• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة
علامة باركود

عربي أصيل (قصة)

عربي أصيل (قصة)
سواري العروسي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 14/12/2014 ميلادي - 21/2/1436 هجري

الزيارات: 7024

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

عربي أصيل


دُعينا جميعًا، أسرتي، أسر أخوالي وخالاتي، وصل عددنا حوالي الثلاثين نفرًا على متن خمس سيارات، زَحفتْ قافلتنا إلى القرية المختبئة بين مجموعة من الجبال الشاهقة المتراصة منها والمتقابلة، كل الجبال المحيطة بالقرية شكلت صمامَ أمان للمقاومين فدائيي قريتنا أيام الاستعمار، هذه المعلومة ومعها تفاصيل عن عمل المقاومة المسلح وغير المسلح لا زالت تحكى داخل أسرتنا من حين لآخر، وقد يكون مجيئنا اليوم إلى قريتنا مناسباً لتجديد ومراجعة تلك التفاصيل، مع تقدمي في السن، صِرت أتوفر على مجموعة كبيرة من أسرار وحكايات تاريخ المقاومة بالمنطقة، وعن عملاء الاستعمار الذين أصبح البعض منهم الآن متنفذًا، ينسب إليه وإلى عائلته زورًا سبب اندحار الاستعمار وخروجه من البلاد، حتى الساعة حكايات تاريخنا مجرد حكايات شفوية لم تكتب بعد.

 

لم يكن العثور على الشعبةِ التي تتسلقها القرية ممكنًا إلا على ظهور الدواب، أو مشيًا على الأقدام، لم تدخل إليها الآليات إلا بعد أن وسع الاستعمار الطريق الوحيد، الضيق، الوعر، طريق يحفه وادٍ من الحجر الأزرق، يقود مياه فيضانات الشتاء والأودية المنجرفة عبر شِعاب الجبال، ويفرغها في المزارع المترامية الأطراف، والمخترق امتدادها الحدود المغربية الجزائرية بالشمال، لا زال الطريق كما تركه الاستعمار، ولا زال قلب القرية هو مصب مياهها، ماء ليس كغيره من الماء! حُلو وبارد، يخرج من أسفل الجبل الغربي للقرية، ولا يعرف أحد متى بدأ صبُّه، ومن أين ينبع، وأي مسار يسلكه تحت سلاسل الجبال ليصل إلى قريتنا المكرمة، صهريج كبير يستقبل ويمتلئ بالمياه العَذْبة، ويتحكم في تسريبها إلى السواقي التي توصلها للبساتين، نظام السقي هذا هو كذلك بناه الاستعمار في السنوات الأولى من دخوله إلى المنطقة، يقينًا، كل مَن شرب ماء القرية المميز، لن يستسيغ شرب ماء آخر للعديد من الأيام.

 

لم يكن الوصول إلى عمق القرية بالأمر السهل، لكن، من بعيد، كانت تلوح رؤوس أطولِ أشجار بساتينها، مرة من هنا، ومرة من هناك، ذلك وفق ما تسمح به انعطافات الطريق التي تقترب أحيانًا، وتبتعد أحيانًا أخرى من سفح الجبل، سطح الأرض هنا مفروش بملايين الأحجار الصغيرة الملساء ذات الأشكال المختلفة بلون الرماد، فقط الأحجار على خط سير العجلات وحدها متماسكة ومثبتة في الأرض، أحجار كبيرة مسطحة لا تظهر إلا أجزاؤها السفلية، والباقي منها مدفون تحت الأرض، عند اقترابنا من منزل الجد الذي يعمره خالي سعيد، وقف في وجهنا فيلق من الكلاب والجِراءِ يعرقل تقدمنا نحو القرية، نباح ينم عن العدوانية والشراسة ارتفع بقوة، لم تكن هذه الحيوانات أليفة معنا، كانت تجري أمامنا وخلفنا مكشرة أنيابها محاولة مهاجمتنا، اخترقنا - نحن الغرباء - حدود مملكتها، فبدت قلقة وهائجة، فحاصرتنا دفاعًا عن أراضيها، كانت تقطع طريقنا، وتعرقل تحرك سياراتنا، فكنا نضطر للتوقف لتجنب صدمها وإيذاءها، امتلأ الفضاء برائحة البنزين والغبار المتصاعد ومزيج النباح وهدير المحركات، كان المشهد مثيرًا، وكنا نرقب تطوره من نوافذ سياراتنا، لم يسبق لي أن رأيت مشهدًا مثل الذي أصفه لكم، الأنياب والأضراس البيضاء كالحليب تبدو مصطفة اصطفافًا عجيبًا داخل الأفواه الطويلة المفتوحة المحفوفة بالسواد الذي زادها بياضًا، كانت الكلاب القوية تجرؤ على الوقوف على رجليها الخلفية، وتلامس زجاج السيارات بقوائمها الأمامية، وبرؤوسها المشرئبة للنظر إلى فرائسها من خلف النوافذ، كانت تحاول عَضَّنا، ولربما تمزيقنا إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، كنا نمثل بالنسبة إليها أعداء حقيقيين، فرافقت سيرنا البطيء على مسافة طويلة، كل عناصرها كانت تشارك في حصار القافلة من كل الاتجاهات، ولم تدعنا نسلك طريقنا في سلام.

 

من داخل السيارة التصقت بي أختي مريم فأحسست بها خائفة، زاد التصاقها بي قوة، فوضعت رأسها فوق كتفي حينما هاجم أحد الكلاب سيارتنا، ارتطمت أنياب الكلب بحديد السيارة، فتراجع مذعورًا، ارتفع ضحكنا الصاخب أنا وأخي الكبير عصام من سذاجة الحيوان، ومن أختنا التي استشعرت تهديد أنياب الكلاب من وراء الزجاج، حاولت أمي بدورها بجدية أكثر منا إفهامها بأنها محمية، ولا يمكن للكلاب الوصول إليها من بيننا داخل السيارة! شعرت بمريم تتنفس الصعداء، وقد تدخل أبي لانتزاع الخوف من قلبها الصغير، كانت دائمًا ترى في أبيها أقوى الرجال، أحكم غلق النوافذ، وأخرج من تحت كرسيه عصا قصيرة مكورة الرأس، ولوح بها في سماء السيارة: "سأكسر أنيابكم أيها الكلاب الضالة إن حاولتم الاقتراب من ابنتي مريم"، هدأ رَوع أختي بعض الشيء، وارتسم على وجهها الصغير الملبد بمسحة اصفرار جزءُ ابتسامة محتشمة، رغم اجتهاد مريم في دراستها واحتلالها المراتب الأولى كانت تصدق كل ما يقال لها، انتفضت وقالت للكلاب من وراء الزجاج بصوت مبحوح ومتقطع: "س...سسسيكسر. بها أبي. رررؤوسكم. ققاقالها لي. أبي"، أدارت وجهها نحوي بسرعة، فاختلقت قليلاً من الشجاعة لإعطائي الانطباع أنها تخلَّصَت من خوفها، "لن لن يستطيعوا الوصول إلينا..."!

 

قلت لها: صحيح، فابتسمت من جديد.

 

زحفنا رويدًا رويدًا، ونحن نبتعد، بدأت حدة الهيجان تخف عند بعض الكلاب، تثاقلت في جريها، بدأت تتوارى خلفنا، ونباحها يتقطع.

 

المناسبة ثلاثية، إقامة عشاء صدقة احتفاء بالمرحوم جدنا، وختان ابن خالي يوسف بن سعيد، وابن خالتي مروان بن يحيى الموجود معنا في القافلة، وكذا احتفال خالي سعيد بازدياد مهرين في إسطبل الأحصنة، قالت أمي عن جدتي: إنهما مُهران عربيان أصيلان جميلان جدًّا، سنقيم الأفراح، وتجري الأحصنة، ويطلق البارود في السماء، والختم يكون بالقرآن الكريم، كنا متعطشين لرؤية المهرين ولمسِهِما واللعب معهما.

 

فجأة كفت الكلاب عن النباح، بددت حصارها وتراجعت إلى الخلف، بدأت تتجمع، تشم الأرض وهي تحرك أذيالها، بدَتْ كلابًا مسالمة وأليفة هذه المرة، ولم يعُدْ يهمها أمرنا، خالي سعيد يتقدم نحونا على صهوة جواده العسلي اللون، جلست بعض الكلاب على ذيولها تلهث أنفاسها، وتنظر إلى سيدها محتفظة بمسافة بعيدًا عن حصانه الذي نزل من على ظهره، انحنى على الكلب القريب منه، وجلس القرفصاء أمام وجهه، شده إليه، موج شعر صدره، ثم فرك على جبهته، وربت على ظهره ليدفعه دفعة خفيفة إلى الأمام، كانت بداية الانسحاب، تبعته الكلاب جميعها في هدوء مطأطئة رؤوسها، وأنوفها السوداء محشورة في الأرض،استتب الأمن،فترجلنا من سياراتنا، كان وجه خالي سعيد ورديًّا حليقًا مكورًا وعريضًا، أسنانه بارزة وكبيرة وتبدو قوية، وضع على رأسه رزة صفراء من القماش المطروز بالأبيض والفضي، وقد تدلى جزء منها على ظهره فوق قميصه الأبيض الطويل اليدين، المشدود بحزام جلدي أسود وعريض تحت سروال الدجين الأزرق، وهو راكب حصانه كان حذاؤه الرياضي الأبيض لاصقًا على بطن الحصان الطويل يصبغ عليه صبغة الفارس الشاب رغم سنه الأربعيني، كانت حركة خالي الفارس فوق صهوة حصانه تجعل بندقيته تشع وتتأرجح برفق فوق كتفه وظهره، انبطحت الكلاب ليس ببعيد تحت الشمس تؤثث مشهد ترحاب سيدها بضيوفه، أطلق الخال صوتًا زجريًّا، فإذا بها تعاود الانسحاب أبعد مما سبق، وهي تلوي أعناقها لتنظر إلى خالي خلفها إن كان راضيًا على المسافة التي أصبحت تفصلها عنا.

 

سلم خالي علينا واحدًا واحدًا، رحب بنا كثيرًا، لقد كان مغتبطًا وسعيدًا جدًّا بمجيئنا الجماعي، كما جرت عادة زيارتنا له في عدة مناسبات، كانت ابتسامته العريضة مشرقة، وكانت الشمس تسطع على وجهه الوردي فيزداد إشراقًا، في وجه خالي كنت أقبض على ملامح وجه الشبه مع وجه أمي، أزاح البندقية من على كتفه وصوبها إلى السماء، لم أرَ أي صيد يريد قنصه! انطلقت الرصاصات الخمس تتسابق إلى أعلى السماء، تبعتها زغردة أمي الرقيقة الحادة، وانضافت إليها الزغردات المنبعثة من نوافذ سيارات القافلة، كان عدد رصاصات الترحاب بعدد أخوي سعيد وأخواته الثلاثة، تأسف أخي عصام وهو يلتقط الصور لمختلف المواقف والمناظر التي مررنا بها من آلة التصوير "لن أتمكن من الزغاريد وطلقات الرصاص"، هنأه إخوته وأصهاره وهو يمسح أسطوانة بندقيته مبتسمًا، تبادل خالي بعض الحديث معهم، وامتطى صهوة حصانه، وتقدمنا إلى الأمام، نتبع الحصان على مهل وهو يشق بنا الطريق على إيقاع صوت نقر صفائحه الحديدية.

 

كنت أول من ترك سرير النوم، التصقت بكرسي أبي الذي كان وراء المقود، كنت دائمًا أشعر في قرار نفسي أنني أقرب الأبناء إليه، كان هذا الإحساس يقودني بدون تفكير إلى الاشتباك مع أختي ومخاصمتها حينما أجدها متعلقة به أو جالسة في حجره، كنت أشعر بتعديها على حقوقي، كانت الغيرة تقتلني، فأحاول انتزاعها من بين أحضانه، كان الوالد رحمة الله عليه يشركني مع أختي بضمي إلى أحضانه، يجلسني فوق ركبتيه وأطوق عنقه بيدي الصغيرتين، لا زلت حتى اليوم أشم رائحته، وأتحسس وخز لحيته ودغدغة شاربيه...

 

أنا أول من صعد إلى السيارة، استحوذت على المكان المناسب رغم رغبة أختي في ملئه، في الطريق لم يكن أبي يكاد يفرغ من جوابه على سؤالي حتى أطرح عليه سؤالاً مكملاً للسؤال السابق، أو أطرح سؤالاً جديدًا، كانت المرحومة أمي تحتج على انصياع أبي لي، والجواب على أسئلتي على حساب التركيز على قيادة سيارته حسب رأيها، وكان الوالد يطمئنها بهدوء وهو يشير إلى عداد السرعة: "انظري لا داعي للقلق يا أم مريم، إن أبا فؤاد يدري ما هو فاعله"، تستيقظ مريم من غفوتها، وتحتج على الوالد: "أبي، أنت والد مريم أم والد فؤاد؟"، كان يجيبها: "نعم بنيتي، أنا أبوك وأبو فؤاد، أليس فؤاد أخاك؟ أنا أحبكما بالتساوي"، لا تكف مريم عن احتجاجاتها عندما يتعلق الأمر بمساواة مكانتي بمكانتها عند المرحومين والدينا...

 

العجلات الأربعة تدور، كان الدفء والحماس يملأان سيارتنا، أقلعنا لنلتحق بالسيارات المشكلة للقافلة المتوقفة قرب علامة تحديد السرعة في 60 كيلومتر عند مخرج المدينة من جهة الشمال، قريتنا تبعد عن مدينتنا بمسافة تقارب الخمسة والثلاثين كيلومتر، لكن لو قامت الجماعة القروية بتعبيد الطريق الرابط بين قريتنا والقرى المجاورة من جهة ومدينة وجدة من الجهة الأخرى، مرورًا بمزارع بني ادرار الزناسنية العربية وسهول أهل أنكاد العربية شمال المدينة لتقلصتِ المسافة إلى النصف تقريبًا. للأسف، هذا الإنجاز لا يزال حُلمًا من أحلامي أنا فقط، أما المجالس البلدية والقروية التي مرت من هنا، فيقال عنها: إنها ثمرة للتزوير الذي كان دائمًا يشوب الانتخابات منذ بداية ممارستها في البلد، على كل حال لا زالت الدولة لم تفكر في مشروع(ي) هذا حتى الآن، مع العلم أن الطريق موجود منذ أكثر من مائة عام.

 

يربط مدينة وجدة بالمدن المغربية بالشمال طريق وطني هو بدوره خلفه الاستعمار الفرنسي، عندما نركبها تبدو لنا الأراضي الجزائرية على يميننا بتضاريس كتضاريسنا، سهول عميقة تحيط بها الجبال من كل الجوانب، على بُعد اثنين وعشرين كيلو يبدأ طريق ثانوي على اليسار، يوصل لقريتها، ويمتد على طول سلاسل الجبال الجنوبية لبني يزناسن ليلتقي مع الطريق الوطني المتجه إلى الغرب؛ أي: إلى فاس والرباط والدار البيضاء، وغيرها من المدن المعروفة، لا عجب إن قلت: إن هذا الطريق الثانوي هو بدوره بناه الاستعمار ليتغلغل في القرى والمناطق التي ثارت عليه، كما هو شأن بناء الطريق الوطني المتجه إلى غرب المغرب لنقل السلع والجنود، ولأغراض أخرى.

 

كان خالي مولعًا بتربية وركوب الخيل، هذه الصفة التي بدأت تنقرض في قريتنا ورثها خالي عن أبيه، كان المرحوم جدي يعتبر الحصان فردًا من أفراد أسرته، وكان يجعل من الاهتمام والاعتناء بها من أولويات انشغالاته، لكن قبل أن يغيبه الموت، سلم المشعل لخالي سعيد، ولا زال إلى الآن على مكانته، ورث سعيد عن جدي كل شيء، لكنه لم يستطع تعويض حنانه الذي كان يدفقه على أحفاده، خالنا يحبنا، يكرمنا، ولا يبخل بأي شيء علينا، إنه كريم مثل جدنا، يقيم التجمعات الليلية لحملة القرآن ومآدب العشاء لأهله وأقربائه، ليس طمعًا في النجاح في الانتخابات، وإنما حفاظًا على طبع وتقاليد العائلة، في الكثير من المرات كان عابرو السبيل يقيمون عند خالي ما تيسر من الأيام، خاصة في فصل الشتاء، كما كان ثوار جبهة التحرير الجزائرية المارون من هنا يجدون باب منزل جدي مفتوحًا لهم، يبيتون بعض الليالي، يتواصلون مع رجال المقاومة بالقرية وبالمنطقة، يستريحون ويضعون خططهم ويمضون في غفلة عن العملاء، اليوم وقبل اليوم، طلبت السلطة من خالي أكثر من مرة تمثيل سكان القرية مقابل ضمان مساعدته على النجاح في الانتخابات، لكنه رفض، كان يقول دائمًا: "كان أبي وأعمامي في مقدمة من حارب الاستعمار، فكيف بحفيدهم يقترب من تفكيره؟"، هو أصلاً بإمكانه حصد أصوات كل سكان القرية والقرى المجاورة، دون تدخل الداخلية، لو قرر يومًا خوض اللعبة، لكن ذلك مستبعد ألف بالمائة.

 

لا زال خالي يسكن مع جدتي في المنزل الذي ولدت فيه أمي، ولا يزال يحتفظ بتحفه وأثاثه القديم، بندقية وقليل من الرصاص والبارود استعملها جدي في المقاومة، سرير النوم مبني بالحجر والتراب مرتفعًا بحوالي نصف متر على سطح أرض البيت، ممتدًّا على عرضها بالكامل، مِزودان أسودان مبرقعان بالأبيض دومًا معلقان على الجدران المصبوغة بلون التراب منذ زمان، كان المزودان يستعملان لتخزين الدقيق، وهما في الأصل جلدا عنزتين، أما الآن فهما تُحفتان يزداد الإعجاب بهما مع مرور الوقت، مطحنتان حجريتان يخرج من الفلقة العليا لكل منهما قضيب خشبي يملأ قبضة اليد، يستعمل لتحريك المطحنة أو الرحى بشكل دائري لجعجعة الطحين، كانا حجماهما مختلفين حسب ما تقتضيه دواعي الاستعمال، مهراز من حديد، ثقيل وجميل المنظر، كان يستعمل لدق التوابل وحبات القهوى لتتحول إلى دقيقٍ، زنابِيل بأوشام ملونة ومدلولات غير محددةٍ يوضع فيهما إما حب الشاي أو السكر، غربال هو أصلاً بندير من جلد الخروف، انتشرت في كامل مساحته ثقب صغيرة تسرب الدقيق وتمنع الحب غير المدقوق جيدًا من المرور إلى قصعة العجين، في البيت الآخر المقابل للأفق الذي تبزغ منه الشمس والذي لا زالت تقيم فيه جدتي حتى الآن، هناك الكثير من التحف، والكثير من الأدوات الأصيلة/القديمة التي استعملها قدماء أجدادي، وتمثل جزءًا من أصالتنا، لا زالت هنا إما معلقة على الحيطان الأربعة، أو مطروحة على أرض البيت، يمكن الآن رؤية جزء قليل جدًّا منها في الصباح من ثقب وشقوق الباب الخشبي العتيق، ويمكن رؤيتها جميعًا حينما تقرر الجدة فتح باب بيتها، مفتاح جدتي مشدود على الدوام إلى حزامها بشريط قماش أخضر، جدتي عاشت أكثر من أمي وأبي، كانت جدتي أطال الله عمرها وزوجة خالي وأبناؤه وبناته في استقبالنا عند مدخل خيمة كبيرة نصبت أمام منزل جدنا، عندما نزلنا من سياراتنا، تعالت الزغاريد، والتأم الأحباب يتعانقون، كنت أنا وبعض أبناء خالتي وأبناء أخوالي نرمي بالمفرقعات في السماء، وكانت البنات والنساء يتراجعن ويلتجئن إلى داخل الخيمة، كانت واجهة هذه الأخيرة بيضاء بها دمغات مقوسة سوداء، وكانت ريح خفيفة تموجها من حين لآخر، استطاع علو الخيمة حجب الأشجار من ورائه، وقسم من جدران المنزل الذي بناه خالي حديثًا، أما داخلها فكان يتسع للعشرات، الجوانب مزركشة بكل الألوان، أما الأرض فكانت مفروشة بالزرابي الحمراء واللحاف الزرقاء والوسائد من ذات اللون، على مقربة من الخيمة كانت الديوك تصيح، والدجاج الأحمر والأصفر والأسود يسرح وينقر الأرض وينقنق، وكانت الطيور والحمام البري يتنقلون أسرابًا أسرابًا بين أشجار اللوز والزيتون، ويحدِثون أصوات الرفرفة بأجنحتهم، وأصوات زقزقاتهم وهديلهم التي كانت تفوح منها نسائم البادية، تحت شمس إبريل الدافئة، كنا نسمع صهيل الأحصنة ونهيق الحمير ومأمأة الخراف، الكل عند خالي في احتفال، حتى الجبال المكسوة باللون الأخضر وبشيء من لون الرماد كانت تغري تحمل المشقة والإقدام على الصعود، وكان ماء السواقي البارد والجاري نحو البساتين يغري بدوره بوضع الأرجل الحافية فيه، كان يصل إلى أسماع أسراب الطيور فتنزل، تشرب، تغسل أجنحتها، تنفض أجسامها الصغيرة، تنقرها بمناقيرها الفتية وتطير، فصل الربيع توج قريتنا عروسًا في حضن جبالها الشامخة يتفتح منها الجمال في غفلة من العاشقين.

 

دقائق بعد نزولنا بالخيمة، بدأ خالي يهيئ الشاي، كان كل شيء جاهزًا ينتظر وصولنا، صينية كبيرة مملوءة عن آخرها بالأكواب المذهبة، برادان كبيران شكلهما جميل، واسعان من الأسفل ينظر فيهما جانب من الحضور بشكل كاريكاتوري ومختزل، في قمتي رأسيهما قرصان أحمران يلمعان، بين البرادين (الإبريقين) وضع كأس فضي به ربطة نعناع بعروش طويلة، وزِنبِيلينِ أحدهما للشاي والآخر للسكر، على الطاولة المجاورة التي فوقها الصينية، أطباق خبز صنعت بأيدي زوجة وبنات خالي، مختلفة الطعم والأشكال، حلويات مختلفة الألوان والأشكال وضعت إلى جانب صحون الزبدة البلدية والعسل الحر الذي كان نحله يحوم فوق الصحون وفوهتي البرادين، كان النحل الحوام يفزع الأطفال، وكانوا يندسون وراء ظهور أمهاتهم لتفادي لسعاتهم، كانت جدتي تهدئ من روعهم فتقول: "لا تخافوا يا أطفال من النحل؛ إنه لا يلسع إلا من يتعدى عليه، فاتركوهم يحومون كما يشاؤون".

 

بدأت كؤوس الشاي تصل إلى أصحابها على متن صينيتين تحملانهما بنتا الخال بين أيديهما البيضاء، كانتا تبدوان كحوريتين تعشق جمالهما العين، الصغيرة منهما لها تقاطع مع ملامح أبيها وعمتها أمي، في وسط المائدة كانت صحون الزيتون الأسود والأبيض وزيت الزيتون واللبن والحليب والبيض البلدي... طاولة الخيمة كانت غنية، ولم تكن لدي إلا شهية رؤية المهرين، لم أشرب الشاي، جلست في حضن جدتي، ووضعت قطعة حلوى في يدي، وبدأت أنتظر، كانت جدتي تتحدث، وكان الكل ينصت مشدودًا يسمع كلامها، كانت تتحدث عن فلاحة هذه السنة، وعن الأشجار والأبقار، وعن كل شيء... لم تتغير أم والدتي منذ أن رأيتها لأول مرة، ما عدا أنها هزلت بعض الشيء، الحركة والخفة هي هي، والحديث المطول الذي يشد إليه السامعات والسامعين باقٍ هو هو، تلبَس لباسًا طويلاً مصنوعًا من القماش الأبيض اللامع المفتوح عند الصدر المطرز بحبات "زوزو" اللامعة بالأخضر وبالأحمر، وهي تشبه حبات التسبيح تمامًا، ولكنها أصغر منها بخمس أو ست مرات، رأس جدتي دائمًا ملفوف بمنديل أهدابه مفتولة وملونة، تترقرق منها أسطوانات عدس صغيرة بيضاء، على جبهتها تنسدل شعيرات زعفرانية رقيقة تغطي من تحتها جزء وشم يشبه عظام سمكة، أو جريد نخلة، على خدها الأيمن كذلك وشم كالنجم، أنا لم أعلم يومًا إلى ماذا يرمز هذا الوشم، حتى أمي لا تعرف مغزاه، حينما سألتها في الأمر، قالت لي: إنها عادةٌ كان أجدادنا يستعملونها لتزيين المرأة، انتظرت قليلاً لتكمل الجدة حديثها، لكنها لم تتوقف، بدت لي ثرثارة، كانت تسأل عن كل شيء؛ عن دراسة البنين والبنات، عن تجارتي الخالين بوجمعة وعبدالقادر، وعن رجل الخالة بنيونس الإطفائي الكسول، وعن الحسين رجل أصغر خالاتي العامل بفرنسا، وكذا عن شغل أبي الأستاذ الجامعي، كانت تسأل كذلك عن صحة الأطفال والأولاد والبنات، وعن صحة وأحوال الجيران، وعن كل شيء، إلا السياسة لم تخض فيها بشكل مباشر، عملت بها أيام الاستعمار؛ حيث كانت تتخابر وتساعد المقاومين عن طريق زوجها، وتعتقد أنها انتهت مع الاستقلال... لم أعد أصبر أكثر مما صبرت، قبضت على يد جدتي وجذبتها قليلاً، تزحزحت من مكانها بعض الشيء، قلت لها: "انهضي انهضي جدتي، أريد رؤية المهرين".

 

ردت أمي وهي تحاول النهوض لمنعي من سحب جدتي إليَّ من مجلسها: "اذهب لتلعب مع الأطفال، ستريهما لكم بعد قليل".

 

نهضت جدتي وقالت لأمي: "أرجوك دعيه، سأريهما له الآن، أنت تعرفين الأطفال، لا يصبرون على رؤية ما يحبون"، طبعت قبلة حنان على خدي، وضعت يدها المتجعدة على كتفي، فأحسست بخلخالها يسرب شيئًا من برودة فضته إلى صدري، نظرت إليه بدون تركيز، فقط، تبينت لي فيه بعض الخطوط تزين قوسه الخارجي، على ظهر يدها برز لي من تحت جلدها الرقيق عروق زرقاء يحتمل أن الدم يجري فيها، ورأيت بين تفرعها وشمًا آخر على شكل دائرة بقطرين متقاطعين عموديًّا، اقتادتني الجدة في اتجاه الإسطبل حيث المهران، تبعنا جل الأطفال الآخرين، وبعض أبناء وبنات الأخوال والخالات الكبار.

 

في الطريق إلى الإسطبل قلت لجدتي: إن أمي قالت لي: إنك قلت: إنهما مهران عربيان، أجابتني جدتي: "نعم يا بني، الأمر هو كذلك"، عدت وسألتها: كيف عرفت ذلك؟ فقالت: "سأريك وستتعلم كيف تتعرف عليها بسهولة".

 

دخلنا الإسطبل، كانت رائحة الخيل أقوى مما هي عليه بالخارج، تقدمنا أمامًا والصخب يمشي وراءنا، تكاثر زوار الإسطبل، الكل التحق بنا، خالي وجميع ضيوفه من نساء ورجال، شعرت بالفرح؛ لأن رغبتي أصبحت رغبة كل أفراد عائلتي الكبيرة.

 

قفز خالي من وراء الألواح التي يستعملها حاجزًا للمهرين، قبض عليهما من رقبتيهما وحملهما الواحد تلو الآخر خارج الإسطبل، حيث شكلنا دائرة بشرية من حوليهما، لا يمكنهما التحرك إلا داخل حدودها، عندما أسترجع هذا المشهد يخيل إليَّ أننا كنا فيما يشبه طلابًا جامعيين متخصصين في علم الحيوان في حالة استطلاع موضوع بحثهم ميدانيًّا، شعر الفرسان بالقلق على صغيريهما، فكانتا تضربان بحوافرهما الأرض، وتحركان رقبتيهما المقوستين وكأنهما تريدان الكلام ولم تستطيعا، لم تكن عيناهما تفارقان صغيريهما، كانتا تنظران إليهما بعين الشفقة وكأنهما تتوسلان ألا نصيبهما بمكروه، طمأنهما خالي بتمرير يده على ظهريهما وعلى جبهتيهما العريضتين، وقال لنا وكأنه أستاذ أمام طلبته: "انظروا، لنبدأ بالرأس، ماذا تلاحظون؟"، عم الصمت، وكرر الخال نفس السؤال، لم يجب أحد، وهمست لي جدتي في أذني: "رأس عريض عند الأذنين، وضيق عند الفم"، ألقيت بكلام جدتي أمام الملأ، صفق لي خالي وقال لي: أحسنت، ولكن معلمك يعلم أنك تغش في الامتحان، قهقه بضع بنات وأولاد، والباقي لم يفهم شيئًا، توجه الخال بالكلام إلى جمهوره: "الحصان العربي الأصيل هو أجود حصان في العالم، رأسه على شكل هرم، صغير بعض الشيء، ناعم الجلد، المسوا المهر برفق، كما اتفقنا، بنظام وانتظام، انظروا إلى أم المهر حيث الصفات أكثر بروزًا، الرأس خالٍ من الوبر عند العينين والفم، العينان كبيرتان وصافيتان، المنخران واسعان، والأذنان صغيرتان، أما الشعر الذي بينهما فينبغي أن يكون طويلاً ويسمى الناصية... هذان لا يزالان صغيران، نستطيع القول: إن هذين المهرين لهما كل هذه الخصائص، وهما إذًا من عرق أصيل، وليس مؤصلاً ولا مهجنًا".

 

في البداية كان المهران خائفين، لكنهما مع مرور الوقت أحسا بأننا نحبهما ونعشق النظر إليهما، فتكيفا معنا، وأصبحا يطاوعاننا ونحن نتفحصهما، طلبت من خالي السماح لي بتقبيلهما على عينيهما، فأجاز لي ذلك على عين كل مهر واحدة؛ لأنه كان يعلم أن الأطفال سيحذون حذوي، وذلك ما حصل فعليًّا؛ حيث طالبوا جميعهم بالطلب نفسه، قال الخال: "عرفتم الآن الحصان العربي الأصيل؟"، قلنا: "نعم"، قال وهو يضحك: "لا يا أبناء أخواتي وأخوي، الحصان العربي الأصيل له صفات عديدة أخرى، سأوجزها لكم فيما يلي: العنق، وهو العضو الذي يصل الرأس بالجذع، ها هو، انظروا، إنه طويل رقيق ونحيف، والعنق الطويل يساعد الحصان على الانصياع لأوامر قائده"، أضاف خالي وهو ينظر إلى عقارب ساعته، "الجذع الآن"، حرر المهر الذي كان بين يديه واتجه نحو المهر الآخر، ووضعه بين يديه ليستعرض علينا جذعه، "الجذع يتكون من الصدر، المنكبين، الغارب أو الكاهل أو الحارك، المحزم، الظهر أو الصهوة أو المتن، الأضلاع، البطن، القطاة، إنه هو الأهم بالنسبة إلى الحصان، فعليه تتوقف قوة الحصان، وسرعته، ومقدار صبره، إن وزن الحصان العربي الأصيل يتراوح بين 350 و 400 كيلو جرام، وإن قامته تتراوح بين 1.40 متر و 1.60 متر، لكن القامة الغالبة تتراوح بين 1.45 متر و 1.50 متر، الحصان وليس المهر طبعًا".

 

لم نعد نتتبع الدرس جيدًا، كثرت علينا المصطلحات، وكثرت الصفات، وتبين أن هذا الأمر يتطلب وقتًا طويلاً إن لم نقل تخصصًا دراسيًّا، خاصة إذا كان لا بد من المقارنة مع الأحصنة غير الأصيلة أو المهجنة، كان وقت الظهر يقترب، فبدأت الخالات وزوجات الأخوال في الانسحاب، وقالت لهن جدتي ما معناه: "المطبخ يناديكن، وجوعُ الأطفال حلُّه بين أيديكن"، أرانا خالي التقعر الخفيف الذي يميز وجه الحصان العربي الأصيل، والذي يضفي عليه نوعًا من الجمال، كما أرانا كبر حجم الصدر لدى المهرين ولدى أمهاتهما، كبر الحجم هذا - كما قال خالي - يؤهل الحصان العربي للقيام بالأعمال الشاقة، وتفرده في سباقات الخيل للمسافات الطويلة (الماراثون)... قال خالي وقد بدا عليه شيء من التعب: "يبقى لي أن أشير إلى شيء مهم جدًّا يتعلق بالبياض فوق الحافر ويسمى الحجل، وكذلك البياض في الجبهة ويسمى الغرة، هذا اللون الأبيض الناصع كالحليب في هذه الأمكنة من المهر والحصان يضفي عليهما رونقًا وجمالاً رائعين، وهذا لا نجده إلا عند الحصان والمهر العربيين الأصيلين".

 

أنهى خالي درسه، كانت استفادتنا كبيرة، قررت منذ ذلك اليوم الاهتمام بثقافة الحصان العربي الأصيل، وبأن يكون لي في المستقبل حصان عربي أصيل غير مهجن، أفتخر به، ويعيش إلى جواري، وهو العربي الذي يتوافق مع أصالتي وانتمائي، يا ليتني أكون مثل الحصان العربي محافظًا على شهامتي وسمعتي وانتمائي!

 

بعد صلاة العصر التي صلتها العائلة جماعة، الرجال والشباب والأولاد اليافعون في الصف الأول، والأطفال في الصف الثاني، ثم النساء والبنات والطفلات من ورائنا، زوج خالتي الحسين هو الذي أمَّنا، وهو الذي يؤم جيرانه المهاجرين العرب والمسلمين في مسجد صغير بفرنسا، في الكثير من المرات استقبلته سلطات الأمن بالمطار واقتادته للتحقيق، لكن في كل مرة كان يطلق سراحه، ونسمع أنه وقع الغلط والتشابه، إلى الساعة لا زال الحسين رهن إشارتها.

 

جاء وقت الذبح، تتبعنا التنقل الشاق والخطير للخرفان الخمسة من إسطبلهم الدافئ إلى مكان الذبح والسلخ، كانت "تمئمئ" في غفلة منها، وهي مساقة إلى حيث الموت، لك الله يا خراف! بمساعدة إخوته وأصهاره ذبح خالي الخراف الخمسة، الشيء الذي زاد من حماس وصخب صاحبات البنادير وبنادق البارود، سال دم الخراف غزيرًا، وغدًا صباحًا سيكون هنا بالقرية طبيب جراح وممرض يساعده على سيلان دم يوسف ومروان، الختن في قريتنا شر للطفل لا بد منه، يكبر وينسى ألمه وجرحه، لكنه أكيد سيصبح رجلاً يذكر قصة ختانه على مدى حياته.

 

بدأت نساء القرية تتوافدن على منزل جدنا، فصدحت أصوات البنادير، وأصوات الغناء في المكان، النساء بأفضل ألبستهن تقفن برشاقة منتظمات في صفين متقابلين، إحداهن تبادر وتطلع بما يشبه البيت الشعري أو الغنائي على إيقاع البندير، وهو غناء شعبي يسمى غناء الصف، فيردد صف النساء الأول النصف الأول من البيت الغنائي، ويرد عليه الصف الثاني من النساء بإكمال ما تبقى من البيت، تسبح الإيقاعات في السماء باتجاه قمم وشعب الجبال التي ترد صداها، فيكتمل لحن الإنسان مع عظمة الطبيعة، من حين لآخر يتدخل الرجال بجلابيبهم أو حتى بدونها أحيانًا، يرقصون رقصة خفيفة بمكاحلهم أو بنادقهم لتنتهي بإطلاق البارود في دائرة ضيقة على الأرض، فيمتلئ مكان اللهو بدخان ورائحة البارود، وترتفع زغاريد النساء إلى السماء، آه كم هي طيبة رائحة البارود! بهذه الطريقة الخاصة بمنطقتنا، يتناول غناء الصف العديد من المواضيع الاجتماعية والاقتصادية بتوابل سياسية.

 

بعد صلاة العشاء بمسجد القرية، امتلأت الخيمة عن آخرها. جلس حفظة القرآن في العمق أمام الطاولة التي وضعت فوقها صينية الشاي، التف من حول الحفظة يمينًا ويسارًا الضيوف الآخرون، كانت رائحة النعناع والشاي تتصاعد من الأكواب النصف مملوءة، وكان بين كل قراءة أو قراءتين لسور من القرآن الكريم يردد الحاضرون أناشيد إسلامية، وأحيانًا يبادر ويدخل أحد الفقهاء لإلقاء درس في الوعظ والإرشاد، بعد سنين خلت، أقبلت على الاهتمام بالشأن العام وبالسياسة، وعرفت لماذا كانت تحدث مثل هذه التدخلات بشيء من التحفظ والحذر، خارج الخيمة كان الأطفال يلعبون ألعابهم، ولا شيء همهم مما كان يحدث داخل الخيمة.

 

انطلقت رائحة الشوي من بيت جدي، مرت على أنوف الأطفال المنشغلين بألعابهم، لكنها لم تترك شمهم محايدًا، قال بعضهم: الخراف تنادي، اتجهنا نحن الاثنان أنا وعبدالعزيز ابن خالتي باتجاه منبع الرائحة، كان بنيونس وأبي يشويان الخرفان على مقربة من الخيمة، فكان الجمر الأحمر يضيء المكان والخراف مكتوفة مع خشب طويل يدور على نفسه، وتدور معه الخرفان المددة، وقطر الشحم والسمن الحار يسقط فوق الجمر، فينطفئ بعضه ليعود ويزهر احمرارًا، رمقنا والدي نتسلل حيث هم، فأصر على مغادرتنا المكان ففعلنا، عبقت الخيمة برائحة ودخان الشوي.. أحسست بالحضور يقاوم استفزاز الرائحة بعناء، كانت رائحة السمن الحر تجعلك تمد يدك إلى أنفك لتلمسه بلا شعور، وكان كلما دخل خالي أو شخص آخر إلى الخيمة أو وقف عند عتبتها اتجهت إليه الأنظار، وتحولت عنه بسرعة، وهو لم يقرر على سحب الصينية من فوق الطاولة، كانت عيون الضيوف، تسأل عن متى الإتيان بالخروف المحمر، طبيعي لأنهم تعبوا، سأل أخي أحدهم متعمدًا إن كان على استعداد على ملء براد آخر، فكان رد فعل الفقيه جافًّا، ودون استشارة أحد وهو ينظر إلى ساعته قال: "لا لا، الله يجعل البراكة، نحن ننام باكرًا وننهض باكرًا".

 

بعد هنيهة أدخلت ثلاثة خرفان محمرة محمولة على صواني طويلة بويضية المحيط، وطرِحت على الموائد الممتدة على طول الخيمة، تبعتها صحون الصلادة، وقنينات الكازوز، والفواكه وعصيرها، وأكواب الماء الباردة، الكل أعاد صنع الابتسامة الأعرض من تلك التي دخل بها إلى الخيمة قبل بدء الأمسية القرآنية، تعشى الجميع، تجاذبوا أطراف الحديث، تحولت الخراف إلى هياكل عظمية، يا حسرتاه عليك أيتها الخراف، اهتم العديد من الضيوف بإزالة ما علق في أسنانهم من بقايا اللحم باستعمال خشبات حادة أطرافها، حمِد الحضور الله على خيراته... كان الأطفال بدورهم ملتفين حول مائدة عشائهم، كانوا يلتهمون اللحم والشحم ويلعبون بالعظام خارج قواعد آداب الأكل، قرأت الفاتحة من داخل الخيمة، دعوا للخال بالصحة والعافية وزيادة الرزق، وللجدِّ بالرحمة والمغفرة، وللطفلين بالسلامة وطول العمر، التف الفقهاء من حول خالي خارج الخيمة، وضع المكرمة في يد كبيرهم، وانسحبوا مبتسمين راضين على العناية التي أحيطت بهم هذه الليلة.

 

في الصباح الباكر نهضت جدتي وبعض النسوة اللاتي هيأن فطور الصباح بالخيمة، بدأت الفيالق تلتحق تباعًا، أفطر من أفطر، وبقي بعض الكسالى هم آخر من التحق بالخيمة وبقوا فيها بعد انسحاب الجميع، كان بنيونس الإطفائي من بينهم، معروف عن بنيونس أنه كسول ولا يعمل إلا إذا دعت ألف ضرورة لذلك، منذ أن نزلنا ضيوفًا على خالي وجدَّتي لم يفعل شيئًا، حتى المواد الغذائية التي صحبها معه من المدينة تكفلت خالتي بإنزالها من السيارة، وحملتها بنات خالي سعيد إلى داخل المنزل، عندما يسألونه أصدقاؤه كوالدي مثلاً عن سر كسله، يقول بأن أمره يشبه أمر البرلماني الذي ينام أثناء مناقشة البرلمان للأمور المطروحة عليه، هو لا يعمل إلا نادرًا، وهذا ما ألِفَه وتعوَّد عليه منذ أن ولج مهنة الإطفاء، وتلك هي طبيعة عمله، يجلس على كرسي أمام باب ولوج السيارات، يلعب الدامة مع البواب، ولا يتحرك بين سيارات الإطفاء بصفته ميكانيكيًّا إلا نادرًا.

 

في داخل الخيمة وضع بنيونس أمامه شربة شاي في كوب صغير (تفزيكة)، وأخرج من جيب جاكيته عود خشب رقيق مجوف يشبه قصبة رقيقة (السبسي)، وضع في مقدمته مرفقًا صغيرًا مصنوعًا من الخزف (الشقف)، وشرع في ملئه بتبغ الكيف الأخضر اللون الميال إلى الاصفرار، اشعل عود الثقاب ثلاث أو أربع مرات متتابعة، فامتلأت الخيمة بالدخان ورائحة الكيف، شعَرت بشيء من الدوران في رأسي، وخرجت لأتنفس خارج الخيمة، أمام العتبة صادفت جدتي تهم بالدخول، التفت من ورائي لعلها تريد مساعدةً ما، فرأيت بنيونس يخفي قصبته عن عيني جدتي بسرعة، وعدل من جلسته كأن شيئًا لم يكن، كانت الرائحة فاضحة، تساءلت مع نفسي "إن كانت العادات والتقاليد تمنع الكيف أم الإسلام؟"، وجدت الجواب لاحقًا، وكان حقًّا خطيرًا، فإذا كانت التقاليد والأعراف لا تمنع الكيف وهو يشكل مصدر رزق لمجموعة كبيرة من الفلاحين بالشمال المغربي، حيث يزرعونه ويبيعونه للتجار الذين يحصدون منه مليارات الدولارات بعد تحويله إلى حشيش يباع في السوق السوداء بأوروبا، فإنه من الناحية الدينية مخدِّر يضر بالعقل والجسم، وعليه فإن تعاطيه حرام.

 

عند الضحى وصلت سيارة الطبيب، نزل وبرفقته مساعده الممرض الذي كان يحمل حقيبة تبدو ممتلئة بعض الشيء، رحب بهما أحسن ترحيب، ودخلا إلى الخيمة، حيث تم اقتطاع مكان منها بواسطة سترة زرقاء لا تسمح بالرؤية، بدأ الطبيب والممرض بتهييء أدوات اشتغالهما.

 

أركبا يوسف ومروان على صهوتي حصانين عربيين أصيلين، كان بياض غرتيهما (البياض في الجبهة) وحجليهما (البياض فوق الحافر) ولونهما العسلي يضفيان جمالاً استثنائيًّا على الطفلين المتوجين بجلبابين أبيضين وطربوشين أخضرين بنجوم صفراء مذهبة فوق صهوتيهما، كان الجمع يطوف بهما والبنادير والزغاريد ترتفع إلى السماء، كانا الطفلان خائفين، لكنهما كانا ينسيان خوفهما ويبتسمان وهما يستمتعان بركوب الحصانين اللذين كانا مسرجينِ بسرجينِ من الجلد الرفيع، واللجامان الأبيضان بين أيديهما، بين فخديهما وضع كيسان يتدليان على كلا جانبي ظهري الحصانين، وقد مُلِئا عن آخرهما بالحلوى والشكولاته والبيض والنقود وأشياء أخرى، كانت دائرة صغيرة من الحناء تتوسط راحة أيديهما الصغيرتين، وقد طلت الحناء قدميهما كذلك، من حين لآخر كانت تسقط بُلْغة الطفل مروان على الأرض، فتبدو بقعة الحناء من القدم إلى الأصبعين، فوق كوعي رجليهما الصغيرتين ربطت الجدة عقدتين من حبات الملح وحبات الحرمل مع قِلادةٍ بيضاء مفتوحة البطن وممشوطة الحواف تشبه حلزونًا بحريًّا، كلما سألت الجدة عن ممارسة هذه الطقوس تقول لي: هذا ما تقتضيه التقاليد، ولا يمكن تجاوزها؛ تفاديًا لقوة خارجية قد تنتقم ممن لا يلتزم بها، وإن قلت: هذه أشياء تتناقض مع الإسلام، يقال لك: دعها تتناقض، المهم هو سلامتنا وسلامة أبنائنا.

 

تمت عملية الختان بنجاح، بكى الطفلان من لسعة المقص، اشتد ألمهما من جراء طلاء مكان الجرح بالكحول، لكنه بعد ساعات قليلة عاد الطفلان إلى حالتهما الطبيعية، تواصلت الأفراح طيلة النهار، الصف كما هي العادة دائمًا عند النساء والتبوريدة أو الفروسية عند الرجال والشباب، هذان النوعان هما اللذان يستقطبان أغلب الممارسات والممارسين والمتفرجات والمتفرجين، كان الدخان وتراب الأرض ورائحة البارود تملأ فضاء البستان، وكانت أسراب الطيور والحمام تطير منزعجة بدون اتجاه من جراء دوي البارود، كان الأطفال وحتى بعض الكبار والكبيرات يضعون أصابعهم في آذانهم لتفادي صدمة دوي البارود، تواصلت التبوريدة وأغاني الصف حتى غروب الشمس، زيدت خرفان أخرى إلى قائمة الخراف المذبوحة، وعاد الفقهاء عند المساء، مرت الأمسية القرآنية كسابقتها، لكن هذه المرة كان بعد القرآن وذكر الله، الكسكس واللبن هما سيدا الخيمة، تعشى الجميع، أخذت بعض الصور للحاضرين مع تحفظ بعض الفقهاء وتحمس وتقدم بعضهم لأخذها، قُرئت الفاتحة، ورفع الدعاء، وبنفس طريقة البارحة وصلت المكرمة إلى أصحابها.

 

بعد ظهر الغد تفرق الجمع، ركبنا سياراتنا، ودَّعتنا الجدة وأسرة خالي ونباح الكلاب، حزنوا جميعهم على فراقنا وقد ألِفوا صخبنا ورقرقة أضوائنا طول الليل.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • اللسان العربي
  • حب الرسول العربي (قصيدة)
  • حكاية طفلة عربية (قصيدة)
  • أخـي العـربي (قصيدة)
  • حسرة العربي (قصيدة)

مختارات من الشبكة

  • فضل العرب عامة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مفردات تركية ذات أصل عربي(مقالة - موقع د. أنور محمود زناتي)
  • مثل عربي وقصته وأول من قال به(مقالة - حضارة الكلمة)
  • تحرير مسألة المعرب في القرآن الكريم جميع ما في القرآن عربي، ولا يفهم إلا على مقتضى لغة العرب(مقالة - آفاق الشريعة)
  • عرب الجزيرة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مباحث ومشكلات في الأدب المقارن العربي (1)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • طير عربي (بطاقة أدبية)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • التسديد لفهم التوحيد (عربي - PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • نظرية السياق في التراث العربي: "دراسة وصفية مقاربة بين الغرب والعرب"(مقالة - حضارة الكلمة)
  • رد على دعوى عنوانها: (ماذا تعني كلمة عربي؟)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 17/11/1446هـ - الساعة: 9:44
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب