• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    التأويل بالحال السببي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

الصلعاء (قصة)

الصلعاء (قصة)
أ. محمود توفيق حسين

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 10/1/2015 ميلادي - 19/3/1436 هجري

الزيارات: 7264

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الصلعاء

(من مذكرات ماري التي سربها الموت)


رأيت في الطريق وأنا أقود السيارة ذلك الرجل المائل للطول الذي يحمل على ما يبدو رضيعًا ملفوفًا، كان يقف عند المطب متوترًا ملهوفًا وهو ينظر للطريق كأنه ينتظرني أنا، كأنه يعرف أني سأمر من هنا، هذا هو الشعور الغامض الذي غمرني في لحظات، الشعور المباغت والمربك بأنني مسيَّرة إليه، كحمامة فقدت وعيها تهوي إلى الأرض رغمًا عنها. لما اقتربت من المطب وهدَّأت سرعتي، وبدا لي فعلًا أنه شاب يحمل رضيعًا على يديه، حمل رضيعه على يد واحدة، وأشار إليَّ بجنون وبرجاء لا يمكن مقاومته، أنزلت نصف الزجاج وأنا في كامل ذعري وتعاطفي مع هذا الذي تعصف به أزمة عنيفة، صرخ فيَّ بكل استعطاف: أقبِّل يدك واحمليني إلى الطبيب، بنتي تموت مني، بنتي تموت مني، عيادته هناك في شارع قريب على اليمين. أشرت له على الفور بالركوب، ومسحت عن وجهي الرذاذ الذي تطاير من فمه، فركب وهو يشكرني بأنفاس متلاحقة ويدعو لي بالنجاة. وأخذ يميل كل قليل على رضيعته في لفافتها ويقبِّلها ويحثها على الصبر، وألَّا تستسلم للموت، حتى مزَّق فؤادي.


أسرعت حتى أنقذ الرضيعة المسكينة من الموت، وصوتي محبوس من الهلع والتأثر لا أملك حتى أن أسأله عما أصابها. ودخلت في الشارع الجانبي الواسع المترب، الذي تشغله في بدايته عمارات حديثة البناء مستوى تشطيبها فوق المتوسط، ثم إن الأمر كما لو كان القلق قد أصابني بسهو فلم أشعر بالوقت والمسافة، لقد تغير ملمح الشارع بالبيوت القديمة، كأن هذا حدث فجأة، لا أعرف إن كان بعد دخولي الشارع بأمتار قليلة أم أكثر من ذلك كثيراً؟ لا أعرف كيف غفلت عن الإحساس بما حولي بسبب التوتر؟ ولكن الأمر بدا لي كما لو كنت أقرأ رواية وقد انعطفت مجرياتها انعطافًا حادًّا، فعجزت أن أخمن إن كان هذا بسبب غرابتها أم بسبب انفراط أوراق غير قليلة من منتصفها. تعجَّبت من أن تكون هناك عيادة لطبيب ماهر في هذا الجزء الكئيب من الشارع، وربما بان هذا في ملامح وجهي، أو في انخفاض سرعتي الذي دل على تراجع حماستي؛ المهم أنه قرأ أفكاري وطمأنني بأن عيادة الطبيب بعد قليل، وهو طبيب بارع عالج كل أطفال العائلة، وقد عالجه هو شخصيًا في صغره من الجفاف، فاكتسبت بعض الطمأنينة في سيري، حتى بعد أن بدأ الانهيار الثاني في المعالم من حولي، وبسبب نفس السهو السحري العجيب، الذي يفقدني تحت تأثير القلق أي شعور بالمسافة والوقت؛ فلقد لاحظت فجأة أن البيوت تتباعد على الجانبين قليلًا عن بعضها البعض، واتخذتْ هيئة أحقر، وفصل بينها خرابات بها تلال من الزبالة والأنقاض، وأراض فضاء يكسوها التراب، وحقول صغيرة مخنوقة بين البيوت والخرابات والزرائب لا أحد يحرث فيها، كأن فلاحيها ماتوا جميعًا اليوم في بيوتهم أثناء القيلولة، كل هذا يمر بي وأنا مسرعة، ولم يكن هناك من الأحياء وقتها في هذا النهار سوى أنا وهو ورضيعته، وبعض الكلاب الهائمة الهزيلة التي تطارد القراد في فرائها، وبدا لي كما لو كان شيء لعين سيحدث هنا تنبئ به المعالم المضطربة.


في وسط هذا الهدوء المشؤوم في هذه المنطقة النائية العابسة، كان الجزع قد بدأ يتسرَّب إليَّ بدلًا منه، إذ بدأ جزعه على ابنته يقل، وقد كان هذا الجزع أنيسي الوحيد في خلوتي معه. وما هي إلَّا لحظات حتى لم يعد به أي جزع، هكذا وجدته عندما نظرت إليه في المرآة وكان إلى حد بعيد جامدًا متأهبًا لأمر ما غاية التأهب، قلبي حدثني بذلك. ولقد كان صوته الذي يصبِّرها ويطلب منها البقاء على قيد الحياة يعوِّض ويخفي عني غياب صوتها. لقد لاحظت الآن أنها لا تبكي، ولا تئن، فهل ماتت في سهوي الذي لا أعرف إن كان قد كان للحظات أم طال لدقائق؟ هل قبل موتها وأعطاه الرب صبرًا في سهوي، أم لا زال تائهًا غير قادر على التصديق؟ أم كان صوتها غائبًا منذ البداية وسهوت عن غيابه، وبِذا أكون مجرد فتاة تعيسة الحظ توقفت لتلتقط من الطريق رجلًا يحمل رضيعته الميتة وقد أصابته لوثة ظن معها أنه ذاهب لإنقاذها؟


لقد شعرت بالهول الذي يمكن أن تشعر به حمامة فاقت لسقوطها في الأمتار القليلة قبيل الارتطام؛ وكنت أشعر بدبيب مأساة خاصة، لا أعرف لها أية تفاصيل، أما الشاب، فجاء في هذه اللحظات مغايرًا لأي فكرة وحشية، لقد كان هادئًا تمامًا مثل المنومين مغناطيسيًا، أو كأبطال الكوابيس الذين لا يخلون رغم بطشهم من الوداعة، لقد فتح الشاب القاسي الملامح زجاج السيارة لآخره، وشم الهواء حتى ملأ به صدره، أخذ هذا النفس العميق بطريقة صوفية آسرة، وبكل خفةٍ ألقى برضيعته.


ضغطت بأقصى ما عندي على الفرامل وأنا أصرخ صرخة واحدة، وكاد وجهي يرتطم بالمقود. لم تكن الصرخة مدوية، كانت أقل مما توقعت، من هول الصدمة كانت ملامح الصراخ أطغى من الصرخة نفسها. ورغم ضعفها أصابتني بالطنين؛ وقلت بأنفاس متقطعة وأنا لا أكاد أسمع نفسي من أثر الصرخة المبتورة على أذنيَّ: البنت.. البنت.. حرام عليك.


قلت ذلك بغير أن أنظر إليه في المرآة، كنت لا أملك القدرة على أن أراه، لقد ذقت القهر في لحظة واحدة، وشعرت أن هذا المجنون الهادئ يشل قدرتي على الصراخ، على الهرب، على اتخاذ أي قرار؛ إنه يفقدني كل شيء، لم أعد أشعر بأني أملك السيارة، أو أملك ثيابي، أو أملك قراري، أو أملك نفسي. وكان عنقي يهتز من الاضطراب، كنت أعي جيدًا معنى أنَّ عنقي في متناول رجل مجنون ألقى برضيعته بكل هدوء، يمكنه ببساطة أن يطبق عليه من الخلف، ويجزّه بغير أي سبب. استجمعت شيئًا يسيرًا من عزيمتي، ورجوته بصوت مذعور ومستعطِف وضعيف أن ينزل ويحمل ابنته حيةً كانت أو ميتة، ثم قلت: لو سمحت، وبكيت، بدموع قليلة ساخنة، فأمرني بهدوء ووعيد أن أمضي وأدعها، فعرضت عليه أن أنزل أنا وألتقطها؛ وكنت قد فكرت في أن أنزل وأطلق ساقي للريح، إن كان لهذا اليوم ريح. وكنت حتى أخشى أن تخونني ساقاي، وأعجز عن الجري، فأقع على الأرض فور خروجي من السيارة. وشعرت أن عليَّ في ساعة النحس تلك مهمةٌ رفيعة يجب أن أؤديها، وهي ألاَّ أصاب بالإغماء من شدة الخوف، لذا كنت أتجنب فعل أي شيء قد يؤدي لانفجار غضبه نحوي، فيزداد خوفي عن هذا الحد الذي يغمرني، فأذهب في الإغماء.


رفض أن أنزل، وسكت قليلًا ثم فجَّر مفاجأته التي فعلًا صارت مقاومة الإغماء بعد سماعها فوق طاقتي، قال إن ما رماه مجرد دمية غشَّني بها، ماذا قلت؟! دمية خدعتك بها. شعرت لحظتها كما لو كنت أخذت لكمة عنيفة على قلبي، وتداعت على مخيلتي ذكريات طفولتي عندما كانت أمي توصيني بنفسي، وألاَّ أسمح لأحد غريب بأن يلمسني، تذكرت ذلك الحرص في عينيها وهي تشرح لي وتشير لجسدي وأزراري التي لا يجب أن يقترب منها أحد، فصعب عليَّ أن يتم الإيقاع بي بعد أن مضى زمن التوصية، فحدثت نفسي بصوت مسموع كأني أندب نفسي وأنا أقول: ما الذي فعل بي ذلك؟! فقال بهدوئه الذي يصل إلى حد البلادة: الشفقة.


بسَّط لي الأمر وقال: إنه يرغب فيما معي من ذهب ونقود وجوالات لا أكثر، ولا يرغب حتى في السيارة، ففرحت وقلت له خذ ذهبي ونقودي والجوالين وانزل، فقال إن هذا كل ما سيحدث، ولكنه سيفعل ذلك عند دراجة نارية ركنها قريبًا من هنا، حتى يفر بالدراجة. وكنت أريد أن أصدِّق فصدَّقت، بل وكنت في قرارة نفسي على استعداد لأن أترك له السيارة على أن يتركني، ويتركني في مكان يمكنني أن أجد فيه مواصلة، ولكن قررت أن أقدم هذا التنازل وقت اللزوم. وكنت مندهشة لكوني لم أتعرض للإغماء حتى ذلك الوقت.


قال إننا سننزل بعد وقت قليل عند مخزن صغير، وقدَّم لي كيسًا وأمرني أن أضع فيه أثناء قيادتي كل ما معي، حتى ينتهي هذا الأمر كله وأرحل لحال سبيلي، وأي صراخ سيؤدي لذبحي مثل دجاجة، فقلت له، وبغير استعطاف هذه المرة، وبغير دموع، قلت: إني راضية بأن يأخذ كل هذا على أن يتركني أعود لأهلي، أعود لهم سالمة وسليمة كما خرجت، وهدَّأت السرعة، وبدأت في وضع غنائمه بالكيس، وعنَّ لي أن أظل محتفظة بقرطي (حلقي) الصغير، لا أعلم لم فعلت ذلك رغم صعوبة الموقف ورخص ثمنه قياسًا بالذهب الذي خلعت والخاتم الألماس، ربما شعرت بأن هذا يضفي عليَّ إحساسًا بالمقاومة أو الاعتراض، حتى سلَّمته الكيس.


بعد قليل كنا قد وصلنا عند بيت بحالة مزرية على الطوب الأحمر، من طابق واحد، وشقة واحدة في الطابق، كان بابه الحديد المرفوع عن العتبة شبرًا يعلوه الصدأ والملح كأنه من سفينة غارقة، وأمرني بركن السيارة عند البيت حتى يطمئن لدراجته النارية، ولم يكن هناك أي دراجة نارية عنده، فبادر لطمأنتي بأن الدراجة بالداخل، سيراها إن كانت ستعمل أم لا، وبالفعل ركنت السيارة رغم أني شعرت أنه كاذب، وأنه لا توجد أي دراجة نارية، ولكنه قد وصل من السيطرة للدرجة التي لا تجعله يبذل أقصى ما عنده للإقناع، وكنت وقتها بدأت أتبصَّر كوني شابة تقع في دائرة خطر معتمة، خطر الاغتصاب. ثم قال بلهجة حاول أن تبدو طيبة، إنه لن يضرني، وكذلك لن يأخذ السيارة، فهو غير مسجل وليس لديه سوابق، ولا يرغب في أن يكون لديه سوابق، فقط هو يريد أن يأخذ مني ما يمكن أن أطلب فيه العوض من الله، وكنت أرغب في تصديقه في أنه لا يريد أكثر مما أخذ، فشجَّعته وقلت له وأنا مسامحة فيما أخذت.


كنت أنتظر ذلك الجلاء، لحظة الإفراج، لحظة أن يضع قدميه خارج السيارة ويمد قامته فأنطلق، ها هو يفتح الباب، ويبتسم لي في المرآة وأنا أهرب من رؤيته، ويقول ستعودين سالمة وسليمة، وأوضحت له قيمة الذهب والخاتم الألماس، ونصحته بألاَّ يفرط في المصوغات بثمن بخس؛ وكان غرضي أن يشعر بالرضا عن الغنيمة وهو يرحل صارفًا نظره عني وعن السيارة، وكنت أشعر أنني محظوظة جدًا، أو أن هناك شيئًا شديد الغباء في مجريات الأمور؛ فليس من المعقول أن يتركني هكذا ويترك السيارة، وأحببت أن أفسر الأمر بأنه شخص قليل الخبرة، وغير مغرق في الشر، لأن هذا ما كنت أرجوه. ولمـَّا فتح الباب عن آخره، وأنزل إحدى قدميه خارج السيارة بتثاقل، كان الهواء الذي اندفع في السيارة أحسن ما شممت من الهواء في حياتي. وفي أثناء هذه اللحظات المنعشة، التي كان يرقص فيها قلبي فرحًا، وكنت أكتم ابتهاجي حتى لا يستفزه، شعرت فجأة كما لو كان حجر قد أصاب مؤخرة رأسي، حتى لم أعد أرى شيئاً. غرقت في الظلام، وكانت هناك دوامة لزجة ودافئة تزحف حتى غمرتني، كان الإغماء في البدء يعطيني وضعًا جنينيًا، كأني في رحم، أو كأن ثعباناً بلعني كلِّي دون أن يكسر لي عظمة، فعشت في جوفه محاطةً بالماء واللُّزوجة، ثم إن أشياء كالخفافيش أخذت تهجم عليَّ وترتد فجأة، وصار الإغماء ككهف رطب قديم، تعيش فيه كائنات هادئة مجنونة منذ آلاف السنين، وفي هذا الكهف كنت أشعر أن بعض هذه الكائنات المجنونة تمضي بي وأنا أجر قدميَّ بينها، ونحن في ضباب مكثف من البخار، وأنا أشم روائح تبعث على الخدر، روائح الطين والتراب، وما علق بالأحجار والأشجار من روائح الوحوش التي عبرت بعد أن حكَّت جلودها، وكذلك كان هناك شيء لطيف كعبق الجذور التي كشفها المطر.


كانت قبضة يد المجرم قد هوت على مؤخرة رأسي، فوجدت نفسي داخل هذا المخزن الصغير ضعيفِ الإضاءة الذي لا هواء فيه، بين صفائح البتومين ومواسير الحديد الزهر، والخيش المقطرن، حسب ما شاهدت بعد أن أفقت واعتادت عيناي على الضوء الضعيف. وكانت رائحة المكان الموحش مخالفة للروائح الطبيعية التي استغرقت فيها في الغيبوبة، كان مكانًا برائحة الصدمة، بالرائحة العفنة للإيقاع بي.


كان وعيي قد عاد لي وهو يضعني على الأرض ويسند رأسي على كومة من الخيش المقطرن وأنا مغمضة العينين، كنت أشعر بذلك بشكل مشوَّش كشعور من حملوه وغيروا موضع رأسه وهو نائم، ثم فتحت عيني المتثاقلتين، فضحك عندما أفقت متمتعًا بأنه خدعني مرة أخرى، كما لو كان الخداع نفسه هو نزوته الأساسية.


ووقتها عرفت أنني سأفقد شرفي، سأصير في مساء الغد، وإن تركني حية، مادة مشاهدة يسهر عليها الناس أمام أحد برامج الفضائيات، ويغمرهم التعاطف والأسى تجاه هذه المسكينة المنخرطة في البكاء التي عتَّم المخرج وجهها حفاظًا على السمعة. ما تخيلت أن أكون ضحية اغتصاب أبدًا، كان الأمر أبعد من الخيال، ولكنه الآن قريب جدًا.


قلت له بلسان ثقيل إنه لم يفِ بوعده، فتحجج بأنه استخسر أن يتركني وهو لم يعرف أنثى مثلي.. أما أنا فكما كنت أشعر أن من واجبي ألا أصاب بالإغماء، صرت أشعر بأن واجبي الآن أن يبدو منفرًا جدًا، لذا لم أرَ في خيلائه إلَّا وحمة سوداء قبيحة في حجم بلحة، وسمه الله بها على عنقه الطويل.

 

إنني على مشارف أصعب كابوس يمكن أن يواجهني كأنثى، سأُقتطف على الفرشة التي يعدها في الحجرة، كأي ثمرة رخيصة ومتاحة، سأنتهك في العتمة وأترك للعار والمهانة، ألملم بعدها جسدي المنهار، ألملمه وأنا في خجل من مواضع جسدي التي تشعر بالتلوث والشناعة، في خجل من مواضعي التي تلومني على أني لم أنتبه لها كما يجب حتى وجدت نفسي تحت المواسير.


وكما يكشف البرق الطرق والمعالم المخفية لشخص عابر في الظلام، في برق هذه الأزمة الخاطف رأيت الآن ما كان معتمًا في قلبي وضميري، إنني الآن أعرف ربي، في برق هذه الأزمة أطلب النجاة ممن طلبت منه النجاةَ أولُ امرأة كانت عرضةً للاغتصاب، وقد كان هذا حتمًا قبل الميلاد. أطلب النجاة، ممن طلب اليهود منه النجاة وهم خارجون من مصر وفرعون وجيشه من خلفهم، وقد كان هذا قبل ميلاد المسيح. أطلب النجاة، ممن نجَّى دانيال النبي من جب الأسود، وقد كان هذا قبل ميلاد المسيح. أطلب النجاة ممن طلب منه المسيح ذاته أن يعبر عنه هذا الكأس، وقال له ( نجني هذه الساعة)؛ الذي كان إلهًا من قبل المسيح، وظل إلهًا وحده على لسان المسيح، إنني الآن يا رب أشهد بأنك آخر، وأنك فوق الكل، وأنه لا أحد يقاسمك شأن الألوهية، فنجِّني بهذا الاعتراف من هذه الشدَّة، نجني، نجني.


وأنا غائبة في توسلاتي التي انهمرت داخلي وأخذتني فلا أعرف كم من الوقت امتدت، سمعت شهقة واحدة، كان لها على نفسي وقع الصوت الآسر لفتح الباب للسجين، ووجدتني أنهض من المفاجأة مستندة على الخيش، وأقترب من الباب لأتلصص عليه، تحملني ساقان ضعيفتان مهتزتان، وأشعر بالدوار، كما لو كنت حيوانًا ولد للتو، شممت رائحة اشتياط، سعدت بها لأن قلبي قد امتلأ بشرًى بأنه تعرض لصعق كهربائي. وأخذت أدخل وجهي عبر الباب شيئًا فشيئا، ببطء وحذر شديدين، أخاف أن أجده في وجهي مبتسمًا ساخراً. ووجدته أخيرًا في ركنه بغير حراك، بطرف الحجرة الواسعة، مُلقًى على الأرض ووجهه على ماسورة من مواسير الحديد الزهر، لا أعرف إن كان ميتًا أم مغشيًا عليه. ودبَّ في قلبي الذعر أن يمتد التيار الكهربي تحت قدميَّ، إن كان قد صعقه تيار، فأخذت بسرعة كيس حاجاتي من سترته التي علقها بالصالة على ماسورة، هربت إلى الباب فوجدته مغلقًا، فقفزت بسرعة من نافذة الحمام إلى المنور وقد تعافيت من وهني كثيراً، تحت تأثير الأمل، وتحت تأثير الفزع من أن يلحق بي. وفتحت باب المنور الخشبي الواطئ المربوط بالسلك، ولا زلت أخشى من وصول الكهرباء إليَّ أو وصوله، وفتحت باب البيت الصدئ المغلق بالمزلاج، وفتحت سيارتي، وارتبكت كثيرًا حتى وضعت مفتاحها، بسبب الخوف من أن يخرج لي من الباب مثل الشبح ينزف دمًا من جبهته، ويأخذني من شعري إلى وكره اللعين. وانطلقت ذاهلة، فرحة، مرتبكة، وناقمة.


بعد قليل كنت أشعر بالغيظ وأنا أضحك على قافلة من العربات الكارو مررت بها تحمل أثاث عروس يتقدمها رجال بالمزمار ورجال يرقصون بالعصي، ثم اغتظت وأنا أضحك من رجل خرج من بيته في قمة الطرب في جلبابه الكموني، يسعل ويدلق ماء المرطبان الزجاجي للجوزة التي يدخن عليها، ثم اغتظت وضحكت من رجل قوي البنية كالمصارعين كان يطارد ورقة هامة طارت منه في الطريق؛ أشعر بالغيظ من كل هؤلاء الذين لم يظهروا في الوقت المناسب. وتمنيت لو كان كل ما رأيت هو فلم سوداوي مثير شاهدته في قاعة سينما متواضعة تم إنشاؤها بالجهود الذاتية على أطراف قرية؛ ولكنني وجدتها منطرحة على وجهها في الطريق كما انطرح على وجهه صاحبها الحثالة، دمية صلعاء في منتهى الخبث والتواطؤ، انتظرتني على التراب، لتذكرني للأبد بما كان، وبما أقررت به تحت تأثير الهلع، وشعرت أنني أحملها معي مجبرة لا أملك أن أحبها ولا أملك أن ألقيها؛ إنها للآن منغصة جدًا، كالحقيقة.


أنا أتهرَّب تمامًا من مواجهة ما قلت في تضرعاتي للنجاة، ولم أخالف تهربي إلَّا بهذه الكتابة، وكنت أعض الأحرف، وحروفي تعضني. وبالرغم من هذا التهرب الطويل، إلَّا أنه لا يمكنني للآن إعادة الأشياء في صدري كما كانت، لا شيء يعود كما كان، مثلما أنه لا يمكن إعادة هذه الدمية رضيعة.


(المقالة جزء من عمل موسع سيتم إصداره إن شاء الله)





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • طوفان مهند (قصة)
  • الـخـبء (قصة)
  • خلف الباب (قصة)
  • نكد (قصة)
  • شيء ما يحدث (قصة)
  • دورة العصيان (قصة)
  • الخيمة الملعونة.. عندما يكون الرحيل حتميا (قصة)
  • انتشاء!
  • النافذة (قصة)
  • صاحب الكوب (قصة)
  • حديث قعيد! (قصة)
  • شوق إلى ضمة (قصة)
  • الخوف (قصة)
  • هاجر (قصة)
  • دواء الكروب (قصة)

مختارات من الشبكة

  • صلعاء (قصة قصيرة)(مقالة - الإصدارات والمسابقات)
  • أيمكن أن تصبح المرأة صلعاء وبلحية وشارب؟(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • قصة يوسف: دروس وعبر (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تعريف القصة لغة واصطلاحا(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • الابتلاء بالعطاء في ظلال سورة الكهف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • قصص فيها عبرة وعظة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ملخص لخصائص القصة الشعرية إلى عصر الدول المتتابعة(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • خصائص القصة الشعرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • فوائد القصص في المجال الإعلامي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • دروس وفوائد من قصة سيدنا شعيب(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 21/11/1446هـ - الساعة: 14:30
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب