• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

حابس.... حابس (قصة قصيرة)

حابس.... حابس
حسن عبدالموجود سيد عبدالجواد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 14/12/2011 ميلادي - 18/1/1433 هجري

الزيارات: 9820

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

حـابس... حـابس

(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

 

بحُكم نشأتي المتديِّنة كحافظٍ للقرآن في كتَّاب القرية، ثم كطالبٍ مِن طلاَّب الأزهر، كنت أشكُّ دائمًا فيما يُروى من خُرافات وأساطير عن مغامرات أهلِ القرية الليليَّة مع الجنِّ والعفاريت في أزقَّة قحافة المظلِمة، وبيوتها المهجورة، وحقولها المملوءة بالأسرار، ومقابرها التي ادَّعَوا أنَّها مرتعٌ لإبليس وأعوانه!

 

لكنَّني لا أُنكر استمتاعي بهذه الأساطير التي كانتْ تُروَى صباحَ مساءَ، وأنَّني كنتُ أتابع القصصَ التي يَرويها أهلُ قريتي بشكلٍ قد يَقذفني فجأةً إلى داخلِ الأُسطورة، أرَى وأسمع وأعاني ما عاناه أبطالُ أساطيرنا العظماء، لا يُعيدني إلى الواقِع إلاَّ انقطاعُ الحكاية فجأةً لسببٍ أو لآخَر، أو انتهاؤها بين ذُهولِ البعض وسخريةِ الآخرين.

 

لا أنسى أبدًا تِلك الساعاتِ التي كنتُ أندسُّ فيها متطفلاً في شغفٍ في حلقةِ الكِبار التي كانت تنعقد يوميًّا في فناء المسجد القِبلي الواسع بيْن العصر والمغرب.

 

ما أعظمَه مِن مجلس للشيوخ! لا أعتقد أنَّ أمريكا نفسَها تمتلك مثلَه!

 

فلا أعتقد أنَّ لديهم من هو بخِفَّة ظل "محمد القط".

 

أو بحِكمة "مسعد إمام".

 

أو بحنكة "يونس رفاعي".

 

أو بسرعةِ بديهة "محمود كبش".

 

أو بذكاء "عبدالجواد محمود، وشعبان الأعصر، وإسماعيل جاب الله".

 

أو بطِيبة "علي عبدالمجيد، ورجب درغام".

 

وآخرين ممَّن لا يتَّسع المقام أو تُسعِف الذاكرة لذِكره.

 

- لكلِّ هذه الصِّفات التي اجتمعتْ في كبار القوم كان للجِلسة مذاقُها الخاصُّ في نفوسنا - نحن الصغارَ.

 

وما كان يجعل للجِلسةِ مذاقًا أكثرَ خصوصيةً وإثارةً أن تَقفزَ من طيَّات الكلام فجأةً قصَّةٌ من قصص الجنِّ، أو أسطورة مِن أساطير قحافة المظلمة.

 

فيَدَّعي جَدُّنا مسعد إمام صاحبُ السبعين عامًا أنَّه في إحدى ليالي الشتاء الباردة حين كان متجهًا كعادتِه لأداءِ صلاة الفجْر مشتملاً بذلك الحرامِ الصوفي الأصفر، وممسكًا بعصاه المعروفة، حيث كان يَمضي في عزمٍ راسخٍ كالجِبال نحوَ الجامع القِبلي لأداء الفريضة قبلَ موعدِها بوقتٍ كافٍ حيث اعتاد أن يتوضَّأ في بحرِ يوسف، ثم يُصلِّي ما يحلو له أمامَ المسجد المغلَق الذي لم يحضرْ بعدُ عامله الهمام "رجب درغام"، وفجأةً وعلى غير توقُّع من جدِّنا مسعد إمام يُهرول أمامَه في فناء المسجد الواسع أمامَ بابه المغلَق قزمانِ أسودانِ لكلٍّ منهما عينانِ واسعتانِ ما زلتُ أذكُر حين صَنع بإصبعيه السبابة والإبهام نِصفَ حلقة واسعة؛ ليرينا مدَى اتساع تلك العيونِ الدائريَّة الغريبة، ثم وصَف لنا أيديهما التي تُشبه "يد الهاون"، وكيف أنَّهما توجَّها نحوَه، وهما يَرفعانِ أيديهما ويُحدِّقان بأعينهما؛ لتزدادَ اتِّساعًا على اتِّساعها وليتطاير منها الشَّرر نحوه، وأنَّه لولا تراجعُه لخُطوةً أو خُطوتين للخلف لأصابتْه تِلك السِّهامُ النارية الحارِقة! وأنَّه رغم كلِّ ذلك واجه الموقِف بثبات، ثم تَقدَّم بعصاه الطويلة نحوَهما يسبُّ ويلعن آباءَهما وأجدادهما، ويُشيح بعصاه في الهواءِ في غير خوفٍ أو اهتمامٍ بهذه المخلوقات التي لم تَعُدْ تُرهِبه لكثرةِ ما رآه مِن ألاعيبها التي لا تَنتهي، ثم يصِف لنا كيف اختفَى القزمانِ فجأةً أمامَ هذه الشجاعة النادِرة!

 

وبين قهقهةِ البعضِ وتهامُس الآخرين، أحاول إغلاقَ فمي الفاغِر وأتحسَّس بيدي المرتعدة شَعري الذي تصلَّب كأشواكٍ صحراويَّة جافَّة.

 

وقبل أن أبتلعَ رِيقي شبه الجاف وأستفيق - وأنا الطفل - مِن هذه الصدمة العفريتيَّة التي لم تكُن في الحسبان أخفض رأسي في ترقُّب حين يفسح جَدُّنا "مسعد إمام" المجالَ لغيره ليُلقي علينا قنبلةً جديدة.

 

أَصدقُكم القول: إنَّ الذاكرة لا تُسعفني لذِكْر أصحاب هذه الرِّوايات لكثرةِ مَن سمعنا وما سمعنا! ورغم أنَّني لا أتذكَّر الرواة إلا أنَّ ما رووه ما يَزال يشكِّل جزءًا مِن وجداني لا يُمكن أنْ أنساه ما حييت.

 

فيَدَّعي أحدُهم أنه أثناء عودته من الحقل متأخرًا قُبيلَ العشاء لَمَح عينين صغيرتين تبرقانِ في إحدى قنوات الريِّ الضيقة، ثم سمِع جلبةً عاليةً ورأى الماءَ يتطاير في كلِّ مكان فنَزل عن حماره مسرعًا وطارَد هذا القرموط الذي جاءَ كوجبةِ عَشاء غير متوقَّعة له ولأُسرته.

 

ويَحكي كيف أنَّ الإمساك به كان سَهلاً على غيرِ المتوقَّع، وكيف أنَّه وضعه في حجرِه، ثم قفَز فوق حماره في خِفَّةٍ، مسرعًا نحوَ البيت ليجد هناك أنَّ القرموط اختفَى، وأنَّ ما كان يحمله في حجرِه ما هو إلا كتلة مِن الطين!! ضاع العَشاء وبقيت القصَّة لتُسجَّل في تراث قحافة الذي لا يَزول!

 

وتتوالَى القصص ثالثةً فرابعةً فخامسةً، ومِن بين تلك القصص المتشعِّبة المتشابهة الأحداث، تطلُّ علينا هذه الواقعة الراعِبة الفريدة مِن نوعها، والتي يتفنَّن صاحبها في سَرْدِها، فيظل الجميعُ ساهمين منصتين، حتى ينتهيَ مِن سردها عندَ أذانِ المغرب، فننصرف إلى الصلاةِ بين كبيرٍ شاردٍ، وصغيرٍ وَجِل.

 

فهذا أحدُ الكِبار العُقلاء الذين لا يشكُّ أحد في نزاهتهم يُحدِّثنا عن حقلِه القريب مِن مقابر قحافة، وكيف أنَّ جِيرانَه هناك قد حذَّروه مِرارًا مِن جُرأته الزائدة حيث قدْ تعود على غير عاداتهم أن يَرويَ حقلَه ليلاً، فبرغم عِلمهم أنَّ الري ليلاً أفضلُ بكثير؛ حيث إنَّ الريَّ نهارًا يُضعِف النبات المتعرِّض لأشعة الشمس القاسية، إلا أنهم آثروا السلامةَ، وقنعوا بالقليلِ وآمنوا - رغم أنَّهم لم يروا - بما رواه آباؤهم وأجدادُهم مِن خرافات رغمَ شكِّهم في صِدقها، إلا أنهم وَجدوا أنفسهم مُجبَرين على مغادرةِ حقولهم قبلَ أن ينسجَ الظلامُ أولَ خيوطه حولَ المكان.

 

يَحكي جدُّنا مِن تلك الليلة التي تناول فيها عَشاءَه مع أبنائِه الصِّغار واحتسَى كوبَ الشاي الثقيل؛ استعدادًا لليلةٍ طويلة في حقلِه المحفوفِ بالمخاطِر والأساطير، وعندَ منتصفِ اللَّيلِ تقريبًا امتطَى حمارَه، وتوجَّه في جُرأةٍ نحوَ حقله ترمُقه عيونُ أهلِ قريته الساهِرة بمزيجٍ مِن الإعجابِ والإشفاق.

 

وهناك، تحتَ شجرةِ الصفصاف العتيقة عندَ طرف حقلِه نزَل عن حمارِه؛ ليبدأ مهمته الليلية التي تَفرَّد بين الناس بالإقدامِ عليها.

 

ومنذُ اللحظة الأولى التي وطِئتْ فيها رجلاه الحقلَ أحسَّ بانقباض في صدره لم يعهدْه مِن قبلُ في هذا الصدر الشجاع، وملأتِ الجو مِن حوله رائحةٌ غريبة سرعانَ ما ذكَّرته برائحة الموتى.

 

ترى أهي مقبرةٌ لم يُحكِم أهلوها إغلاقَها على فقيدهم العزيز؟!

 

أم إنَّها كالعادةِ ذِئابُ قحافة الجائعة التي طالَمَا نبشتِ القبور المتهالِكة، فكشفتِ المستورَ واستباحتِ الحُرمات؟!

 

حتى حماره المطيع الهادئ لم يَشهدْه بهذه الدرجة مِن النفور مِن قبلُ؛ فهو لم يعُدْ يستسلم كعادتِه لصاحبِة الذي وجَد مشقةً كبيرةً حتى تغلَّب عليه أخيرًا، واستطاع أن يربطه في شجرة الصفصاف.

 

- اعتدَل الشيخُ في جِلستِه ثم أخَذ نفَسًا عميقًا، وهو يُخبرنا أنَّه طرَد جزَعَه ولم يبالِ بكلِّ ما حوله مِن علامات الاستفهامِ التي لا يَجِد لها أيَّ إجابة.

 

ثم خلَع جلبابه وألقاه بالقُربِ مِن حماره الذي ما زال يُحاول جاهدًا قطعَ القَيد الوثيق الذي يَربطه بهذه الليلةِ الغامضة!!

 

نزَل بطلنا إلى قناةِ الماء العميقة، وبعدَ مجهودٍ كبير استطاع أن يَصنع سدًّا مِن الحشائش والطين؛ ليحول مجرَى المياه العنيف إلى أرضه، ثم جلس بجوارِ حماره النافِر وأشعل سيجارةً محاولاً أن يَتناسَى برائحتها تلك الرائحةَ الكريهة التي سيطرتْ على المكان، ثم أشعل النار في بعضِ أغصان الصفصاف الجافَّة؛ ليبثَّ الطُّمأنينة في قلبه وقلْب حمارِه الذي كان يرفع أُذنيه بين حينٍ وآخَرَ، ويقارب بينهما ثم يَستدير فجأةً ويرفس برجليه الخلفيتين كأنَّ حمارًا آخَر يحاول الهجومَ عليه!

 

حاول ألاَّ يستسلمَ لمخاوفِه، ثم قام ليطمئنَّ على المساحةِ المروية من حقلِه، وظلَّ يتتبَّع المياه حتى وصَل للطرف الآخَر مِن حقله، ذلك الطرف البعيد الذي يطلُّ على المقابر، ثم كانت المفاجأة!!

 

توقَّف قليلاً ليطمئنَّ أنَّ المياه الوفيرة قدْ غمرتْ بقيةَ الحقل، بينما كان يُدير وجهَه من حينٍ لآخر فيختلس النظرَ إلى المقابر المتراصَّة خلفَه في سكون راعب، وفجأةً بدأتْ رائحةُ العفن تزداد بشكلٍ ملحوظ لم تستطعْ رائحةُ سيجارته التي لم تفارقْ فمَه أن تتغلَّب عليها.

 

بين حينٍ وآخَر كان يُصغي لخريرِ المياه التي تملأ الشقوقَ العميقة، وإلى نهيقِ حمارِه في الطرف الآخَر مِن الحقل، ذلك النهيق الذي ما يَكاد يَنتهي حتى يبدأَ مِن جديد!

 

لم يكُن يشغله نهيقُ الحمار المتواصل بقدْر ما كان يُطمئنه على أنَّ الحمار ما زال في مربطه.

 

وبينما كان يسترق النظر إلى الممرِّ الترابي الطويل الذي يَفصِل حقلَه عن المقابر، لفَت نظرَه، شبحٌ قادمٌ نحوَه من بعيد، يمشي ببطءٍ فوق الطريق مثيرًا خلفَه هالةً مِن التراب القاتِم، أخفتْ معالِم نصف القمر المعلَّق في السماء!

 

تصلَّب شَعرُه وكاد يخترق عمامتَه الملفوفة بإحكامٍ حولَ رأسه، وأخذ يرقب الشبح بعينيه الجاحظتين، بينما تلاحقتْ أنفاسُه عندما وجدَه يقترِبُ نحوَه شيئًا فشيئًا.

 

وقعتِ السيجارةُ مِن فمِه، وحاول أن يُتمتم بما يَحفظ مِن آياتِ الله، لكنَّه مِن هولِ المفاجأة لم يَعُدْ يذكُر منها شيئًا.

 

بدأتْ ملامح القادم تتَّضح شيئًا فشيئًا، إنَّها امرأة عجوز، سوداءُ ذات شَعر أبيض طويل ملبَّد، يكاد يُلامِس الأرضَ كلَّما انحنتْ بظهرها المقوَّس لتدكَّ الأرض بعصاها الغليظة الطويلة، تجرُّ خلفها جوالاً مربوطًا بحبل إلى وسطها تفوح منه تلك الرائحةُ العفِنة التي أصبحتْ أقوى من أن تُحتمَل.

 

كاد قلبُه يقفز من صدرِه حينما اقتربتْ منه، وهي تزفر زفراتٍ متلاحقةً كمحتضرٍ شارَفَ على الفناء.

 

تسمَّر مكانه ولم يعُدْ يشعُر بشيءٍ مِن أعضائه بينما اقتربتْ منه وحدَّثته في صوتٍ متقطع طالبةً منه أن يُساعِدَها في حمْل هذا الجوال الذي أحضرتْ فيه طعامًا لأولادها الصِّغار!

 

وبلا أدْنَى إرادةٍ منه قام كما طلبتْ بعدَما هوتْ بعصاها الغليظة فوقَ رأسه في عُنف غير متوقَّع جعَل هامتَه تقطُر دمًا فوق وجهه الذاهل وملابسه المبلَّلة، ثم توجَّه نحو الجوال فحمَله رغم ثقلِه ورائحتِه العَفِنة وما يَسيل مِن ثقوبه مِن مادة سائلة لم يعرفْ ما هي، لكنَّه خمن أنها دَمٌ..

 

ثم مشى خلفها بينما ظلَّ الجوال مشدودًا بالحبل إلى وسطها..

 

أخذت تجذبه خلفَها في قسوةٍ بالغة وعنفوان مفاجِئ، ودون إرادةٍ منه تبعها وهي تقودُه في ممرات المقابر المتعرِّجة حتى وصلتْ إلى صخرةٍ عملاقة تقَع وسط مقابر قحافة!

 

إنَّه يعرف تلك الصخرة جيدًا كما يَعرِفها جميعُ أهل قريته؛ إنها الملعونة!

 

هكذا يُسمُّونها، وكم نسجوا حولَها مِن خرافات وأساطير!

 

فبعضُهم يدَّعي أن تحتَها كَنزًا فِرعونيًّا كبيرًا، وأنَّ مَن يحاول إخراجَه تُصيبه لعنةٌ تنتهي به إلى الجنون، ثم الموت بلا سببٍ معروفٍ، وكم مِن حالات جنون وموت واختفاء مباغِتٍ نُسِبتْ إلى هذه الملعونة!

 

وبعضُ الناس يؤكِّد أنَّ تحت هذه الصخرة العملاقة وكرًا للشياطين يَنشَط ليلاً تحتَ جُنح الظلام، ثم ينتهي كلُّ شيءٍ عندَ الصباح.

 

ويذكَر آخَرون أنَّهم في المرَّات القليلة التي اضطرُّوا فيها لدفنِ موتاهم ليلاً عندما مرُّوا بهذه الصخرةِ سمعوا أصواتَ صراخٍ وهمهماتٍ غيرَ مفهومة، وأصواتَ استغاثة مستمرَّة تنبعث مِن تحت هذه الكتلة الصمَّاء المحفوفة بالأسرار، لكنهم هرولوا مسرعين في الابتعادِ عنها، رافضين الاستجابةَ، أو حتى النَّظَر إلى هذه الملعونة مَكْمَن الخطَر وموطن الهلاك.

 

وجَد نفسَه فجأةً منقادًا إلى هذه الصخرة رغمًا عنه، ثم توقَّفتِ العجوز أمامَ الصخرة مباشرةً وفكَّتِ الحبل المربوطَ بوسطها، ثم تَصلَّب شَعرها فجأةً كرماح مشرعة نحوَ السماء، وأخذتْ تُحملق فيه بعَينيها الحمراوين اللامعتين، ثم أخذت تدكُّ الأرض بعصاها الغليظةِ وتَصرُخ بكلماتٍ غير مفهومة، استطاع بما تبقَّى له من عقل أن يفهمَ أنَّها كانت تُنادي بها أبناءَها.

 

نظَر الشيخ حوله إلى الوجوهِ التي تُحمِلق فيه منجذبين إلى حكايته التي سَمِعها الكثيرُ منهم، لكنَّهم لا يملون مِن تَكرار سماعِها بنفس القدْر مِن الشغف.

 

سأله أحدُنا عمَّا يذكُره مِن كلماتِ تلك المرأة، فذَكَر بعضَ هذه الكلمات غير المفهومة، مثل: " شولة.. فولة.. كولة.. هولة.. "، وذكر لنا كيف أنَّه فجأةً سمِع ضجَّةً رهيبة، ورأى الصخرةَ تنشقُّ ليخرج منها عددٌ كبير مِن المخلوقات الصغيرة الراعبة في حجمِ القرود، لها أذيالٌ معقوفة مثل أذيال الكلاب، ولها أيضًا قرون كقرون الكباش، وبعدَ خروجهم انغلقتِ الصخرةُ ثانية، وأخذت هذه المخلوقاتُ الراعبة تتقافز حولَ المسكين الذي ما زال متسمرًا في مكانه لا يَستطيع حتى أن يُلقِيَ عن كاهله حملَه الثقيل!

 

ظلَّتِ العجوزُ تردِّد كلماتِها بصوتٍ أعلى: "شولة.. فولة.. كولة.. هولة"، بينما ردَّد أبناؤها في طوافِهم حولَ الضحيَّة المستسلمة: "أُمُّنا الغولة... أمّنا الغولة.... أمُنا الغولة...".

 

ثم إنَّهم أمسكوا بالحبلِ الذي ما زال مربوطًا بالجوال المنتفِخ، وأخذوا يَجذبونه بقسوةٍ أثناءَ طوافهم، فدار الرجلُ حولَ نفسه مستجيبًا لهم في طواعيةٍ لا مفرَّ منها، ثم بَدؤوا يَطعنونه بأظافرِهم الحادَّة الطويلة التي تُشبِه الخناجر، وهم يَقتربون منه شيئًا فشيئًا، ولولا عنايةُ الله التي أنقذته فجأةً لكان في عدادِ الهالكين القُدامى الذين رحلوا عن قريتِنا في ظروفٍ غامضة دون سابقِ إنذار.

 

انطلقتْ فجأةً حناجرُ المؤذنين تشقُّ عَنانَ السماء؛ لتعلنَ عن ميلادِ فجرٍ جديد ولتنقذ المسكين مِن موتٍ محقَّق كان على مشارِفِه.

 

كانت عبارات النِّداء الإلهيِّ كطلقاتٍ نارية أُطلقتْ على هذه المخلوقاتِ اللَّعينة، فأخذت الأمُّ تدور حولَ الصخرة وتبعها أبناؤها يَتقافزون في جنونٍ، ويَنطحون الصخرة كأنَّهم يُريدون شقَّها مِن جديد وهم يهتفون.

 

أتأخرنا.. افتح افتح يا إبليس.

 

أتأخرنا.. افتح افتح يا إبليس.

 

بينما وجَد نفسه يسقُط مغشيًّا عليه من هولِ ما رآه وسَمِعه، ولكثرةِ ما نزَفه مِن دِماء، وفي الصباح، استفاق ليجدَ نفسَه فوقَ حماره لا يَعرِف أين ولا إلى أين، ولا مَن ذلك الذي يركَب خلفَه يُمسِك به بكلِّ قوَّة؛ خوفًا عليه مِن السقوط وهو في هذه الحالة التي يُرثَى لها.

 

وبعد يومين أو يَزيد أفاق بعدَ شوطٍ طويلٍ مِن الهذيان؛ ليجد نفسه فوقَ سرير نظيفٍ في مستشفى الفيوم العام، ثم تأمَّل وجوهَ أهلِ قريته مِن حوله وراقب عيونهم التي باتتْ ساهرةً بجواره بين حَيرةٍ وخوفٍ ورجاءٍ.

 

مضَتِ الأيامُ ثم عادَ أخيرًا إلى داره بَعدَ أنِ الْتأمَتْ جروحه الغائرة التي لم يعرف حتى الآن سببَها، وفسَّر الأطباءُ انقطاعَه عن الكلام فجأةً بأنَّه صدمةٌ عصبيَّةٌ عنيفة، أما ظهره الذي تقوَّس وهو ما زال في رَيعان شبابه فقد بقِي سِرًّا مِن الأسرار الغامضة، لم يُفلح الطبُّ أو السِّحر والشعوذة في فكِّ طلاسمِه، وبعد عامين مِن اليأس باع أخوه ذلك الحقلَ المشؤوم، وذَهَب به لأداءِ فريضةِ الحجِّ راجيًا مِن الله أن يتمَّ على أخيه نِعمة الشفاء، وقدْ كان ما أراد!

 

يَحكي الشيخُ كيف أنَّ لسانَه انطلق فجأةً بالتلبية أثناءَ طوافه حولَ الكعبة، وكيف أنَّ أخاه عاد به للقرية عودةَ القائِد المنتصر الذي كان سببًا في إنقاذِ أخيه بعدَ طول يأس مِن براثنِ الموت، أخيرًا اعتدَل الظهرُ ليعودَ لشبابه مِن جديد، ونطَق اللِّسان ليرويَ تلك الأسطورةَ العجيبة التي صدَّقها الكثيرون منَّا.

 

حكَى لنا الرجلُ بعدَها عن أخيه الذي أكَّد أنَّه في تلك الليلة الغامضة قدْ أيقظتْه زوجةُ أخيه الصارِخة بطرقاتٍ متتالية قُبيلَ الفجر لتخبرَه أنَّ حمارَ أخيه قدْ عاد مِن الحقل إلى المنزل نافرًا مقطوعَ الحبل، وأنَّه وقَف أمام بابهم ينهَق بشكلٍ غريب ويرفس في الهواء بلا داعٍ، تَمكَّن الأخُ مِن السيطرة على الحمار النافِر، وسارَا به إلى الحقل، تبعتْه زوجةُ أخيه وبعضُ الجيران الذين استيقظوا بيْن صُراخ ونهيق!!

 

وهناك وجدوا أنَّ الماء قدْ فاض عن حقلِ بطلِنا المسكين، وأغرَق الحقولَ المجاورة، وبحثوا عنه في الحقل مع أوَّل خيوطِ الفجر دون جَدوَى، ثم إنَّ أحدَهم لاحَظ وجودَ أثرٍ لدماء فوقَ الطريق، فتتبعها الجميعُ ليجدوا المسكينَ مغشيًّا عليه بجوار تلك الصخرة الملعونة! لكنهم لم يَجِدوا - كما زعم - أيَّ أثر لشولة أو فولة أو هولة أو كولة، أو حتى أمّهم الغولة، حتى الجوال الذي ادَّعى أنه مصدرُ الدماء التي تَتبَّعوها لم يَجِدوا له أيَّ أثر، وادَّعوا جميعًا أنها كانت دماءَه، ثم إنَّهم لم يُلاحظوا أيَّ شقٍّ في هذه الصخرة التي كانتْ وما زالت كتلةً واحدة ملساءَ.

 

شَمَّر الشيخُ عن ساعده ليرينا آثارَ الطعناتِ النافذة، وأخبَرنا أنَّ جسدَه ما زال مملوءًا بهذه الآثارِ التي ترَكها أبناءُ الغولة في جسدِه للأبدِ؛ دليلاً على صحَّة رِوايته.

 

أخيرًا غابتِ الشمس، وانفضَّ مجلسُ الشيوخ لأداءِ الصلاة، بينما بقِي أحدُ الأطفال متسمرًا مكانَه؛ يَخشى حتى أن يقومَ فيدخل الخلاءَ بمفردِه؛ فقد أدركَ فجأةً أننا لسنا وحْدَنا في تِلك الحياة!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • عصيان.. (قصة قصيرة)

مختارات من الشبكة

  • الحكاية الشعرية: حكايات أحمد شوقي نموذجا(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • حكايات العلماء لسعيد بن سعد آل حماد(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • حكايات قصيرة (قصيدة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الخصائص البلاغية في حكايات شوقي المنظومة للأطفال(كتاب - حضارة الكلمة)
  • مع العشر الأواخر لنا حكايات(مقالة - ملفات خاصة)
  • حكايات طبيب في ألمانيا(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • حكايات اليم (1)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • حكايات حفصة (قصة للأطفال)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • فرنسا: كتاب يرصد حكايات المسلمات مع ارتداء الحجاب(مقالة - المسلمون في العالم)
  • إيطاليا: حكايات الجيل الثاني من أبناء المهاجرين المسلمين(مقالة - المسلمون في العالم)

 


تعليقات الزوار
3- مبدع دائما
الشيخ محمد - السودان 12-06-2013 02:41 PM

ما شاء الله يا أستاذ ما هذا الإبداع

2- مبدعٌ !
أحمد الدماطي - مصر 15-02-2013 06:37 PM

لك تحياتي أخي العزيز حسن على هذا الإبداع المتميز، دمتَ نضّاحًا بالكلمات الراقية.

1- موفق
د.وجيه كمال الدين 16-12-2011 06:56 PM

موفق أ.حسن الأديب الشاعر

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 18/11/1446هـ - الساعة: 8:24
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب