• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة
علامة باركود

وسام الخلود

مريم قول آغاسي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 17/4/2011 ميلادي - 13/5/1432 هجري

الزيارات: 6886

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

(1)

أبدًا يتعاقَب الليل والنهار، وتمدُّ الحياة مدَّها، وتُعطي الأيام عطاءَها وابتلاءها، والأمَّة المصطفاة التي لها مِن ماضيها غناءُ الفِكر والتاريخ، وسلامة البُعد الحضاري - جديرة دائمًا أن تنفض عن كاهلها غبار الذلِّ والهزيمة، وتمدُّ إلى منهج الله أيديها بشجاعةِ الأبطال؛ كي يكونَ نبراسها ونظامها، ووقود مسيرتها إلى الحياة الحرَّة التي تسعد معها الإنسانيَّة؛ شأنها في ذلك شأن أولئك الذين باعوا - كما وصفهم القرآن - أنفسَهم لله، ووقفوا على اليابسة فيما اعتقدوا، وأدْرَكوا أنَّ حياتهم هي العقيدة التي انبثَق عنها النِّظام الربَّاني، فالعمل به والحِفاظ عليه والْتزامه في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة هو عنوان الحياة.

 

فكلُّ فرْد حارسٌ أمين لذلك المنهج الربَّاني، على أيِّ صعيد كان تحرُّكه؛ في الداخل مع بني جِلدته، أو على ساحةِ المعرَكة مع أعداء الله والإنسان.

 

الباب يُطرق بشدَّة وعُنف، فتح أبو أسامة الباب متسائلاً: من الطارِق؟ يدخل عددٌ مِن جنود اليهود إلى البيت كالكلاب المسعورة، يفتشون في كلِّ مكان، ويلقون القبضَ على أسامة، كانوا يضربونه ضربًا مبرحًا، ويشتمونه بأفظعِ الشتائم، قادوه إلى خارجِ المنزل بكلِّ قسوة وعُنف، وأبوه ينظُر إليه بذهولٍ وهو يُردِّد: ماذا فعل ابني؟! وأمه تبكي وتنتحب وتصيح: أعِيدوا لي ولدي، ابني، لا تأخذوه، أعيدوه، يلتفِت إليها أسامة، ويقول بلهفةِ الذي لا يعود: متى كان للذين باعوا أنفسَهم وصدَعوا بكلمةِ الحقِّ أن يعودوا؟!

 

ذهبوا به إلى المجهول، إلى أتُّون العذاب.

عمَّ البيتَ صمتٌ رهيب، رهبة الموت.

 

(2)

• أبتاه؟!

• عدت إذًا يا ولدي، انتظرتُك طويلاً، فلماذا تأخرت؟! وقلت لنفسي: ربَّما لن تعود!

• أبتاه.

• أين أنت، لا أراك؟

• أسبح في عالَم بلا قيود، وأنعم برِضا الله وهناءٍ وخلود.

• لا أفهم يا عزيزي؟ أين أنت؟!

• لن تستطيعَ رؤيتي يا أبتاه، أنا في عالَم يختلف عن عالمكم!

• تأخرت كثيرًا بالأمس، أمك قلِقة عليك، وكانت تبكي طوال الليل.

• لا تَخَفْ عليَّ بعد اليوم يا أبتاه، كنت دائمًا أصدع بالحق، ولا أخاف إلا الله، وبقيت ثابتًا على عقيدتي رغمَ كل التعذيب الرهيب، وفجأةً وجدتُ نفسي في عالَم لا مثيل له، قالوا لي: إنك قرب الله.

 

وضجَّتِ الأنوار فجأةً، وانبعثتْ أصوات عميقة ذات صدًى مهيب.

• متى تعود يا ولدي؟

• لن أعود، بلِّغ سلامي إلى والدتي الحبيبة، وقل لها: ألاَّ تحزن، ولا تذرف دموعها الغالية، فإنِّي لم أشعرْ بالسعادة يومًا، كما أشعر بها الآن.

• أسامة، يا ولدي، ابني الحبيب.

 

وامتزَج النداء بلهفة، وعادتِ الأصداء تختلط بالأنين، واختفتْ كل الأصوات، فعاد ينظر إلى اللاشيء، وفجأةً سمع أصواتَ ترتيل، بدأت قويَّة، ثم عادتْ تخفت شيئًا فشيئًا، وهو مشدود بسحر الكلام؛ ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آل عمران: 169 - 170].

 

وغمرتِ السكينةُ كلَّ شيء، واستيقظ على صوتِ طَرْق الباب، كان الليل يُنبئ بنهايته.

 

وحينما فتحه خفق قلبُه!

 

امتلأتْ نظراته بحزنٍ عميق، ومرَّتْ لحظة صمت كانتْ كالكابوس.

 

وتسمَّرتِ النظرات، فاختلطتْ رؤى الأمس بمشهد اليوم.

 

وكان المشهدُ الفظيع الذي انطلقتْ معه صرخةٌ مدوية من أمِّ أسامة.

 

فإذا بتلك الكلاب المسعورة التي داهمتْ بيته بالأمس، قد أعادوا له ابنه. ولكن..

 

ولكن أعادوه شهيدًا، محمولاً بملاءة مهترِئة مدماة، مسفوكًا دمه، ذاك الدم الطاهر الذي لم يتوقَّف عن النَّزيف بعدُ.

 

كاد قلبه ينفطِر، حوقل واسترجع، وكل ذرَّة في كيانه تلْعَن هؤلاء الطغاة المحتلِّين وأعوانهم؛ ﴿ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18].

 

(3)

أبو أسامة يجلِس بقُرب ولده الشهيد، تحتَ وطأة ضوء حجرته الخافِت، كان يذرف الدموع بصمتٍ وحُرْقة، وزوجته تجلس إلى جانبه تحتضِن رأس ولدها الشهيد، وهي تبكي وتدعو أن ينتقمَ الله مِن المحتلِّين المغتصبين لأرضهم، تنتحب تارةً، وتتأمل تارةً أخرى في وجهه الوضَّاء، فيزداد نحيبها ألمًا على اجتثاث زهرة شبابه، كان أملها في الحياة، تنظر إليه بكلِّ شوق، إلى المستقبل الزاهر الذي ينتظره، فهو الابنُ البارُّ والشابُّ المتفوِّق على أقرانه، والأوَّل في كلِّ شيء في الأدب والدِّين والعلم، أهل الحي وأقرباؤه يحبُّونه ويجِدون فيه مثالاً للشاب الصالح.

 

كان أبو أسامة ينظُر إلى ابنه، ويتأمَّل فيه كل معاني الحياة.

أيا ولدي، هدوءك كان يُوحي إليَّ بمعانٍ كثيرة.

وكنت أظنُّ الحياة نغمًا منسابًا.

يشبه انسيابك في التفكُّر بنجومِ ليلةٍ صافية قمراء.

ولكن الحياة علَّمتني أني كنت مخطئًا.

وأنها معقَّدة تفجؤنا كلَّ يوم بجديد مروع.

يذهب بأحلامنا النضرات.

ويحولها أوراقًا مبعثرة.

والإنسان كذلك يعيش بأحلام.

ويسير في دروب العمر مرحًا طروبًا.

ثم يُعاني من ضغط الحياة ما ينوء به كاهله.

ويجد خطاه تَقوده بسرعةٍ إلى نهايته.

وقد يذهب من الكون بعد أن يكون قد أدَّى رسالتَه.

وحقَّق الغاية مِن وجوده، وقد يذْهب.

تافهًا كما جاء دون أن يخلِّف وراءه أثرًا.

وأنت ذهبت مقدامًا لا تهاب الموت.

 

(4)

وعاد بذِكرياته إلى الماضي، عندما انطلق أوَّل صوت لأوَّل وليد له، كان صراخه ناعمًا ملأ كيانه، وفاض في جنبات نفْسِه، وغمر البيت كله ضجيجًا، ومنذُ تلك اللحظة دُعي: أبا أسامة.

 

كان الوقت أصيلاً في أوَّل أيام الربيع، بدأتْ هبات مِن النسيم العليل تتدافَع إلى الحجرة، تنفَّس بعُمق، وملأ بها رِئتيه وبرقت عيناه بنظرات السعادة، وهو يحمل ابنَه الصغير ويحتضنه بكلِّ حنان، ويؤذِّن بإذنه اليمنَى ويُقيم الصلاة بإذنه اليُسرى؛ اقتداءً بسُنة الحبيب المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

وازدحمتْ ذاكرته بالأسماء، أسماء كان يحبُّها، قرأ عنها في صفحاتِ التاريخ، أسماء لعظماء الأمَّة مِن الأنبياء والصحابة والشهداء، ودارتْ به دوَّامة الأسماء ومن بين زحامها، أضاء اسمًا، توهج، وفرض وجوده بمعناه، فدعاه باسم (أسامة).

 

ومنذ أوَّل شهوره كان لا يستطيع فراقَه، وفي أثناء تواجُده في مكتبه كان يستوحي كتابةَ رِواياته وأشعاره مِن ملامحِ وجهه وبَسمته العذْبة، وها هو يُعيد النظرَ في كلِّ ما قرأ وكل ما سمِع، ورجع مِن جديد؛ ليتعلَّم من عينيه المستديرتين البرَّاقتين أبجديةَ الحياة، وعندها فقط أدْرك معنى الحياة وعُمق التجرِبة، وسِر الصمْت الملتهِب، والمأساة الحادَّة في حياة الذين حُرِموا.

 

ويتذكَّره وهو رضيع لم يتجاوز ستَّةَ شهور، وقد استغرَق مع والدته في نومٍ عميق، ويعود أبو أسامة بعدَ منتصف الليل مِن مكتبه إلى المنزل، فيرى ما يروِّع القلب، ويهز جوانبَ الفؤاد، أفعى مروعة قد التفتْ على نفسها، وجثمت بجوارِ أُسامة، ورأسها ممدود إلى جانبِ رأسه، وليس بينها وبينه مسافةٌ يمكن أن تُقاس، وينخلِع قلبُ أبي أسامة هلعًا فيتضرَّع إلى ربه ويستعينه، ويذهب عنه الفزَع، وينطلق لسانه بعباراتٍ واردة في الرُّقية من مسِّ الحية وأذاها، وما إن فرَغ من تلاوتها حتى تنكمِش الحية على نفْسها وتعود إلى جُحرها، وينجيك الله يا أسامة مِن شرِّها لإرادة سابقة في علمه وأمر هو فيك بالِغه.

 

(5)

مرَّ العام الأوَّل، وقدْ كان أبو أسامة شديدَ الفرَح عندما كانتْ تلك اللحظات كان يجلس إلى جانبِ ابنه وهو يخطو خُطواتِه الأولى، وكأنَّ العالم كله يخطو ويتحوَّل إلى أذرع صغيرة ملْساء، تلتفُّ حول عنقه، القدمان الصغيرتانِ تدوسانِ هداياه وتركلها وتبعثرها على أرض الحُجرة.

 

في ذلك اليوم رنَّ في أُذنه نِداءٌ ساحِر من ثغره الصغير: أبي، فكَّر في نفسه فأحسَّ بقِيمة الحياة، وتلمَّس كتفيه، فإذا بهما يحملانِ حملاً ثقيلاً، وعلى عُنقه أمانةٌ عظيمة.

 

وعامًا بعدَ عام، كبر أسامة واشتدَّ عُوده أكثرَ واتَّسعت عيناه باتِّساع وجْهه الصغير، وأصبح أكثرَ إدراكًا وحيويةً، وكان لا بدَّ لهذا العقل الصغير أن ينشأ على أسْمى معاني الحقيقة، ولرُوحه العَطْشى أن تَروي ظمأها وتنال حظَّها، ولا بدَّ مِن هنا - من هذا المبدأ - أن يبدأ، أسرع الأبُ بتعليم ابنه قِصارَ السور، فيستجيب أسامةُ بسرعة، ولا تأتي المرَّة الثالثة أو الرابعة حتى تكونَ الكلمات قد انطبعَتْ في الذاكرة الصغيرة المتوقِّدة، وتناثرَتْ على لسانه أصوات تخلب اللبِّ، وتملأ النفْس ويطلب المزيد.

 

فعلَّمه أصولَ الحياة، وقواعد الكون الكُبرى، ومبادئ الوجود الواضحة؛ كالثمر والبحر، والحقْل والطيور، عن صِفات الله - جلَّ جلاله - بديع السموات والأرض، وحقه على العِباد، وخصائص الإنسان، فيروح يرشُف قطراتِ المعرفة قطرةً إثْر قطرة ويطلب المزيد.

 

علمه شيئًا من الشِّعر الإنساني الخالِد الممتلئ جمالاً وحِكمة، كان يسمع كلِّ شيء بشغَف ويطلب المزيد، إنَّه الإنسان بكلِّ شوقه للحياة وعطَشه للمعرفة بكلِّ عظمته التي تكشف عن عظمةِ مَن سواه.

 

(7)

وتتوالَى الأعوام وتنشُب الحرْب، ويكون أبو أسامة جنديًّا فيها، ويطول غيابه عنِ البيتِ فيأخذ أسامةَ قلقٌ بالغ، ويعود بيْن الفترة والأُخرى؛ ليراه كسيرَ القلب، ذابل الوجه عازفًا عن اللعب؛ لأنَّ أباه طالتْ غيبته ويخشى - وأذناه الصغيرتان تَسمعان هديرَ الطائرات والقذائف والغارات مِن بعيد - أن يكون لكلِّ هذا علاقة بالأبِ الغائب فلا يعود!

 

وما إن يطل مِن بعيد حتى يقفزَ قفزته السريعة والفريدة الخاصَّة التي لا ينساها، ويروح بيديه يمْسَح بهما عُنقه ووجهه وذراعيه، كأنَّه يطمئن على وجوده لحمًا ودمًا، ويسأله عن الحرْب؟!

 

وهل قتلتِ الأعداء؟! ويشتمهم ويسأله أن يضربَهم بقوة، أن يكون شجاعًا؛ عندها أدرك لماذا يقتحِم بعضُ الرِّجال فلا يفرُّون، ولماذا يفرُّ بعضهم، فلا يقتحمون؟!

 

(8)

ومرَّتِ الأعوامُ وأصبح أسامةُ شابًّا مِلْء السمع والبصر، ذا تُقى وورع ودِين، وأخلاق حسَنة عالية، كريم الطِّباع والمعاملة، ذا سُمعة حسَنة بيْن الناس، هادئ الأعصاب، لا يحتدُّ في مناقشةٍ أو ينفعل، حاد الذكاء، واسِع الاطلاع، عُرِف بين الناس بالاستقامة، حافظًا لكتاب الله، شاعرًا حرًّا مؤمنًا بمبادئه وقضيته وهدفه، متفوِّقًا في دراسته، لم يرضَ بالظلم قطُّ، ولم يَحْنِ رأسه لليهود الطغاة يومًا، ولم يرضَ سوى الإسلام منهجًا والقرآن دستورًا.

 

ما زال أبو أسامة يذكُر ذاك الحوار الذي دار بينهما في أحدِ الأيام، حيث كان أسامة يقول: (عندما نعيش في الدنيا لذواتِنا وهمومنا، ولا نشعُر بأحوال أمتنا ومآسيها، ونحيا حياةَ الذلِّ والهوان، فإنَّها لحياةٌ قصيرة تبدأ مِن حيث بدأنا، وتنتهي بانتهاءِ عمرنا المحدود، حياة أشْبَه بالسَّرَاب، لا هدفَ ولا قضية.

 

ولكن عندما نعيش حياتَنا لأمتنا، للقضية التي يكافِح مِن أجلها كلُّ الصادقين والمخلصين، فإنَّ الحياة تبدو طويلةً، عميقة؛ تبدأ مِن حيث بدأتِ الإنسانية وتمتدُّ بعدَ موتنا مشعلاً لكلِّ السائرين على درْب الحقيقة! وتبقَى مع بقاء القضية).

 

مسح والده على رأسِه بحنانٍ، وشدَّ على يدِه وهو يقول له:

يا بني، إنَّ ما تملكه أكثرُ ممَّا يجمعون، تملك الإرادة والغاية، يشدُّهما أمل هو العزاء لكلِّ أتعاب الطريق وآلامه.

يا بني، صحيح أنَّك في عصرٍ تعجُّ به المغريات ويموج بالفتن، حتى لتكاد ترتطم بها في كلِّ زاوية ومنعطَف، ولكن الله - سبحانه - لن يتخلَّى عن الذين أخْلصوا له الوجدان، وتحرَّكوا صوبه.

يا بني، ألم تسمع: ((حُفَّتِ الجنةُ بالمكارِه، وحُفَّتِ النار بالشهوات))؟

 

فذلك هو الطريقُ إلى السِّلْعة الغالية، أشواك تُدمي الأقدام، وعذاب لا يصبر عليه إلا مَن كانت غايته أكبرَ من ذاته، ولن تمضي في هذا الطريق إلا بالصبر والمصابَرة.

 

فقال له أسامة: أنت تشحن فيَّ الأمل واليقين، ولكن! آه يا أبتي، ما أكثرَ الذين قضوا! وما أكثرَ الذين يُعذَّبون!

 

فقرأ له أبوه بصوتٍ يقطر صدقًا وحنانًا: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].

 

(9)

وها أنت يا ولدي، صريع بيْن يدي، وقد حُملتَ إليَّ في الليل مسفوكًا دمُك، ذاهبةً نفسك، فاكشفْ عن وجهك الحبيب؛ لأرَى فيه إشراقةَ وهناءةَ الشهادة، وأرى على جسدِك الطاهر آثارَ تعذيب فظيعة، أنياب ذئاب، سياط جلاَّد، فتدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا - عزَّ وجلَّ -: ﴿ إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون ﴾، وأقوم يا ولدي على غُسلك وتكفينك، وأصلي وحْدي من البشر عليك، وأمشي خلْفَك، أحْمِل نصفي، ونصفي الآخر محمول، وأفوِّض أمري إلى الله، إنَّ الله بصير بالعباد.

 

مُصابي فيك عظيم الشجن!

أبكيك؟! جفَّ الدمع في ناظري.

 

يبكيك قلبي، يا مُنى قلبي، ألم تكن في روضه راتعًا.

يبكيك في المسجد محرابُه ومجلس العِلم الخاشع.

يبكيك جيرانُك ورفاقُ دربك وكلُّ أحبابك.

 

هجرتَ دنياك شهيدًا أبيًّا.

والملتقَى في جِنان الخلد، في رحمةِ الله الواسع.

 

كنتَ زهرةً نضرة، افتقدتُك في ليلةٍ قاتمة من كانون، زهرة سحقَها ظالمٌ محتل فأتلفها.

كنتَ نبضَ رُوحي، افتقدَك كلُّ مَن عرَفك، وسارتْ في جنازتك الملائكة.

 

لقد غابتْ تلك البَسْمة الهادئة الجميلة التي كانتْ ترتسم على محيَّاك، ولكن بسمة رُوحك لن تغيبَ أبدًا، وأنت تطلُّ علينا من عليائك؛ لترى شبابَ الإسلام وقدْ حملوا الرايةَ، وأقدموا ليخوضوا الغمار، فاهنأْ يا ولدي بجوار ربِّك، ولتعانق رُوحُك أرواحَ الأنبياء والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وإنَّ وراءَك شبابًا باعوا أرواحهم لله، وسيخوضونها معركةً إثر معركةٍ مع الضلال والانحراف، حتى يتمَّ الله نورَه ولو كرِه الكافرون.

 

أمَّا أنت يا ولدي فقدْ نِلت الشهادة التي كنتَ تسأل الله تعالى في سجودك أن يرزُقَك إيَّاها، فهنيئًا لك.

اللهمَّ اجعل الجنةَ مثواه ومستقرَّه، اللهمَّ لا تحرمنا أجْرَه ولا تفتِنَّا بعده.

 

هذه القِصَّة واقعية، جرَت أحداثها، في فلسطين المحتلَّة.

وهي واقعُ وطننا العربي (الإسلامي).

 

إنها أحداثٌ لا تتقيَّد في مكانٍ أو زمان.

بل هي معركةٌ ضدَّ الاحتلال والطغيان.

وبدأتْ منذُ سطوع فجْر الإسلام، دِين الحق والعدل، والحرية والإيمان.

 

وستبقَى، ما دامتِ المعركة قائمةً بين الحقِّ والباطل.

بيْن الأحرار والأشرار.

بيْن الإيمان والطُّغيان.

بين أصحاب الحقِّ والأرض، وبيْن مُغتصبي الأرض والعِرض.

 

وستظلُّ قصصُ الشهداء ومَن سلك طريقهم نبراسًا في ضمير الأمَّة، تُوقِظ من الغفلة، وتحمِل إلى واحة الطُّمأنينة بوعدِ الله، فالله معهم عاملين مخلِصين، والله معهم، صابرين على الأذَى، واثقين بنصْر الله، والله مع الصابرين.

 

اللهمَّ توفَّنا مسلمين، وألحِقْنا بالشهداء والصالحين، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الشهيد الحي - قصة (خاص الألوكة)
  • وصية شهيد (قصة قصيرة)
  • لا بديل للخلود
  • لا تمن نفسك بالخلود فإن الخلود في الدنيا محال

مختارات من الشبكة

  • ألفاظ تكثر في شعر المتنبي (2)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • لغة الخلود (قصيدة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • لحن الخلود (قصيدة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الخلود في الجنة عند سيبويه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • العمر الجميل وأكذوبة سر الخلود(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • رحلة الخلود(مقالة - ملفات خاصة)
  • رحلة الخلود(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • طوبى لجنات الخلود (قصيدة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • رحلة الخلود في...تلك الجنة (WORD)(كتاب - موقع مثنى الزيدي)
  • نعيم مرور الوقت في الجنة(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب