• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة
علامة باركود

الشارع (قصة قصيرة)

الشارع (قصة قصيرة)
سواري العروسي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 26/8/2015 ميلادي - 11/11/1436 هجري

الزيارات: 12577

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الشارع


نور حاول كتابةَ القِصَّة منذ سنين خلَت، بدأَت مغامرته في هذا المجال في السَّبعينيات حيث كان آنئذ مراهِقًا، لم تكن قصصه خاضعةً لقواعد كتابة القصَّة كما هو متعارَف عليه أدبيًّا.


كتبوحكى على الورق أولَ الأمر عن فتاته المراهِقة التي دخلَت قلبَه، وجيَّشَت مشاعرَه، وغيَّرَت حياته، تمَلَّكَهُ العِشق في سنٍّ مبكِّرة، وراح يحلم بفردوسٍ يتحقَّق بشرط حُبِّ فتاته له ووجودِها أبدًا إلى جانبه، بالمختصر الشديد: كانت كتابتُه تقول عنها: فتاة بجمال جذَّاب.


أهدى لها يومًا زهرةً بيضاء برائحة طيِّبة قطفها من الشجرة التي وقفَا تحت ظِلِّها لأول مرَّة، تقبَّلَتْها وابتسمَت، فارتسمَت تحت خدَّيها حفرتَا جمالٍ صغيرتان، دَسَّت في يده ورقة مطويَّة واندفعَت من تحت الشجرة إلى الأمام كحمامة خائفة باتِّجاه منزل أبيها دون أن تنبس بكلمة، فانقشعَ شعرُها تحت أشعة الشمس، عيناها سودَاوان واسِعتان، تمشي بحِشمة ووقارٍ وجدٍّ، لا تسرق النظرَ عن قُرب، تمشي بخطوات محتشمَة وكأنَّ الطريق ملكك أنت، تَعبث الرِّيحُ بشعرها الرَّطب النَّاعم الطويل الأسود فترفع انسدالَه على جبهتِها برفقٍ لينسحب عن عينيها.


بدأَت تكتب إليه رسائلَها وتطلب منه الإجابةَ عن أسئلتها، كانت فرصته ليكتب رسائلَه الغراميَّة إليها، اجتهد في التعبير عن مشاعره ورغباتِه ومتمنياته، فوجد نفسَه مشدودًا إلى قراءة القصَّة الغرامية شَدًّا قويًّا، فقرأ لمختلف الروائيين والقَصَّاصين العرب؛ منهم إحسان عبدالقدوس، وجورجي زيدان، ويوسف السباعي، وبنت الشاطئ، وتوفيق العلايلي... وغيرهم كثير، تعلَّم رسم المفاتيح والقلوب وتلوينها بلونِ الحُبِّ، في نفس الوقت شرع في كتابة الشِّعر عن الأمومة وعن فلسطين وعن الصهيونيَّة وعن المغرب.


مع مرور الوقت، اضطرَّ لمراجعة فِكره، لم يَعد يرى جدوى في إضافة كتابته إلى ما كَتب العربُ عن فلسطين وقدأَبرم بعضُ أهلها عَقدَ صلحٍ واعتراف بإسرائيل والتطبيع معها، وُئدَت اللاَّءات الثلاث، فانجرَّ أغلب حكَّام العرَب في نفس الاتجاه، ولسانُ حالِهم يقول: لا يمكن أن نكون فلسطينيِّين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، لم ولن تكتفي إسرائيلُ بهذا المكسب الذي طالما حلمَت به وهي البارعة في تَسويق مظلوميَّة اليهود إلى العالم كلِّه، وها هي الآن تطلب من المنبطحين الاعترافَ بيهوديَّة دولتها، وهذا أمر خطير جدًّا يترتَّب عليه إذا تَحقَّق محو كلِّ ما هو إسلاميٌّ عربي من بلاد فلسطين بحجَّة يهوديَّة المكان والإنسان، رسَخَت لدى نور قناعة أنَّ البلد المغتصَب بحاجة لبنادق ودِماء أهلِه وليس للشِّعر والدبلوماسيَّة الغبيَّة الحمقاء، ولتَشِحَّ الأقلامُ كلُّها أو تنكسر.


توقَّفَ عن الكتابة، لم يعد يكتب عن أيِّ شيء، لكنَّه لم يترك قراءةَ القصَّة القصيرة والرِّواية الاجتماعية والسياسيَّة، والجرائد اليوميَّة والمجلات الأسبوعية والشهرية، انصبَّ اهتمامه بشكلٍ خاص على الكتب السياسيَّة والفلسفيَّة.


ماتَت أمُّ نور دون أن تتحقَّق لها أغلى رغبة في الحياة؛ وهي رؤية ابنها الذي تمَّ اختطافه منذ السبعينيات.

 

رغم أنَّها كانت طالِبة جامعية، كانت تكره السياسةَ وتكره القضايا التي شغلَت عاشقها وأخذت منه الوقتَ الذي ترى تخصيصه لها أولى، أرادت تتويج علاقتهما بالزَّواج ولم يكن هو مستعدًّا لذلك بعدُ؛ لأنَّه كان ينتظر اعتقالَه في أية لحظة، لم يفلِحا في الحفاظ على علاقتهما، وانتهَت بزواجها من شخصٍ رأسه فارغ إلاَّ من رياضة الكاراتيه، انتهى حبُّه للجنس الآخر، كانت هذه بعض الشذرات من أول فصلٍ من فصول حياة نور.

 

بدأ فصل حياة نور الثَّاني بانشغاله بالسياسة، لكنَّه لم يجد انتماءً يعبِّر من خلاله عن مواقفه، كانت الأحزاب تشتغل في إطار اللعبة السياسيَّة التي يرسمها لها النِّظام، ولا يمكن لأيِّ حزب قانونيٍّ التفكير في تجاوز خطوطها الحمراء، شكَّل مع ابن خالته وصديقِهما محمد خليَّةً سرِّيَّة ماركسيَّة لينينيَّة، كانوا يلتقون ويناقشون الأوضاعَ السياسية وسُبل التغيير الثَّوري.

 

اشتغل في التعليم وكان يَعمل على تدريس تلامذته والمساهمة في تربيتهم تربيةً سياسيَّة ثورية، كان يقوم بتحريضهم على الدخول في العمل السياسي والمشاركةِ في الانتفاضات الشعبيَّة، مارَس العملَ النقابي، وكان من روَّاد النقابيين الذين كانوا يحرِّضون الأساتذةَ العاملين بالمؤسَّسة التي يَعمل بها للدخول في إضرابات عامَّة، كان يتم ذلك بغطاءٍ نقابيٍّ، ومع ذلك كان مدير المؤسَّسة المنتمي لحزب الاستقلال يهدِّده بالوشاية به إلى السلطات، وأحيانًا يُخرج جزرته فيحبِّب له الانتماء إلى حِزبه التاريخي الرَّزين ويعرض عليه المصاهرة.

 

انخرَط في جمعيَّات الدِّفاع عن حقوق الإنسان وناضَل في صفوفها، الشيء الذي جعلَه يدرس القانونَ ويحصل على الدكتوراه حول موضوع حمايةِ حقوق الإنسان، اعتُقل لبضعة أيام في حملة مسَّت تيَّار الشبيبة الإسلاميَّة، ولم يشفع له سوى لتر من الخمر كان بحوزتِه.

 

عاد من جديد إلى كِتابة القصَّة القصيرة، لكن هذه المرَّة بشكلٍ وأسلوب جديدَين، يتمُّ فيهما توظيف الثقافة السياسية والحقوقية، بعيدًا عن الانغماس في المواقف المتخيَّلة، وبعيدًا عن الكتابة التي تَجعل من صاحبها الفاعلَ والحكمَ الذي يختار مواضيعَه، ينسج خطوطَه كما يشاء، يصوغ حبكتَها ويعدلها وَفق ما أراد هو وليس كما يَفرضه الواقع، يَكذب على القارئ إن شاء، يحرِّك شخصيات القصَّة ويحدِّد دلالاتها كما يشاء هو وليس كما هي طَبيعتها وظروف تطوُّرها، هذا التوجُّه بات بالنسبة إليه متجاوزًا، ولا بدَّ في مشروع كتابته الجديد من التعامل مع الواقع والاعترافِ بوجوده وباحترامِ ملزماته وحقائقه ومكوناته بكلِّ تعقيداتها، والتحرُّك فيه من الداخل.

 

في جوف اللَّيل ركب نور سيارتَه واتجه صوبَ مركز المدينة، توقَّف بالشارع الرئيسي وأخذ له مكانًا قبالة الحانة التي لا تبعد عن المسجد إلاَّ عشرات الأمتار، كان من وراء خروجه إلى الشارع التقاطُ بعض المشاهد والأفكار لتوظيفها في كتابة قصَّةٍ قصيرة أو قصيرة جدًّا، كاتب القصة الواقعية في الفهم الجديد لنور كالرَّسَّام الواقعي الذي يَنقل واقعَ الطبيعة والأشياء إلى لَوحته ويجعلها تعبِّر عن نفسها، عند الرسَّام الواقعي أو الطبيعي يَخرج الرسام إلى الطبيعة ليحرِّك ريشتَه بغرَض نقل ما هو موجود، في البداية تتحرك الريشةُ في كلِّ الاتجاهات، ومع مرور الوقت تبدأ ملامح محتوى اللوحة يرتَسم رويدًا رويدًا وَفق ما هو موجودٌ في الطبيعة، الكتابة الواقعيَّة كذلك، يبدأ الحَكي بشكلٍ تلقائيٍّ فيعتدل ليصبح نسيجًا وحبكة مستمدَّة من حركة ومواقفِ الشخوص الذين يتحرَّكون في الواقع.

 

أشعل سيجارةً، فتح زجاجَ سيارته وبدأ الإنصات لنبضات المكان، كانت بعض السيارات تمرُّ وأخرى قليلة متوقفة بعيدًا عن بعضها البعض، الجو ساخنٌ بعضَ الشيء، والشارع خالٍ من الرَّاجِلين اللهمَّ إلاَّ شخصًا هنا وشخصًا هناك بين الحين والآخر، الأضواء الكهربائية الثلاثيَّة المصابيح المحدثة على كِلا جانبَي أحد الشوارع الرئيسية للمدِينة تضفي على المكان ضياءً وجمالاً ورونقًا، بين الفينة والأخرى كان روَّاد الحانة يَخرجون إلى الشارع يقفون بعضَ الوقت ليثَرثرون، يتخاصمون أحيانًا ويتعانقون أحيانًا أخرى ثمَّ ينسحبون.

 

كانت جدرانُ وأعمدة العمارات وأبواب الكراجات وأعمدة الحديد الكهربائيَّة... مملوءةً بملصقات شِعارات النقابات العمَّاليَّة المحتفلة بفاتح مايو، لقد أصبح من الصعوبة بمكان تعداد كم تُوجد من نقابة، ومعرِفة كم من حزبٍ يتحكَّم فيها ويوجِّهها، كان صخب وضجيج الحانَة المقابِلة للمكان الذي أَوقف فيه سيارتَه يَخرج إلى الهواء الطَّلق بقوة تشي بأنَّ الحانة مملوءة، نحن في الليلة الأخيرة من شهر أبريل، غدًا فاتح مايو العِيد الأممِي للعمَّال، غدًا تنظم مسيرات تُرفع فيها شعارات تندِّد بالاستغلال الطَّبقي للعمَّال وتطالِب بالزيادة في الأجور وفي حدِّها الأدنى، وتتوقَّف عند قصر البلديَّة مطولاً لتندِّد بالسياسات المتَّبعة محليًّا وكأنَّ بيدها كلَّ شيء، أما الأحزاب فلن تفوِّت الفرصةَ لتعبِّر من أعلى منابرها النقابيَّة عن استقلاليَّة نقاباتها وسَدادِ مواقفها السياسيَّة، ستذكِّر بنضالاتها وتضحياتها وستهنِّئ العمالَ بالمكتسبات التي تحققَت لهم تحت لواء النقابات التي تتحدَّث من منابرها...، غدًا سترى بعض الوجوه النقابيَّة المستفيدة من هبة التفرُّغ تضع على عُنقها وذراعها شعارَ النقابة ولونها، وسترى بعض المناضلين الذين أَفنوا عمرَهم في تنظيمهم النِّقابي يتحرَّكون بصدقِ ووفاء المناضل المتعصِّب الذي يكاد صدقه ووفاؤه لنقابته - وخاصَّة لقائدها الأبدي - يفوق وفاءه لدينِه ولوطنه، غدًا سيضع النقابيُّون على أكتافهم ألوانَ نقاباتهم وينطلقون في مسيرةٍ أصبح جمهورها يقلُّ سنةً بعد أخرى، المسار محدَّد سلفًا من قِبَل السلطات الأمنيَّة التي ترافقها منذ انطلاقِها من مقرِّ النِّقابة حتى عودتها بعد أن تكون قد جابت أربعةَ أو خمسة شوارع.

 

قبل انقضاء فاتح مايو ما زالَت جيوب العمَّال والموظفين على الخصوص دافئة ولم يُثْلِجْهَا أداء الديون بعدُ، الليلة لن تُغلِق الحانات أبوابَها إلاَّ في ساعة متأخِّرة من الليل.


طَقْ طَقْ... طَقْ طَقْ... نقرتان ثُمَّ نقرتان على زجاج نافذة سيَّارته، شابٌّ في مقتبل العمر يضع فوطة على أنفِه، فتح نور نافذةَ السيارة وسأله عن غرضِه، قال الشاب: إنَّه يريد السيارة ليرحل أمه من المستشفى! تفاجأ نور من الطبيعة الغريبة لطلَب الشاب.


• وهل لك رخصة قيادة؟

أخرج الشابُّ قنينة من جيب مِعطفه مملوءة بسائل شفَّاف وفتحها وقال: "ها هي الرُّخصة نِصف ممتلئة، ولكنَّها لا تكفي"، وضع فوطته المتسخة على عنقِ وفم القنينة وأفرغ فيها جرعتين وأعادها إلى أنفه مستنشقًا، رائحة السائل حادَّة جدًّا، بمجرد أن خرجَت من القنينة وخزَت أنف نور وأحدثَت حرقةً في العينين، أدرك نور أنَّ أمر السيَّارة وإخراج الأمِّ من المستشفى مجرد هذيان شمكار ليس إلاَّ.

 

الشمكار في المغرب: شابٌّ أو طفل يعيش في الشَّارع، لكنَّه غائب عن الوجود بفعل مخدِّر السائل الكيمياوي وشمِّ روائح دخان السيارات، يأكل من القمامة وينام في العَراء ولا يغسل أبدًا، يطلَق عليهم مصطلح أطفال الشوارع، عددهم بالآلاف في المغرب، وبمئات الآلاف في الوطنِ العربي.

 

يَنتظم الشمكارةُ في مجموعات قد تَصل إلى عشرين نفرًا، وقد تتكوَّن من شخصين أو ثلاثة، يجوبون المدنَ الكبيرة ويتيهون في شوارعها أثناء الليل، لهم "قائد أو قائدان" يوجهان تيه المجموعة، لا يعرف إن كانت للشمكار عائلة أم لا، في الغالب هو ثمرة علاقة غير شرعيَّة أو ابن طليقين أو... المهم أنَّه يجد نفسَه في الشارع وهو في الغالب صغير جدًّا، الشارع لا يَعرف كيف يلفظه، ليست هناك دُورٌ تهتمُّ بالمشرَّدين، يضمهم إليه ويفتح لهم مجاله الواسع ليمارسوا "حُمقهم" وحياتهم الرَّديئة، يشعرون بأنَّهم منبوذون مهشَّمون ومهمَّشون خارجون عن ضوابط المجتمع، كلُّ مَن وَجد نفسه لاجئًا في الشارع فرض عليه التكيف مع شروط عيشه الخاصَّة جدًّا: الحر أو البرد القارس، العنف، الاغتصاب، الجوع، العراء، الوسخ، السرقة...، ثمَّ السجن، ثمَّ العودة إلى الشارع وهكذا...، لكل شمكار قصته.

 

كانت عيناه مرتخيتين وجافَّتين لا بريق فيهما، تحت اليمنى أثرُ لَكْم أو ضَرب بشيء آخر، من كسوته وجسده تفوح رائحة الديليون والوسَخ وخليط من الروائح المقزِّزة التي لا يمكن تحديد طبيعتها، فتَح نور البابَ الأمامي وطلب منه الدخول إلى السيارة، تردَّد الشمكار وسأل نورًا إن كان رجل أَمن، ردَّ عليه بأنَّه ليس كذلك، غلَّب الشمكار فرضية أن نورًا رجل أَمن فقرَّر ألا يدخل إلى السيارة.

 

• أنا لا أستطيع ركوبَ سيارتك.

• ألم تطلب أنت إعطاءك السيارة لترحل أمك، هيا لنذهب معًا؟

• كنتُ أمزح معك، أريد درهمين فقط.

 

أخرج نور ورقة نقدية من جيبه، ناولها إيَّاه وقال له: "هذه لك فيها حاجتك، اذهب لتشتري ما تأكل، أنا هنا" سأله عن اسمه.

• مصطفى، اللقب: بيكا.

 

انسحبَ بِيكا وهو يَلتفت وراءَه، وهو يسير رأى دوريَّة للشرطة، تسمَّر في مكانه، خبأ فوطتَه من وراء ظهره واحتمى بجذع شجرة، شاهده رجالُ الدورية مختبئًا ولم يتوقَّفوا، واصل مسارَه في اتجاه محل الساندويتش المجاور للحانة.

 

اقترب من السيارة وهو يَلتهم ساندويتشه، خرج نور من سيارته واتكأَ عليها.

• عدتَ، ماذا اشتريتَ؟

• كاشير مع بيضتين والسلَطَة.

• بالصِّحة، أظن أنَّك لا تشتغل، هل تعرف أنَّ غدًا عيد الشغل؟

• أنا لا أبالي.

• هل تعلم أنَّه من حقك أن تعمل؟

• مَن قال لك هذا؟

• مَبادئ واتفاقيات حماية حقوق الإنسان التي صادَق عليها البلد.

 

انفجر الشمكار بالضحك: هاهاهاهاها... أنت تَحلم، وماذا تقول عن الحقِّ في الأكل وعن الحقِّ في السكَن؟

• يبدو لي أنَّك لست شمكارًا بما تعنيه الكلمة!

• قد يكون ذلك صحيحًا.

 

وضع ما تبقَّى من ساندويتشه على الرَّصيف قرب العمود الكهربائي، أدخل نِصف جسده تحتَ مؤخِّرة السيارة، وضع أنفَه في فوهة الأنبوب الذي تقذف السيارة منه دخانها (الشاطما)، شمَّ هواءَ الأنبوب فاسودَّ أنفه وخدَّاه من جرَّاء الدُّخان العالِق به، قام نور بإزاحته برِفق من تحت السيارة وساعدَه على الجلوس على الرَّصيف، أخرج القنينة من جيب معطفه الدَّاخلي من جديد، أفرغ السائلَ بمهارة وتلقائيَّة في فوطته المتَّسخة، وضعها على أنفه وشرع في الاستنشاق بملء رئتَيه، كان يغلق عينيه ويتلذَّذ وَخْز ورائحة السائل الكيمياوي.

 

• سألتُك إن كنتَ تشتغل ولم تجِبني، من أين تأتي بالنقود لشراء الديليون؟

• كان عليك ألا تَسألني هذا السؤال، أنا أسرقُ وأبيع كلَّ شيء وقع بين يدي.

• تأكدتُ الآن بأنَّك لست شمكارًا حقيقيًّا، ألا تكون مخبرًا؟

• أعود بالله من الخزي.

• هل لديك أسرة؟ أين أبوك وأمك وإخوتك...؟


• أنا لا أعرف أحدًا، فقط لديَّ أصدقاء كثيرون، تعرَّفتُ على البعض منهم في دار الخيريَّة الإسلاميَّة، وخرجنا معًا إلى الشارع.

• لو طلبتُ منك حَكي قصتك بتفصيل ماذا تقول؟

• لتر ديليون، وألا تكون بوليسيًّا.

• تبدو في كامل وَعيك، أليس كذلك؟ لم يؤثِّر فيك لا الديليون ولا دخان السيارة، احكِ وليكن ما طلبتَ، وكن على ثِقة تامَّة بأنَّني لستُ رجل أمنٍ، "انظُر، ها هي ورقة تعريفي".

 

وبدأ الحكي:

أنا لستُ ابنَ زنًا ولا ابن الشارع، فقط الظروف هي التي جَعلَتني في هذا الحال، لديَّ أمٌّ رَائعة هي اليوم تعيش في إسبانيا مع إخوتي بعد أن طلَّقَها أبي، الذي تزوَّج هنا بالمغرب.

• ألم تقل لي: إنَّك لا تعرف أحدًا من أسرتك؟

• كنتُ أريد مغالطتك، وهذه ضرورة وسلاحٌ لا بدَّ لابن الشارع من إتقانه للإفلات من إزعاجات البوليس.

 

أخرجَ صورةَ امرأة من محفظة صغيرةٍ، فأخذ يقبِّلها والدُّموع تسيل من عينيه، أراني الصورةَ.

• انظر كم هي أمِّي جميلة، بيضاء وشعرها أشقر، أنا ثاني أبنائها.

• قلتُ له: كلُّ الأمَّهات جميلات، وهل لك صورة لأبيك؟

 

• لا، أبي بوكو فلوس (beaucoup flousse) يعيش مع امرأةٍ تَصغرني سِنًّا، هو لا يَرحمني، وقد أخرجني من مَنزلنا ليسكن فيه هو وزوجته الجديدة.

 

• وأنتَ، لماذا أوصلتَ نفسَك إلى هذا الوضع؟

• كنتُ طالبًا جامعيًّا في كليَّة الحقوق هنا بالمغرب، ولم أُوفَّق في دراستي الجامعية، الدراسة عندنا تميَّعَت وأصبح النَّجاح بالمقابل، عمومًا إن كنتَ ذَكرًا فعليك أن تكون سخِيًّا مادِّيًّا، طائعًا ولاعقا، حتى وإن كنت فتاة ينبغي أن تكوني جميلة ومتفتِّحة ووفيَّة في مواعيدك.

 

• تريد أن أَحكي لك عن حالة أَعرفها جيدًا؟ كان أحد العسكريين يَدرس معنا، وكان لا يحضر المحاضرات إلاَّ نادرًا، لكنَّه عندما يأتي الامتحان، كان يعرض على بعض الأساتذة العشاء في مَطعم متخصِّص في بيع الأسماك، فتكون النقطة والنتيجة، هذا العسكري الذي كان يَستعمل هذه الطريقة المتميزة بالسَّخاء هو اليوم قائد جماعة قرويَّة.

 

أنا لم أنجح لأنَّني لم أكن أستحقُّ البقاءَ في الجامعة وفق ما قرَّر الأستاذ الذي لم يَكن يَحتمل رؤيتي وأنا الذي اكتشفتُ بعضَ أسراره عن طريق الصُّدفة؛ حينما صادفتُه في المقهى يَجلس إلى فتاة تدرس معنا، أعطاني نقطة موجِبة للسقوط رَغم أنَّني حافظتُ على سِرِّه، ما زلتُ أتذكَّر أنَّه كان يجلس إلى رفيقتنا وهما يُقهقهان كالمراهقين.

 

غادرتُ المغربَ لألتحق بعائلتي هناك، حاولتُ التسجيلَ بالكليَّة لكن اللغة الإسبانية خانَتني، لم أكن بمستوًى لغويٍّ يَسمح لي بمتابعة دراستي الجامعيَّة هناك في إسبانيا، خرجتُ للبحث عن عملٍ لكنَّني لم أتحمَّل الألفاظَ العنصريَّة التي كنتُ أواجَه بها، تعرَّفتُ على أحد الشبَّان فامتهنتُ معه السرقة في انتظار حصولي على الإمكانيَّات الماديَّة لأتخصَّص في بيع الحشيش الذي سأستورِده من شمال المغرب، أنا أعرف المنطقةَ والأمكنة التي يُباع فيها الحشيش بالجملة جيدًا، كان أحد مروِّجي الحشيش من أبناء حيِّنا يتقمَّص شخصية وهندام رجلٍ أعمى ليتمكَّن من الحصول على الحشيش ونَقله عبر القطار إلى مَدينتنا دون عناء ليروِّجه من منزله، كانت الأوراق النقديَّة الأكبر قِيمة تتراكم في يَديه بالمئات.

 

في أحد الأيام، لم يكن في جيبي ولا بسيطة واحِدة، فقرَّرتُ البحثَ عن مدخولٍ ماليٍّ كيفما كان مصدره، وأنا أتجوَّل في شوارع برشلونة، شاهدتُ سيارة متوقفة في أحد الأزقَّة الضيقة، اتَّجهتُ نحوها، وبالصدفة وضعتُ يدي على مقبض الباب الخلفي وإذا به يُفتح، شعرتُ ببعض الخوف لكنَّني دخلتُ إلى السيارة وفتَّشتُها، فوجدتُ كراستَي شيك باسم رجلٍ عربي وآلة تَصوير غالية الثَّمن، وضعتُ الغنيمةَ بين يدي وانسحبتُ في هدوء، من هنا بدأَت قصَّة البحث عنِّي، كان أحد الشيكات موقَّعًا ويَحتوي على قدر ماليٍّ معتبَر، حاولتُ صرفَه لكن صاحب الشيك كان قد طلب من البنك غَلق حسابه...، لقد كنتُ غبيًّا، وكانت الجعة سبب ذلك الغباء.

 

"أنت موقوف بتهمة سرقة شيكات!"؛ قالها لي رجل الأمن.

• لهذا السبب أصبحتَ تَكره رجالَ الأمن؟

 

• نعم، الحقيقة أنا أكرههم منذ أن كنتُ طالبًا بالجامعة؛ حيث كنتُ ضحيَّة قَمْعهم، هذه قصة أخرى، لن أحكيها لك اليوم.

 

• تابع يا بيكا.

 

• بعد قضائي سنتين سجنًا نافذة ببرشلونة، قذفوا بيكا إلى المغرب، وهأنت ترى! الحقيقة أنِّي أفضل العيش وراء قضبانهم وليس وراء بحرهم.

 

• ولماذا لا تتصل هنا بمركز علاج المدمنين؟

• الله يجيبك على خير، اتصلت بهم وأعطاني الطبيب موعدًا؛ لكنني اكتشفت أنه هو الذي ينبغي أن يعالَج، بمجرد الحديث إليك يصنفك مريضًا نفسيًّا، أما المركز الذي يشرف عليه، فهو لا يعالج أحدًا، ولا يتصل به شخص واحد.

 

اقترح نور على بِيكا أن يبدأ بالتخفيض من كمية الديليون مقابل بعض الأوراق النقدية من حين لآخر، وافق بِيكا على المقترح لكنه لم يلتزم به؛ ظل بِيكا هو هو ولم يعد ذلك المصطفى الجامعي...





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • يتم بلا موت..! (قصة قصيرة)
  • إن بعض... (قصة قصيرة)
  • حُرية (قصة قصيرة)
  • عهد جديد (قصة قصيرة)
  • أمينة (قصة قصيرة)
  • القبر (قصة قصيرة)
  • جدي (قصة قصيرة)
  • أمير الحي (قصة قصيرة)

مختارات من الشبكة

  • شارع النصر بدمشق ( قصة إنشاء جمال باشا السفاح له )(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الاستدلال بتنزيه الشارع (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • علم مقاصد الشارع (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • بريطانيا: الشرطة تبحث عن مجرمين ضربا مسلمة في الشارع(مقالة - المسلمون في العالم)
  • أنواع المقاصد الشرعية باعتبار الشارع لها وعدمه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فرنسا: الاعتداء على مسلمة حامل في الشارع(مقالة - المسلمون في العالم)
  • شوارعنا شوارع عنا!(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • إيطاليا: التضرر من ذبح أضحية في الشارع(مقالة - المسلمون في العالم)
  • مخطوطة البارع في إقطاع الشارع(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • إسبانيا: عمدة "بادالونا" يرفض صلاة المسلمين في الشارع(مقالة - المسلمون في العالم)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب