• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

اليتيم الوادع المهجر ( قصة )

اليتيم الوادع المهجر ( قصة )
د. نزار نبيل أبو منشار

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 22/6/2014 ميلادي - 23/8/1435 هجري

الزيارات: 5532

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

اليتيم الوادع المهجر


قابلته حين كنت أودِّع شمسَ نهارٍ صيفيٍّ مُجحِف، كنت أُرسِل للشمس - وهي تلبس ثوبها الأحمر القشيب عند الغروب - قُبُلاتي وأشواقي، فإذا بالحرس المتعجرِف يلقيه بكلِّ همجية في شاطئ أحد أقسام السجن، الذي غصَّ بأبناء شعبٍ بلا حول ولا قوة، ليكون هذا الشبل الذي بدَت على محيَّاه علاماتُ الذهول والخوف من مجهول الأيام - أحدَ معالِمه، وصورةً من صور ابتلاءاته.

 

استمحت الشمس عذرًا، وأشحت بوجهي عنها، وأبرقت له من ثَغْري بابتسامة، تُحدِّد له برَّ الأمان في هالة من الخوف والرهبة سوَّر نفسه بها، وبدأت أَنقُل أقدامي أغذو السيرَ تُجاهه، وعيوني لا تَبْرح تنظر إليه، فسلمت عليه وصدري يفوح بالحنين تُجاهه، وأحداقي تُغرِقه بأمواج الأمان، وبعد أن تعارفنا هُنيهة، اقتدته نحو المكان الذي سيستقرُّ فيه.

 

كان كالأعمى الذي لا يَثِق بقائده، يُرسِل نظراته يَمنة ويَسرة، يريد أن يَسبُر أغوار ما حوله ليقف على حقيقة الأشياء.

 

عرفت من الارتعاشة التي عانقت جسده فتركته كمتدفئ في الثلج البارد، أنه يخوض تَجرِبة الأَسْر لأول مرة، فرُحْتُ أرسل له كلمات التثبيت؛ حتى أشدَّ من أزره في عالم حكمت عليَّ وعليه الأقدار أن نُبتَلى بأرزائه، كان ينظر إلى مستقره الذي سيعيش فيه ما شاء الله له من الزمن، كمَن أُدخِل عَنوة إلى قبر محفور، يخاف أن يُغلَق عليه فتزهق فيه أنفاسه.

 

طفِق هذا الغلام الصغير يُسكِت جوعَ أمعائه بلقيمات يُقيم بها أودَه، وملامح المستغرب بادية عليه مع كل لقمة يتحرَّك لها "بلعومه"، وهو يتحسَّس هذا المحيط من حوله، ليجد كلَّ ما فيه غريبًا، ويرى نفسه كزهرةٍ تُزرَع في روض تلاحمت فيه الأشجار، وتناكحت فيه الأغصان، وهو بُرْعم صغير لاجئ إلى هذه البُقْعة التي يَشِع كلُّ ما فيها بالسواد.

 

كان يخشى من كل شيء، حتى إنه كان متردِّدًا حين يُخاطِب نفسه، ترتعش يداه حين يُرتِّب سريرَه، وتَرتَعِد فرائصه إذا مرَّت فويسقة من تحت قدميه، وهو لا يعلم أن هذا العالم مليء بما لم تألَفه رُوحه، ولم تعتَدْه عيونه، وكاد هذا التشكك والرعب يسطو بعقله، لولا أن قدَّر الله لنا أن نَتدارَكه فننقذه من حضيض ارتكاسه، لنبعث فيه نشيدَ الصبر والأمل.

 

وتتدافع سلسلةُ الأيام، كلما مرَّت منها حلقة كان "لبيب" يُجبِر نفسه على التعاطي مع مستجدات حياته، وإن بدا في كلِّ حركة أو سكنة له يُقارِنها في أيامه التي خلت، فلا هذه سفينته التي حملت آمالَه، ولا هؤلاء مِن حوله الأهل الذين ألِفهم وألِفوه، حتى أمواج بحر الرمال من حوله كان يحس أنها تلعنه وتُطارِده.

 

وساقتني بصيرتي وفضولي إلى ألم يجتاح شغافه، كلما ذكرنا له أهله، فكانت الكلمات تتعرقل ما بين شفاهه، وحروفه تتلعثم مرات ومرات إذا رغب في الإفصاح، ليجد نفسه بعد كلِّ هذا مُلزَمًا بصمت يَخنق الكلمات في باطنه، ويزيد ألمه وجُرْحه دون أن تقرَّ عينه برؤية البلسم.

 

حين لمست منه الاطمئنان إلى جانبي، وأن رحالهُ تهدأ إذا مرَّت بحاضرتي، وسَّدت رأسي إليه، وهمستُ في أذنه بسؤال لم يجد بدًّا من إجابته، قلت له ونبرات الحنان تَقطُر من فمي: "ما بالك؟".

 

لَكَم آلمني جوابه، كان يُترجِمه دمعةً انسكبت من عينه الحزينة، حتى بدت كأنها حبَّة من الندى تنساب في أروقة زهرة مع بزوغ الشمس، فهي تعكس ألقَ الشمس ووَهْجَها فيها.

 

وأرخى لبيب لدمعته العِنان، فأضحت كلُّ دمعة تستحث أختها للَّحاق بها، في مشهد يدع الحليمَ حيرانَ، ويترك في قلب كل رشيد تساؤلات حرَّى:

هل ذاق هذا الغلام الغضُّ مرارةَ الدنيا وكآبة الأحوال؟

 

أم أنه الواقع المأزوم الذي أرخى ظلالَه على الناس، حتى حوت سجلاته أسماء شعبنا بأسره؟

 

واسترسل هذا الفتى في تعبيره الدامع، وراح يَعصِر الكلمات من شفتيه بعد أن أَحجَمت عن الظهور، وراح يتحدَّث عن حاله حتى أَجبَر دمعَه الدمع الهتون من عيون كل سامعيه أن يترقرق.

 

إنه سنان الدنيا لا يُفرِّق بين مُكلَّف وقاصر.

 

هذا الغلام مثَّل صورة حيَّة لمعاناة أُمَّة، تَسلَّطت عليه سِباعُ الأيام وكواسرُ البطاح، حتى أَسدَل عليه الليل الآهات، تعرفُ مِن تَقرُّح أجفانه كمَّ الألم الجمِّ الذي يتسلَّل في زوايا أحشائه، وحجم العبء الذي استقرَّ في قلبه، ومقدار الألم الذي اجتاح تفكيره وهو في عمر الصبا، حتى تركَتْه كل تلك الذكريات يَختطُّ طريقَه في الحياة كهلاً في ثوب الشباب.

 

أكبِر بهذا القلب الدامي، بهذه الأكف الناعمة التي كانت تَكِدُّ وتَجْهد في دروب الحياة حتى تُوفِّر للأهل لقمةَ عيشهم، فالدهر قد رماه بقوسه المسددة، والموت اقتنص والده وهو في عمر الزهور، وخلَّفته الأيام يُعايش مُكابَدة الناس بطرائقهم ومَنَابتهم وتوجُّهاتهم، يحتكُّ بالرعاع والدهاقنة، وهو لا زال يتعلَّم أبجديات حياته الأولى.

 

يتيم صغير، ليس له في حياته رأس مال، اللهم إلا أمَّه التي تُشرِق في رُوحه بنسائم الحنان بين الفينة والأخرى، وألجأته الليالي الحبالى بالهموم أن يمسح الدمعَ من عين أمه كلما انساب منها، ويتم هو دمعته فلا يجد لها منفذًا.

 

كم ذكر لنا أخته الصغيرة، تركها وهي تحبو على مدارج بيته القديم، وتودِّعه وهي لا تكاد تفقه نظرات الوداع الملتهبة، حين لم يُمْهِله العدوُّ اللئيم المتجبِّر، فأضاف إلى مأساة هذه العائلة المبتورة مأساةً أخرى، وليزرع في قلب عناصر البيت ترانيمَ الحزن والنياحة والألم، لا لذنب إلا لأنهم مسلمون سكنوا أرض رِباط مُقدَّسة.

 

حدَّثنا كيف شرَّد العدوُّ أجداده وآباءه من عسقلان المجد إلى قطاع غزة، ليعيش لاجئًا في كنفِ أرضه، يتنفَّس هواء فلسطين بنصف رئة، فلا هو بين أفياء كرومه، ولا هو حيث ينتمي ويحب، ليعيش مُرَّ الفُرْقة، وكَبَد التهجير القسري، ولَأْوَاء الذكريات الجامحة لأهله وخِلانه.

 

تنقش الأيام في وجه "لبيب" توقيعَها المؤلم، لتجتثه من وسط بعض الحنان الذي يعيشه، وتلقيه في جزيرة السجن حيث لا ماء ولا خضراء، لتَفترِسه أيام حزن تخفت تحت قناع آخر، إنه صلف السجان وعنجهيَّته، وجبروت مُنتفِش يَفرِض نفسَه على البطاح بقوة السيف والسنان، بعد أن فقد في وجوده على هذه الأرض البتولِ قوةَ الحُجَّة والبرهان.

 

تكتمل فصول المعاناة، حينما يترك العدو البغيضُ هذه الزهرةَ التي بالكاد تفتحت على أبواب القهر الأحمر، وألقت برحلها أمام بقعة جرداء لفَّتها أنياب الحديد من كل حَدَب وصوب، حتى منعت الأطيار من مواساة مكلوم، وحجبت الريح أن تنعش فؤاد ملهوف.

 

يُنهي لبيب بعض ما جال في خاطره من ماضيه الذي تلفع ثوب الجراح، وتحدث مع السجناء الذين التفوا حوله، وقد زادهم حديثه غِلاًّ على غِل، وبات يشكو جراحاته الراعفة لمن شنَّفوا آذانهم شوقًا أن يُكمِل رحلة ماضيه، وكان كلما أَوغَل في كلماته ازدادت مساحة العذاب فيه، واصطرخت الأشجان في قلبه، حتى تداخَل بعض كلامه في بعض.

 

ألهذا الحد يا دنيا؟

أَوَمَا تركتِ أحدًا دون أن تَعَضَّه نواجذُك؟

هل سمحَتْ لك قسوتُكِ أن تستبيحي كل نفس كان لها فوق ترابك دبيب؟

وهذا الغلام الذي ما فارقتْه طفولته المعذبة حتى أسلمته إلى مراهقته المذبوحة، إلى مَن تكلينه يا دنيا؟

 

إليكِ عنه، فوالذي خلق السماء بغير عمدٍ، وكان فردًا ما وُلد وما وَلد، إن في نبرات صوته المكبوتة ألحانًا، لها في النفوس صدى متضرِّم من هول ما يحمل من آهات.

 

إليكِ عنه يا دنيا، وألجمي نزوات غرورك، وفكِّي قيدًا من تلك التي تحلَّقت حول جِيدٍ كان كالآس الرقيق، واخلعي من عُنُقه تلك الرهبة التي أحدثتِها بخيلِك وخُيلائك، ولا تنضحيه بنَبْل الآهات وما عاد في جسده مكان لتخترقه النبال.

 

يا لها من قسوة مُفرِطة، أن يتجرَّد الإنسان من ماله، فتلك مصيبة، وأن يُزاد عليه بفقد عزيز عليه، فتلك طامَّة، أما أن تتكدَّس الآهات في إنسان لا يُطيق إحداها، فهذا من البلاء المحتم، ومن الطامات التي تَكسِر الظهرَ، ويَشيب لهولها الوِلْدان، فما بالكِ يا دنيا زدتِه فوق ذلك نار السجن، وأصليتِه جهنم البُعد عن أُمِّه التي تَبكيه، وأخته التي طَفِقت تُفتِّش عنه في كلِّ الدروب المقفرة؟!

 

ظل هذا الشبل يلفظ مع كلماته أنفاس الشوق، حتى غدا كفرخِ طيرِ النورس، الذي عصفت به الريح فحملته بعيدًا عن عشه، وهَوَتْ به في وادٍ سحيق، فانكسر جَناحُه، فهو بعيدٌ عن عُشِّه، وأمه التي تبحث عنه في الأفق ما بين الشمس والكواكب، فتحجبه عنها صخرة جثمت فوقه، فلا هو مُختنِق ميت، ولا هو حيٌّ في ظلِّ والدته.

 

لا غرو أن ينوح مِثلُ هذا الشبل القاصر، وقد حكمت عليه أطياف الظلم أن يرتع في قابل أيامه في مساحة تكبرها مساحة بيت الدجاج، وأن يتنفس بإذن سجَّانه، وينام بإذن سجانه، وتطلع عليه الشمس وهو تحت طائل عيون سجانه.

 

حاولت جاهدًا أن أَبُثَّ من خلال اللسان العطوف في قلب هذا الغلام اليافع ثوابتَ الصبر، وأدبيات التحدي، كنت أَجِد فيه من الألمعيَّة ما يؤهِّله أن يجتاز سقف التحدي، فعكفتُ على أن أزرع في فكره أساسيات الصمود، واستلهمتُ من الماضي إطلالة عَزْم وتوثُّب، ورفعت من مستوى الجاهزية في نفسي، واتخذت من وقتي فنًّا وأسلوبًا أحاكي من خلاله ألَمَ هذا الغلام اليتيم حتى أَستدرِج الألم من كينونته.

 

تعانَقَ الليلُ والنهار وما حطَّت الشمسُ رحالَها وارتحلت إلا وهذا اليافع الغضُّ يتعلَّم من فنون الحياة أمرًا، فقد كان ذكاؤه مِرْجلاً يُؤجِّج فيه نارَ العزيمة، وكانت التجارب التي خاضها مخزونًا ذهنيًّا ومعلوماتيًّا، ومع الأيام كانت البسمة تتسلَّل خِفية إلى شفتيه، وقام المعتقَلون بتكاتُفهم حوله من بِناء سدِّ الثبات؛ ليُواجِهوا به معًا طوفان اليأس الجارف.

 

وتقتضي حكمة الله أن يجعل من هذا الأشعث - الذي هضمتِ الأيامُ حقوقَه - صاحب شأن في الحياة، فقد اغتنم كلَّ دقيقة، واستفاد من كل لحظة، فلا تنقضي ساعةٌ من نهار إلا وفيها عبرة مُقتبَسة، وفائدة تَمَّ حصدها، حتى تشكَّل في فِكْر هذا الصغير مستودعُ ذخائرَ فيها من المعرفة والعلم والخبرة ومعرفة الحياةِ أسلحةٌ فتَّاكة وعتاد كامل.

 

ولإيماننا أن هذا المُعذَّب سيُفارِقنا أو نُفارِقه، فقد اجتهدنا وبذلنا كلَّ ما في وُسْعنا من جُهْد وطاقة، من أجل إعطاء هذا المحروم صديقًا لا يخونه، وجليسًا لا يَكذِبُه، وأنيسًا أمينًا يقضي معه ساعات من وقته تكون له فيها الفائدة، فلا ينفك يتطوَّر، ويصنع على خير جليس في الزمان؛ ليعيش حيًّا في مجتمع المتعلِّمين، لا جثة هامدة يتراكم فوقها غبار الجهل، وعفنُ المادية القَذِرة.

 

ويحين الوقت، ويقف الضابط المسؤول في عجرفته وكبريائه المصطنعة لينادي على اسمي، لقد جاء قرارٌ بنقلي من قفص إلى قفص، ولم يكن أمامي من الوقت سوى بضع دقائق أحزم فيها أمتعتي، فبت كطائر يَذرف دمعه حتى ذابت وجنتاه من حرقة الدمع الهتون.

 

حدقت في عينَي "لبيب"، كانت عيناه متفتحتين من الدهشة والذهول، وكان صامتًا يُومِئ بحركة رأسه أنه لا يريد الوداع.

 

ترك الخيمة وانزوى، ولما قمت لأحزم حقائبي، استوقفني بعض المعتقلين حولي وأشاروا عليَّ بالذَّهاب إليه؛ فقد تأثر جدًّا من النبأ الذي وقع عليه كالصاعقة، فقد كنت له خلال الأيام القلائل التي عاصرته فيها بمثابة الأب والأم والأخ والرفيق والمُعلِّم، وليس من السهل أن تَنتزِع من إنسان هذه القيم ببساطة.

 

استجمعت قوَّتي، وانطلقت إليه، وفي قلبي أكثر مما في قلبه من الأسى لهذا الوادع القَسْري، فإذا به قد دفن رأسه بين رُكبتيه، وقد أسند ظهرَه إلى أسلاك السِّجن في زاوية الساحة اليسرى، فتقدمت إليه أسير، ويحملني طائر الأسى فوق جَناحيه الفضفاضين، ودنوتُ منه بكل هدوء، ووضعت باطن كفي على رأسه، وبدأت "أطبطب" له على رأسه المُثقَل بالألم.

 

يا "لبيب"، إنها لحظة الوداع، وقد عشتُ معك لحظات من أروع لحظات حياتي، ولكنك تعلم أن الأسر هنا ليس بأيدينا، ولا بد من الرحيل، فاسمح لي أن أودِّعك بهذه الكلمات.

 

رفع "لبيب" رأسه نحوي، وإذا بعيونه تَقذِف حممَها، وشفاهه ترتجُّ من سماع النبأ، رقَّت له نفسي، وأجمعتُ أمري أن أترك في نفسه أطيب الأثر، فالمعلم مَن أحسَن اختتام حصته الصفِّية كما بدأها، فقلت له بكل عطف:

يا "لبيب"، هذه دنياك، خذها دربًا لآخرتك، واعلم أنها دار ابتلاءٍ لا دار سعادة، ولكن اعلم، مهما اجتاحتك المآسي، وانقضَّت عليك الكواسر والسباع، كن أنت، نعم يا "لبيب"، أنت اليوم ليس الفتى الذي دخل علينا قبل رَدَح من الزمان هنا، وإني أدعُك اليوم وأنا ممتلئ يقينًا أن البذار ستنمو، وأن "لبيبًا" الذي تعهَّد القرآن، وصادَق الكتاب، والتزم دروبَ المعرفة والعلم - قد أضحى نجمًا يخطف من سائر النجوم بريقَها وضياءها، فقف يا "لبيب"، وامسح دموعك الحارقة، ولا تدعها تُذرَف فتكوي صدرك.

 

يا "لبيب"، لو أن الدمع يُجدِي في مواجهة فتن الدنيا، لرأيت الناس تسير في الأزقة والطرقات وقد خُدَّت في وجوهها أخاديد سود، ولكنها باحات الابتلاء، والرجل هو الذي يواجه قدره ولا ينحني أمام العاصفات الهائجة.

 

انسابت كلماتي في صدره المجروح، وتحرَّكت يداه بكل رقة، ومسح الدموع عن وجنتيه الورديَّتين، وأجبر ثغره أن ينقشع عن ابتسامة لا تكدرها المرارة، لأخرجَ من بين أحضان السجن وأنا أرى فيه ما أتمنى، وبدون وعي خانته قدماه، وتآمرت ضده أحشاؤه، فقذفت به في أعماق صدري، وقد انفجر بالبكاء الأليم، حتى فجَّر مدامع السجناء، ما منهم إلا وقد استرقَّ الموقفُ قلبَه، وذاقت وجنته من حرارة الدمع السخين.

 

أغدقت عليه كل المشاعر التي بحوزتي، وقذفت في قلبه بارقة أمل، وأنا أهدهد على ظهره، وانتزعتُه من أحشائي، وأرسلت مع مشاعري بسمةً تسللت إلى قلبه عنوةً، فطأطأ رأسه، وراح يحمل معي أمتعتي، وهو يقدِّم إحدى قدميه ويؤخر الأخرى جزعًا أن أودعه، ولكنه كان قد حسم أمره أن يستمر رغم كل الآهات.

 

وخرجت من بوابة السجن وعيونه لم تفارقني للحظة.

 

وقف على الأسلاك الشائكة وأسند رأسه إليها لا يبالي بوخزها، وهو يلوِّح لي بيديه، وينادي عليَّ بصوته العذب، وما أن خرجت من السجن وغاب عني طيفه، حتى سمعت صوته يهز الآفاق من حولي، وزلزل الأرض من تحتي، لقد صرخ بأعلى صوته:

سأكبَرُ وأتحدى.

سأكبَرُ وأتحدى، وأعود إلى روح عسقلان.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • دقة توقيت ( قصة )
  • على أوراق الخريف ( قصة )
  • نصف إنسان ( قصة )

مختارات من الشبكة

  • كفالة اليتيم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • طفلك اليتيم طريقك إلى الجنة (لقاء مع أمهات الأيتام)(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • كبائر في حق اليتيم، والهدي النبوي في كفالة أيتام وأرامل الشهداء (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري)
  • كبائر في حق اليتيم، والهدي النبوي في كفالة أيتام وأرامل الشهداء(محاضرة - موقع الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري)
  • فضائل كفالة اليتيم، وفضل الأرملة الحابسة نفسها على أيتامها ما لم تخش الفتنة (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري)
  • فضائل كفالة اليتيم، وفضل الأرملة الحابسة نفسها على أيتامها ما لم تخش الفتنة(محاضرة - موقع الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري)
  • اليتيم بين الكفالة والكفاية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة: حقوق اليتامى في الشريعة الإسلامية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرح حديث سهل: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الرحمة باليتيم(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب