• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة
علامة باركود

العزلة (قصة قصيرة)

العزلة (قصة قصيرة)
مريم نجاح محمد عبدالرحمن

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 14/3/2012 ميلادي - 20/4/1433 هجري

الزيارات: 61975

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

العـزلة

(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

 

"إني أعكف على فضيلة الصمت

ففي زحام الجماهير تضيع الحقيقة، حقيقة النفس وربما حقيقة الإيمان؟!"

على لسان.... لسان من؟

لا أدري؟

لعله لسان بطل القصة، فلسانه حبيس، وبطل القصة غير موجود، و...!

 

نحن الآن في أحد أشهُر الصيف، ولكني صراحةً لا أعلم العام الذي نحن فيه، الوقت صباحًا، وسأحاول جاهدًا ألاَّ أَزيد في سَرْد حياتي عن يومٍ وليلة، وربما أقل قليلاً، وإيَّاك أن تَعتقد خلال رحلتك معي أنني أُبالغ، لا، فإنَّني معكم الآن أَصدقُ ما أكون في حياتي، وأَعتقد أنني لن أكون بعدها مِثلما أُحدِّثكم الآن، وهذه معلومة مبدئيَّة.

 

كآلاف من البشَر وكثيرٍ من الأُسَر، كنَّا نعيش ولكن بشكلٍ مختلف، أُسرة متوسطة الحال، أُسرة تُفضِّل الكتاب على رغيف الخبز، وطلب العلم عندها خيرٌ من طلب جرعة ماءٍ في صحراء مُهلكة، أُسرة مكوَّنة من أربعة أشخاص؛ الأب وقد مات في السجن بعد أن جاوَز الخمسين بقليلٍ، متأثرًا بجروح تقيَّحَت بسبب كثرة التعذيب، وعدم العلاج.

 

عندما جاءَنا خبر وفاته، ذهَبت إلى السجن؛ لاستلام ما تبقَّى من جثَّته، فقالوا: إنها في المستشفى، وبعد طول انتظار سَمَحوا لي بأَخْذها، وقبل أن أَنصرفَ بادَرْتُ الطبيب بسؤال ساذج: هل غَسَّلتم أبي؟ كانت عيناه تَلمعان، وشفتاه تَرتعدان، وراح يَفرك كفَّيه ببُطءٍ وعصبية، ثم رَدَّ علىَّ بضمير وحشي: إنَّ هذا تصرُّف بدائي لا نَفعله!

 

هَمَمتُ أن أَبْطِش به، ولكن فجْأة امتدَّت إليَّ يدٌ حانية من رجل اشتعَل رأسه شيبًا، يَبتسم لي قائلاً: إنَّ الطريق المُفضي إلى الموت لن يتوقَّف، شَعَرت حينها أنَّ الصمت يَبتلعني، وأنَّ طوفانًا من الراحة المسمومة يَجتاح جسدي، أحْسَست أن الألوان تموت فوق صفحة السماء، بردٌ مؤلِم، شيءٌ ما يُخَيِّم على المكان ويلفُّه في...، في ماذا؟ في ماذا؟ لا أدري!

 

إذًا مات أبي ولَم يترك وراءه سوى زوجة كسيرة الفؤاد، غاضبة الملامح، ثم هي راضية القلب عاقلة، كانت أمي كالزهرة التي نبَتَت في حضن الجبل، تربَّت وسط الشقوق، ونشَأت بين الصخور؛ لذا كانت صُلبة العود، لَم يَكسرها إلاَّ موت أبي، وقد نفَعتني أخلاقُها تلك، علَّمتني كيف أصبر وقتَ الاستضعاف، وكيف أتصرَّف حين أُواجه حياة الغاب.

 

لَم تَمكُث أمي سوى أيام معدودة بعد رحيل أبي، حتى لَحِقت به، حينها أُصِبْتُ بحالة من الذُّعر والخوف، وعدم الإدراك، حتى إنني دخَلت حُجرتها وهي مُلقاة فوق سريرها، مُلتحفة بكَفنها الصامت، لا أدري ماذا أفعل؟

 

نعم، مات أبي وترَك ابنة رائعة الجمال، تَمَّ تصفيتها جسديًّا يوم زفافها؛ لأنها كانت بنتَ أبيها، أمَّا أنا فأعيش بين ضجيج الصباح وصَخَب المساء، وَرِثْتُ عن أبي عنادًا في الرأي، وثباتًا على الموقف، ومكتبة ضخمة من المجلدات السميكة، آمَنْتُ بها حينًا من الدهر، واليوم أبيع بعضًا منها!

 

والآن أعيش على وهم اسمه (تُرى)، وتُرى هذه استفسار، والاستفسار عبارة عن وجود حالة من اللاعلم، واللاعلم حالة وصفيَّة من حالات البشر، والبشر لا يَدري ما علَّة يا تُرى؟ وتلك سفسطة جدليَّة عُرِفت بها، وما زِلت أحتفظ ببعضها منذ عهد الجامعة، لَم أتخلَّ عنها.

 

أُسائل نفسي عند مولد كلِّ يوم يَنشقُّ فجرُه، فيَخرج نقيًّا من رَحِم الحياة، تُرى كم مَكَثت ها هنا؟ فيَقف عقلي حائرًا: يومًا، يومين، ألف يوم! المفاجأة أنني لا أذكر أني مَكَثت هنا قطُّ، أظنُّها أضغاثَ أحلام تتراءَى في خيالي التَّعِس، فلم تَعُد الذاكرة قادرة على...، على ماذا؟ لا يهمُّ، وتلك عادتي حين لا أعرف، إنها حالة سيكولوجيَّة، أو بسيكولوجيَّة، أو سوسيولوجيَّة، أو أيُّ لُوجيَّة تَنطبق على حالتي.

 

ولكن كيف أُنكر وجودي هنا وأنا ها هنا، آه، رأسي، لَم أَعُد أتذكَّر أيَّ شيءٍ!

 

هيَّا انْهَض من فراشك، هكذا أقول لنفسي، ونفسي أصبَحت اليوم قاسيةً، وهذا معلوم لدي، وسببه أنني لَم أُصلِّ الفجر؛ لذلك فأنا أحتاج لأكثر من عشرة أكواب من الشاي، رغم أنَّ ذلك لن يُغيِّر من قساوة نفْسي شيئًا.

 

المهم أني أقول لنفسي: أُريد كوبًا من الشاي، فأين البرَّاد؟ وأين السكر؟ وأين الطريق إلى المطبخ؟ تَعْسًا للطرق المُعْوجَّة! لقد نسيتُ الطريق إلى المطبخ! على أيِّ حالٍ فإن "إيناس" هي المسؤولة عن ذلك، ولكن مَن "إيناس" هذه؟ زوجتي أم الخادمة؟! إنني دائمًا أنسى أنها كريمة!

 

هكذا أُداعب نفسي التي تَمرح وقت نزول المطر، قائلاً: لعلَّكِ تَمزحين، فأنا لَم أتزوَّج بعدُ، ولن آتي بخادمة أبدًا، ولعلَّكم تعلمون السبب، كذلك فأنا لَم أَكْتوِ بعذاب العِشق، فأنا! مَن أنا؟ وما اسمي؟!

 

صوت ما بالخارج يُصرُّ على إزعاجي، لسانه كترسٍ في آلةٍ، وإصبعه لا يَهدأ فوق صفحة الجرس، والجرس قديم، ولكنَّ به رنين يُصدر أنينًا مكتوبًا، مكتوبًا أم مكتومًا؟!

 

لا يهمُّ، المهم أنَّ ذلك الإصدار به وهنٌ شديد بسبب ما يُعانيه من شيخوخة، ولكنَّك تَشعر معه ببقيَّة من نَبضٍ وإخلاص، إخلاص؟! هذا عجيب.

 

ما زال الزائر المريب يُصرُّ على إزعاجي، غير مُكتفٍ بالجرس، بل يرفع صوته وكأنَّه بائعُ لبنٍ مُتجوِّل، مُناديًا على شخص يُدْعى "هلال"، يا تُرى مَن هذا الأحمق؟

 

إنَّ هذا الصوت يُرهق ذاكرتي تمامًا، نعم إنه...، إنه صوت صديق، ولكن أيُّ صديق؟ لا أذكر! هل هو محمد أم محمود؟ فصوت كلٍّ منهما كالآخر، والآخر عِلَّة خبيثة يَصعُب اجتثاثُها! صمت محموم، أظنُّ أنه لا أحدَ خلف الجدار، وأنا أخشى ممن يقف خلف كلِّ جدار!

 

ثوانٍ والصوت يُعاود الانطلاق مرة أخرى هاتفًا: يا هلال، مَن هلال هذا؟ إيه إنه أنا، نعم، فأنا مُدَوَّن في دولة الأوراق بهلال! هلال سعد، هلال ماذا؟ ما أتعسَ تلك الأسماء؛ فعندما يسألني أحد عن اسمي، أضطرُّ لأن أُخرج البطاقة من جيب قميصي، ثم أرجع فأخْتَزن الاسم في الذاكرة البالية، فلماذا لا يُتْرَك لنا العِنان؛ لنختار أسماءنا كما نريد، فمرة هلالاً، ومرة زيدًا، حسب ما يتذكَّر المرء؟ فتعسًا لمن يَحتفظ باسم واحد طيلة حياته، إنه شيء مملٌّ وقاسٍ، فكل يوم اسم واحد، وفِعْل واحد، وبيت واحد.

 

بيت! أيُّ بيت؟ فمنَّا مَن يسكن بيتَ شعرٍ، ومنا مَن يسكن بيتَ جُحا، ولكني بالطبع لا أسكن في أيٍّ منهما، ولا أسكن بالشارع ولو فعَلتها، لكنتُ الوحيد! ولكن الفضل في ذلك ليس لي، إنه بيت أبي، أبي، إني لا أذكر اسمه جيدًا، ليس مهمًّا الآن، المهم أني أسكن بيتَ أبي سعد، فليس مُهمًّا أن أتذكَّر أيَّ اسمٍ آخرَ، وهذا حال عقلي!

 

أما شقَّتي، فقد حصَل أبي عليها أيامَ الرخص، وتلك هي نصف الحقيقة، أما النصف الآخر، فلأنه كان شيوعيًّا، أو كان شيئًا آخرَ، لا أدري؛ ولذلك فهي تتكوَّن من أربع غُرف وصالة كبيرة، وأنا أُخبرك أنَّ أهمَّ مَعْلم من معالمها، أنه لا مَعلم لها، وهي أشبه ما تكون نظامًا بحظيرة الدَّجاج، أو بيوت الحمام.

 

في حجرة النوم سرير أثري يُصعَد إليه بكرسي صغير، أو تَقفز إليه قفزًا سريعًا، كتَب لي أحد أصدقائي بخط رائقٍ بديع على الجدار - الآية التاسعة عشر من سورة غافر، وحديث السبعة، وهذا البيت من الشعر:

 

قَضَى وَطَرَ الصِّبَا وَأَفَادَ عِلْمًا
فَغَايَتُهُ التَّفَرُّدُ وَالسُّكُوتُ

 

على الأرض أشياءُ لا حَصْر لأنواعها، مُلقاة بطريقة غير مُرتَّبة، فالفوضى تسود الحجرة كما تسود حياتي، فلا تستطيع أن تخرج ثوبًا نظيفًا من بين هذه الأسمال البالية، وتَعجِز أن تعلمَ أيُّها نظيفٌ؟ وأيها مُتَّسخ؟!

 

بالغرفة شبَّاك وحيد، شُدَّت عليه ستارة خَرقاء، لا لونَ لها، في الحجرة الأُخرى التي كانت حجرة المكتب - وهي اليوم كذلك مجازًا - مَشربيَّة تحوي آثارًا خشبيَّة رائعة الجمال، وشُرفة أرابيسك عربية عالية، ومكتبة جيدة الصُّنع، لَم يَعُد بها سوى بعض الكتب هزيلة الأفكار، وبها مكتب كبير، رُصَّ فوقه كثيرٌ من الكتب والأوراق والأقلام، في أقصى الحجرة ترقُد طاولة صغيرة الحجم، يستريح فوقها كوبٌ به بقيَّة من شاي كنتُ أشربه منذ قليل، وعلى الأرض كثير من الصحف القديمة مُلقاة، أُعاود قراءتها من آنٍ لآخر، وبها ثلاثة كراسي، واحد منها قتَله طول الأمل، وتَنكُّر الأيام، وكثرة سَهر الليالي، والثاني بثلاثة أرجُل، والثالث يَصلحُ للعمل لبقيَّة العام الذي نحن فيه، هذا إن لَم يُكسر قبل نهاية هذه القصة، وبها مروحة محصَّنة ضد سرعة النبض، ولكنَّها تُعاني أزمات قلبيَّة متكرِّرة، ورغم ذلك تُحاول جاهدة تحريكَ هواء الغرفة الثقيل، أمَّا الغُرفتان الباقيتان، فبئر مُعَطَّلة وقصر مَشيدٌ.

 

وأحبُّ أن أذكرَ لكم أنني قديمًا منذ أيام الصِّبا، كنت أعشق ترتيب الأشياء، وأُمْعِن في وسواس النظافة، فلا تستطيع أن تجد ذرَّة غُبار واحدة على المكتب، أو فوق رفوف المكتبة، أما اليوم، فسلُوا أكوام الرمال - التي تُغلِّف الكتب - تُخبركم بحالي، والآن دَعْني آخُذك في رحلة مُضنية تُجاه المطبخ، ولكن إيَّاك أن تظنَّ أني سأُتحفك بشيءٍ ما؛ لأنَّك لن تَجد فيه هذا الشيء وسترى، ثم هو رَثٌّ وقذرٌ، وبه بعض الرفوف الخشبيَّة قد مُحِيَ من عليها طلاؤها الباهر، فقط تُذكِّرك بماضٍ تليد له قيمة أثريَّة، وتَهمس في أُذنك بأنها في يوم ما لَم تكن كاسية عارية كما هي الآن.

 

يرقُد فوق تلك الرفوف العتيقة أكواب زجاجيَّة غير متناسقة وشاذَّة المنظر، ومِلعقتان، وصَحن كبير، وآخرُ صغير، والعلب مُعظمها - إن لَم نقل: كلها - خاوية إلاَّ من بعض بقايا سكر التموين الأسود الغليظ، مع كوب عجيب الشكل، أستعمله في شرب الماء، وبوتاجاز من العصر الأوَّل، لا عيون له، وإيَّاك أن تظنَّ أَني أنقل إليك صورة غير صادقة؛ خشية أن تقومَ بزيارتي، أمَّا الصالة، فضيِّقة جدًّا، عفوًا لقد نَسِيت أنني قلت: إنها كبيرة جدًّا، وهي كذلك كبيرة، وهذا بسبب - اللوجيَّة - التي ذكَرت لك آنفًا، ولكنَّها كئيبة، ولا شيء يُذكر فيها له قيمة، إلاَّ قيمة الإنسان القابع ها هنا!

 

ترقُد بها بقايا سجادة سخيفة، عَفِنة لكنَّها أليفة، أما أرضيَّة البيت، فقد نُزِع بلاطها، وصارَت مأَوًى للنمل وأشياء أخرى، لا داعي لذِكرها، في أعلى السقف شيءٌ ما يُذكِّرك باسم النجف، يُوشك أن يسقطَ قبل نهاية هذا السرد.

 

على الجدران لا شيء البتَّة يردُّ البصر، إنما تَصطدم عيناك بالجدران خاوية إلاَّ من لوحتين ضاعَت منهما معالِم الطريق، ما زال الصوت يُصرُّ على إزعاجي، أخيرًا إنه أحمد.

 

دخَل أحمد حجرة المكتب التي يَعلمها جيدًا، وجلَس على الكرسي؛ مُنحنيًا إلى الإمام، مُتَّكئًا بمِرْفَقيه على رُكْبَتيه، وتلك كانت جلسته.

 

• مرحبًا صديقي القديم، تفضَّل، أتريد قهوة؟

 

• لا بأْسَ.

 

أحمد هذا صديق الطفولة، طفولة! ولكن أيُّ طفولة؟ لا أتذكَّر أني عِشْت طفولتي حرًّا، لا أتذكَّر منها إلا صياح أبي: لا تلعب، لا تُصاحب البنات، كن وَقورًا، لا تَجعل ملابسك قذرة كبقيَّة أولاد الشوارع، ولكني كنتُ ألعب، ولا أُصاحب البنات، وكنت أجد سعادتي ومُتعتي في أن أجعلَ ملابسي في غاية القذارة!

 

نعم، كنتُ كثير اللعب مع أحمد، وقد كان طويل القامة، وكنتُ أنا قصيرًا، ومع هذا الآخر الذي يُدْعى "عادل علي"، ربما علاء، ليس مهمًّا، وماذا كنا نلعب؟ لا شكَّ أنها (الطاولة)، فهي اللعبة المُفضَّلة.

 

الطاولة!

 

هل يُعقل أن نلعبَ الطاولة في هذه السن الصغيرة؟ وماذا في ذلك؟ أطفال لا رتوشَ لهم! فماذا كنَّا نلعب؟ إيه إنها كرة القدم، فأنا أهلاوي وهو زملكاوي، لا، أنا زملكاوي، وهو أهلاوي، أيُّ نادٍ أُشَجِّع؟ مرة أخرى الأسماء، تَعْسًا لأسماء الأندية، بل للأندية نفسها.

 

القهوة، أين القهوة؟ تفضَّل يا أبا حميد - وحميد بكسر الحاء: تدليل لأحمد - وذلك ليس مهمًّا ها هنا، إنها كلمة عابرة!

 

• ما هذا؟

 

(يتساءَل أحمد): هل هذه قهوة؟

 

• طبعًا!

 

• يا هلال هذا ينسون!

 

• صحيح ينسون؟ نعم، على أيَّة حالٍ فإنه مُفيد.

 

• لكني لا أحبُّ الينسون.

 

• ولكني أحبُّه.

 

• لَم أرَك يا هلال تَشرب الينسون!

 

• إذًا دَعنا من الذين ينسون، والذين يتذكَّرون، وقل لي: ماذا تريد؟

 

• أُريد منك، لست أنا، بل رئيس التحرير يَطلب منك مقالة عن الضمير.

 

• هِيه، أيها الصديق أمَا زِلت تبحث في مهنة الكلام؟ فماذا جَنَيتَ من الكلام؟

 

• وماذا جَنَيت أنت مذ عَكَفتَ عليه يا تُرى؟ أخْبِرني منذ متى وأنت تحبُّ الانفراد وقد كنتَ تَمقته؟ بل قل لي حقيقة يا تُرى تلك التي تَعكف عليها؟

 

• صدِّقني في العزلة راحة من خليط السوء، وها أنا الآن كما ترى من أحلاس البيوت، أعكفُ على فضيلة الصمت؛ لأنه في زحام الجماهير تَضيع الحقيقة، نعم، حقيقة النفس ورُبَّما حقيقة الإيمان!

 

• إذًا أصبَحت كالنساء الخاملات في البيوت!

 

• لَم يَعُد النساء يَجْلِسْنَ في البيوت!

 

هلال - يواصل حديثه -: أمَا سَمِعت أنَّ الحِكمة عشرة أجزاء: تسعة في الصمت، والعاشرة في العُزلة.

 

أحمد- ضاحكًا ومستهزئًا -: وقد جَمَعتهما معًا! تسعة في الصمت، والعاشرة في العُزلة، تريد أن تجعل منَّا أُمةً خَرساءَ، وشعبًا مُعطَّلاً!

 

إيَّاك أن تظنَّ أنَّك ستَخرج من هذا المكان الحقير، تُخَلِّص العالَم من قيود الوهم والخُرافة والفساد.

 

• من هذا المكان الوضيع خرَجنا!

 

إنَّ السيف الذي له عينان بصيرتان، ولسان يَنطق لا وجود له، لقد كانت غَلطتي الكبرى أنني لَم أقف حين هبَّت العاصفة، ورغم ذلك أقول لك: إنني لا أحمل أعباءَ رسالة لهذه الأغنام النافرة.

 

• إيه، يا صديقي، ما الذي حمَلك على خَرْق مجالسة الناس وليست لك أعذار؟!

 

• ليس كلُّ عُذرٍ يتهيَّأ للمرء أن يُخبر به ويَطَّلع عليه الناس، إنما يَستوحش الإنسان بالوَحْدة لخَلاء ذاته، وعدم الفضيلة من نفسه، فيتكثَّر حينئذٍ بملاقاة الناس، ويَطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم، فإذا كانت ذاته فاضلة طلَب الوَحْدة؛ ليَستعين بها على الفكرة، ويتفرَّغ لاستخراج الحِكمة، لا عليك يا أحمد، (صمت مُوحِش).

 

اسْمَع، أُريد أن أُحَدِّثك عن نفسي قليلاً.

 

• لِمَ وأنا أعرفك؟!

 

• ولكنَّك لا تعلم أنَّ نفسي صارَت رديئة، ومتمرِّدة كمهرة جامِحة، تلك المهرة لها تطلُّعات قذرة، ومَلذَّات تافهة، لا تُؤلِم الضمير، ولا تستحقُّ الاهتمام؛ لأني فرد تائهٌ وسط عالَم لن يؤثِّر فيه، فلا ضيرَ من أن ننتزعَ من المجتمع أخلاقه كما تَمَّ انتزاعها مني!

 

إنَّ مَلذَّاتي لن تضرَّ بالقِيَم على أيَّة حال؛ لأن مجرى العدالة الإلهيَّة هو الفيصل في النهاية، كما أنني لا أُنكر أبدًا أني أملك تاريخًا أسودَ من الماضي، ولكني أشعر أنني سأتطهَّر يومًا ما، وما يَضرُّني ذلك الماضي إذا كان تاريخًا مُلَوَّثًا، ففي زمن الحيارَى والضائعين، تَختلط أحاديث البشر باللغو؛ حتى إنك لا تَفهم، أو لا تَفهم مُطلقًا.

 

• ها قد عُدت للهَذيان يا هلال.

 

• وما يَضرُّك إن كنتُ أَهْذِي؟!

 

• لا، لا أُريد أن أسمع هَذيانك، ويكفيني ما عانَيته معك بسبب هذا الماضي الذي لا ينتهي.

 

• وماذا عانيتَ يا أحمد؟

 

• تسألني وماذا عانَيت؟ عانيت من توبتك الزائفة، واستعلائك بالأنا، وترَفك الفِكري - سنين خلف القُضبان جَوْعَى وعَرايا، وأنفاس قذرة، تُجَرجرني معك حيث شِئْتَ، عانَيتُ من نزواتك ومَلذَّاتك.

 

• توبتي الزائفة؟!

 

• ألَم تكتب إليّ قائلاً: ورغم تربيتي وسط أخوالي في الريف الهادئ، فإنني نَبَذت تلك الأخلاق والعادات، وكلمات العيب والواجب، وهذه الكلمات المُقَدَّسة التي لا تَعني لي شيئًا، ونَسِيت - في زحمة سيقان المدينة - هذه المعاني التي يَعتقدون أنها سامية ونبيلة، فماذا تعتقد الآن يا هلال؟!

 

• نعم كتبتُ إليك ذلك، ولكنَّك لا تَذكر لي حسنة واحدة يا أحمد، ونَسِيتَ أنني كتبتُ إليك أقول: لقد عُدتُ إلى تلك الأخلاق وأنا أُجرجر قدمَي هرَبًا من الجنون والانحلال، ألا تذكر؟ أم أنَّك تَذكر فقط ذلك العمر الذي أكَلَتْه الأكاذيب؟

 

إنَّك دائمًا تُحطِّم هُدوئي، وتُزلْزِل عُزلتي، وتَكسِر صمتًا بداخلي، وتُذَكِّرني بتلك المجلدات السميكة، والنصوص الكبرى!

 

• ولكنَّك لَم تُحاول الاعتذار في خطابك.

 

• لأنني ما تعوَّدت في حياتي أن أُقدِّم الاعتذار عن شيءٍ قُمت به، أو أن أُبدي من جانبي الضَّعف، هكذا كنت، ألا تُسامح؟

 

• ولكنَّك أحدُ رموز تلك الأفكار والمجلدات، نعم، تلك المجلدات التي لا تترك مجالاً للإبداع والتفكير، أم تريد أن تجعل مني ذاكرتك لتلك النصوص والأفكار؟!

 

• كنتُ! ولا أُريد أن أجعلَ منك ذاكرتي؛ لأنه لَم تَعُد لي أنا ذاكرة، لقد مَحَوْها!

 

• والآن؟

 

• لا شيء! هل تَفهم؟ أنا الآن لا شيء، لا شيء سوى هذا الذي عَلَّمنيه أبي، وهذا - يُشير إلى قلبه - والأوهام، نعم والأوهام، تلك الجزيرة التي لَم أعرف كيفيَّة عُبُورها، ورغم ذلك ما زالت تَمنحني كثيرًا من الأفكار العبثيَّة التي لا أستطيع ردَّها ولا الإيمان بها.

 

• كفرتَ بها إذًا؟

 

• لا ريبَ، أنا بها كافرٌ.

 

إنَّ قلبي يَدقُّ دقًّا عنيفًا إلى حدِّ الألَم، والأمل تحوَّل إلى يأسٍ، اعْلَم أنَّ القدر الآن يغزو كِياني، وأنَّ هناك شوقًا عارمًا يهزُّني هزًّا عنيفًا ومتواصلاً، وتَسري في أوصالي قُشَعْرِيرة الفِراق.

 

• إذا كنتَ تشعر أنَّك تعيس إلى حدِّ اليأس، وبائس مُنقطع الرجاء، فهناك لا شكَّ مَن هو أتعسُ منك.

 

• أتعلم يا صديقي؟ شيء وحيد في عالمي كان يُبدِّد هذا اليأس، ويَمحو هذا البؤس، كان نداء الأذان، كنتُ في كلِّ مرة أسْمَع فيها هذا الصوت يعلو في الآفاق، كأني أسمعه للمرة الأولى في حياتي، يَخترق كِياني، ويُدَغدغ مشاعري، ويَعصف بأركاني، أَتَذكر ونحن صغار حين كنَّا نروح ونغدو في المسجد لعبًا، كان عم عبدالواحد، نعم عم عبدالواحد، بعد أن يَفرغ من صلاته، يتوعَّدنا ضربًا إذا نحن عُدنا إلى المسجد مرة أخرى، فكنَّا نعود لنُضرَب، نعود وكأنَّ حبلاً من السماء يُمسك بطرف قلوبنا، كأننا وُلِدنا في مسجدٍ وخرَجنا من كتاب، ورغم ذلك كان يتوعَّدنا، لقد حاوَلت أن أتعرَّف على رُوحي؛ لذا فإن وَخْز الضمير يُؤلِمني، والأفكار الشاردة كالأغنام يرعاها الذئب، فماذا تريد بعد كلِّ هذا؟

 

• أحمد: ولكن، (هلال مقاطعًا إيَّاه، ويُكمل حديثه): أقول لك أنا: تُريد أن أرحلَ بلا ضجيجٍ، أليس كذلك؟ وأظنُّك تريد رؤيتي وقد قُطِّعت ثيابي قطعةً قطعة، ومُزِّقت أكفاني، تريد أن تُشاهد قبائل النمل وهي تَعبر فوق أشلائي العارية؛ لتَحفر أنفاقًا عميقة في جسدي الُمسجَّى، ثم تراها وهي تَلتهم لحمي الغثِّ، وتَمتص دمائي الملوَّثة بالمبيدات، وتراها وهي تدخل من مكان وتَخرج من آخر، نعم هذا ما تريده تمامًا؟ أكاد أجزم أنَّ لك أفكارًا غير منتظمة، وأنَّك تَملِك كثيرًا من الثرثرات التافهة.

 

• إنَّك يا هلال تحمل تُراثًا غامضًا تظنُّه مُقَدَّسًا.

 

• لا، إنما أحمل العار، هل سَمِعت؟ أحمل العار في يدي، وأشعر بالذل يَتغلغل في كِياني، ويُحَطِّم ذاتي!

 

إنني أخشى أن أُغمض عيني؛ لأني في كل مرة أُحاول الرقود أسمع أصواتًا تَخرج من جوف بئرٍ، أسمع نئيم البُوم، ونعيق الغراب وزئير الأسد، أسمع صهيل الخيل، وصَلصلة السيوف، أسمع أنين الثَّكالَى والمجروحين، وبكاء أطفال يَتضاغون جوعًا.

 

إني أشم رائحة فحمٍ يَحترق؛ لذا فإن قلبي لَم يَستطع أن يتحمَّل نزوات البشر وشرورهم، كنت وأنا أهذي كما تعتقد، أخرج من أفكاري بغتةً كما أخلعُ نعلي بَغتة.

 

إن ومضات جنون تَجتاحني الآن، وتُوشك أن تسقطَ على عقلي، وها هو الوهم يَغتال جسدي النحيل.

 

إنَّ رُوحي الآن عارية تمامًا إلاَّ من الصمت، الليل في نفسي أنزل سترَه، والنهار ألقَى همومه عندي ورحَل، نعم إنه رحَل وللأبد.

 

• لِمَ تَعتقد يا هلال أن أفضل ما في حياتك أنَّك غير مسؤول عن أحدٍ؟ هل لأن المسؤوليَّة تَحملك على الحب، والحب شيء باهظٌ وأنت فقير؟

 

• المحب على استعداد أن يَبيع نفسه من أجْل مَن يُحب، وأن يُضحِّي بحياته لأجْل مَن يُحب، وأن يَفقد حريَّته، وأن يُطأطِئ؛ ليَرفع مَن يحبُّ رأسه، فالعاطفة المشبوبة بالحنان الزائد عاطفة مُؤلِمة.

 

• وأنت لا تحبُّ الألَم، كان هذا في زمنك الأوَّل غير أنَّ جَلَبَة ضميرك وصياح نفسك، يَأْبيان ذلك الآن.

 

• جعَلتني إذًا حاطبَ ليلٍ وقد كنت تعلم قُدراتي؟ كنتَ تعلم مَن أنا؟

 

• لست أنا - صمت قَلِق - بل أنت!

 

• (هلال وقد دفَن وجهه بين يديه): لقد دَهَسَت الزحمة عقلي؛ لذلك لَم أَعُد أرى الهدف الأسمى الذي خُلِقت من أجله! إنني لن أُحقِّق أيَّ شيء، أشعر أن كِيانًا مُنحرفًا يجب التخلُّص منه.

 

إن الانحراف يَتغلغل فيَّ!

 

• الانحراف! أيُّ انحرافٍ؟!

 

• الغزو؟!

 

• أنت تُحرِّك في مخاوفي يا هلال، كأنك، كأنك نقطة غارقة، ودمعة خَرساء؟

 

• نعم، ربما، ولكن قل لي: هل تذكر تلك القصيدة التي نَعانِي فيها صديقُنا القديم رفاعة، رفعت، هل تَذكر؟

 

• لا أذكر منها سوى بعضها.

 

• إذًا قل لي ذلك البعض.

 

• تَجلس هنالك فوق سطح عمارة.

 

تمسك سنارة.

 

تريد أن تَنتشل عروس البحر.

 

أو تنتشلك.

 

تلتقطك.

 

لتدخل معها في صدفة بحرية.

 

أو في جوف محارة.

 

تغوص في الأعماق.

 

تَهرب في كهف.

 

أو تدخل في قوقع في صدفة.

 

أو تنهي حياتك في بطن مغارة.

 

• هيه يا أحمد، وجَدت صورة قديمة لطفل صغير جدًّا، نظرتُ فيها كثيرًا وتأمَّلت ملامحها؛ كي أعرف صاحب الصورة، لكني لَم أعرفه إلاَّ بعد جُهد جهيد، لقد وقَعت الساعة مني فضاعَ الوقت، فما هي إلا ساعات وقد وجَدتُ نفسي كبيرًا.

 

إنَّ الأزمة عدم وجود جُدران ناعمة؛ لنرسمَ عليها بألوان زاهية تلك الأحلام، نعم، دَعني أرسم قبل أن تجفَّ الفرشاة، وتُمحى الصورة من مُخَيِّلتي، الآن أشعر بهزَّات عنيفة بداخلي، وأن قتلَ السكارى سيُنَظِّف الطُّرقات، أليس كذلك؟

 

• ولكنَّك لست عربيدًا.

 

• ولكني متسوِّل، أنتظر مَن يأتي إليّ بخيره من بعيد، بعيد جدًّا عبر أنهار ومحيطات، يأتي إليّ بملابسي ومفروشاتي، بل وبطعامي.

 

• تعلَّمت الحكمة إذًا!

 

• شَرْحُ ذلك يطول، وأنت كما أعلم صديق غبي يَسرقك الوقت.

 

• ألا يُزعجك شيء يا هلال؟

 

• جَلَبَة الضمير، وصوت الحمير!

 

• والحرب؟

 

• في موسم الشر حين تتربَّع القوة فوق تلال الجماجم وجوع البطون، وقتها يَشرب السكارى ويَمرحون، ويَتمرَّغون تزلُّفًا للقانون؛ لذلك فأنا أحترم القانون؛ لأنه لا يُسيطر إلا على الحشرات التافهة أمثالي أنا؛ ولذلك فأنا في خوف دائمٍ، ولكن دَعنا من كلِّ هذا، فأنا أُريد أن أعترف لك بأنني معك الآن في حالة نشاط ذِهني وعقلي حادٍّ، تراني أتذكر وأتذكَّر، حتى إذا لَمْلَمْت بقايا نفسك، وانْصَرَفت، تناثَر الكلام وتبعثَر، وتاهَت الذاكرة، فلا أستطيع ردَّها، فلا تكن مثلهم يا أحمد، لا تذكر إلاَّ سيِّئات الماضي وعثرات الطريق، كن عطوفًا رحيمًا على صديق يتوجَّس خيفة من نفسه.

 

لكن الآن يا أحمد، الآن، قمْ ولا تَعُد، وامضِ وتباعَد، حتى إذا سَمِعت بجنازتي قد خرَجت من ها هنا، لا أدعوك بالطبع لأن تسيرَ فيها؛ إذ تظنُّ نفسك قدِّيسًا، ولكن قِفْ خلف الصفوف ونادِ بأعلى صوت يُسمع، وقُل: هذا رجل ضلَّ الطريق، وتبعثَرَت خُطاه، لا يدري أَيُغفر له أم لا؟ ارْجُموه، واترُكوه يذهب للقبر وحده كما عاش وَحْده، ودَفَن أباه وحده، وترَك دماءَ أُخته تسيل.

 

هنالك لَم يستطع أحمد أن يَردَّ، فجمع أشلاء فِكره وحاوَل الوقوف، لكنه كان على أرض رِخوة، ولكنَّه انطلَق.

 

بعد ساعة عاد أحمد إليَّ مرة أخرى، وقفَ خارج البيت وصاح قائلاً: السؤال إذًا يا هلال: هل ستكتب مقالة الضمير أم لا؟

 

• الضمير! أيُّ ضمير وقد انطلَقت لترقُبَ خروج جنازتي؟ أيُّ ضمير؟ ضمير العاقل، أم المجنون؟ ضمير القاضي أم اللص؟ ضمير الشَّاة أم الذئب؟ أيُّ ضمير أيها الصَّديق؟ ضمير الحاكم أم المحكوم؟ ضمير نيرون أم ضمير هارون الرشيد؟ ضمير الغائب أم المتكلِّم؟

 

• ما تقوله هو الموضوع بعينه.

 

• موضوع! أيُّ موضوع؟

 

• موضوع الضمير.

 

• إذًا إنه الضمير، لا عليك اتْرُكني ساعة وبعدها احضُر إليَّ، لكن ما هو العنوان؟

 

• الناس والضمير.

 

ترَكني أحمد وانصرَف، فلماذا عاد بعدما هبَط من حياتي منذ قليل؟ لقد مضى فماذا كان يقول؟ إنه يريد موضوعًا عن، عن ماذا؟ آه موضوع عن "هو والسكير"، لا، لا، ركِّز أرجوك، الموضوع عن الناس والحمير، نعم، الحمير، ولكن ماذا يريد رئيس التحرير من الحمير؟ فرئيس التحرير لَم يَعُد يركب الحمير منذ جاء من قريته حافِي القدَمين، يُسابق القطار! والتحرير نفسه لَم يَعُد يرهق نفسه بالناس!

 

ورئيس التحرير هذا رجل قصير القامَة والعُنق، كما هو في الحق لا يُحرِّكه شيء قدرَ ما يُحرِّكه الأكل؛ لذلك فهو بدين، غليظ، كبير البطن، ضخم الرأس، مَلِيء الوجه، مُتَرهِّل اللحم، مُحتقن الوجنتين، أحْدَب الأنف ووجهه كالنساء، عريض الـ.. الـ.. عريض ماذا؟ لا يهمُّ، المهم أنه كان يُشعرك بالاشمئزاز والقَرَف حين تراه يأكل، كان يضع رَأْسه مُنحيًا ناحية الطبق، لا يرفع أصابعه لحظة، يَشحن مِلعقته بالطعام شحنًا، ويَدعها أمام شَفَتيه في وَضْع الاستعداد، وكلما أفرَغ مِلعقته في جوفه، عاد يَشحنها، وقبل أن تَختفي بقايا الطعام من فمه، ويَفرغ من المَضغ، تَنطبق المحرِّكات في فمه على شحنة جديدة من الطعام، بعدها يسحب ملعقته ببُطءٍ من بين تروس فَكَّيه، كأنه يريد أن يسلخَها سلخًا كما يفعل بالآخرين، ثم ينهي طعامه بصبِّ جرعات هائلة من الماء، ومع ذلك كنت أحبُّ أن أنظرَ إليه.

 

وهو رغم ذلك له خِبرة طويلة بأمور الحمير، وقد عَلِم أخيرًا أنها أكثر الحيوانات مثارًا للجدل والمناقشة، وبَترًا للعقود والمواثيق! وبالرغم من أنَّ الناس لَم تَعُد تَركَب الحمير، فإن الحالة الاقتصادية الآن أعلى من مستوى الحمير! فلا بأس أن أكتبَ عنهم، ولكن من منطلق آخرَ! فالحمير معذرة، أقصد الناس، والناس تعيش كُلٌّ مشغول بسياسته (عفوًا)، أقصد بماله، فأنا لا دخلَ لي بالسياسة مُطلقًا؛ لأني تدثَّرت ليلة بالسياسة، فأصبَحت وقد رأيتُ نفسي عُريانًا، ولأن الطبيب النفسي قال لي: إنك تُعاني من حالة اضطراب سببها، سببها ماذا؟ لا يهمُّ، وقال هامسًا: إن السياسة المُتَّبعة سياسة الانشغال بالفردية المُطلقة، فليس لك دخل بالجماعة، كانت هذه الكلمات مجرَّد هَمسات عابرة بيننا، إلاَّ أنَّ الطبيب النفسي هذا قد اختَفى؛ لأن أُذن أَحدهم كانت خلف الجدار، وفُصِلت أنا من الجماعة، ومن المجلة والجريدة معًا، وأنا الآن عاطل • وعاطل بمدِّ الألف تُفيد الاستمرار في الفعل، وذلك ليس مهمًّا ها هنا؛ إنها كلمة عابرة - إنه مما يثير الاهتمام أن تُعالج قضيَّة وصاحبها غائب، وأن تُقرِّر مصير إنسان وهو لا يدري، بل لا يتدخل في تقرير مصيره، ودون أن يؤخَذ رأيه.

 

على أيِّ حال، فإن الضمير عُملة يصعب الحصول عليها، إننا نسير وراءه بلا إرادة، إنها فقط إرادة الضمير، وتدخُّل الحمير وكفى انتهى الموضوع!

 

• وها هو صديقي قد عاد لأخْذ مقالته، أمسَك بالورقة يُقلِّبها، ثم صاح فيَّ كعادته قائلاً: ما هذا يا هلال؟ أهذا كلُّ ما كتَبته؟!

 

• نعم، فأنا لا أحبُّ الثرثرة مثل هذه المذيعة المشهورة!

 

• ومَن تكون؟

 

• لا أدري ربما سعدية شلبي، أو شلبية سعد، أو شوقية جمال، أو جمالات شوقي، لا أذكر، أخْبِرني أولاً أتريد أن تشربَ قهوة؟

 

• لا، يا حبَّذا (ينسون).

 

• حبَّذا ينسون، (هكذا يقول هلال لنفسه: حبَّذا، يَنطق بالفصحى ذلك المعتوه)، ينسون طلبٌ جيِّد أيها الصديق، فلعلَّك تُدرك أن له فوائدَ جليلة من أهمها [...]، ولكن لا داعي لسَردها؛ لأنني أعلم مدى جَهلك بهذه الأمور، ولا شأنَ لك بذلك، هلال هامسًا: ما هذا؟ أيستهزئ أحمد بي؟ إنه لا يحب الينسون! هِيه، لعلَّه أحبَّه بعدما الْتَقى بنصفه الآخر، إنني مُتأكِّد أنه بعد زواجه من بسمة أو نسمة - لا يهمُّ فكلُه سمٌّ - سيقهرها على شرب السحلب؛ لأنها لا تحبُّه بالمرة.

 

أخَذ أحمد كلماتي المبتورة وانصرَف، وبعد دقائق أنا والوحدة معًا مرة أُخرى، أنظر إليها وتَنظر إليّ، لقد نَسِيت أن أُخبركم أنني أُؤمن بالوحدة - ولا يَخطر ببالكم أنني أتكلَّم عن الوحدة القوميَّة - لا، فالوحدة مشروع فاشل، أمَّا الوحدة في البيت، فهي أروعُ من ظُلمة، من ظلمة ماذا؟ ضاعَت مني الكلمة التي أردتُ كتابتها، على أيِّ حال فإنَّ ظُلمة النفوس أشدُّ وطأةً من ظُلمة الليل.

 

وفي الوحدة والفراغ أُجالس الشيطان، وهذا شيء طبيعي، هذا هو ميعاده في تلك الساعة من الليل، ساعة واحدة أقطعها أنا، أو يَقطعها هو، وكثيرًا ما يقطعها هو؛ لأنه جبانٌ، ولا يأمر إلاَّ بكلِّ قبيح، أشعر برغبة دفينة في أن أتخلَّص منه، ولكني أعرف أنه لا سبيل لذلك، فهو يجري منَّا مجرى الدم في العروق، ورغم ذلك لا أخشاه، أتدرون لماذا؟ وهذا سرٌّ لا يَخلُص إليه إلا أمثالي - وأمثالي بمدِّ الياء هم النُّخبة الفاعلة، وذلك ليس مهمًّا ها هنا؛ إنها كلمة عابرة - المهم أن هذا السر لكثرة المصادقة! فماذا سيفعل الشيطان في عالمي؟ هو الآن يَقترب ويَقتحم عليّ عُزلتي، ورغم توغُّله فيَّ، وسَريانه ذلك السَّريان الشيطاني، لكنه لن يَهزمني بلقاءٍ، أو بمكالمة ساخنة، أو يُحسِّن إليَّ صورة جَارتي؛ ليَجعلها حسناءَ باهرة، وفاتنة، ولن يَجعلني أُسافر معها عبر قنوات خفيَّة، فنصل أو لا نصل، ولكن ما اسم جارتي؟ لا يهمُّ، فحلب مثل بلح!

 

إنه يتصنَّع حين يَمنحني نصيحته، دائمًا يُذكِّرني بأني أعيش في برج عاجي، لعلَّه نجَح في أن يجعلَ مني مسخًا مشوَّهًا، كان كثيرًا ما يقول لي: لو أفقت، لأفاق الناس معك، ورغم ذلك لَم يكن ليُغيِّر خصالي، أو يبث فيّ العزيمة.

 

الساعة الآن الثانية عشرة ليلاً، والكهرباء في تلك الليلة مقطوعة، وليس هناك سوى شمعة نحيلة تموت رويدًا رويدًا، فضوءُها الخافت يُحاول النهوض عبر مسارات الزمن، يُجاهد ليَنفض الغبار عن أشعَّته، ولكنه كلما مرَّ الوقت، يذوب متراقصًا تاركًا في النفس آثارًا لشبح الموت، نعم أذكر لك الموت؛ لأنني كنتُ أسير في الحياة بلا هدفٍ، فبين الحياة والموت خطوات وهميَّة، وإشارات لا تُنير إلا في الضباب.

 

كنتُ أعتقد أننا دائمًا في لحظات اختيار، لكني اكتشَفتُ أنه لا اختيار، فقط إنه الإيمان بالقدر، فلرُبَّما تجرَّعت السُّمَّ ونَجَوت، أو أقْدَمت على الانتِحار ونَجَوت، أو رُبَّما عَشِقت امرأة عنكبوتيَّة ونَجَوت، ولكن لماذا أُفكِّر في الموت؟!

 

إنَّ جدران العزلة علَّمتني قيمة الصُّمود، وخيوط الوحدة حينما تَنسدل عليّ من أعلى، تُخبرني بمعنى الحياة، فسحقًا لغبار السنين الذي يُعمي أبصارنا، فلا نُدرك كم من الوقت مرَّ، ومن أجل ذلك، فأنا لا أحمل في يدي اليمنى ساعة، وكذلك اليُسرى بالطبع، فبُعدًا لذلك الذباب الذي يَلتصق بثوبي، فلسوف أتطهَّر منه بعد قليل!

 

على أيِّ حال، فإنها ذكريات ولَّت وانتَهت، ذكريات: اسم أُغنية مُملَّة لمطرب شهير، كنتُ أُسمعُها، ولا أتسمَّعها وأنا ذاهب لعملي، فلعلَّه صبحي محمد، عوض محمد، لا يهمُّ، كلُّ ما يهمُّ أَن أَتذكَّر ذلك الشخص الذي كان يُردِّد لا تَعنيني الأسماء، إيه، إنه أنا، أنا هذا الشخص الذي لا يَعرف ماذا يُريد، وتلك هي، هي ماذا؟ لا يهمُّ!

 

إنني أحلم - والحلم بضمِّ الحاء ضمتين أو ثلاثة، وذلك ليس مهمًّا ها هنا؛ إنها كلمة عابرة - عبارة عن سراب يأتي في المنام، وأنا لا أنام.

 

هكذا تذكَّرت حياتي، فلم يكن لدي ما أدَّعيه من أنني أمْتَلِك من المشاعر والأحاسيس ما يَجذب أيَّ فتاة في عالَم الغيب نحوي، فالحواس عندي مُعطَّلة، لَم أستخدمها بعدُ، حاسة واحدة فقط هي التي تعمل، حاسَّة الفكر، ورغم ذلك فإني لَم أشعر يومًا ما بجمال تلاطُم مياه البحر، ولا بلحظة صفاء الغروب، لحظة هبوط الشمس وهي تغوص في البحر، تَغيب في اللاحدود، تُعربِد في اللاشيء، مُعلنةً عن لحظة الفراق البطيء الذي يَزحف نحو عالمي كسُلحفاة عمياءَ.

 

كنتُ أسهرُ وحْدي، وأقرأ الشعر وحدي، ورغم ذلك لَم أشعر يومًا بنقاء أشعة القمر وهي تُنير وادي الظُلمة في زمن الخمول، وكانت لديّ رغبات وتطلُّعات كثيرة، ولكني كنتُ أخشاها، كان بداخلي رفضٌ تامٌّ وقَبول مُطلق للحياة، وكلُّ ما يُؤَرِّقني فكرة أنني رجل محترمٌ ووقورٌ، وشخصيَّة تعرف كيف تضعُ النقاط فوق الحروف، لكن بعد هذا الجهاد القاسي والكفاح المُمِضِّ، ما وجَدت الحروف، ولا رأيتُ الكلمات، ولَم أعرف كيف أضع النقاط، فحياتي عبارة عن متاهة كبيرة، كنتُ أُسأل نفسي: لِمَن يا ترى تلك المشاعر التي يَختزلها قلبي بداخله؟ فهل في غيابات الكون مَن تستحقُّها؟

 

وظلَّت النقاط تائهة منثورة، لا تجد في ذهني مأوًى، وكما تَختزن العاقر أُمومتها؛ لتبُثَّها للدُّمى، اختَزَنت براعتي في وَضْع النقاط، لكني لَم أقترب مُطلقًا من الدُّمى.

 

لقد كان في مُخَيِّلتي وجهٌ ما خلف صفوف الجماهير، وجه جميل بريء، لا أتذكَّر بالضبط هل قابَلته حقًّا؟ أو أنَّ هذا كان عبثًا شيطانيًّا بأحلامي؟

 

كنت أشعر أنَّ جدران الحجرة قِطَع متناثرة من الثلج، تتساقط فوق رأسي الساخن، وأشعر أن أعمدة البيت عملاقٌ ضخمٌ سوف يَخِرُّ فوقي؛ لأني أنامُ على فراشي وحدي، أذوب فيه تمامًا، وأُغرق سريري بدموعي، الصمت في منامي وصَحوي، الشيء الذي كان يَمتزج بي كوب الشاي بلونه القاتم، فلا أعرف: أيُّ ألوان البشر أنا؟ فأحيانًا أتوهَّم أنَّ الصورة التي ترقُد في مُخَيِّلتي تُحَدِّثني، كانت صورة مُنَمْنَمة لفتاة لا أذكر اسمها، كانت تُزيل عني بعض آلامي وأحزاني، وأشعر بيدها الرقيقة تُداعب خصلات شعري، فأحس من أعماقي بالاسترخاء والخمول، وكنت أنصتُ لصوتها العذب الرخيم، فأذوب عشقًا ووَلعًا، ثم ماذا؟ ثم أُفيق على اللا شيء، ولا أجد سوى الوحدة، والليل واقفٌ برأسه المُستديرة، يَرقُبني عن كَثَبٍ.

 

أحيانًا أُخرى تَنتابني حالة من الجنون، فأرمي نفسي بين دِفَّتي كتاب، وأنسى معه همومي وأحزاني، وذلك خير من امرأة وكأس، كنت أنسخ من أفكاري عالَمًا خاصًّا، بفتًى لا يعرف ماذا يريد! وكنتُ أقرأ وتَنتابني حالة مزعجة من التدمير الذاتي، فأخرج هائمًا على وجهي، لا أبغي شيئًا، ولا أعلم إلى أين أُوَجِّه وجهي؟ ولا في أي دربٍ مِن دروب الحياة أسير؟ فتارة تَجذبني امرأة طويلة اللسان، قصيرة القَدمين - وقد ذكرتُ لك أني قصير القامَة - وتارة يَجذبني المسجد وسورة النور، والبكاء.

 

وكنت أُحاول الكتابة، فأُمسك بقلمٍ وورقة، وأكتب عن الحياة، أو أكتب خطابًا:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

لا، لن أكتب خطابًا.

 

بل أكتب رسائل مُبهمة لأصدقاء الدراسة! لكني لا أتذكَّر واحدًا منهم، اللهم سوى هشام، نعم هشام "ضحكاية"، هكذا أطْلَقنا عليه؛ لأنه صاحب أغرب ضحكة في التاريخ، والتاريخ أكذوبة بشرية، يَعزف للعالَم ألحانًا رديئة.

 

وهذا بيت شعر كتَبته أنا في ذكرى وفاة التاريخ، وماذا غير ذلك؟ كنت أدخل الحمام لأُغني - والغناء بسكون الهمزة: شيء قبيح جدًّا، ومُقَزز، ويُصيبني بالاشمئزاز، وذلك شيء مُهمٌّ، رغم أنها كلمة عابرة - إن صوتي مُؤلِم تمامًا، ومُزعج كرَعد الشتاء، وبالرغم من أنَّ ليالي الشتاء طويلة، فإني أحبُّ هطول المطر، وأعشق الثلج وهو يتساقط حبَّاتٍ متتالية بيضاءَ، كأنه أجنة صغيرة أقوم بجَمْعها قبل أن تذوبَ، وكنتُ أكره في الشتاء جلوسي تحت وَطْأة البطانية والارتعاش والتكتكة، وانغماس التيار الكهربي في وادي الظُلمة، وأكره الفلاسفة، رغم أن الفلسفة جعَلتني أشعر بين أقراني بالتفرُّد والتميُّز - والفلسفة بلفِّ الفاء مع السين، وذلك ليس مهمًّا ها هنا؛ إنها كلمة عابرة - المهم أنني أكره الفلاسفة وأفكارهم.

 

وهكذا تمرُّ الدقائق والساعات، أمَّا الآمال فهي خطٌّ خارج من دائرة العمر، لن نُدركها بحال من الأحوال، لَم يَبق من تلك الليلة إلاَّ ثُلُثها الأخير، في هذا الثُّلُث من الليل وقت نزول الرب، تَرتجف القلوب وتتصدَّع، لكنَّ الكلَّ مشغول؛ إمَّا أمام تلفاز، أو في سهرة، أو بالعبَث أمام..، أمام ماذا؟

 

المهم أنَّ قليلاً جدًّا مَن يَلقى الرب في تلك الساعة، وإيَّاك أن تظنَّ بي خيرًا، فها أنا كما عَلِمت، لي مَلذَّات صغيرة عبر رحلتي مع الحياة، سطَّرت بعضها ها هنا، والبعض الآخر أستحيي أن أقوله.

 

هكذا بعد أربعين سنة وليس أربعين عامًا، أُخبركم الآن بما خَفِي عليكم: إنَّ رئيس التحرير عاد إلى قريته في موكب من الحمير، وإن أبي لَم يكن شيوعيًّا، ولقد صَلَّيت أمس الجنازة على صديقي أحمد، وإنَّ النجفة التي عرَفتم أمرَها في بداية القصة قد سقطَت، وأُخبركم أنَّ الأربعين سنة هي كل ما أَملِك - وأملك هُنا لا تُفيد تمام ملك النصاب؛ لذلك فأنا لن أدفعَ الزكاة، وذلك ليس مهمًّا ها هنا؛ إنها كلمة عابرة - المهم أنني أتمتَّع بوسامة الفتيان، وذلك الطول الفارع، ولكني ما زِلت أتيه، أَضلُّ الطريق للمطبخ، والمطبخ في شقتي وشقتي كما عَلِمت! المهمَّ أني أَضِلُّ الطريق للمطبخ؛ كي أصنع كوبًا من الحلبة؛ لأن سلوى غير موجودة، كلُّ ذلك لكي أغرق في العزلة من جديد، وبالرغم من كلِّ ما حدَث فإني ما زِلت أُدَنْدِن بقصيدة صديقي رأفت:

 

سطح عمارة.

 

أمسك سنارة.

 

وعروس البحر تعيش في محارة.

 

في محارة.

 

• يضحك بهستيريا، ويُردِّد: شاعر أحمق، صديق مجنون:

 

عروس البحر تعيش في مغارة.

 

في مغارة!

 

انتـهى.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • العزلة والاختلاط
  • العزلة للحافظ أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي

مختارات من الشبكة

  • أكره العلاقات الاجتماعية وأحب العزلة(استشارة - الاستشارات)
  • العزلة والرهاب الاجتماعي(استشارة - الاستشارات)
  • الانضباط بين مسألة العزلة والاختلاط(كتاب - آفاق الشريعة)
  • بين العزلة والمخالطة(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • أحب العزلة وأكره الناس(استشارة - الاستشارات)
  • الخروج من العزلة والانطواء(استشارة - الاستشارات)
  • العزلة والحزن بسبب المرض(استشارة - الاستشارات)
  • معاناتي مع العزلة(استشارة - الاستشارات)
  • تعبت من العزلة وإهمال الوالدين(استشارة - الاستشارات)
  • أحب العزلة وأتأثر بما حولي(استشارة - الاستشارات)

 


تعليقات الزوار
1- رائعة
أبو يوسف - مصر 19-05-2012 12:02 AM

بورك فى مدادك

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب