عالم الحيوان

منذ أيام وحالة الأسد "رشيد" ملك الغابة غيرُ مُطمْئنة وغريبة، الأسد "رشيد" يفرض نفوذه وملكه على الغابة من فترة طويلة، ومشهود له بالحكمة والعدل والنزاهة والقوة، إلا أنه منذ عدة أيام أصبح شاردَ الذهن، يستيقظ صباحًا ويذهب إلى أعلى التل الواقع على أطراف الغابة والمطل على مدينة البَشَر، ويجلس هناك حتى الغروب وربما أكثر أحيانًا، يحملق في مدينة البشر ثم يعود إلى عرينه دون نطق كلمه واحدة، ثم ازدادتْ أمور ملك الغابة رشيد عجبًا؛ إذ استدعى أخاه "أبا السباع" وأوكل إليه مهام حُكم الغابة وحل مشاكلها، حتى ينتهي مما يقوم به.

لا أحد في الغابة يعلم ماذا يشغل الأسد رشيدًا، حتى أبو السباع أخوه نفسه لم يكن يعلم، ولا أحد يجرؤ أن يسأل الأسد رشيدًا عما يفعله، الوحيدة التي سألتِ الأسد رشيدًا كانت زوجته، التي اكتفى أن ينظر إليها نظرة نارية حادة، جعلتْها تصمت وتنزوي في أحد أركان العرين.

ومرَّتْ أيام أخرى على نفس الحال، إلا أن الأسد رشيدًا طلب من أخيه أن يرسل إلى كبير القرود ليقابله على التل، وبالفعل تم إحضار كبير القرود وتمت المقابلة؛ بل وظلتْ تتكرر بشكل يومي، إلا أن الجديد في الأمر أن الأسد "أبا السباع" كان يذهب إليهما في ساعة الغروب ليعودا معًا بعد أن يتبادلا القليل من الكلام.

ظلت الأمور على نفس المنوال، لا تزداد إلا سرية، وتسير من عجيب إلى أعجب، إلى أن صدر أمرٌ ملكي بأن أي بشرٍ يمر من الغابة لا يتم أكلُه أو قتله، حتى لو كان صيادًا؛ بل يتم حصاره وإبلاغ كبير القرود، الذي يأتي بثمرة جوز هند ويضرب بها هذا الإنسان فيفقده وعيه، ثم يحمل إلى بيت كبير القرود، والمفاجأة أنه يمكث هناك عده أيام، ويخرج سليمًا معافًى دون أن يمس بسوء.

وعند هذا الحد سَرَتْ همهمات خفية بين الحيوانات، منخفضة أحيانًا ومرتفعة أحيانًا، ربما كان مصدرها الثعالب أو الذئاب أو النمور، على العموم، وأيًّا كان مصدرها، فإن الأسد أبا السباع المخلص نجح في امتصاصها جميعًا والسيطرة على الأمور، وإخراس أي لسان يتكلم عن الأسد رشيد أو سلامة قواه العقلية.

ثم مرت أيام أخرى، وفعل الزمان فِعلَه المعروف في انكشاف الأمور، وكما يقول المثل: "الخبر اللي النهارده بفلوس بكره يبقى ببلاش"، إذ قام الأسد بإعلان كبير في الغابة يطلب فيه الاجتماع مع ملوك وأمراء الحيوانات المفترسة والكبيرة في الغابة؛ لإعلان خبر هام وسارٍّ لكل الغابة.

وأقيم الاجتماع في اليوم الموعود، حضر لفيف من أهم حيوانات الغابة، على رأسها، عائلة الأسد بالكامل برئاسة رشيد وأبي السباع، وزعيم النمور وأولاده، وزعماء الثعالب والذئاب والضباع والأفاعي والتماسيح والكلاب والأفيال، وبعض المفترسين الآخرين، وبالطبع زعيم القرود.

وبدأ الاجتماع الكبير، واعتلى الأسد رشيد جذع شجرة قديم، وبدأ يتحدث للحضور:
• أرحب بكل الحضور، وأشكركم على تشريفي، أعلم أن غيابي في الفترة الأخيرة كان مثار دهشة لكم، لكنكم تعلمون مدى إخلاصي وحبي للغابة ولكم، لقد راقبتُ عن كثب المدينة التي تطل عليها غابتُنا، وهي كما تعلمون عاصمة لإحدى دول البشر، ولقد راقبت كثيرًا كثيرًا أفعالهم، لقد رأيت حفلات يقيمها ملكهم عليها موائد من طعام تكفينا وحدها لسنوات، ورأيت مزارع يملكونها بها حيوانات تكفي لإطعامنا سنوات عديدة أخرى.

قاطعه كبيرُ الذئاب وقد بدأ لعابه يسيل:
• هل تقصد أن نسرقها؟

ابتسم الملك رشيد ابتسامة ذات مغزى، وبدأ يشعر أنهم سيتقبَّلون كلامه، وأن كلامه صادف هوى في نفوسهم، ثم نظر إلى زعيم الذئاب قائلاً:
• صديقي زعيم الذئاب، إذا هجمْنا على هذه المزارع فستكون مخاطرة كبيرة، وسيموت ويصاب منا الكثير، ولن نهنأ حتى بأكلة واحدة، إني أنظر لتكون هذه المزارع لنا على الدوام.

بدأ لعاب الجميع يسيل، وبدأ الملك رشيد في النظر إليهم؛ ليتأكد أنهم سيتقبلون كلامه القادم، والحق أنه كان يبطئ أحيانًا في كلامه ويُعلِي صوتَه أو يخفضه؛ حتى يحمس الجميع لكلامه، والذي سيبدو لهم من أعجب ما سمعوه في حياتهم، ثم أكمل:
• سنكون نحن ملوكَ البشر، هذه المزارع ستكون لنا للأبد، وهم الذين سيقدمونها لنا بأيديهم.

سرتْ همهمات وصيحات ودهشات من جميع الحيوانات الموجودة، ولكن الملك رشيدًا أكمل:
• لقد اجتمعتُ مع كبير القرود، وأرشدني لطريقة سحرية، تمكنا من الاندماج مع البشر، ستحل أرواحنا في أجسادهم، ومن ثم نسيطر عليهم ونتحكم فيهم.

بدا على الجميع الدهشة، التي أمسكتْ ألسنتَهم جميعًا، قبل أن يفيقوا من دهشتهم، أكمل الملك رشيد:
• غدًا موعد الرحلة السنوية لملك البشر، التي يخرج فيها للاصيطاد البري من غابتنا، سأندمج أنا معه، ومن ثم سأفتح لكم الأبواب لتدخلوا وتندمجوا مع من تريدون.

على الرغم من حالة الذهول التي أصبحت عليها الحيوانات من فرط دهشتها، إلا أن زعيم الذئاب استجمع نفسه وصاح:
• هل تريدنا أن نصبح بشرًا على آخر الزمان يا ملك الغابة، إنه أمر شائن لنا لا نرضاه، ألا ترى أن البشر يخافوننا ويحذرون منا ونحن لنا الغلبة عليهم و....؟

لم يدَعْه الأسد رشيد يكمل كلامه، زأر في قوة أرعبتْ كلَّ الموجودين وأجبرتْهم على الصمت، وصرخ قائلاً:
• أنا لم أقل: إننا سنصبح بشرًا، فقط سنتخذ أجسامهم كوعاء لنا، أشكالنا فقط هي التي سوف تتغيَّر، وإذا كان البشر يخافوننا الآن، فبعد أن طوَّروا أسلحتهم وفنون الاصطياد لديهم أصبحنا كلنا مهددين بالخطر، أفيقوا يا زعماء، سأبدأ أنا بالتنفيذ، فقط أردت الخير للجميع، أنا أحكمكم منذ فترة طويلة وتعلمون مدى إخلاصي لكم وللغابة، من يردْ أن يكون معي فليتكلَّم، ومن لا يرد فلينصرف، لا شأن له بهذه الخطة.

وساد الصمت مرة أخرى المكان، الوحيد الذي بدأت عيناه تلمع بقوة أكثر هو زعيم الثعالب، الذي حسم أمره وصاح:
• أنا معك يا ملك الغابة، أنا أول المشاركين، لقد ظلمَنا البشرُ واستحوذوا على النعيم وحدهم، وحان الوقت لنقاسمهم فيه.

وكان اشتراك وموافقة كبير الثعالب بمثابة الشرارة التي جعلت الجميعَ يتصايحون بالموافقة، وفي النهاية وافق الجميع بمن فيهم زعيم الذئاب.

وعقد في نهاية هذا الاجتماع عدة اجتماعات منفردة لكل زعيم على حدة مع ملك الغابة، واتفقوا على مناطق النفوذ والسيطرة داخل دولة البشر، التي بعد أن يكون الأسد ملكًا لها ستكون الدوله كلها تحت سيطرته، وقد حدَّد كل منهم منطقة يريدها، إلا القرود والثعالب، فقد طلبوا من ملك الغابة أن يسمح لهم بالعمل دائمًا في خدمته كمستشارين ووزراء له.

وسارت الأمور كما كان مرسومًا لها بالضبط، فقد حضر الملك - البشري طبعًا - ومعه بعض خاصته وبعض مستشاريه في رحلة الصيد السنوية التي يقوم بها، قام بعض القرود بإلقاء مادة كان زعيم القرود قد قام بتحضيرها، جعلت الجميعَ ينام نومًا عميقًا، وهنا هبط الأسد ومعه زعيم القرود وزعيم الثعالب، وبدأ في رش موادَّ معينةٍ مع بعض الكلمات غير المفهومة، وهنا بدأ الأسد يختفي، وكذلك الملك، ثم يعودا للتكوُّن مرة أخرى في صورة الملك البشري، وسط ذهول الجميع كالعادة، وبدأ الملك الأسد يكتشف قواه الجديدة، إذ كان يستطيع أن يتكلَّم بلُغة البشر، كما يستطيع أن يتكلم بلغته التي يفهمها الحيوانات، إضافة إلى ذلك كان ما زال يمتلك قوَّته كما هي، إلا أنه يشعر ببعض الصداع.

وسارت الأمور بعد ذلك على أفضل ما يرام، تمكَّن الملك رشيد من إحكام قبضته على القصر، وتحويل كل من فيه إلى ما يريد، وتم تحويل الأسرة الحاكمة بكاملها إلى عائلته من الأسود، وتم تحويل الوزراء والقضاة من القرود، والمستشارين من الثعالب.

وبعد أنِ استقرَّ الحكم للملك الأسد، بدأتْ عملية التحويل الكبرى، كان الملك يصدر أوامره للحرس بمحاصرة قرية معيَّنة في مملكته، ويمنع أهلها من التجول، وعندما يأتي المساء يذهب كبير المستشارين - كبير القرود سابقًا - ويرش القرية بالمادة المنومة، ثم يتسلل لها الحيوان الذي اتفق مع الملك الأسد سابقًا أن تكون هذه منطقة نفوذه، كالثعبان، أو الفيل، أو الكلب، ثم يقوم كبير المستشارين بإجراء عملية التحويل ليحصل الاندماج بينهم، وتم كل شيء على ما يرام، وتحوَّل الناس في المملكة إلى حيوانات، أو العكس، في النهاية أصبح الناس في المملكة هجينًا عجيبًا، أشخاص لهم شخصية وسلوك الحيوانات، رجل أفعى، أو كلب، أو رجل ثعلب، وأحيانًا رجل حمار أو ثور، نعم، فأحيانًا عندما يرش كبير المستشارين القرية يكون هناك أشخاص نائمون في حظائر الحيوانات، فيندمجون معها، أو شخص لديه في المنزل دجاجة، أو عصفور، أو خروف، فيندمج معهم أيضًا.

وسارت الأمور كما رسمها الملك الأسد، وعاشت الحيوانات البشرية براحة تامة، وأصبح لهم السيادة والنفوذ، الأكل والشرب وفير، وما تبقَّى من البشر يعملون لديهم كالعبيد، ولا سيما البشر الذين تحوَّلوا إلى حمير.

ولكن نحن نعلم جيدًا أن الزمان يدور، ولا شيء يبقى على حاله، فما هي إلا سنوات قليلة، وقرَّر ملك المملكة الخضراء المجاورة لمملكة الملك الأسد أن يستولي عليها، وجهَّز لهذا جيشًا كبيرًا، وعددًا كبيرًا من المعدات الحربية الحديثة، وخلال هجمة مباغتة، استطاع أن يهاجم مملكة الملك الأسد ويستولي عليها، وحدث هرج ومرج كبير في المملكة، وهرب أعوان الملك الأسد إلى القرى المجاورة، وتركوه وحده يواجه مصيره، ونجح ملك المملكه الخضراء أن يطيح بالملك الأسد ويقضي عليه وعلى كل الموجودين ساعتها في القصر الملكي.

جهَّز المستشار القرد وزعيم الثعالب معًا قرارًا أذيع لأعوانهم وأصدقائهم بسرعة البرق، هذا القرار يتلخص في أن يختفوا وسط الناس، يختلطوا بالعامة؛ حتى لا يعرف أنهم أهل السطوة والنفوذ سابقًا، وخاصة الملك فيُقتَلوا، وأغلب الناس الحيوانات حينما سمعوا هذا القرار قاموا بتنفيذه ونجحوا في الاختلاط مع الناس، واختفوا بالفعل بينهم، ولم يعد يعرفهم أحد، إلا إذا عاشرهم كثيرًا، فكم سمعنا عن رجل حمار، وكم سمعنا عن رجل ثعلب، ماكر وداهية، وكم سمعنا عن رجل ثعبان، ليس له أمان وأن لدغته مميتة، وأحيانًا - أو قُلْ: نادرًا - ما نسمع عن رجل مخلص وأمين كالكلب، المهم أنهم بالفعل اندمجوا داخل المجتمع ولم يعد يعرفهم أحد، ومع الزمن نسوا أنهم كانوا في الأصل وحوشًا ضارية، وجيلاً بعد جيل نسوا أصلهم، ولم يتبقَّ لهم منه إلا صفاتهم الحيوانية مع أشكالهم الإنسانية.