• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    التأويل بالحال السببي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر
علامة باركود

البرعم والمطر

حسان كشتان

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 19/6/2012 ميلادي - 29/7/1433 هجري

الزيارات: 5279

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

البرعم والمطر

قصة قصيرة


"يجب أنْ يَقف على باب كلِّ إنسان مرتاح وسعيدٍ شخصٌ ما يُمسِك مطرقةً؛ ليُذكِّره بضرباتِه المستمرِّة أنَّ هناك تُعساء".

تشيخوف

 

•   •   •   •


كان صباحًا باردًا، وفي السماء انعقدت غيومٌ سوداءُ تنذر بوابل من المطر، في هذا الوقت خرج محمد من بيته وهو ينوء بثقل صندوق البويا الذي كان يحمله على كتفه، وهو ولدٌ صغير لم يتجاوز العشر السنوات بعدُ، كان يرتجف من البرد، يرتدي بنطالاً مرقعًا في أكثر من مكان، وقميصًا رقيقًا وسخًا قد انقطعت أكثر أزراره وكنزة حال لونها، وتبقَّعت بعض أجزائها من أثر البويا والعَرَق.

 

كان محمد المعيل الوحيدَ لأسرة مكونةٍ من أم مريضة طريحةِ الفراش، وأختٍ تكبره بسنة واحدة، وأخٍ صغير لم يَبلُغ بعدُ الخامسةَ من عمره، كان قد توفي أبوه وهو لم يبلغ بعدُ السبعَ السنوات، ولولا بعض الصور التي كانت تقتنيها الأم لأبيه، لكان نسي صورته تمامًا، وكل ما كان يذكره عنه أنه كان مريضًا بداء السكري، وقد مات من أثر ذلك المرض وهو في الأربعين من عمره.

 

كان على محمد كلَّ يوم أن ينطلق في رحلة مضنية مريرة بصندوقه ذاك، ماضيًا به من بيته في أريحا، ثم يستقل سيارة إلى إدلب في أريحا، لم يعد أحد يعنى بتنظيف أحذيته على قارعة الطريق؛ ولذلك كان عليه أن يقوم برحلته تلك إلى إدلب؛ لكونها مركز محافظة، ولا تخلو من قدم غريبة، كما أن بها حديقة عامة، وسوقًا كبيرةً، وشوارعَ كثيرة.

 

كان محمد خجولاً جدًّا، وبائسًا جدًّا، وكان في أغلب الأحيان ينتحي زاوية محددةً من الحديقة التي تعوَّد أن يجعلها قاعدةً له دون أن يأبه أو يشارك أترابَه من ماسحي الأحذية الصغار ممن يجوبون الحديقة، أو يجلسون في أماكنَ غيرِ بعيدة عنه، كان يراقبهم، ويرى بؤسهم، كما كان يشعر بأن ثمة بونًا شاسعًا يحول بينه وبينهم؛ فهم كانوا أقرب إلى التشرد منه إلى البؤس، ورغم ذلك تراهم مستهترين سادرين عن دنياهم، وإن تجلى في عيونهم حزنٌ مقيم، حزن قد اتَّحد مع نظرة العين، ولونِ الوجه، والضحكةِ الصفراء الباهتة، كانوا أحيانًا يعوضون عن طفولتهم المقتولة، وبراءتهم المهدورة، بعبث طفولي هو أقرب للثورة، فتراهم يتراشقون بالسباب، ويقذفون بعضهم بعضًا بالحصى أو ما وصلت إليه أيديهم وهم جالسون بالقرب من صناديقهم يضحكون ويمرحون، وعيونهم أبدًا لا تهدأ في ترقب أي زبون يمر قريبًا منهم، عندها تكتسي وجوههم علامات الجد، وينبري كل واحد منهم بمناداة ذلك الزبونِ وجلبِه لصندوقه ما وسِعَه ذلك، وقد لا يخلو الأمر في كثير من الأحيان من الغيرة والحسد، بل وقد تصل إلى درجة العراك على زبون ذهب إلى هذا، ولم يذهب إلى ذاك، أجلْ هكذا كان حال أولئك البؤساء الصغار، أما صاحبنا محمد، فقد كان يختلف كثيرًا عنهم؛ حتى إنه كان يبدو أكبر من سنِّه؛ بصمته الطويل، ونظراته الذاهلة المتعبة، وكان نادرًا ما يعزم على الزبائن على الورود عليه كما يفعل الآخرون، كما كان لا يشاركهم عبثَهم ولَهوهم؛ وربما لهذا السبب كان أولئك الصغار يدركون ضعفه وبراءته، وينظرون إليه نظرةً تجعله في عيونهم محطَّ سخرية واستهزاء، فلا يوفرون فرصة إلا انتهزوها لمضايقته والعبث به، وهو حيال كل ذلك كان يقابلهم بالصمت حينًا، والبكاء والهرب حينًا آخر.

 

كان يفكر وهو في طريقه في الميكروباص، وهو يسرح الطرف بأشجار الزيتون المتراكضة على طرفي الطريق - بأنه يجب عليه اليومَ أن يعمل كثيرًا؛ لأجل أن يأتي بالدواء لأمِّه المريضة، كما عليه أيضًا أن يؤمِّن بعض الطعام لإخوته، تذكَّر أنه ربما لا يعود إلا عند المغيب، فوجف قلبه فرقًا لأجل أمه التي يجب أن تتحمل آلامَها حتى ذلك الوقت، وإخوتِه الذين سوف يتضورون جوعًا لحين عودته، لم يفكر المسكين في نفسه، لم يفكر في ضعفه وهزاله واصفرار وجهه، والبرد القارص الذي يَنخَر عظامَه بلا رحمة.

 

ترجل محمد من الميكروباص حاملاً صندوقه، وخف مسرعًا باتجاه الحديقة العامة؛ ليأخذ مكانه قبل وصول الصبية الآخرين؛ عله يحظى ببعض النقود اللازمة لثمن الدواء والطعام والعودة باكرًا إلى المنزل، وما هي إلا دقائق حتى وجد نفسه يلج باب الحديقة في ذلك الوقت المبكر، ويأخذ مكانه المعتاد.

 

كانت الحديقة خالية في ذلك الوقت إلا من عابري السبيل، وهذه كانت ميزتها الجيدة؛ إذ إنها تقع في زاوية بين شارعين رئيسيين، لكل شارع منهما لها باب، وكان الناس في أغلب الأحيان إذا أرادوا أن ينتقلوا من هذا الشارعِ إلى ذاك اختصروا المسافة ومروا من داخل الحديقة.

 

اجتاحت المكانَ نسمةٌ باردة ارتجفت لها أغصان الأشجار، فتداعت منها بعضُ وريقات يابسة هطلت كما المطر فوق المقاعد والممرات، تطلَّع محمد إليها وهو يرتجف من البرد، ثم همس قائلاً في مناجاة صادقة حزينة وبصوت وانٍ ضعيف: "يا رب، استرها معي، وارزقني ثمن الدواء والطعام"، وقرقرت معدتُه حينما ورد على ذهنه سيرة الطعام، ولكنه سرعان ما تناسى معدتَه حينما لمح أول وارد يغشى الحديقة، وتطلَّع إلى حذائه فورًا وهو يتمنى ويلهج لسانُه بدعاءٍ خفيٍّ أن يمضي صاحبه إليه لأجل تنظيفه وتلميعه، إلا أن تمنياته قد ذهبت أدراج الرياح حينما مر من أمامه دون أن يلتفت إليه، أو ربما لم يشعر بوجوده، وانتظر ساعة بعدها، وازداد خفق النعال في الحديقة إلا أن أحدًا لم يقترب منه، وفجأة لمح من بعيد زميلاً له بالصنعة يقترب على مهل يحمل صندوقه على كتفه، وقد ظهرت آثارُ الشحوب والقذارة على وجهه وثيابه، وما أن اقترب ذلك الصبي حتى حدج محمدًا بنظرة شزراء ينطلق منها الشرر، اضطر محمد حينما التقت عيناهما أن ينسحب بنظراته عنه على عجل، داعيًا الله أن يكف عنه شرَّه، جلس ذلك الصبي على مبعدة يسيرة منه، ثم طفق ينادي على بوياه نداء متكررًا، كأنه يريد أن يجلب له الأنظار دون صاحبه الذي لبث صامتًا مستكينًا وهو يتلقى رشقات من النظرات المتوعدة بين حين وآخر، وبعد نصف ساعة جاء زميل آخر، واتخذ له مكانًا على الطرف الثاني، بحيث صار محمد بين الاثنين، اللذين صارا يتغامزان ويتضاحكان، ومحمد يلحظ ذلك بقلب واجف.

 

انجابت بعض السُّحب عن صفحة السماء، تاركةً المجالَ لضوء شاحب مريض لشمس طلعت على استحياء؛ لتغمر المكان بدفء لذيذ، وأشعة وانية، تخللت جذوع الأشجار، ازدادت معها حركة السابلة، ودخل من أحد بابي الحديقة شابان يرفلان بثياب أنيقة، وشعرٍ مسترسل بعناية، ونظارات سوداء ينعكس على عدساتها نور يوحي بالرفعة والتكبر، اقتربا وجلسا على مقربة من صندوق محمد ثم راحا في حديث طويل، كان محمد يدعو الله أن يناديه أحدهما كي يمسح له حذاءه، وخاصة أنه لمح اتساخ أحذيتهما، ولم يخيب الله رجاءه، والتفت إليه أقربُهما إليه، وناداه قائلاً له باحتقار: "أنت يا ولد يا صغير هيا تعالَ" ، وصفق قلب محمد فرحًا، فحمل صندوقه وكرسيه الذي هو عبارة عن علبة سمن قديمة فارغة وصدئة، واقترب من الشابين، رفع أحدهما أحد رجليه ووضعها على المداس دون أن ينظر في وجه محمد، الذي أخذ يعمل بكل ما أوتي من مهارة، وراح بها فركًا وتنظيفًا وتلميعًا، ثم انتقل إلى الرجل الأخرى، فنظفها ولمعها كما الأولى، حتى انتهى ثم لبث هنيهة صامتًا ينتظر إما أجرته، أو أن يطلب منه الشاب الآخر تنظيف حذائه هو الآخر، ولما لم يُبْدِ أيٌّ منهما أيَّ حركة توحي بشيء، قام ومال على صندوقه يريد أن يرفعه ويعود إلى مكانه، وهنا انتبه الشاب الثاني فصاح به قائلاً بصوت كخوار الثور: "هيه أنت يا ولد إلى أين أنت ذاهب؟ هيا ولمع لي حذائي أنا أيضًا".

 

وعاد محمد إلى جلسته، وأخذ يلمع له حذاءه، كل ذلك وعيون صاحبيه تكاد تنطلق من محاجرها حسدًا له وحقدًا عليه، وما أن أنهى عمله حتى مد أحد الشابين يده إلى جيبه، وأخرج منه قطعة نقدية من فئة العشر الليرات، وقذف له بها على الأرض قائلاً له مبتسمًا: "خذ أجرتك"، ثم أغرب في الضحك هو وصاحبه، ولحق المسكين بالقطعة النقدية، وأخذها ودسها في جيبه صامتًا لا يتفوه بكلمة، ثم عاد وحمل صندوقه ورجع إلى مكانه، ولبث الشابان قليلاً بعد ذلك ثم انصرفا، وقام في تلك الأثناء أحد الصبية، وقد أكَل الحقد قلبَه، واقترب من محمد وراح يقول له وهو يرفس صندوقه بقدمه:

• أنت، هيا اذهب من هنا؛ فهذا مكاننا.

 

ورفع محمد إليه نظرة تجلَّى فيها الخوفُ، وقد ارتعشت شفتاه، وتقلص وجهه، على حين اقترب منه الصبي الآخر وقام بمثل ما قام به رفيقُه من رفسه للصندوق وقال له:

• ألم تسمع ما قاله لك؟ هذا مكاننا، هيا انقلع من هنا.

 

وفي تلك الأثناء كانت قد دخلت امرأة في الأربعين من عمرها، ترفل بعباءة سوداء طويلة، وتضع على رأسها بشايا، وكان التعب يبدو واضحًا عليها، اقتعدت نفس المقعد الذي كان يجلس عليه الشابان، وقد أراحت يديها من حمل بعض أكياس كانت تحملها بيديها، وكانت قد سمعت وشاهدت ما يجري من أمر محمد وصاحبيه، فاستشاطت غضبًا وقد رأت بأم عينها كيف هجم أحدُ الصبية على محمد، وأخذ يضربه بكل وحشية، حتى إن ذلك الأخير وقع على الأرض بعد أن اختلت علبة السمن القديمة التي كان يجلس عليها، وانكفأ على الأرض، وقد تعفر وجهُه بالتراب، بينما أخذ الصبي الثاني الصندوق وفرَّ هاربًا ليختفي خلف باب الحديقة، عندها قام محمد وهو ينفجر باكيًا من القهر، وهمَّ أن يلحق بالصبي الذي سرق الصندوق، إلا أن الصبي الآخر وضع قدمه أمامه؛ فتعثر ووقع ثانية على الأرض وقد سالت الدماء من أنفه، على حين أخذ الصبي يكركر من الضحك، عندها آلم المرأةَ أشدَّ الإيلام أن ترى هذا الموقفَ دون أن تتدخل، خصوصًا وقد وقفت على طيبة الغلام وقلة حيلته، عندها هتفت مغاضبة بالصبي الذي ما زال يضحك ساخرًا من محمد:

• حرام عليك يا ولد، ما الذي فعله معك لتقوم بإيذائه بهذه الطريقة؟!

 

ولكن الصبي لم يلتفت إليها، وكأنه لم يسمعها، وهنا قامت المرأة واقتربت من محمد ورفعتْه برفق عن الأرض بينما هو يواصل بكاءه، ويصيح بألم: صندوقي! إن أمي مريضة، وإخوتي جياع، يا إلهي!

 

ومن خلف باب الحديقة ظهر الصبي الذي سرق الصندوق وهو يضحك، وصاحت به المرأة:

• هيا أيها الصبي، أرجع له صندوقه.

 

وامتثل الصبي لأمر المرأة، وتقدَّم نحوها بحذر شديد، ووضع الصندوق بجانبها، ثم فرَّ هاربًا هو وصاحبه خارج الحديقة، مسحت المرأة على رأس محمد بحنانٍ بالغ، ثم ذهبت به إلى مقعدها وأجلسته بجانبها، ثم أخرجت منديلاً وراحت تزيل ما علق بوجهه من دم وتراب ودموع، وهي تواسيه بشتى الجمل اللطيفة؛ حتى هدأ قليلاً، وكفَّ عن البكاء، عندها سألته قائلة:

• ما اسمك يا عزيزي؟

قال لها وهو ما زال يشهق:

• محمد يا سيدتي.

 

• وكم عمرك؟

• عشر سنوات.

 

ابتسمت في وجهه ثم مسحت على رأسه من جديد، وسألته:

• من أين أنت؟

• من أريحا.

 

• ماذا يعمل أبوك؟

• إنه ميت يا سيدتي.

 

• وأمك؟

• أمي مريضة وهي بحاجة إلى دواء.

 

وصمتت المرأة وقد لمعت في عينيها دمعةٌ حرَّى لم تستطع أن تمنعها، ثم عادت لتسأله:

• ألك إخوة؟

• أجل يا سيدتي، بنت وصبي.

 

• أأنت أكبرهما؟

• بل أنا الأوسط؛ إذ البنت تكبرني بعام واحد، بينما الصغير ما يزال في الخامسة.

 

• ألا تذهب إلى المدرسة؟

• تركتها منذ الصف الأول عندما مات والدي.

 

وتفرست المرأة بثيابه الرقيقة والمتسخة، وقد شعرت كأنه ينكمش بين كل لحظة وأخرى، كلما هبت في المكان نسمةٌ باردة؛ فرقَّتْ له، وقالت له:

• هل تشعر بالبرد؟

قال لها ببراءة - وقد احمرَّ وجهه، وارتعشت أهدابه -:

• أشعر، ولكن يجب عليَّ أن أعمل؛ كي أؤمِّن الدواء لأمي، والطعام لإخوتي، كما أنه ليس لديَّ غيرُ هذه الثياب.

 

وانفجرت دموع المرأة عندما سمعت هذا الكلامَ من محمد، وضمته إليها ضمةً عظيمة، أفرغت فيها قدرًا عظيمًا من أمومة يبدو أنها فقدتْها منذ زمن بعيد، واضطرب محمد لما رأى تصرُّف المرأة ذاك حياله، وداخَلَه خوفٌ شديد ورغبة ملحَّة بالبكاء، واستطاع بعد لأْيٍ التملصَ من ضمتها تلك، وقام مسرعًا وحمل الصندوق شارعًا في الهرب، لولا أن المرأة أوقفتْه ممسكةً به من يده بيد، وبالأخرى أخذت تمسح عن وجهها دموعها، ثم قالت له وهي تمد يدها إلى حافظة نقود كانت في جيب جلبابها، تخرجها ثم تخرج من داخلها بعض النقود الورقية، وتقدمها له:

• خذ يا عزيزي، واشترِ دواءً لأمِّك وطعامًا لإخوتك، ولكن عدني أن تأتي إلى هنا في كل أسبوع في مثل هذا اليوم، ولك عندي أن أعطيك مثل هذا ويزيد.

 

وطفرت الدموع من عينَي محمد، وشعر بوخزة عظيمة في نفسه كأن أحدهم غزه بسكين في مقتل؛ إذ لم يعتد على هذا الموقفِ طَوال حياته، وقد حاول عبثًا أن يتفلت من يدها، ويحاول الهرب من جديد، ويبدو أنها فطنتْ لما يعتمل في صدره، فقالت له - وهي تذرف الدموع -:

• أرجوك يا ولدي خذْها، ولا ترُدَّني خائبة؛ فأنا مثل أمِّك.

 

ثم قالت له وهي تشيح بوجهها عنه بصوت تخنقه العبرات:

• لقد كان لي ولد، لو ما زال حيًّا إلى هذه الأيام، لكان في مثل سنك، ولكنها الأقدار.

 

وصمتت قليلاً تلتقط أنفاسها من بين دموعها، ثم تنظر إليه وطيفُ ابتسامة باهتةٍ تمر على وجهها كأنها تشجعه وتقول له:

• أنت تفهمني، أليس كذلك؟ خذ هيا.

 

ومدَّ محمد يدَه المضطربة الخائفة، وأخذ النقود ثم دسها في جيبه على استحياء.

 

ومالت المرأة إلى أكياسها التي كانت مركونة إلى جانبها على المقعد، بعد أن تأكدت من أنه لن يحاول الهرب من جديد، ثم أخرجت من بينها قرن موز قدمته له وهي تقول:

• كُلْ هذا يا عزيزي، يبدو أنك لم تتبلغ بلقمة منذ الأمس.

 

ومد يده وهو يحس أن شعورًا من الأمان والألفة بدأ يغزو قلبَه حيالها، وأخذ قرن الموز منها، إلا أنه لم يأكله بل دسه في جيبه وهو يقول في نفسه: "سأحتفظ به لأخي الصغير، الذي لا شك أنه سوف يفرح كثيرًا به".

 

وابتسمت المرأة، وقد قدرت ما دار في رأس الطفل المسكين، فحملت الكيس وأعطته إياه قائلة له:

• اسمع يا محمد، خذ هذا الكيس لك ولإخوتك، هيا يا ولدي.

 

وبيدٍ حائرة مرتبكة من الفرح أخذ الكيس، وربتت المرأة على كتفه وقالت له وهي في حالة بين الحزن والفرح:

• هيا وعُدْ أدراجك إلى البيت؛ فالسماء موشكة أن تمطر.

 

• ودون أن ينبس بكلمة، حمل محمد صندوقه وكيس الموز، ودار على عقبيه وأخذ يمشي مسرعًا باتجاه باب الحديقة والفرحةُ تحمله على جناحيها، فلا تكاد قدماه تلامسان الأرض، كان يرمق السماء بنظرات شكرٍ مبللةٍ بدموع انسكبت على وجنتيه رغمًا عنه، وأخذ يتخيل مدى فرحة إخوته وهم يرونه داخلاً عليهم بكيس مملوء بالموز، كما تخيل ابتسامة أمه المريضة وهي تتناول من يده الدواء الذي قد اشتراه لها، كما شعر بطعم القبلة الباردة التي سوف تطبعها على وجهه وهي ترضى عليه، وتدعو له أجمل الدعوات، وإذ هو في تخيلاته وتأملاته تلك، وما كاد يتجاوز باب الحديقة، حتى فاجأه نفس الصبيين اللذين تشاجرا معه داخل الحديقة كما لوكانا ينتظرانه، أحاطا به وجعلا يسخران منه، ويرميانه بأقذع الشتائم، ثم انقضَّ أحدهما على الصندوق الذي كان يحمله على كتفه واختطفه منه، ثم ولى هاربًا، حاول محمد أن يلحق به، ولكن الصبي الثاني أمسكه من تلابيبه وصفعه على وجهه، ثم سرق كيس الموز الذي كان ممسكًا به في يده، ثم وضع رِجله خلف قدمه ودفَعَه فوقع على الأرض، فانفجر محمد بالبكاء، وفرَّ الصبي خلف صاحبه، قام محمد بعد قليل والدموع تملأ عينيه وهو ينظر إلى ذلك الاتجاه الذي ركض فيه الصبيان، وفكر أن يلحق بهما لولا أنه شعر بوجع كبير في قدمه وظهره، ثم تحامل على نفسه وجلس مستندًا إلى جدار الحديقة وقد أسقط في يده، وداخله شعور بأن الدنيا تتآمر عليه، فجعل يبكي ويشهق من قلب مفعم باليأس والإحباط، ثم تذكَّر بعد قليل المرأة الحنون التي قد أعطتْه النقود وكيس الموز، فقام واقترب من باب الحديقة، وأطل منه إلى المكان الذي كانت تجلس فيه فلم يجدها، لقد ذهبت، وادلهمت السماء فجأة ثم أبرقت وأرعدت ثم هطل المطر، كان مطرًا قويًّا شعر به كما لو كان حصًى ترمي بها السماءُ على رأسه وجسده الهزيل، وأحس بالبرد الشديد يكاد يَنخَر عظامه، وازداد إحساسُه بالظلم والقهر، إلا أنه تذكر فجأة النقود التي أعطته إياها المرأة، فمدَّ يده إلى جيبه يتفقدها، وكم كان إحساسه بالفرحة عظيمًا عندما وجدها هناك، وحمد الله أن الصبيين لم يفطنا إليها، ورفعها وهي مبللة وقبَّلها قبلة فيها الشكر لله، ثم أخذ يمشي وهو يعرج على قدمه باتجاه موقف الحافلات تحت المطر، وفي وجه الرياح العاتية وتحت البرق والرعد، لم يعد يشعر بأي شيء حينها سوى أنه وبالمال الذي معه ما زال يستطيع أن يؤمِّن الدواء لأمه والطعام لإخوته.

 

انتهت.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • يتم بلا موت..! (قصة قصيرة)
  • صكوك الهوان (قصة قصيرة)
  • جفاف المشاعر (قصة قصيرة)
  • الطفل والشجرة (قصة قصيرة)
  • بائع الورد (قصة قصيرة)
  • ملائكة الياسمين (قصة قصيرة)
  • طفلتان في طريقي (قصة قصيرة)
  • مطرنا بفضل الله ورحمته
  • نعمة المطر

مختارات من الشبكة

  • رمضان لبراعم الإسلام (PDF)(كتاب - ملفات خاصة)
  • مواقف إسلامية رائعة للبراعم الناشئة (WORD)(كتاب - موقع أ. د. عبدالحليم عويس)
  • نشيد البراعم(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • براعم الفجر الجديد (قصيدة تفعيلة)(مقالة - موقع الدكتور وليد قصاب)
  • البراعم (قصيدة)(مقالة - موقع د. أحمد البراء الأميري)
  • برعم النور (قصيدة)(مقالة - موقع د. أحمد البراء الأميري)
  • براعم وأشواك(مقالة - حضارة الكلمة)
  • المعلمة المربية(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • هاكن عبق السلام بتحية الإسلام(مقالة - حضارة الكلمة)
  • بطاقة عيد ( قصيدة )(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 22/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب