• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / روافد
علامة باركود

دراسة بلاغية في سورة الحاقة

دراسة بلاغية في سورة الحاقة
د. محمد عبدالعزيز الموافي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 1/4/2012 ميلادي - 9/5/1433 هجري

الزيارات: 152304

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

دراسة بلاغية في سورة الحاقة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ... ﴾ [الحاقة: 1 - 5].

 

اعتمدت هنا على كتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. مطبعة الكتب المصرية القاهرة، 1948، ج 18، ص 257 وما بعدها، وتفسير الكشاف للزمخشري الطبعة الأولى، المكتبة التجارية، القاهرة 1354هـ.

 

الحاقة: القيامة سميت بذلك لأن الأمور تحق فيها، أو لأنها تكون من غير شك، أو أنها أحقت لأقوام الجنة ولآخرين النار، أو لأن فيها يصير كل إنسان حقيقاً بجزاء عمله. والحاقة والحقة والحق، ثلاث لغات بمعنى. وهي على صيغة اسم الفاعل مع إضافة التاء التي تنقل اللفظ من الوصفة إلى الاسمية.

 

والحاقة الأولى رفع بالابتداء، والخبر المبتدأ الثاني وخبره ما الحاقة؟ لأن معناه ما هي والفظ استفهام، ومعناه التعظيم والتفخيم لشأنها.

 

وما أدراك ما الحاقة: استفهام أيضاً (أي شيء أعلمك ما في ذلك اليوم؟) والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالقيامة، ولكن بالصفة، فقيل تفخيماً لشأنها: وما أدراك ما هي؟

 

كأنك لست تعلمها، إذ لم تعاينها. قال بعض العلماء: كل شيء في القرآن قال فيه: ((وما أدراك)) فقد أدراه إياه وعلمه: وكل شيء قال ((ما يدريك)) فهو مما لم يعلمه. وقال بعضهم: كل شيء قال فيه وما أدراك فإنه أخبر به، كل شيء قال فيه ((ما يدريك)) فإنه لم يخبر به.

 

القارعة: القيامة، لأنها تقرع الناس بأهوالها، يقال: أصابتهم قوارع الدهر، أي أهواله وشدائده، قوارع القرآن: الآيات التي يقرأها الإنسان إذا فزع من الإنس أو الجن، نحو آية الكرسي، كأنها تقرع الشيطان، وقيل القارعة مأخوذة من القرعة في رفع قوم وحط آخرين، قيل القارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه.

 

وثمود: قوم صالح، وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز في المنطقة التي تسمى وادي القرى، أما عاد فقوم هود، وكانت منازلهم بالأحقاف.

 

﴿ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ * وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ... ﴾ [الحاقة: 5 - 9]

 

فأهلكوا بالطاغية: بالفعلة الطاغية، أو بالصيحة الطاغية؛ أي المجاوزة للحد والطغيان مجاوزة الحد، وقيل معناها بالطغيان فهي مصدر كالعاقبة والعافية، وقيل إن الطاغية هو عاقر الناقة أي أنهم أهلكوا بما أقدم عليه طاغيتهم من عقر الناقة، وكان واحداً، وإنما هلك الجميع لأنهم رضوا بفعله، وقيل له طاغية كما يقال رواية الشعر، وداعية، وعلامة.

 

صرصر: باردة تحرق ببردها كإحراق النار، مأخوذ من الصر وهو البرد، وقيل شديدة الصوت، أو الشديدة السموم.

 

عاتية: عتت على عاد فقهرتهم، أو على خزانها من الملائكة فلم تطعمهم، لأنها غضبت لغضب الله.

سخرها: أرسلها وسلطها عليهم، والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار.

 

حسوماً: متتابعة لا تفتر ولا تنقطع، أو هي من حسمت الشيء: إذا قطعته وفصلته عن غيره وقيل: الحسم: الاستئصال، ويقال للسيف: حسام، لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته، والمعنى أنها حسمتهم أي قطعتهم وأذهبتهم. وقيل الحسوم: الشؤم، لأنها تحسم الخير عن أهلها. وهذه الأيام هي التي يسميها العرب ((برد العجوز)) لأن عجوزاً من عاد دخلت سرباً، فتبعتها الريح فقتلتها في اليوم الثامن. وحسوماً نصب على الحال أو على المصدر ((تحسمهم حسوماً)) ويمكن أن يكون مفعولاً لأجله، أي سخرها عليهم هذه المدة للاستئصال!

 

فيها: في تلك الأيام والليالي، أو في الريح.

أعجاز نخل خاوية: أصول نخل بالية. أو أن معنى خاوية: خالية الأجواف.

والنخل هنا مؤنث ويجوز تذكيره، كقوله تعالى ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾ [القمر: 20].

 

باقية: صفة لمحذوف (فرقة أو نفس) وقيل من بقية، ويجوز أن يكون اسماً أي هل تجد لهم أحداً باقياً.

ومن قبله: من تقدمه من القرون الخالية والأمم الماضية.

 

المؤتفكات: أهل قرى لوط وسميت القرى مؤتفكات لأنها ائتفكت بهم: انقلبت، مشتقة من الإفك وهو القلب، ومنه قيل للكذب: إفك، لأنه قلب للحقيقة.

 

بالخاطئة: الفعلة الخاطئة وهي المعصية والكفر.

 

﴿ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ [الحاقة: 10 - 15].

 

رسول ربهم: هو موسى عليه السلام، وقيل لوط لأنه أقرب، ولا مانع من إرادة الاثنين بلفظ. كما قال تعالى: ﴿ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[1] وقيل رسول بمعنى رسالة.

 

رابية: عالية على الأخذات وعلى عذاب الأمم، ومنه الربا. وقيل شديدة.

طغى الماء: ارتفع وعلا.

حملناكم: حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم.

 

الجارية: صفة للسفن، والمحمول في الجارية نوح عليه السلام وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك.

 

لنجعلها لكم تذكرة: السفينة، أو الفعلة، موعظة لكم.

 

وتعيها أذن واعية: تسمعها وتحفظها أذن حافظة لما جاء من عند الله يقال لكل ما حفظته في غير نفسك: أوعيته، ولما حفظته في نفسك: وعيته، ونظير قوله تعالى: ﴿ وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾.

 

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾[2].

 

والأذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل. ويروى أن الرسول دعا ربه ((إن يجعلها أذن علي)) فكان كرم الله وجهه يقول:((ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فنسيته إلا وحفظته)).

 

الصور: البوق.

 

نفخة واحدة: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلم يبق أحد إلا مات، وجاز تذكير ((نفخ)) لأن تأنيث النفخة غير حقيقي. وقيل إنها الأخيرة.

 

وحملت الأرض والجبال: رفعت من أماكنها.

 

دكتا: فتتا وكسرتا. ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة وكذلك الأرض ومثله قوله تعالى: ﴿ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ [3].

 

وقعت الواقعة: قامت القيامة.

 

﴿ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ﴾ .

 

وانشقت السماء: تصدعت وتفطرت، قيل لنزول ما فيها من الملائكة بدليل قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزيلًا ﴾ [4].

 

واهية: ضعيفة، وكلام واه: ضعيف، وقيل: متخرقة.

 

الملك: الملائكة، اسم للجنس.

 

على أرجائها: على أطرافها حين تنشق. وقيل ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة. والأرجاء النواحي والأقطار، واحدها رجا (مقصور)، وثنيته رجوان.

 

ثمانية: ثمانية صفوف من الملائكة، أو ثمانية أملاك. الله أعلم.

 

فوقهم: حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها، أو فوق أهل القيامة.

 

يومئذ تعرضون: على الله لقوله تعالى: ﴿ وعرضوا على ربك صفاً ﴾ للحساب والمجازاة.

 

لا تخفى منكم خافية: لأنه سبحانه مطلع على كل شيء، فخافية على هذا بمعنى خفية كانوا يخفونها من أعمالهم. وقيل لا تستتر منكم عورة، كما قال صلى الله عليه وسلم ((يحشر الناس حفاة عراة)).

 

بيمينه: إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. وقد تكرر ذكر الكتاب في القرآن بمعنى سجل أعمال الإنسان التي يحاسب عليها يوم الجزاء، كقوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ ﴾ .

 

وقوله في سورة الانشقاق: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾[5].

 

هاؤم: اسم فعل بمعنى خذوا، أو تعالوا. وهاؤم: كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح.

 

كتابيه: منصوب بهاؤم، أو باقرءوا، والأصل كتابي فجاءت الهاء للوقف ولتبين فتحة الياء، وكذلك في ((حسابيه وماليه وسلطانيه)) والأحسن الوقف على الآخر في القراءة، ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت، ويوافق الخط.

 

﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ...... ﴾.

 

ظننت: أيقنت وعلمت، وكل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك، وقد أحسن المؤمن الظن بربه فأحسن العمل، وأساء المنافق الظن فأساء العمل.

 

أني ملاق حسابيه: أي في الآخرة، ولم أنكر البعث؛ فسبب نجاته خوفه من يوم الحساب ولذلك استعد للآخرة.

راضية: في عيش يسعده لا مكروه فيه، أو مرضية فاعل بمعنى مفعول.

عالية: عظيمة في النفوس.

 

قطوفها دانية: قريبة التناول. والقطوف جمع قطف بكسر القاف وهو ما يقطف من الثمار. والقطف بالفتح المصدر والقطاف بفتح القاف وكسرها وقت القطف. وكل هذا تمثيل لنعيم الجنة، الذي لا يخطر على قلب بشر، من الواقع الذي يعيشونه.

 

كلوا واشربوا: مقول القول، أي يقال لهم ذلك.

هنيئاً: لا تكدير فيه ولا تنغيص.

 

بما أسلفتم في الأيام الخالية: بما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا. وجاز الجمع في ((كلوا)) بعد الإفراد في ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾ [الحاقة: 19] و﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 21] لأن ((من)) يتضمن معنى الجمع، فكان الإفراد مراعاة للفظ، والجمع مراعاة للمعنى.

 

كانت القاضية: يتمنى الموت.

سلطانيه: سطوتي وقدرتي في الدنيا، أو حجتي.

فغلوه: قيدوه بالأغلال.

ثم الجحيم صلوه: اجعلوه يصلى الجحيم أي يحرق بنارها.

 

ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً: يراد بالعدد هنا التكثير كقوله تعالى: ﴿ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80] أما العدد في آيات التشريع كآيات الطلاق والعدة والمواريث فمعانيها محددة ومفهومها اللفظي مقصود.

 

فاسلكوه: تدخل عنقه ثم يجر بها، أو تدخل في دبره حتى تخرج من فيه.

 

﴿ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ * فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.

 

ولا يحض على طعام المسكين: عذب على الأمر بالبخل، فمن باب أولى العذاب على البخل نفسه وعلى الكفر. والحض: التحريض والحث، والمراد إطعام المسكين، فوضع الطعام مكان الإطعام كما يوضع العطاء موضع الإعطاء.

 

حميم: قريب يرق له ويدفع عنه، وهو مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار، كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له. والحميم أيضاً: الجمر يتبخر به، والقيظ، والمطر الذي يأتي بعد الحر.

 

غسلين: صديد أهل النار السائل من جروحهم، وهو كالزقوم والضريع وغيرهما من طعام أهل النار، لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

 

الخاطئون: المشركون.

 

فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون: بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون. لا زائدة أو هي لنفي القسم أي لا يحتاج الأمر إلى قسم لوضوح الحق فيه. وهو يرد على المتخرصين المتهمين الرسول بأنه ساحر مرة، وشاعر أخرى، وكاهن مرة ثالثة.

 

رسول كريم: جبريل عليه السلام، بدليل قوله تعالى:((إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين)) وقيل هو محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله ((وما هو بقول شاعر)) وليس القرآن من قول الرسول إنما هو من قول الله عز وجل. ونسب القول إلى الرسول لأنه تاليه ومبلغه والعامل به.

 

وما هو بقول شاعر: لأنه مغاير لأنواع الشعر كلها.

ولا بقول كاهن: لأنه سب الشياطين، فلا يعقل أن ينزلوا على الكاهن كلاماً يسبهم به.

 

قليلاً ما تذكرون: قليلاً ما تؤمنون: القليل منهم هو أنهم إذا سئلوا عمن خلقهم قالوا: الله. أو أن القلة في معنى العدم وما زائدة لتأكيد المعنى.

 

تنزيل من رب العالمين: أي هو تنزيل، وهي معطوفة على ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ [الحاقة: 40]، والنزول والتنزيل تستعمل كثيراً مع القرآن وسوره وآياته: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 193]، ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ﴾ [الزمر: 23]، ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ﴾ [الإسراء: 82] وهذا الاستعمال يلائم اتصافه سبحانه بالعلو والرفعة. ورب الشيء: صاحبه ومربيه، ومنه قوله تعالى: ﴿ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ﴾ [يوسف: 42] وترد كثيراً مضافة: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ ﴾ [الرعد: 16]، ﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129]، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46] وقد تأتي دون إضافة ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15] ولم ترد معرفة بأل.

 

ورب العالمين: من أدق التعابير وأرقاها في الدلالة على مفهوم الإله الواحد في عقيدتنا السمحة.

 

﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الحاقة: 44 - 52].

 

تقول: تكلف وأتى بقول من قبل نفسه.

 

الأقاويل: جمع أقوال، وهذه جمع قول، وجمع الجمع هنا أضعف هذه الأقاويل المفترضة وجعلها كالأساطير مبنى ومعنى.. كالأضاحيك والأعاجيب.

 

باليمين: بالقوة والقدرة وعبر عنهما باليمين، لأن قوة كل شيء في ميامنه، وقيل بالحق.

 

الوتين: عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه. والمراد لأهلكناه.

 

حاجزين: يحجزون عنه ويدفعون أي لا يمنعونه مما يراد به.

 

وإنه لتذكرة: القرآن كقوله تعالى: ﴿ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2] وهم الخائفون الذين يخشون. ربهم وقيل محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه تذكرة ورحمة ونجاة.

 

مكذبين: أي بالقرآن.

وإنه لحسرة: وإن التكذيب لندامة.

وإنه لحق اليقين: لعين اليقين وهو أنه تنزيل من الله عز وجل.

فسبح: فصل لربك ونزهه عن السوء والنقائص.

 

توطئة:

جاء الإسلام لينشئ عقيدة جديدة تتناقض تناقضاً جذرياً مع المعتقدات الوثنية السائدة. ولم يكن إنشاء هذه العقيدة أمراً ميسوراً وإنما كان في غاية الصعوبة. وإذا أردنا أن ندرك هذه الصعوبة علينا أن نحاول انتزاع أنفسنا من واقعها إلى واقع هؤلاء الوثنيين الذين نظروا إلى فساد معتقداتهم نظرة عادية أليفة تراه الكمال كل الكمال! وترى كل ما عداه فاسداً وشاذاً ومستنكراً. وكما ننظر نحن الآن إلى إنسان وثني. كانوا ينظرون إلى من يدعو إلى عبادة إله واحد ونبذ الإشراك به.

 

وعندما نريد بيان صعوبة المهمة التي تكفل القرآن بحملها حينما أراد إرساء عقيدة الوحدانية في النفوس. يجب أن نتخيل عقول العرب وقد عشَّشت فيها العقائد الفاسدة وملأتها الأوهام الباطلة فأصموا آذانهم وعموا عن الحق الواضح المبين.

 

وإزاء هذا الوضع لم يكتف القرآن الكريم في دحض عقائدهم بالعقل والمنطق، لأن العقل البشري ليس إلا باباً واحداً من الأبواب العديدة إلى يمكن الوصول منها إلى تغيير النفس البشرية. ولذلك استعان بكل وسيلة تحركها وتساعد على إقناعها. من تنبيه للحواس وإثارة للوجدان، وتحريك للمشاعر.

 

وقد سحر القرآن العرب منذ اللحظة الأولى. وكان وراء إيمان كثير منهم يوم أن كان محمد صلى الله عليه وسلم وحيداً في مكة وقبل أن يكون للإسلام حول ولا طول بتأثير هذا السحر آمن الفاروق عمر وكاد يهدي الوليد بن المغيرة، لولا أن أعرض وأمعن في ضلاله ((إنه فكر وقدر، فقتل! كيف قدر؟ ثم قتل! كيف قدر؟ ثم نظر. ثم عبس وبسر. ثم أدبر واستكبر. فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر)) متناسياً أن قوله هذا عن القرآن أدل على سحره وتأثيره من قول المؤمنين!

 

(ولا يقل عن ذلك دلالة على هذا السحر ما حكاه القرآن عن قول بعض الكفار ﴿ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26] فإن هذا ليدل على الذعر الذي كان يضطرب في نفوسهم من تأثير هذا القرآن فيهم وفي أتباعهم. وهم يرون هؤلاء الأتباع يسحرون بين عشية وضحاها... ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم هذه المقالة وهم في نجوة من سحر القرآن؛ فلولا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روعتهم ما أمروا أتباعهم هذا الأمر، وما أشاعوا في قومهم هذا التحذير، الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير)[6].

 

وقد أجهد الباحثون أنفسهم قديماً وحديثاً لبيان منبع السحر في القرآن الكريم وبيان أوجه إعجازه التي آمن بها المصدقون؛ ولم يمارِ فيها المكذبون. ولكن يظل لأسلوب القرآن وطريقته في التعبير أثر بارز في هذا الإعجاز. ويظل جماله الفني عنصراً مستقلاً بجوهره، خالداً في القرآن بذاته.

 

والتصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية. وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور. وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية.

 

ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة. وأداة التصوير هي الألفاظ الجامدة لا ألوان المصورة ولا الشخوص المعبرة وهذا يزيدنا إعجاباً بروعة هذا الإعجاز....

 

ويجب أن نتوسع في معنى التصوير حتى ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن فهو تصوير باللون وتصوير بالحركة وتصوير بالتخيل كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيراً ما يشترك الوصف والحوار. وجرس الكلمات. ونغم العبارات. وموسيقا السياق. وفي إبراز صورة من الصور تتملّاها العين والأذن والحس والخيال والفكر والوجدان. وهو تصوير حي منتزع من عالم الأحياء لا ألوان مجردة وخطوط جامدة. تصوير تقاس الأبعاد فيه والمساحات بالمشاعر والوجدانات[7].

 

ونمضي مع الأستاذ سيد قطب ليبين لنا فضل طريقة التصوير على غيرها من الطرق التي تنقل المعاني والحالات النفسية في صورتها الذهنية التجريدية، وتنقل الحوادث والقصص أخباراً مروية، وتعبر عن المشاهد والمناظر تعبيراً لفظياً، لا تصويرياً تخييلياً - بقوله [8]: يكفي لبيان هذا الفضل أن نتصور هذه المعاني كلها في صورتها التجريدية وأن نتصورها بعد ذلك في الهيئة الأخرى التشخيصية: إن المعاني في الطريقة الأولى تخاطب الذهن والوعي، وتصل إليهما مجردة من ظلالها الجميلة. وفي الطريقة الثانية تخاطب الحس والوجدان.

 

وتصل إلى النفس من منافذ شتى: من الحواس بالتخييل ومن الحس عن طريق الحواس. ومن الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء.

 

ويكون الذهن منفذاً واحداً من منافذها الكثيرة إلى النفس. لا منفذها المفرد الوحيد. ولهذه الطريقة فضلها ولا شك في الدعوة لكل عقيدة.

 

ولكننا ننظر إليها هنا من الوجهة الفنية البحتة. وإن لها من هذه الوجهة لشأناً؛ فوظيفة الفن الأولى هي إثارة الانفعالات الواجدنية وإشاعة اللذة الفنية بهذه الإثارة وإجاشة الحياة الكاملة بهذه الانفعالات.

 

تغذية الخيال بالصور لتحقيق هذا جميعه...وكل أولئك تكلفه طريقة التصوير والتشخيص للفن الجميل.

 

من هذا المنطلق ستكون نظرتنا إلى الحاقة. حيث يتركز اهتمامنا على الأسلوب القرآني المعجز الذي يؤلف بين الغرض الديني والغرض الفني فيما يعرضه من الصور والمشاهد. ((بل يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني. فيخاطب حاسة الوجدان الدينية بلغة الجمال الفنية. والفن والدين صنوان في أعماق النفس وقرارة الحس. وإدراك الجمال الفني دليل استعداد لتلقي التأثير الديني. حين يرتفع الفن إلى هذا المستوى الرفيع. وحين تصفو النفس لتلقي رسالة الجمال))[9].

 

وإذن فالإعجاز الباهر للقرآن الكريم كما يعود إلى مضمونه يعود بنفس القدر إلى طريقة عرض هذا المضمون بوسيلته المفضلة وهو التصوير بمفهومه الشامل الذي أشرنا إليه.

 

عرض عام:

سورة الحاقة من السور المكية التي نزلت - على أصح الأقوال - في العهد المكي قبل الهجرة[10]. وهناك فروق عديدة بين السور المكية والسور المدنية، يهمنا منها هنا ما يتصل بالأسلوب، ذلك أن الهدف من كل منهما قد حدد الأسلوب الذي يحققه. وهدف السور المكية هو إرساء دعائم العقيدة الجديدة، وترسيخها في النفس محل العقائد الوثنية الباطلة. والتركيز على أخطر قضيتين دهش لهما المشركون: قضية التوحيد ((أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب!!)) وقضية السمعيات التي تشمل الأمور الغيبية: من بدء للخلق، ونهاية له، وبعث وحساب... إلخ. ولذلك وجدنا أسلوب السور المكية يميل غالباً إلى الإيجاز والتركيز والاتجاه إلى هدم عقائد المشركين الفاسدة وإزالة أنقاضها وتسوية الأرض لتشييد العقيدة الجديدة. وهو يواجه أفكاراً بأفكار، وعقيدة بعقيدة، ومفاهيم للحياة بمفاهيم أخرى جديدة.

 

والسور المكية بعد هذا منها سور يهدف أسلوبها إلى هز السامع وإثارة وجدانه وتحركه، وليتدبر ويفهم وينقاد. ويستعين الأسلوب لتحقيق ذلك بكل الإمكانات اللغوية من ألفاظ ذات جرس شديد أو صور رهيبة، أو إيقاع عنيف، وغير ذلك مما يوقظ العقل ويحرك القلب وهناك نوع آخر من هذه السور تميل إلى مجادلة المشركين وتفنيد دعاواهم الباطلة وتفصيل القصص لاستنباط العبرة. ولذلك اختلف أسلوبها عن النوع الأول الذي يشمل سورة الحاقة.

 

أما السور المدنية التي نزلت بعد أن عم نور الإسلام فقد كان هدفها أن تفصل الحديث عن علاقة المسلمين بعضهم ببعض وعلاقتهم بغيرهم، وترشدهم على العموم إلى كيفية إقامة المجتمع المسلم المبشر بانتشاره وسيادته. ولذلك اختلف أسلوبها اختلافاً يتفق واختلاف أهدافها عن السور المكية. وكان تركيزها على التشريعات الجديدة التي تضمن بناء الإنسان المسلم. وإقامة المجتمع المسلم.

 

هذه السورة تعد مثالاً رائعاً للسور المكية المتفقة معها في الهدف والأسلوب. فهي جميعاً تهدف إلى بيان جدية العقيدة الجديدة التي يحملها محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث إنها لا تحتمل هذا العبث الصبياني من المشركين لأن الله سبحانه وتعالى قد أراد أن يتم البناء العقدي للبشرية. فيكمل محمد صلى الله عليه وسلم ما بدأه إخوانه من الرسل السابقين، ويختم رسالات السماء إلى الأرض.

 

ولذلك وجدنا التهديد والتعنيف يظللان جو السورة في البدء والختام ويمهدان لترسيخ العقيدة الجديدة. وإزالة الأوهام المعششة في عقول المشركين.

 

وقد وجدنا هذا كله يتضح من طريقة بدء السورة بالحديث عن النهاية بتلك الطريقة المدهشة: آيات قصيرة متدرجة، تبدأ بكلمة واحدة تحمل تسمية جديدة ليوم القيامة، وبعد أن تقرعهم السورة بهذا الحديث المركز، تعرج على مصارع المكذبين الذين حادوا عن الصواب وهزأوا برسل السماء إليهم. فتعرضها السورة عرضاً سريعاً قوياً. يشد الذهن إلى تذكر المصير الرهيب لمن يهزأ حيث لا مجال للهزء. ويكذب حيث يطلب منه التصديق والخضوع.

 

ثم تعود السورة مرة ثانية إلى الحديث عن النهاية. خلال قفزة واسعة من الماضي السحيق إلى المستقبل البعيد. وما فيه من نهاية رهيبة للكون. ومشهد جليل للحساب. فنظام الكون الرتيب يصيبه الاختلال، إذ تتفتت الأرض والجبال. وتنشق السماء وتنفرط نجومها، وتتجلى العظمة الإلهية مستوية على العرش الذي تحمله الملائكة , ((لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار!)) ويكون الحساب لكل ما قدمت يد الإنسان، لا تخفى منه خافية. ويشهد على الناس ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم.

 

وهنا تبرز مسئولية الإنسان عن إعماله وضرورة استعداده لتحمل نتيجة هذه المسئولية.

وبعد الحساب نلمس ذلك التناقض في المصير بين المصدقين والمكذبين. وموجبات هذا المصير لكل منهما.

 

ثم تتعرض السورة لجلاء قضية الوحي. تقرير أنه من عند الله سبحانه تعالى. بيان سخافة الافتراءات التي ألصقوها بالرسول. ممهدة لذلك كله بقسم تخشع له النفوس تهتز له القلوب. ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ [الحاقة: 38 - 40] ثم تنفي عنه صلى الله عليه وسلم صفة الكهانة والشعر وتؤكد هذا المعنى بطريقة تبين فظاعة افترائهم وشناعته. وتقرعهم غاية التقريع. عندما تفترض فرضاً يستحيل حدوثه، وترتب عليه جزاء خطيراً وعنيفاً ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴾ [الحاقة: 44، 45]. فهم في النهاية هم المقصودون بهذا الأخذ الحاسم والتهديد الجازم، لأنهم هم المفترون وهم المكذبون.

 

ثم تختتم السورة بتقرير حاسم وجازم فيه القول الفصل في تلك القضايا.

 

أما وأن السورة الكريمة قد احتشدت لبيان خطورة العقيدة وجديتها وزلزلة هؤلاء المكذبين. واستنقاذهم من باطلهم الذي هم فيه يعمهون، وزجرهم بتجسيد المصير الفاجع الذي ينتظرهم في الآخرة. بعد أن علموا طرفاً منه مما لحق بأسلافهم الضالين، أما وأن السورة قد احتشدت لهذا كله فقد تكفل معجمها اللفظي وإيقاعها وأسلوبها وصورها في الإقناع بذلك كله.

 

المعجم اللفظي:

تؤكد ألفاظ السورة منذ بدايتها جو الرهبة الذي أحاطت به المكذبين. فبدأت بتسمية غير مألوفة للقيامة ((الحاقة)) وهي في ذات الوقت موحية بضلالهم وتكذيبهم؛ فلأنهم مكذبون بالحق فسوف يصلَوْن الأمرَّين في ((الحاقة)) وجرس اللفظ يشعر بأننا أمام أمر واقع مطبق صارم: صخرة ضخمة تسَّاقط من علُ فوق رءوس المضلين، لتنتشلهم من غيهم وباطلهم. فهي حاقة لأنها تحق فتقع. أو فيها يحق الحق ويبطل الباطل.

 

ثم تضاعف الآيات الكريمة تعميق الشعور بهذا الإحساس، فالحاقة الأولى مبتدأ فصل عنه الخبر وهذا يستدعي من السامع التساؤل: ما الحاقة؟ وما المراد بها؟ ولم يزد السؤال الأمر وضوحاً. بل زاده غموضاً! ونتوقع أن يأتي الجواب في المرة الثالثة التي يتكرر فيها اللفظ ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ﴾ [الحاقة: 3] فإذا بنا نخبط في حيرة أشد، ونظل في ترقب وتلهف. ثم تترك السورة الإجابة عن هذا السؤال إشعاراً بقصور علمنا عن بلوغ كنهه لأنه أعظم من أن يحيط به إدراك. ومن أجل هذا التهويل والتفخيم كان وضع الظاهر مكان المضمر.

 

تلك ثلاث موجات متعاقبة متدرجة في الطول، يتوالى فيها السؤال والاستفهام، وتتكرر فيها كلمة جديدة في مدلولها على يوم القيامة، لتوحي بجرسها بجسامة هول هذا اليوم بالقاف المشددة التي تقرع الأذن قرعاً وبخاصة بعد المد الطويل الممهِّد لها والمظهر لشدتها، والمختومة بتاء مربوطة تنطق هاء، فتنطفئ فيها شدتها. وهذه المقدمة المثيرة بهذا اللفظ الذي تشكَّل في صور مختلفة. تحث السامع حثاً على التنبيه والإصغاء والتدبر والاهتداء.

 

كذلك لفظ ((القارعة)) الذي استخدم في القرآن للدلالة على يوم القيامة لما فيه من الأهوال التي تقرع القلب وتزلزله، وتقرع الكون بالدمار والفناء. هذه القارعة أنكرتها عاد وثمود، فماذا أصابهم؟ أهلكوا بـ((الطاغية)) و((بريح صرصر عاتية)) وما أهلك به هؤلاء المكذبون من الصيحة والريح. أخف كثيراً من القارعة لكنه من جنسها. واختيار التعبير عن الصيحة بوصفها ((الطاغية)) ووصف الريح بالعاتية، يتسق مع جو الرهبة الذي يظلل السورة، ويوحي بنزر يسير مما هو مدخر لهم يوم تحق ((الحاقة)) وكذلك وصفها بـ((صرصر)) يجعل من هبَّاتها المدمرة قذائف تنطلق عليهم فتهلك الحرث والنسل.

 

وخلال تفصيل ما أصاب قوم عاد يتناسق اللفظ مع الحالة المراد تصويرها تناسقاً بديعاً؛ فهاهم أولاء المتجبرون الطاغون بعد أن حل بهم ما حل تراهم ((صرعى)) كأنهم أعجاز نخل خاوية.و بعد أن ملأوا الكون ضجيجاً ومشوا فيه متكبرين وطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، يصيرون إلى هذا المنظر الساكن الرهيب الذي يزيده صمته روعة وتأثيراً. فاللفظ هنا يكاد يستقل برسم صورة كاملة.

 

وتكرار ((ترى)) له دلالة عظيمة، فما أصابهم خليق بأن يرى ويتدبر، والمشهد كله حاضر، مشخص، مرئي!.

 

والأخذة ((الرابية)) التي أخذ بها قوم فرعون تتناغم مع ((الطاغية)) التي أهلك بها ثمود، والريح العاتية التي قضت على عاد.. وهكذا تتعاون الألفاظ بجرسها وحده في تصوير الهول والرعب دون تفصيل ولا تطويل.

 

وتعبر السورة عن فيضان الماء ب((طغى الماء)) واللفظ يرسم صورة شاخصة لعنف هذه المياه التي أغرقت المكذبين من قوم نوح. كما يوحي ((حملناكم)) بالحنو على المؤمنين والرأفة بهم.

 

وما حدث كله يتضاءل إلى جانب الهول المروع المتوقع الذي تصوره ﴿ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 14 - 16] إن سنين عديدة وطويلة لا يعلمها إلا الله لتطوى في لحظة، لنجد أنفسنا متجاوزين الحاضر الذي نعيشه، ونستغرق في هذا المستقبل الذي بلغ من روعة تصويره أنه غطى على هذا الحاضر. وهنا يكاد لفظ ((الدك)) بجرسه يطابق معناه. وهذا ما نجده في ((أسلفتم)) فهي بعذوبة جرسها تناسب أهل اليمين وما ينعمون به. وفي ((هاؤم اقرؤا كتابيه)) بما يصوره اللفظ من نشوة الظفر بتحقيق أمل كبير. وما يكمله الخيال من تمثل حركة هذا الفائز، وقفزه عالياً فرحاً وبهجة.

 

وفي تصوير موقف الكافرين أهل الشمال تتضافر الألفاظ لبيان هول الموقف وشدته بتكرار أداة التمني ((ليت)) حسرة وندامة، ولات ساعة مندم، وبهذه الأوامر الحاسمة الجازمة بهذا المصير المروع للكافر، خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، الذي لا يطعم إلا من ((غسلين)) هذا الطعام المقزز الذي تكاد الحروف تجسده! وقد مهد لذلك كله استعمال لفظ أصحاب الشمال - بدلاً من أصحاب اليسار، للدلالة على المكذبين الهالكين؛ بسبب ما يثيره ((الشمال)) من النحس والشؤم وسوء المصير. على حين يوحي ((اليسار)) بالبهجة والرخاء والسعادة. ولذلك أطلقه العرب على الشمال تفاؤلاً، كما فعلوا في ألفاظ غيره.

 

وفي زفرات الأسى التي يطلقها الكافر نجده يستخدم ((هلك)) بدلاً من ذهب أو ضاع في تحسره على جاهه ونفوذه ((هلك عني سلطانيه)) لأنها أبلغ في الدلالة على الفناء والاستئصال من غيرها.

 

ولننظر إلى هذه الألفاظ من خلال الموقف الذي جاءت لتبرزه:

 

((تقول، الأقاويل، لأخذنا)) لنرى مدى الحزم في أمر العقيدة الجديدة، وجسامة العقاب الذي يحل بمن يهزل أو يبدل فيها حتى إن كان محمداً صلى الله عليه وسلم، فضلاً، عما يوحي به ((تقول والأقاويل)) من أن هذا الافتراء المفترض، لا يمكن أن ينتج عنه إلا شيئاً هزيلاً متهافتاً، أقرب إلى الأساطير!

 

الإيقاع:

يشعر الإنسان بانسجام واضح بين موضوع هذه السورة والنغمات السائدة فيها والإيقاع الموسيقي في القرآن الكريم متعدد الأنواع، لكنه في كل الأحوال يتناسق مع محيطه، ويؤدي وظيفة أساسية في التصوير القرآني.

 

ولقد حكى المولى سبحانه اتهام العرب للقرآن بأنه شعر ونفى عنه هذه التهمة الباطلة. وما كان العرب مجانين ولا جاهلين بخصائص الشعر يوم جازفوا بهذا الاتهام الذي يضعف موقفهم لظهور بطلانه. لقد راع القرآن خيالهم بما فيه من تصوير بارع وسحر وجدانهم بما فيه من منطق ساحر، وأخذ أسماعهم بما فيه من إيقاع جميل وتلك خصائص الشعر الأساسية على أن النسق القرآني قد جمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً فقد أعفى التعبير من قيود الوزن والقافية، وأخذ من الشعر الموسيقى الداخلية. والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، والتقفية المتقاربة التي تغني عن القوافي. وحيثما تلا الإنسان القرآن أحس بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه[11].

 

وقد جاءت بداية السورة قوية الجرس ذات فواصل قصيرة متلاحقة متدرجة في الطول، ثم أعقبتها آيات قصيرة تتماثل في المدات والحركات خلال استعراض قصص السابقين، حتى ينتهي هذا الاستعراض بنغمات متكاملة تشترك في عزف لحن جنائزي أمام الصمت الرهيب بعد مصرع الجبابرة! ثم يبدأ الحديث عن مشاهد القيامة ونهاية الكون، فنجد النفخة الواحدة والدكة الواحدة والواقعة، تكمل اللحن الذي بدأته الحاقة والقارعة والطاغية والعاتية والرابية. وهكذا نجد تلك النغمة المطربة الفرحة في تصوير موقف الناجي الذي اجتُلِبت هاء السكت في أواخر الآيات التي تصور موقفه لتزيد من روعة الموسيقى، تقابلها تلك النغمة الملتاعة النادمة المتمنية اللاطمة في موقف الهالك، يختمها هذا القضاء الرهيب الحاسم ﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ.... ﴾.

 

ويلاحظ أن السورة بعد أن فرغت من الحديث عن مصارع المكذبين ومشاهد القيامة تغيرت الفاصلة فصارت هادئة ممتدة؛ لأنها تقرر حقائق ولا تصور مواقف ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ.... ﴾ وقد مهد لهذا الانتقال بالحديث عن سبب ما أصاب الهالك المكذب من العذاب ﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ... ﴾.

 

ويجمل الأستاذ سيد قطب أثر الإيقاع هنا بقوله[12]: ويشارك إيقاع الفاصلة في السورة، برنته الخاصة، وتنوع هذه الرنة وفق المشاهد والمواقف في تحقيق ذلك التأثير الحي العميق... فمن المد والتشديد والسكت في مطلع السورة، إلى الرنة المدوية في الياء والهاء الساكنة بعدها طوال مشاهد التدمير في الدنيا والآخرة، ومشاهد الفرحة والحسرة في موقف الجزاء.. ثم يتغير الإيقاع عند إصدار الحكم إلى رنة رهيبة جليلة مديدة ﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ.... ﴾ ثم يتغير مرة أخرى عند تقدير أسباب الحكم وتقدير جدية الأمر إلى رنة رزينة جادة حاسمة ثقيلة، مستقرة على الميم والنون.

 

ونقف الآن وقفة أكثر تفصيلاً أمام روعة الإيقاع في السورة.

 

ومنذ بدايتها كان للتكرار جوانبه الموسيقية ممثلة في تلك النغمات الحادة العنيفة المحذرة المنذرة في ((الحاقة)) و((القارعة)). كما نلاحظ أن تقديم ثمود المتأخرين زمنياً[13] عن عاد في الذكر، روعي فيه التجانس الصوتي في ((كذبت ثمود)) ولأن لفظة ((القارعة)) التي جاءت فاصلة - موافقة للفواصل السابقة واللاحقة - تجانس من الوجهة الصوتية عاداً. ((وعاد بالقارعة)). وقد جاء ترتيب العقاب في الدنيا موافقًا لترتيب القومين في الذكر: ((ثمود وعاد)). كما أن طبيعة الانتقام من حيث السرعة أو البطء انعكست في الحديث عن العقابين؛ فبما أن عقاب ثمود تمثل في صيحة واحدة لواحد من جند الله، فقد كان الحديث عن هذه الصيحة في آية واحدة فقط.

 

وبما أن عقاب عاد بالريح الشديدة البرودة والصوت، فقد كان الحديث عن وسيلة العذاب الطويلة هذه مائلاً إلى الطول[14].

 

وفي تصوير هلاك قوم نوح والحث على الاتعاظ به، نلاحظ كثرة المدات، وبالذات الألف، في الحديث عن الطوفان ونجاة المصدقين، ثم الإكثار من الحركات القصيرة في الحديث عن ضرورة الاتعاظ بما حدث. وربما كان السبب في ذلك أن عنف الطوفان وهوله وفزع الجميع ورعبهم، يجعل الزمن يمضي ثقيلاً متباطئاً، فهذه المشاعر تطيله وتضاعف من حدة الإحساس بهذا الطول. ومن هنا جاءت هذه الألفات الطويلة لتصوير استطالة الزمن عليهم، وضيقهم به واستعجالهم لمروره. ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾ على حين شفت كثرة الحركات القصيرة في قوله تعالى: ﴿ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ عن أن العظة فما حدث واضحة جلية، وعلى مشركي مكة الإسراع في تلقفها والإفادة منها، في الكف عن الغي الذي هم فيه سادرون!

 

وهذه اللمحة الموسيقية الدقيقة هي التي نجدها كثيراً في الشعر.

 

فالشاعر يكثر من حروف المد عندما يريد الإشعار بالطول أو الإبطاء أو التراخي. على حين تقل هذه الحروف للإيحاء بالقصر والإسراع والعجلة. وهذا ما نجده في قول الشاعر.

عللاني فإن بيض الأماني ♦♦♦ فنيت والزمان ليس بفاني

 

فعند طلب العزاء والاستغراق في الأمل، واستمرار الزمن، كثرت حروف المد، وعندما تبدد الأمل وتجهم الواقع عبر عنه الشاعر بلفظ خال من هذه الحروف ((فنيت)).

 

ومعلوم أن الإنسان يشعر بقصر أوقات السعادة وسرعة مرورها:

يا ليل طل يا نوم زل ♦♦♦ يا صبح قف لا تطلعِ

 

كما يستطيل زمن أحزانه ويشعر بثقل وطأته وبطء مروره عليه:

يا ليل بل يا أبد ♦♦♦ أنائم عنك غد؟!

 

و إذا توقفنا أمام حديث السورة عن مشاهد القيامة فسنجد الإيقاع متجاوباً مع المضمون تجاوباً واضحاُ، ممثلاُ في تكرار كلمة ((واحدة)) في ختام الآيتين المتتاليتين ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ ؛ إشعاراً بنفاذ الإرادة الإلهية وقوتها ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ﴾ وكان لتماثل الفواصل أثره في تعميق الإحساس بهذا الشعور. وقد راعى الأسلوب القرآني المعجز هذا التماثل إلى درجة أنه أخضع نظم الكلمات له، فقدم فيها وأخر حتى تتحد الفواصل؛ وذلك كما في قوله تعالى: ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾، فلكي يتحقق التماثل تأخر الفاعل ((ثمانية)) إلى ختام الآية.

 

وكذلك وجدنا تلاؤم الفواصل واضحاً في الآيات التي تتحدث عن أهل اليمين وأهل الشمال؛ ففضلاً عن تماثل الفاصلة في مجموعة الآيات التي تتحدث عن كل فريق، نجد التلاؤم بين المجموعة الأولى والمجموعة الأخرى فـ((كتابيه)) و((حسابيه)) تكررت في المجموعتين، و((راضية)) و((عالية)) في المجموعة الأولى تقابلهما ((قاضية)) و((ماليه)) بما فيهما من اتفاق في كثير من النواحي. وبخاصة إذا ما راعينا في القراءة الحكمة الدقيقة من إضافة هاء السكت إلى ((كتابيه)) و((حسابيه)) فوقفنا على آخر الكلمة التي تنتهي بها الآية ليتحقق التناغم المنشود.

 

وتحافظ السورة الكريمة على التناغم الموسيقي وتلاؤم الفواصل في الأوامر الصادرة إلى زبانية جهنم بتعذيب الكافر وإهانته؛ حيث لم تلتزم السورة بالترتيب الطبيعي للجملة العربية فقدمت المفعول به على الفعل والفاعل في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾ وهذا المسلك ذاته هو ما وجدناه في قوله عز من قائل: ﴿ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴾ .

 

الأسلوب:

تنوع أسلوب السورة في تصوير ما تضمنته من أفكار، لكنه في كل حال ((يحاصر الحس بالمشاهد الحية، المتناهية الحيوية بحيث لا يملك منها فكاكاً، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة))[15].

 

وقد تنوع الأسلوب في عرض ما تضمنته السورة من أفكار، فهناك العرض التاريخي المركز المنتقي للخطوط البارزة، والصور المؤثرة في الأحداث التي يعرضها. وهناك الوصف والتصوير خلال هذا العرض التاريخي وخلال استعراض مشاهد القيامة. كذلك نرى إحياء المواقف عن طريق التمثيل والحوار كما يتضح في مشهد الناجي ونجواه الذاتية ﴿ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ﴾ . ومنظر الهالك المعذب وحديثه الباكي النادم ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾ ثم في الحديث الموجه إلى كل منهما ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ..... خُذُوهُ، فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾ والأسلوب بعدوله عن الحديث بضمير الغائب عن أهل الجنة والنار، إلى توجيه الخطاب لهم ثم فسح المجال أمامهم ليصوروا ما هم فيه - قد أحيا المشهد وأبرز الصورة وهز وجدان القارئ. فضلاً عن أنه قرن التكريم المادي ﴿ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ بالتكريم المعنوي ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا ﴾ كما قرن العذاب المادي ﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴾ بالعذاب المعنوي ﴿ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴾، فتجلت الإهانة والتقريع في هذا الحديث المشعر بالإهمال؛ حيث التفت من التكلم إلى الغيبة.

 

وقد تألفت السورة من آيات قصيرة ترتبط ارتباطاً واضحاً، وبخاصة داخل كل موضوع من موضوعاتها التي تناولتها. كما اختلفت التراكيب في الآيات بحيث استعملت الجمل الفعلية في تصوير الحوادث المتجددة ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ... فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ... سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ... وَجَاءَ فِرْعَوْنُ... فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ، فَأَخَذَهُمْ ﴾ وكما يلاحظ، بدأت هذه الجمل الفعلية بالفعل الماضي دلالة على تحقق ما حدث والجزم بوقوعه. كذلك بدأت به في الحديث عن المستقبل المحقق الوقوع ﴿ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ... وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ... وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ ﴾، أما إذا كان فعلها مضارعاً فإن الهدف هو استحضار الموقف ﴿ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى... فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ.... وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴾ .

 

وجاءت الجمل الاسمية للدلالة على الثبات والاستقرار ﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ... إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ... تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ... وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ... وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ ((كما جدنا الجمل الإنشائية التي تبدأ بالاستفهام للدعوة إلى التأمل والتفكير)) ((مَا الْحَاقَّةُ؟ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ)) أو للنفي ((فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ؟)) أو تبدأ بالتمني تجسيداً للحسرة ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ... يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴾.

 

وقد عدل أسلوب السورة عن الترتيب الطبيعي للجملة العربية فقدم ما يستحق التأخير، والعكس بالعكس، لهدف فني تهدف إليه.

 

ففي قوله تعالى: ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ تأخر الفاعل وتقدم المفعول والظرف، لإكساب التعبير نغمة تتفق مع فواصل السورة، ولأن المهم هنا إبراز العرش المحمول والفوقية المشعرة بعظمة القدرة الإلهية. وفي قوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴾ بدأ بالجار والمجرور وأخر الفعل؛ تحقيقاً لجمال الإيقاع الموسيقي، وإبرازاً للمهانة التي يتجرعها هذا الأسير الذليل المقيد ((فِي سِلْسِلَةٍ...)) فقد تقدمت السلسلة على ((فَاسْلُكُوهُ)) - كما تقدمت الجحيم على صلوه - لأن المراد لا تسلكوه إلا في النار العظمى، وإلا في هذه السلسلة. وقريب من هذا ما نلمسه في قوله تعالى: ﴿ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ﴾ من تأخير اسم ليس. وكما سبقت الإشارة فإن إيقاع الآيات قد تأثر بهذا الأسلوب أيما تأثر.

 

وبعد هذا الاستعراض المجمل لأسلوب السورة المعجز، نقف وقفة أكثر تفصيلاً أمام بعض جوانب هذا الإعجاز.

 

تبدأ السورة بتكرار لفظ الحاقة ثلاث مرات في ثلاث آيات متتالية. و((الْحَاقَّةُ)) دون تكرار تثير الرعب والهلع، فكيف إذا تكررت على هذا النسق المعجز المتتالي؟! ويمكن إدراك أثر هذا التكرار إذا قرأنا الآيات مستبدلين الضمير فيها بالاسم الظاهر: ((الْحَاقَّةُ! ما هي؟ وما أدراك ما هي؟)) وقد زاد من تأثير التكرار هنا اقتران اللفظ المكرر بالاستفهام القادر على إشراك المخاطب في الحديث واستثارة إيجابيته، فبمجرد إلقاء السؤال عليه سيطلق لعنانه الخيال ويصبح إيجابياً من أجل تخيل صورة تلائم عظمة هذا اليوم.

 

ثم ترتد الآيات إلى التاريخ لتستعرض أمام المشركين مصائر المكذبين وتبدأ بثمود قوم صالح وتقدمهم على عاد وقد أدى هذا الابتداء بالمتأخرين زمناً إلى أن يتجه استعراض التاريخ إلى الأقدم منهم. وهؤلاء هم الذين سبقوا عاداً وذكرتهم السورة الكريمة: فرعون والذين من قبله، وقوم لوط، وقوم نوح.

 

وتنحو السورة الكريمة منحى بليغاً دقيقاً في تصوريها لنهاية المكذبين، فلأن هلاك ثمود كان بالصيحة الطاغية فقد تحدثت عنه في آية واحدة بإيجاز يلائم سرعة هذه الصيحة ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ﴾ على حين طال الحديث عن نهاية عاد طولاً يتجانس مع امتداد عذابهم وطول مدته ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ .

 

كذلك كان لاختيار وسيلة الهلاك صلة وثيقة بأحوال المُهْلَكين؛ فقد وصلت ثمود إلى مرحلة لا بأس بها من الرخاء والاستقرار الاجتماعي والتحضر، إلى حد أنهم أخضعوا بيئتهم لمتطلباتهم ومصالحهم، فشقوا الطرق وبنوا البيوت واقتحموا الجبال ﴿ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ﴾ [16] وكان نبيهم صالح عليه السلام ينعى عليهم كفرهم ويستنكر طغيانهم: ﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ﴾ [17].

 

كما استنكر الأمان الكاذب الذي عاشوا في ظله، ولذلك كله كان في هلاكهم السريع أبلغ العبرة لمشركي قريش ولمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [18]. أما عاد فلم يبلغوا درجة التقدم الذي حققته ثمود ولذا لم يكن هلاكهم خاطفاً مثلهم. وإن كان أسلوب تصويره يزخر بالروعة والجلال، كما يتجلى ذلك في اختيار الريح التي يوحي لفظها المفرد بالعقم والعذاب، على خلاف الرياح التي لا تستخدم إلا في الخير ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ.... ﴾ [19]. ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ.... ﴾[20] كما يتضح في وصفها بصفتين رهيبتين ﴿ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ وهي مع ذلك سهلة ذلول مسخرة للواحد القهار مستعلية على هؤلاء المكذبين[21] مبيدة لهم حتى استأصلتهم من جذورهم.

 

وأمام هذه النهاية الرهيبة يأتي أسلوب الالتفات مخاطباً المستمع المشدوه من غرابة ما يسمع ليتوصل إلى التأثير فيه بأقوى الحواس ((العين)) وهذه الوسيلة زادت الالتفات قوة إلى قوته، وأصبح الناظر يتأمل ملياً هذا المشهد الجنائزي الرهيب: مشهد هؤلاء الهالكين الذين لم يبق منهم أحد، ولم يمت واحد منهم حتف أنفه ﴿ فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ وتختم هذه اللوحة العظيمة بتلك الصورة التشبيهية التي تعكس ضعفهم وعجزهم، ثم يأتي الاستفهام المحرك للانتباه والحاث على الاتعاظ والمؤكد للفناء الشامل لأن التبعيض الذي تفيده من أبلغ في الدلالة على فناء الكل ((فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ؟!)).

 

وتستمر السورة في استعراض مصائر المكذبين غير عادة وثمود ﴿ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ﴾ بأسلوب الانتفاء والتركيز. فالمؤتفكات كلمة واحدة تشع عديداً من

 

الظلال وتوحي إيحاء قوياً مؤثراً بعنف مصير المكذبين رسلهم؛ وهي لم تتحدث مباشرة عن قوم لوط وإنما صورت مواطنهم التي ائتفكت بهم وانقلبت عليهم ودمرتهم ﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ﴾ [22] أفلا يكفي هذا الاتعاظ كفار مكة القساة القلوب الغلاظ الأكباد؟!

 

ويبرز أسلوب الانتقاء المركز في هذا العرض التاريخي خلال الحديث عن قوم نوح؛ إذ نرى التركيز على موقف خاص من مواقف قصتهم هو موقف نجاة المصدقين ورحمة الله بهم، دون الوقوف عند هلاك المكذبين بأكثر من تلك الإشارة المركزة إلى طغيان الماء، ليعود الحديث إلى نعمة النجاة التي ينسحب فضلها على العالمين لأنهم أحفاد الناجين مع نوح عليه السلام، وتختار الآية لتصوير تلك النعمة كلمة ((حمل)) بما تشعه من معاني الأمومة والحنو والرأفة، ثم تتجه إلى المخاطبين ليستدعي ((الالتفات)) انتباه السامعين الذين تمتد إليهم من أبعاد الماضي السحيق وتشملهم بفضلها مِنَّة نجاة الله سبحانه للمصدقين بنوح عليه السلام.

 

كما مهد هذا الالتفات لتلك النقلة الواسعة من الماضي البعيد إلى الحاضر، نقلة توحي بأن المستمعين لهذه القصة هم الأحفاد الغاوون لأولئك المكذبين الضالين من قوم نوح. وبأن على هؤلاء الأحفاد الاتعاظ بما أصاب سابقيهم. وهذا الاتعاظ المفهوم من السياق هو ما صرحت به الآيات ونصت عليه، مستمرة في خطاب السامعين ﴿ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ﴾ واصفة الأذن بهذه الصفة تنبيهاً على سمو الوظيفة التي ينبغي أن تقوم بها لصاحبها؛ فالوعي هنا تشف حروفه عن عديد من المعاني الحسية والمعنوية التي تلتقي حول الحفظ والتدبر. كما يوحي بسمو الوظيفة التي ينبغي أن تقوم بها الأذن والتي أهملها هؤلاء المكذبون.

 

وتتجلي عظمة الأسلوب القرآني في الحديث عن موقف الحساب، وبالذات في تصوير سعادة المؤمنين الناجين وجزع الكافرين الهالكين.

 

يتضح ذلك في تلك الفرحة الغامرة التي تشمل المؤمن والتي تجعله يطير في الهواء ويصيح فرحاً ويطلب ممن حوله مشاركته في سعادته وإسماعه ما خط في كتاب نجاته ﴿ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ﴾ مناجياً نفسه بألفاظ قليلة مرطبة بشكر ربه وتقديسه ﴿ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ... ﴾.

 

أما الكافر فهو يطنب في الكلام تنفسياً عن شحنة الكرب التي تحرق جوانحه ويتمنى ما يستحيل وقوعه. ويندم ولات ساعة مندم!

 

وتتوالي زفراته الملتاعة ممثلة في المدات التي جاءت في حديثه والتي ابتدأها بـ((يا)) التي تمثل صرخة دامية تجسد واقعه الأليم أو تكرار ((عني)) في آيتين متتاليتين على لسانه، يزيد من تجسيد هذا الواقع ويبرز ضآلة الكافر الذي أعماه ماله وسلطانه فتنكب الطريق السوي وأمعن في الضلال.

 

وقد ضمَّن الجار والمجرور ((عني)) جملة ((أغنى)) معنى طرد الأذى وأبعد العذاب.. وبهذا تشي الجملة باغترار الكافر بماله وتعليقه الآمال الواهمة عليه، ثم مرارة خيبته وفرط عجزه[23]، لأن ماله لم يفده في آخرته ولم يدفع عنه ضراً، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ .

 

ويتغير مضمون السورة بانتقاله إلى واقع المشركين المكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه فيرد عليهم بهذا القسم ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ... ﴾ بما فيه من إشعار بعظمة الله سبحانه، الخالق لما نرى وما لا نرى. كما أن ((لا)) هنا تضاعف من هذا الإحساس سواء أكانت زائدة أم نافية؛ لأنها في حال زيادتها تفيد تأكيد القسم. أما إذا كانت نافية فإنها توحي أن المقسم عليه من الثبات والوضوح والتأكد بحيث لا يحتاج إلى قسم ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ . يضاف إلى ذلك أن الآيتين الأخيرتين بينهما تماثل دقيق من حيث الصياغة، والمضمون؛ فهما يكادان يستغرقان زمناً واحداً في النطق وزيادة الضمير المنفصل ((هو)) في الآية الأولى، يقابلها امتداد الصوت وطول الزمن في نطق ((تذكرون)) في الآية الثانية. كما أنهما يتماثلان في أن كل آية منهما يتصدرها شيء منهي عنه، وتختم بأمر مرغوب فيه. فنهت الآيتان عن التخرص بشأن القرآن، ورميه بالشعر مرة وبسجع الكهان مرة أخرى، وختمتا بالحث على الإيمان والتذكر والاعتبار.

 

وأخيراً يختم هذا المقطع بتلك الجملة الاسمية المؤكدة لصدق القرآن وسمو مصدره ﴿ تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ بتلك التسمية الفريدة ((رب العالمين)) التي تعتبر من أدق التعابير وأرقاها في الدلالة على مفهوم الإله الواحد القوي القادر في العقيدة الإسلامية.

 

وتبرز السورة شناعة الجرم، الذي ارتكبه المشركون بما رموا به القرآن الكريم وتنذرهم بسوء العاقبة بهذا الفرض المستحيل ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا..... ﴾، وبعنف وفظاعة الجزاء المترتب عليه ﴿ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ .

 

ثم يأتي ختام السورة مرتبطاً برباط وثيق بالآيات السابقة، مؤكداً مضمونها مبرزاً له؛ فالقرآن هدى وشفاء لصدور المؤمنين بالرسول وبما أنزل عليه، حسرة وضلالة على الكافرين ﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ .

 

التصوير:

يمكن القول بأن الوسائل السابقة ليست بعيدة عن التصوير، لأنها تسهم في تكوينه بطريقة أو بأخرى، وبخاصة إذا تذكرنا أن التصوير الفني هو الأسلوب المفضل في القرآن الكريم. وهو هنا واضح وضوحاً بيناً، فهذه مصارع المكذبين وتلك نهاياتهم الدامية الفاجعة، تكاد تطالع حواسنا في كل آية مصورة تصويراً بيناً، سواء في ذلك ثمود الذين اجتثتهم الصيحة الطاغية. وعاد الذين حصدتهم العواصف المزمجرة العاتية، حتى صرت تراهم رأي العين ((صرعى!)) وتأكد لناظريك محوهم محواً تاماً! وفرعون الذي قال:((أنا ربكم الأعلى)) فأخذه المولى أخذ عزيز مقتدر. أو تصويرها لتجاوز المياه كل الحدود وحماية الله لسفينة نوح ومن فيها. وتأمل تصويره سبحانه لجريمة فرعون ((وَجَاءَ فِرْعَوْنُ..... بِالْخَاطِئَةِ)) فهي كائن محسوس يؤتى به!

 

وهذه القصص العديدة التي أشارت إليها السورة إشارات مركزة مكثفة - جاءت على نحو أكثر تفصيلاً في مواطن عديدة من القرآن الكريم، بل إن واحدة منها، كقصة موسى وفرعون، استغرقت مئات الآيات في عدة سور مختلفة. ولكن طبيعة السورة واهتمامها جعلها تؤثر هذا الإيجاز والتكثيف. مكتفية من هذه القصص بتلك اللمسة الفاجعة التي انتهت بها كل واحدة منها لأنها - هنا - مناط العبرة ومحل التركيز!

 

أما مشهد النهاية والجزاء فقد أطالت السورة في عرضه وصورته تصويراً شاخصاً للعيان حتى لنكاد ننسى أننا نصور مستقبلاً لمّا يأت بعد، ونوقن بأننا نشهد حاضراً واقعاً أمامنا. وربما جاءت مشاهد التدمير والهول السابقة تمهيداً لهول أشد وتدمير أخطر يجعل الجبال كثيباً مهيلاً ومنه تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً!

 

ولا نجد في هذا الموطن أفضل من تلك اللمسات الصادقة للأستاذ سيد قطب في هذا الاقتباس الطويل الذي يبرز تصوير الآيات لهذا المشهد؟ والذي نختم به هذا التحليل:

 

((والآن وقد استعد الحس البشري المحدود لتصور هول الحاقة غير المحدود.... نرى نوعاً من التناسق الفني العجيب بين الحاقة والقارعة والطاغية والعاتية والرابية والدكة الواحدة والواقعة... تناسق اللفظ والجرس، وتناسق المناظر التي تخيل للحس أنها جميعاً ثائرة فائرة طاغية عامرة، تذرع الحس طولاً وعرضاً، وتملؤه هولاً ورعباً... وتهزه من أعماقه هزاً)).

 

((ولن يجد مصور بارع اتساقاً أعظم من اتساق الصيحة العالية الطاغية، والريح الصرصر العاتية، والأخذة القوية الرابية، والطوفان الطاغي تخوض غماره الجارية، والنفخة الهائلة الواحدة، والدكة المحطمة الواحدة. وبين وقعة الواقعة والسماء المنشقة الواهية... وكلها تؤلف اللوحة الكبرى التي أرادها القرآن)).

 

((وكأنما العاصفة تهدأ، والسكون يخيم لحظة، ليبدأ استعراض جديد، فيه هول، ولكنه هول ساكن رابض ﴿ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا..... ﴾ نشهد العرض مجسماً مخيلاً في أشد المواضع التي يحرص الإسلام على التجريد فيها والتنزيه. ولكن طريقة التعبير بالتصوير تختار التجسيم في هذا الموضع أيضاً لإثارة الحس، وإشراك الخيال والتأثير الوجداني الحار)).

 

((فهنا السماء قد انشقت فهي واهنة واهية، وهنا الملائكة موزعون على أرجائها في هذا الاستعراض الإلهي العظيم، وهنا العرش - عرش ربك- يظلل الجميع في وقار رهيب... هنا مجلس قضاء تم فيه الحشد، فليبدأ الاستعراض، وينقسم المعرضون... ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾ فما تسعه الساحة من الاطمئنان والمباهاة)).

 

ونرى ذلك الذي أوتي كتابه بشماله يتوجع توجعاً طويلاً، وقد ثبث المشهد كأنه لا يتحرك ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ﴾ وطال استعراضه ليتحقق التأثر الوجداني بتأوه الندم، وتفجع الحسرة... هنا كل شيء مفصل؛ فمن الجمال الفني ومن التأثير الوجداني، ومن الغرض الديني؛ ما يجعل لطول الموقف غايته المقصودة))[24].

 

المصدر: من كتاب "قراءة في الأدب الإسلامي والأموي".



[1] سورة الشعراء: الآية 160.

[2] سورة ق: الآية 37.

[3] سورة الأنبياء: الآية 30.

[4] سورة الفرقان: الآية 25.

[5] سورة الانشقاق: الآية 7، 8.

[6] الأستاذ سيد قطب: التصوير الفني في القرآن. دار الشروق (بدون تاريخ) ص11، 12.

[7] الأستاذ سيد قطب: التصوير الفني في القرآن. ص32، 33.

[8] السابق 194، 195.

[9] التصوير الفني في القرآن 117، 118.

[10] وهي السورة الثامنة والسبعون في ترتيب النـزول.

[11] التصوير الفني في القرآن. ص84، 85.

[12] في ظلال القرآن، الطبعة الرابعة - دار العروبة - لبنان جـ 29 ص75.

[13] جرت العادة في القرآن الكريم على البدء بقصة عاد أولاً قبل ثمود. كما في سورة الأعراف: 65 - 79، التوبة: 70، والحج: 42، وغافر: 31، والفرقان: 38.

[14] تأملات في سورة الحاقة: د. حسن محمد باجودة. دار الاعتصام. القاهرة 1977م ص12.

[15] في ظلال القرآن جـ 29 الطبعة الرابعة دار العروبة. لبنان ص75.

[16] سورة الحجر: 82.

[17] سورة الشعراء: 146، 149.

[18] سورة الحجر: 83 - 84.

[19] سورة الحجر: 22.

[20] سورة الأعراف: 57.

[21] التسخير: استعمال الشيء بالاقتدار. وعلى: حرف جر يفيد الاستعلاء.

[22] سورة الحجر: 74.

[23] تأملات في سورة الحاقة ص105.

[24] مشاهد القيامة في القرآن (بدون تاريخ ولا ناشر) ص182 - 184.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • وضع الهمزة في كلمة (الخطئون) في الآية (37) من سورة الحاقة المكية في المصاحف الشريفة المطبوعة قديما
  • الحاقة.. قانون الله لا يحابي أحدا
  • تفسير سورة الحاقة كاملة
  • التوحيد في سورة الحاقة
  • شعر عمر أبو ريشة: ناحية بلاغية

مختارات من الشبكة

  • تفسير سورة الحاقة(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • تفسير سورة الحاقة للأطفال(مقالة - موقع أ. د. عبدالحليم عويس)
  • تلاوة سورة الحاقة(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • ما فسره الإمام الزركشي من سورة الحاقة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إعراب سورة الحاقة(مقالة - موقع د. محمد منير الجنباز)
  • سورة الحاقة بلغة الإشارة (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • شرح كتاب المنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي (المحاضرة الثانية: التعريف بالمنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي)(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • جهود الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة في كتابه "دراسات لأسلوب القرآن" - دراسة وتحليل(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • الدراسة المصطلحية: المفهوم والمنهج لمحمد أزهري(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • دراسة الأسانيد إصدار مركز إحسان لدراسات السيرة النبوية(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب