ثلاثية الآحاد الثالثة

ثلاثية الآحاد الثالثة

1- الحضارة والحجارة

قال أحدهم لأحدِنا: ما بال الناس إذا ذُكرت الحضارة تذكَّروا الحجارة؛ أهذا لجناس ناقص بينهما؟

أحدُنا: نعم ناقص، وكم أنت ماكر يا هذا، ولكني غير متأفف لمكرك هذا ولا كاره له؛ فقد ثقبت لي ثقبًا في جدار صمت طويل أقول بعد الحمد لله رب العالمين: إن الحضارة والحجارة بينهما جناس ناقص بيانيًّا بفارق حرف، وهذا ما لست تقصده أنت، أليس كذلك؟

أحدهم: أنت أمكر!

أحدنا مبتسمًا: إن حضارةً كحضارة المصريِّين القدامى ناهزت مئات القرون بكثير - حسَب مقاييس العلم والحساب التي أنعمَ الله بها على الخَلقِ - ما زلنا نَفتخِر بها حتى الساعة، ونُباهي بها القريب والبعيد، والمُحبَّ والكاره، صنعتها يد المصري القديم تحت وطأة من القهر فرَضَها هو على نفسه فرضًا لاعتقاد في كرَّة أخرى، وتلك تفاصيلُ الغالب يعرفها.

أحدهم: نعم، ماذا بعد؟

أحدنا: لم لم نسأل أنفسنا؛ فهذا صنيعه قديمًا لمواكبة عصره وزمانه، فما عسانا نفعل نحن للخروج من خندقة الفكر وقصور الفهم؟

أحدهم: لديك حظ وافر من الشطط، سوف يرد عليك في تمردات قلمك المعتادة، فاحذر وتريَّث، ولا تدْعُكَ الإسعافات اللغوية والتجهيزات البيانية لمُجاوزة الحد.

أحدنا: كلنا تجاوز الحد!

أحدهم: فيم التجاوز؟!

أحدنا: في الفهم القاصر غير المتريث لفلسفة المصري القديم، كيف واكب عصره وتكيَّف مع مفردات الطبيعة؟

أحدهم: إسهابك يُملُّ، أَنجز ولا تخشَ ملامتي، فهناك من سيَسومك قارعة التأديب.

أحدنا وقد ابتسم وما انزعَجَ: أتعرف صاحب كتاب قصة الحضارة: (ويل ديورانت)؟

أحدهما: نعم أعرفه، ما شأنه؟

أحدنا: لقد قرأت له مقولة غريبة استوقفتني طويلاً، وحمدتُ الله العليَّ الحفيظ أنْ حفظتُها في رأسي حتى أُدرجها ضمن أي مقال يَستدعيها، فما تَراني كثير الإتحاف والانشغال بكتابات الغربيِّين في شأنِنا العربي.

أحدهم: سبحان الله! الإسهاب يكاد يقتلني.

أحدنا: معذرة... لقد قال: "في شبابي كنت أهتمُّ كثيرًا بالحرية، وكنت أقول: إنني على استعدادٍ للموت من أجل حريتي؛ ولكنني في كهولتي أصبحت أهتمُّ أكثرَ بالنظام قبل الحرية؛ فقد توصلت لاكتشاف عظيم يُثبِت أن الحرية نتاج نظام"[1].

أحدهم: تعني أن النظام في حدِّ ذاته حضارة؟

أحدنا: هل على هذا اختلاف أن ينعت به الإنسان المنظم في هيئته وملبسه ومأكله وعمله بأنه شخص حَضاريٌّ؛ أي: ارتقى فوق مستوى البدائية المتوحِّشة العفوية، وما سُمِّيَت الحضر بذلك إلا لارتقائها في مناط المعايش، سواء المادية منها والمعنوية، والبدْو على العكس، وتلك مسألة نسبيَّة ليست في المَضمون العام، بل في طبائع البشر وتفاوُتِهم؟!

أحدهم: إذًا لنجعل النظام ركيزة حياة وفكرة رُقيٍّ.

أحدنا: لعلَّ الله يَرضى.

أحدهم: أحسنتَ، ثم انصرف.

2 - زهد الذئاب

قال أحدهم يومًا لأحدنا وقد أخذته الدهشة:

سمعتُكَ أكثر من مرة تُردِّد مقولةً غير معقولة؛ ربما لو سمعها منك الجهول بهتَكَ، ولو علِمها القارئ عنك مقَتك؛ ولا تجد إلا القلة يَستبصرون.

أحدنا: الحمد لله الذي أثنى على القليل في مواضع الحمد؛ ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، ﴿ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص: 24]، ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40] هذا على سبيل الذِّكر لا الحَصر.

أحدهم: صدق الله العظيم، إن المقولة: "أشرُّ الرعاة من تَزهَدُ في قطيعِه الذئاب" أنى يكون هذا؟!

وإن زهدَ الذئب في القطيع لَيَعكِس قوة وبأس الراعي في الذودِ عن قطيعِه، وتلك محمَدَة له ومنقبة كبرى، فكيف يُنعَت بالأشر؟

أحدنا: ما قصدت ذلك.

بل أعني: إنَّ الزهد يكون في قطيع أنهكته المخمَصة والجوع فصار أشلاءً مركَّبة تَمشي على الأرض، ولسان حال الذئب عندها يقول:

ما شأني وشياه لا تُغني ولا تُسمِن من جوع، تُقحمني في عداءٍ مع الراعي، ذلك ما أقصده؟

أحدهم: صدقتَ، ثم انصرف.

3- السكون والتسكين

قال أحدهم يومًا لأحدنا: هل لك في قرض الشِّعر ونظمِه؟

أحدنا: ليس كثيرًا، أخشى زلات العَروض، وانهيار البيوت، في بُحور متلاطمة بين البسيط والطويل، ومُجتزأ وكامل، فآثرتُ الإقبال على النثر والبيان، ففيهما النجاة مما ذكرتُ، فأخذتُ من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حكمة الشعر أقرؤُها، وسِحر البيان أخوض فيه.

وبالذِّكر فالشعر مجال مطروق على اختلاف المدارس والاتجاهات.

ولكن، قل لي: لمَ هذا السؤال؟

أحدهم: يا كثير الكلام، يا صاحِ، كنت أودُّ لو أقول لك: ما بال الشاعر يلجأ إلى السكون.

أحدنا: وهل في هذا سؤال؟ "سكِّن تَسلم" مقالة قديمة لتوخِّي الوقوع في زلات النحو والصرف، وضياع الأشرعة في بحور الشعر المتداخلة.

أحدهم: يبتسم ثم ينظر بخائنة عينٍ لصاحبنا ويقول: والتسكين؟

أحدنا: أفهمك وأعرف ما تعنيه، أنت ما قصدتَ الكلام عن الشِّعر والعروض وبحوره الستة عشر وما زاد عليها، إنما تحوم بسماء السياسة والرئاسة، وتلك سماءٌ حلق فيها الكثير، والكلام فيها ليس بالجديد.

أحدهم: هل لك في ذلك من تعليق؟

أحدنا: عندما يكون السكون انتظارًا لمواكبة المُنتصِر فهو مذلة وهوان للمُنتظِر؛ فالحق معلوم، فتخيَّر سبيلك من الآن، والتسكين سكِّين يَذبح به الآخر عدوه بالصبر وترقُّب الأحوال، نجَّانا الله ونجاك، وحفِظ بلاد المسلمين من كل سوء، فقل: آمين، فقال: آمين، ثمَّ انصرف.