناة كأنها منذ عالم الذرِّ، وهو أبدًا - غير شيء واحدٍ - لم يكن ينتظر شيئًا.

 

عذاب هؤلاء مثل عذابه، كأنه كان بلا بدايةٍ أو نهاية، عذابهم يوميَّاته المألوفة التي كانت تُلهيه عن عُقمه ومائه الذي يَقذِف به صلبه ميت الحيوان، والموت فرَّق بينه وبين زوجته، زوجته التي افترشَت معه رحاب اليأس الأخير وعدم الانتظار، منذ انقطاع حيْضها الذي فضَّ مهزلة الأمل، ماتت صابرين، أنيسة الفراغ التي عاشت معه راضيةً تحت عقرب الساعات بطيء الحركة الذي كان فأْلهما، راح الإنسان الوحيد الذي كان يؤمن بأنه يَملِك تحت هذه الشدَّة والجبروت قلبًا أبيضَ، وهو رأي لم يَقتنع به، راحت وبقِي هنا يَبيت وحده فوق السرير، كما يَبيت فأْله من أسفل منه: فردة حذاء من جلد تمساحٍ.

 

خلال هذه الليالي التي جثَمت فيها العربة هناك، اعتدل مزاج المخبر كثيرًا، كان يتقلَّب في سريره النحاسي القديم في هناءَةٍ، تحت الصورة القديمة له في (أنشاص) أيام فرقة الصاعقة التي اجتازها مع زملائه في صدر شبابه، يقف واثقًا بينهم بوجهه المربع عريض الذقن، وشاربه العريض النازل على جانبي فمه، وفانلة الألعاب البيضاء التي يكاد صدره العريض يُمزِّقها، وسروال الرياضة الزيتي، وحذاء (باتا) القماش.

 

تعلوها صورة نصفية قديمة جدًّا، يَسيل منها نورها الشعشعاني، من وَهَج الأشواق وبدائية التصوير، الْتَقطتها كاميرة صندوقية لرجل في الجبة والقفطان، له رقبة فولكلورية طويلة بارزة الحنجرة، وفحصة ذقن غائرة، تَعلوه عمامة عالية، ينظر إلى لا شيء، مولانا الشيخ أحمد قفَّاعة، خليفة سيدنا (أبو الشخاليل)، هيمان بعينين ضيقتين، أَجْهَدهما طولُ البكاء وجَهْد الرياضة، والجائحةُ: الرمد.

 

تتراءَى له في أحلام هذه الليالي زوجته (صابرين) التي أصلَحتها المنامات، فعادَت صبيَّة مُتغنِّجة الصوت، يَنبعث غناؤها من الحمام وهي تَستحم: (جاب لك إيه يا صبيَّة حبيبك لَمَّا عاد)، تَخرج من حمامها مُتوردة الخدَّين بقميص نايلون برتقالي، في البخار المثير والرجاء الطيِّب، والطلَب المُتهتِّك الذي في عِطر الياسَمين الرخيص، تَسبقه للغرفة غَضَّة مُتثنِّية، وتُغلق من خلفها الباب برِفقٍ وهي تَبتسم له، مليئة عيناها بوعد ما جاء به الحبيب إلى الصَّبية لَمَّا عاد، يَمسح على شاربه، يرفع حاجبه، ويَهصِر مقبض الباب في يده وهو يديره بأنفاس مُحرِقة، مستنفرًا على قائمتيه كحصان بري سيَنطلق في السهوب القارية، يَقتحم عقبة بابه المُوصَد، يَنفتح معه على تنهُّدات الشَّبق الرسمي، على دقات أحذية الجند المُنطلقين في (حملة نزول) عاتية كريحٍ، كريح تملأ الدنيا بأعمدة الدخان، كريح تَقتلع الأشجار وأعشاش الطيور الآمنة، وأقراص العسل في أكنان الجبال، وتُطفئ لَهَبَ الفتائل في الإسكندرية، وتلقي بالديوك المُؤذنة عند الفجر من أعلى الأسطح في حي الحسين، وتُضلِّل حتى الحمير الأهلية في ريف مصر عن مقاصدها، وتَردِم أعين الماء في الفيوم، وتصدُّ سَير الهاربين السائرين إلى المغارات البعيدة، حتى تَنقطع سيور أحذيتهم فوق الوَعْر، ومجازات الشوك، وأَوْدِية الحصى، قبل أن يبلغوا.

 

إنه اليوم لا يومَ بعده، (ويكون في ذلك اليوم أنه يُصفر للذباب في أقصى تِرَع مصر)، تَنكسر فيه عِصِي الزبانِيَة على ظهور المقبوضين، ويرى يومها مالم يرَ، ويرى نفسه في شدة الالتحام أسدًا بَشِعًا، أسدًا ركِب بجسده على المعتقل العنيف الذي كاد يَنفلت منه، يَعَضُّه في أعلى الرقبة، فيَستسلم من تحته استسلام فريسة هرَبت دماؤها وخارَت أعصابها، فقط صرَخ صرخة قصيرة مزَّقت عباءة السَّحَر، كانت مثل زقاء الطواويس.

 

ها هم يُلقون بهم أمامهم على السلالم، يُطاردهم صراخ النساء المذعورات، واستغاثة الأطفال الذين بالوا على أنفسهم، باتجاههم إلى عرَبات الحملة التي تُغلق أبواب العمائر، المحركات العفية ترجُّ العربات الشامخة الوقوف رجًّا، تكاد تحرِّكها من أماكنها، وأصواتها الفاحشة تردِّد في فضاء الأحياء المنهزمة الخائفة: (دِب، دِب، دِب، دِب)، وكأنما هزَّات جماع، نشوة وادعة هذه بغير أفيون، استرسال رائع ذلك بغير حجر جهنَّم، بغير لَحس الدِّبْق الذي على حديد الأولياء، ها قد حانت لحظة القذف العارمة، ها هي الزنازين النائمة على سكينة الأدعية القديمة المكتوبة بالدماء (يا رب)، تَضطرب كالأرحام، ها هي تَنقبِض وتَنبسِط من هَرْجِ المذعورين في الممرَّات الطويلة، وصليل السلاسل والأنكال، وتَنفتح واحدة وراء أخرى، كأنها تلبي نداءً حيويًّا مختومًا، فيتعلَّق بها – علَقها المكتوب جِنْسُه - اثنان لا ثالثَ لهما، صارخٌ أو أبحَّ صوتَه الصُّراخ، وتنغلق على الوهَن والظلام، وعلى آدمي فرَغ من حفلة التعذيب ولم يَفرُغ من آلامه ومن ذهوله، يَقعد في قلة حِيلته وعرائه، يفتح فمه ويُغلقه ببُطءٍ، متوجِّهًا برأسه لأعلى بعينين مُتورمتين مُغمضتين، كفرخ عصفور لم يَنبت له الريشُ، سقَط في السيل عشُّه، آدمي مُستضعف لم يجد شيئًا يفعله في فراغه المؤقَّت إلا أن يَمضَغ الدم المتجلِّط في فمه.

 

وبعد أن ضمَّتْ ما ضمَّت، يَغمرها الشعور بهذا الاكتفاء والصدود الذي تَشعر به العِشار، فتلتَقِط أنفاسها، ويَلتقط زيدان أنفاسه في الظلام بعد الحملة الضارية، وعيناه الشاردتان تعتادان على الضوء الخافت، فيتكشَّف له شيئًا فشيئًا وجهُ صابرين وقد استردَّت صباها من بعد الموت، بجانبه على السرير تحت الصورتين في ضوء المصباح (السهاري)، الضوء الأحمر الخافت الذي أضفى على ملامحها الرائقة لمسَةً من المعاناة كالتي على وجوه المعتقلين، وجعَل لضَحِكها الرقيق الصوت النَّشْوان خيالاً من نبرة البكاء، أما الهالة السوداء حول عينه الغائرة، التي غاب في عتمتها الحاجب الخفيف الرمادي - فجعَلت وجهه في هذا الضوء الأحمر الياقوتي عندما وضع رأسه على ظهر السرير وشرَد، كأنه وجه رجلٍ مات للتوِّ.

 

وها هو يُحدِّق بعينيه المُحاطتين بالسواد في بقعة زرقاء في أعلى رَقبة صابرين، بقعة اختلَط عليه أمرها، أول ما تبيَّنها سرَحت في أعماقه صرخة هاربة، فيما انشغَلت يدها البضة البيضاء بمنديلها القماش، تَعتني بنفسها وتَمسح عرقها، كقطة منزلية تَلعَق جسدها وقد غمَرها الشعور بالرضا والإشباع، فأدار المسجل بجانبهما على صوت المدَّاح الشيخ أحمد التوني يَصدَح: (خضر العمايم وأنا نايم ندهوني).

 

وأخذ لون البقعة يَبهُت شيئًا فشيئًا، وانصرفتْ عن الغناء في الحمَّام وارتداء النايلون، وشدَّتْ على وسطها، ومالت إلى لُبْس البناطيل (الكستور) تحت جلابيبها، وبدأَت تتأفَّف من رائحة دُخَانه على غير العادة، وتشعر بالغَثيان والرغبة في التقيُّؤ، واشتَهت طين الحقل، فأكَلت منه ما عَلِق على جذور البصل والبطاطا والبنجر.

 

أيام سعيدة آمنا فيها وتكتَّما إيمانهما أنهما مجبورَا الخاطر هذه المرَّة، تَكتَّماه تمامًا عن كلِّ الناس، ثم استبدَّ بهما الخوف، فتكتَّم كلٌّ منهما هذا الإيمان عن الآخر، وما عادا يتذاكران هذا الإيمان ويُمنِّيان بعضهما خيرًا، واستبدَّ أكثر، فخاف كلُّ واحدٍ منهما أن يَحسُد نفسه بنفسه على حلمه، فتكتمتْ هذا الإيمان عن نفسها وتكتَّمه، حتى صار هذا الإيمانُ - الأُمْنِيَّة - وديعةً في عالم الغيب، ولَمَّا قام حين قام في بَلبلة الاستيقاظ، ما كان يعرف إن كانت أيامًا سعيدة مرَّتْ، أو باحتْ بها الأحلام، فكأنها مرَّتْ، أو كأنه كان يجب أن تَمُرَّ.

 

أنعشت العربة الجاثمة مزاجَ المخبر السقيم، أخرَجته من ذلك الشعور المُعتم بالخيبة والزوال، شيء منها غامض كأثر السحر والطلاسم، مدَّ يديه هذا الشيء ولفَّ جبائره بعناية حول هَيبته المنشرخة ورضوض نفسه، شيء منها كأنه يَلمَح له في اليقظة وحْده، ويُوشْوشه وهو على مَخدة أحلامه، بأنها أتَت من العالم القديم الذي ذهب، من الدولة القديمة العاتية التي اعتاد عليها وفَهِمها وانسجَم معها، وهو مؤمن بأنها لم تَمُت كما ماتت صابرين ذات حسرة، إنها فقط أُصيبتْ بجراحٍ مفاجئة، وهي في طَور التعافي وستَنهض، وها هي قد بدأت تبعث سرايا من جنودها المخلصين إلى الشارع، إنهم ينتشرون إذًا حتى في الزوايا الضيِّقة استعدادًا للحظة انقضاض جسور، يضعون النبوءة في طُرقات الناس، وهو يُقسم لنفسه أن الناس الآن بانتظارها ولو كَرِه الثوريون، بانتظارها وإن لم يقولوا.

 

دولة لا يُمكن مواعدتها هنا أو هناك، إنها قريبة جدًّا، إنها حتى في ميدان التحرير نفسه، يعيشها الباعة الجائلون، وصاحب فرشة الجرائد الذي يَنقُده زبائنه تحيَّة الصباح الحارَّة المُتزلفة؛ كي يتصفَّحوا ويَمضوا بغير شراء، وموظف وكالة السياحة الذي تمرَّس في حل الكلمات المتقاطعة منذ موسمين، وهذا (الخرتي) المتوتر الذي غاب وجهه الذابل تحت الشعر (الكدش)، الذي يَنتظر منذ ساعات مرور سائح شارد يَفرض صداقته عليه؛ ليَسترزق من استغفاله، وربَّة المنزل المُرهقة التي تجرُّ أبناءها وساقَيْها المصابتين بالدوالي، تُفتِّش بلهفةِ مَن يبحث عن طفل تائهٍ، على زجاج المحلات في دعاية (الأوكازيون)، عن الخصومات الجادة والتصفيات المُغرية، والمتحرشون الذين شيَّبتهم قبلَ الأوان بناطيلُ (الفيزون) والسرَّة الموشومة، وأفلام (السبكي).

 

إنها راسية تحت أقدام الكل المُوحلة في مستنقع الارتجال، تَزحَف في الهدوء المخيف للغاضبين، كأنها تمساح من عمْر النيل، يَرقُب الأمور بحنكة وهدوءٍ، وبالأخير سيفتح حنكه عن آخره ويَلتهم الذين عكَّروا صفو سُباته، ومصر كلها رهن يدٍ لمن سيُصفِّر للذباب في ليلة ما.

 

أنعشَته العربة الجاثمة، ونفخَت في نفسه المنكدرة العليلة ريحَ بَهجة غامرة، فتحلَّل من الوخم وكسَلِ الاكتئاب، وتساقَط شيء من الصدأ الذي علاه من طول احتباسه لنفسه في الماضي، وانغلاقه على ذاته، وضَعف شهيَّته لقَبول الحياة الجديدة بعد التقاعد، ففضَّ إضرابه العنيد عن الغسيل، وشمَّر كميه أمام كومة عالية من ملابسه الداخلية، كوَّمها قدَّام الحمَّام، وبدا مشمئزًّا من اصفرارها ورائحتها الزَّهِمة، كأنه فوجئ بها، واستمرَّ طيلة النهار أمام الصفيحة ووابور الجاز، يقلِّب غسيله الداخلي بالعصا وهو مباعد بين ساقيه، مستمتعًا بدَندنته ورائحة البوتاس القوية، وما يطفو على سطح ذاكرته من معاناة المعتقلين مع حشرات الفراش والقمل.

 

وأتَمَّ حملة النظافة بحلْق لِحيته النابتة، وتهذيب شاربه، وأغلق الحمام عليه وعلى الوابور وصفيحة الماء المغلي، واندمَج في حمام ساخن مُمتد، يدعك جسده الضخم بلوف النخيل سعيدًا، ويَفرُك ثندوتيه المُترهلتين بحجمهما وقَوامهما المائل للأنوثة الذي آل إليه صدر رياضي كان ناهضًا يومًا ما، مُتلذذًا بانهمار الماء الساخن على بدنه، وقد فاحت في الحمام رائحة بدنه الجسيم كرائحة فرس النهر في الخلجان الدافئة، غاب في حنان الدفء والبخار، الدفء الذي قال عنه أحد المعتقلين: إنه خير من الدنيا كلها وأثمن ما في الحياة، ألْقَوا به لَيْلَتَئذٍ عاريًا على الأرضية الأسمنتية المُبتلة، التي تُوشك أن تَكتسب طبقة رقيقة من الثلج مع انخفاض درجة الحرارة إلى الصفر، قال له في الصبح وهو في حالة صحية مُزرية وراقد على جَنبه، وفي عَرائه الذي اعتاد عليه اعتياد الأطفال، ولم يَعُد يداري سَوْءَته، إن البرد اختلى به طيلة الليل، كان يَلعق عصعوصه بلسانه المبلول، بإيقاع بطيء بطيء، ونَهَمٍ، وطرَبٍ، وصبْرٍ، واستفزازٍ، وإلى ما لا نهاية، وإن شيئًا زاحفًا لصِق بعظام مقعدته وأسفل ظهره، يُبرد هذه العظام، يَقرِضها، يَنخِرها، وإنه لا يتمنَّى الآن نعمةً إلا راحة الموت الدافئ، ويَشتهي أن يسيل الصلصال الذي خُلِق منه، يسيل على الأرضية الأسمنتية؛ ليَكسَحه السجَّان، فينساب في البلّاعة الصغيرة، مُتَّحدًا بماء الصرف الأكثر دفئًا.

 

كان يَضحك في حمامه وهو يتذكَّر معاناة هذا الرجل الذي يتمنَّى أن يسيل في مياه المجاري، فآلام المعتقلين عنده - والبرد أهونها - كانت كآلام أبطال الرسوم المتحركة، الذين يَعوون عندما تُضرَب أقدامهم بمِطرقة، كانت آلامًا مثيرة للضحك، والمعتقلون ليسوا إلا مسوخًا لا تَمتلك أرواحًا حقيقية.

 

أنعَشته العربة السوداء الجاثمة، فقام ذات فجرٍ حُلوَ المزاج، وإن كان مستفزًّا نوعًا ما من نداء عامل المقهى بصوت عالٍ على زميله صبَّاب المشروبات في هذا الوقت المبكر، طالبًا كوب حلبة لأحد الزبائن (وعندك واحد حصى مغلي)، ذلك النداء السخيف الذي شتَّت تغريد طيور السُّبَد البعيدة، ذلك النداء الذي اخترق أُذني المخبر الكبيرتين، ورأسه على المخدة وعيناه مُغمضتان، كأنه يكذِّب نومه، ويتَّهم البُشريات الطيبات في مروج نومه، إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة، فهاتان الأُذنان الكبيرتان اللتان يطلُّ من فتحتهما الشعرُ كما يطل العشب المُتقصف من بين الأحجار - هما لرجلٍ شديد الاستمساك، عنده من العناد والجمود ما يحمي به أفكاره من شرِّ ما يسمع.

 

قام بعد قليلٍ وتمطَّى، ونظر من النافذة تُجاه عامل المقهى النشيط، وبصَق ناحيته بصقةَ غضبٍ في الهواء، ثم استدار منشرحًا، وأخذ يُلمِّع حذاءً أميريًّا بنصف رَقبة وعليه كسل التلاميذ في الصباح، وأخرَج مِعطفه الكاكي من سحَّارة الكنبة، وطرَح ما في جيوبه من (نفتالين)، وبعد قليلٍ كان في طريقه إلى المخبز يَسبقه بخار الماء الصاعد من فمه، مثل دابة تمضي في غبَشِ الفجر ناعسة باتجاه الحقل، واشترى من هناك سلَّة من الأقراص المحشوة بالعجوة، واستقل (المايكروباص) متجهًا إلى مدفن صابرين، ونام بجوار السائق وهو يَحتضن السلة، وقد مال رأسه على السلَّة، فانفرَد قفاه العريض، وانكشَفت عليه علامة قديمة كالتطعيم كانت مستورة في تجاعيده الغليظة.

 

وزَّع أقراص (الرحمة) على الأطفال الفقراء الذين أخذوا يُطاردونه وهو يَبتسم ابتسامته الشحيحة، وتمنَّى لو التصَق به أحد هؤلاء الضامرين وألحَّ عليه؛ ليأخذه معه ويُربِّيه عنده، فهو لا يستطيع أن يُبادر هذه المبادرة؛ ليَحفَظ كِيانه من الزعزعة العنيفة التي سيُحدثها هذا الرجاء، هذا الرجاء الذي ستَطفح فيه آلام السنين وأسقام نفسه.

 

وما إن دخل وجلَس قُبالتها وغاب في ذلك السهو الذي يلمُّ بزائر المقابر، حتى اقتحَم الأطفال خلفه المدفن وجلسوا وفرَضوا أنفسهم عليه كقرَّاء قرآن، وأخذوا يقرؤون سورة (الفجر) بصياح حماسي مُفتعل، وعندما رمى لكل واحد منهم وهبةً من جنيه في حجره، تخلَّصوا من وقار القرَّاء ورجعوا صِبية، وانفضُّوا عنه بشكل بدا لهم طبيعيًّا، وبدا له قاسيًا، باحثين في الأُفق الواسع عن زائر جديد يمرُّ بين المقابر الشاسعة الامتداد التي تُظلِّلها قِطَعٌ صغيرة من الغيوم البنفسجية المنخفضة كأوراق السوسنات، راحوا وراحت من خلفهم حسرته المُزمنة.

 

ظل جالسًا إليها لا يجد الكلمات، يَشعر بغصة من الحضور الطفولي بينهما الذي ما زال يَفرض نفسه بصدى أصواتهم التي تَرتَع فيه بعد أن ذهبوا، ذلك الحضور الذي افتقرا إليه في الدنيا.

 

أخذ يَبلع ريقه مضطربًا وهو ينظر إلى السمت الصوفي الحزين للدوائر الرقيقة الوليدة التي صنَعها رذاذُ المطر ليلة أمس بتُربتها، وكان يستمع لهديل حمائم في الجوار يَسيل حزنًا، ثم اندفع في بثِّ أشواقه إليها بطريقة محمومة غير مسبوقة، وغير مرتبة، محتجًّا عليها؛ لأنها ذهبت وترَكته وحده، قاوَم وهو في اندفاعه رغبةً في البكاء لم يَعهَدها على نفسه ولم تَعهَدها عليه، فشدَّ كوفيَّته الصوفية على فمه الذي كان أكثر تعبيرًا من عينيه عن جزعه ولوْعته.

 

هدَأ واعتذر إليها عن انفعاله، ثم كلَّمها عن أحوال الحي، وغُلو الأسعار والزحام، وكلَّمها عن أحواله، وكيف فوجئ بأنه بعيد عن الناس منذ أكثر من عشرين سنة، لا يعرف أشياءَ كثيرة من حياة الناس، وتُذهِله أوضاع كثيرة لا تُذهل أحدًا غيره، كأنه استيقَظ فوجد كل هذه السنين قد مرَّت عليه، هم لَهثوا مع عقرب الثواني، وأنا لا ابن لي، وأنا ابن عقرب الساعات.

 

وكلَّمها عن مصر التي تَزداد قلَقًا وعبوسًا وثَرثرة، وأنه لا أحدَ يُؤنس وَحْدته من بعد غيابها إلا الدكتور (توفيق عكاشة)، وحلقاته الطويلة الليلية التي ينام عليها حتى تَلسع السيجارة أحيانًا ثوبه، هو (الذكَر) الوحيد في مصر الذي يَنطق كلمة الحق، وهناك عربة غريبة مَهيبة سوداء، تقف الآن عند حائط الجامع، ولا أحد يعرف سرَّها أبدًا، وهو يفكِّر في أن يَلجأ للدكتور ويسأله عنها على الهواء، فهو الذي تقرَّى مصر، ولا تَخفى عليه فيها خافية.

 

وهل علمتِ ما جرى على بنت حسنية جارتنا التي طالت فترة عقْد قرانها، والتي دخلت بيت الزوجية رغم الخلاف على القائمة الذي هدَّد الزواج؟ هذه المفضوحة أنجبَت من بعد رحيلك، بعد زفافها بستة أشهر ونصف، ولا حياء ولا دم.

 

ولقد تفكَّرت في هذا الأمر وجاءتني منه رسالة قرَأتها جيدًا، وأحببتُ أن أقرأها عليكِ، الإنجاب - يا بنت الناس - ليس نعمة في كل الأحوال، فهو أيضًا وصمة عارٍ، أو عتبة فقرٍ.

 

غلَبهما صمت عابرٌ، يقطعه بصوت مُستفهِم، وربك - يا صابرين - هل يمكنك أن تعتصري ذاكرتك، وتراجعي كل الأمزجة التي مرَّت بك في حياتنا معًا، وتُجيبيني إن كنتِ في فترة ما قد اشتهتْ نفسك طين الحقول؟


ساد صمت طويل بينهما، فتجدَّد شعوره بالحرَج منها، وقد كانت الميزة الوحيدة لوفاتها هي تخلُّصه من وطْأة هذا الحرَج، حرَج العقيم من زوجه التي فضَّلت البقاء معه، فرغب في أن يُلقي إليها ما عنده، تلك البشرى التي ستحسِّن صورته أمامها وللأبد، كزوجٍ صبَرت معه سنوات وسنوات دون أن تَجرحه بكلمة، يريد أن يُحسِّن صورته كزوج تآكَلت هيبة جسده العملاق أمام هذه التي لم يَبلغ طولها كَتفه، وكانت عملاقة بصبرها وقَبولها.

 

إنه يريد أن يَنعَم أمامها بما كان فيها من السلامة والقوة الوديعة، يريد أن يعضَّ على حجرٍ من أحجار قبرها، فيتخلَّص فيه من لعاب سعاره، فبشَّرها هناك وهو يضحك فاتحًا فمه بابتسامة عريضة، تجمع بين بلاهة اللحظة والخبث الأصيل، ابتسامة تثير مزيجًا من الشفقة والاشمئزاز، وهو شارد في نَبتة الصبَّار الصغيرة النائمة تحت الجدار، تحت الكتابة بالطباشير عن تواريخ ورود الموتى في مدفن العائلة، بشَّرها بأن لديه مفاجأة كبرى لها، حزَّري فزَّري، ثم أدرك أنه لا يُمكنها ذلك، فألقى بشراه وهو يَخبط على رُكبته الضخمة: هو الآن يستطيع الإنجاب بعد أن شُفِي من عُقمه ببركة سيدي (أبو الشخاليل)، الذي لاحَظ في أيامها الأخيرة فتور قلبها من ناحيته، وهذا ما لا يليق بامرأة كاملة مثلها، إنه لا يترك أولاده كما كان يؤكِّد لها دائمًا، زاره في المنام مع سبعين حمامة بيضاء تمشي خلفه، ورمى عليه قطيفة خضراء، وأخذ يقرأ فواتح سورة (مريم)، في هديل الحمام الذي جلَب الملائكة وأرواح الأولياء العظام، ولم يُغادره جمع الوجهاء هذا إلا بعد أن طاب وذهَب ما به، يُمكنه الآن أن يملأ بيتهم بصِبيَةٍ وصبايا يَلعبون حوله، لا شيء الآن يحول بينه وبين الولد الذي يَحمل اسمه، إلا غيابها، المشكلة لديها هي، ولو كانت الآن حيَّة تُرزَق، ما كانت لتَحبَل بعد انقطاع حيْضها، وهو يعرف جيدًا أنه ليس بيدها أنها ماتت، وليس بيدها انقطاع الحيْض عنها منذ سنوات سبَقت موتها، وهو لا يَقصد أن يَجرحها بهذا، أبدًا، أبدًا، فقط جاء ليُخبرها أنه من أجل عينيها سيَصبِر عليها ميِّتةً كما صبَرت عليه حيًّا، فلن يُدخِل على فراشها من بعدها لا بِكرًا ولا ثيِّبًا.

 

كان مرتاحًا جدًّا وهو يقول ذلك، ومطمئنًّا أن وضْعها كميِّتةٍ لن يَسمح لها بفحْص أخباره، مثلما أن وضْعه كرجل عزبٍ لا تَبيت في فراشه زوجة، لن يَسمح له بفحْص صدقِ ما رآه وهو في ممرِّ الوطاويط الواقع بين عالم النوم وعالم اليقظة، الذي كانت تتناهى إلى سمعه فيه نداءات سيدنا (أبو الشخاليل) المُبهمة، وقد بدأت تَخفُت مع الزعيق القادم من الشارع (وعندك واحد حصى مغلي).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أحكام جائرة ( قصة )
  • خلف الباب (قصة)
  • نكد (قصة)
  • عائد إلى الديار (قصة)
  • وعد قلم (قصة)
  • خطبة الجمعة (قصة)
  • النافذة (قصة)
  • بارقة أمل! (قصة)
  • لقطات احترت أمامها
  • فرشاة طلاء
  • كفرس جموح

مختارات من الشبكة

  • قراءات اقتصادية (7) المخبر الاقتصادي(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • بين المظهر والمخبر (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة ذكر أحوال الشيوخ المخبرين في إجازة الشيخ برهان الدين الجعبري(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • غلب الطبع التطبع(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • ازدواج المعايير!!(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • واو الحال وصاحب الجملة الحالية(مقالة - حضارة الكلمة)
  • زكاة الفطر(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر)
  • تحديث تخصص الترجمة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الشواهد والمتابعات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الترف الحضاري(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)

 


تعليقات الزوار
1- أكثر من رائع
Malak Mohamed - الكويت 06-08-2013 12:56 PM

لقد أخذتني لزمن لم اعش فيه وعيشتني فيه ..
برعت في استخدام العبارات والأوصاف براعة متناهية ..
أثرت عقلي وخيالي بـ حرفك المسافر عبر الوجدان والأزمان ..
أتمنى ان يشعر كل من مر وقرأ مثلما شعرت .. كما أتمنى لك النجاح والتوفيق .

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 21/11/1446هـ - الساعة: 14:30
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب