• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    التأويل بالحال السببي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (3/ 10)

د. عيد محمد شبايك

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 28/12/2010 ميلادي - 21/1/1432 هجري

الزيارات: 12742

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

التلقي المنتج وأفق التوقع[1]:

في كثير من الأحيان تتمُّ عملية تلقي الشِّعر وفقًا لأفق التوقُّع الذي يصحب هذه العملية، وهذا الأفق يتشكل ويتحدد وفقًا لمخزون الخبرة النوعية لدى متلقي الشعر، وهذا ما يَبْرُز في نوع من المواقف يتطلبه، كما أنه - أي: أفق التوقع - قد يصنعه النصُّ المتلقَّى نفسُه بحكم النهج الذي يحكم بناءه، وسنرى أنه في كلتا الحالين يقوم المتلقي بدور إيجابي في تَحقُّق النص، لكن ما ينبغي التنبيه إليه منذ البداية هو أنَّ حالتي التلقي هاتين أحرى أنْ ترتبطا بذلك النوع من التلقي الشفاهي من أنْ ترتبطا بالتلقي الكتابي، والشواهد الدالة التي سنقف عليها وشيكًا، وغيرها مما يجري مجراها، سيتضح فيها ارتباط بالتلقي الشفاهي.

 

على أن استجابة النص لأفق التوقُّع لدى المتلقي، أو بالأحرى استجابة أفق التوقع للنص - لا تَمنح النص في تقدير المتلقي قيمة إيجابية بالضرورة بأنْ تشيع في نفسه البهجة الجمالية المنشودة من كل إبداع شعري، فقد تكون هذه الاستجابة سلبية صرفًا، لا تُكلِّف المتلقي أدنى مؤونة، وذلك عندما تكون حمولة النص في دائرة المألوف والمتكرر، ولكن أفق التوقع يمثل فاعلية جمالية حقًّا عندما يتحول المتلقي من موقف السلب من النص إلى موقف الإيجاب؛ أي: عندما يصبح منتجًا للنص أو مشاركًا في إنتاجه على نحو أو آخر.

 

وإذا كنا نذهب إلى أنَّ أحد أسلوبي التلقي يعتمد على مَخزون الخبرة النوعية لدى المتلقي، فينبغي ألاَّ نفصل هذا نهائيًّا عن فاعلية النص نفسه؛ إذ إنَّ النص لا بُدَّ أن ينطوي على مِفتاح باب هذا المخزون، ولننظُر الآن في بعض الشواهد الكاشفة عن هذه الحالة.

 

في أول خبر نقرأ أنَّ عبدالله بن عباس استنشد عمر بن أبي ربيعة شعرًا، فشرع هذا ينشده، فقال:

تَشُطُّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا

وسكت، فقال ابن عباس:

وَلَلدَّارُ بَعْدَ غَدٍ أَبْعَدُ

 

"فقال عمر: كذلك قلت - أصلحك الله - أفسمعته؟ قال: لا، ولكن كذلك ينبغي"[2].

 

هنا يكمل ابن عباس النصَّ وفقًا لما يتوقَّعه تكملة "واجبة" له في تصوُّره، فإذا هي التكملة الحقيقية التي ارتضاها الشاعر نفسه من قبل، وكلمة "ينبغي" في تعليق ابن عباس بالغة الدلالة هنا؛ لأنَّها تقع من أنطولوجيا المعنى في الصميم، ومن ثَمَّ في أنطولوجيا الصياغة اللغوية لهذا المعنى، وكأن المعاني موجودة بمنطقها الخاص ولغتها الخاصة، وأن ما يصنعه الإنسان هو أنه يستكشفها، وهي عندئذ توجده بقَدْر ما يوجدها، وهكذا كان الشطر الأوَّل من البيت هو المفتاح الذي فتح الباب للخبرة المختزنة لدى ابنِ عباس؛ لكي تتحرَّك نحو ما يكتمل به النص معنى وصياغة، فكان الشطر الثاني، ومن الطريف أنْ ننتبه هنا إلى أن هذا الشطر الثاني كان موجودًا من قبل، وجوده فعليًّا وليس تصوريًّا لدى الشاعر نفسه، وإن كان غائبًا عند ذاك بالنسبة إلى المتلقي - ابن عباس - فهذا ما يؤكد أنَّ ابن عباس في تلقيه في هذه الواقعة كان يستكشف ما له وجود سابق؛ إذ كان يتوقع ما يَجب أن يكون[3].

 

وهناك واقعة أخرى مماثلة تسند فيها بعض الروايات فعل التلقي المنتج إلى الفرزدق، وتسنده رواية أخرى إلى جرير، والقصة تقول: إنَّ عدي بن الرقاع العاملي كان ينشد قصيدته التي مطلعها:

عَرَفَ الدِّيَارَ تَوَهُّمًا فَاعْتَادَهَا
مِنْ بَعْدِ مَا لَبِسَ الْبِلَى أَبْلاَدَهَا[4]


إلى أن انتهى إلى قوله:

تُزْجِي أَغَنَّ كَأَنَّ إِبْرَةَ رَوْقِهِ

 

عند ذاك "عرض للملك شغل، فقطع الإنشاد على صدر البيت، وكان الفرزدق وجرير حاضرين، فقال الفرزدق لجرير: ما تراه يتمِّم البيت؟ فقال: لعله يستلب مثلاً، فقال الفرزدق: أراه يقول: قلم أصاب"، (والرواية هنا تقتصر على الإشارة إلى الشطر الثاني الذي توقَّعه الفرزدق، والذي ورد كاملاً في الرواية من قبل، وهو: قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا)، والرواية الأخرى تسند حكاية الخبر إلى الفرزدق نفسه، حيث يقول: "كنت أنا وجرير حاضرين، فلما انتهى إلى قوله: تُزْجِي أَغَنَّ، قلت لجرير: تراه أي شيء يستلب تشبيهًا؟ قال جرير: قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا، فما رجع الجواب حتى قال عدي: قَلَمٌ أَصَابَ مِنَ الدَّوَاةِ مِدَادَهَا، فقلت لجرير: كأنَّ سَمعك مَخبوء تحت فؤاده"[5].

 

وسواء كان الفرزدق أو جرير هو المتلقي هنا، فالأمر لا يختلف، فكلاهما مؤهَّل لهذا الطراز من التلقي الإيجابي المنتج، شأنهما في هذا شأن ابن عباس كذلك.

 

والمهم هنا أن هذه الروايات التي مثلنا بها على هذا الطراز من التلقي كانت تبدو مكرَّسة للتنويه ببراعة المتلقي في القُدرة على استكشاف المعنى الملائم في صياغته الممكنة، ولم يلتفتْ في هذا إلى دلالة أخرى لا تقلُّ أهمية، تتعلق بالنص الشعري نفسه، إلا ما ورد عَرَضًا في كلمة ابن عباس من أنه تصور النص كما "ينبغي" أن يكون[6].

 

والواقع أنَّ اجتماعَ المبدع والمتلقي على صيغة واحدة من الأداء من دون أن يُلقي أحدُهما الآخر - دليل واضح على أنَّ للأشياءِ حُدودًا تنتهي إليها، وتتحقق فيها على الوجه الأكمل، أو - كما كان أسلافنا يقولون: تحصل فيها على كمالها اللائق بها، وعلى هذا النحو كان التطابُق بين رُؤية المبدع ورؤية المتلقي في تلك المواقف تأكيدًا لقيمةِ النص الجمالية، التي تتحقق له بتحقُّق كماله اللائق به.[7]

 

ومما تَجدر الإشارة إليه في هذا الصدد نقدَاتٌ لطيفة تميز بها عبدالملك بن مروان عن سائر خلفاء بني أمية، وتدُل على حسن تذوقه للشعر، ونقده له، وفهمه لمراميه البعيدة، ومن أجل ذلك كانت مجالسه تضم الكثير من الشعراء يتناشدون الشعر بحضرته، ويقوم بتوجيههم فيها، فمن ذلك "أن عبدالملك أُنْشِدَ قولَ نُصَيْب:

أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ
فَوَا حَزَنًا مِنْ ذَا يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي

 

فقال بعض من حضر: أساء القولَ، أيحزن لمن يهيم بها بعده؟ فقال عبدالملك: فلو كنتَ قائلاً ما كنتَ تقول؟ فقال: كنتُ أقول:

أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ
أُوَكِّلْ بِدَعْدٍ مَنْ يَهِيمُ بِهَا بَعْدِي

 

فقال عبدالملك: أنت والله أسوأ قولاً، وأقلُّ بصرًا حين تُوكِّلُ بها بعدك، قيل: فما كنتَ أنتَ قائلاً يا أمير المؤمنين؟ قال: كنتُ أقول:

أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حَيِيتُ فَإِنْ أَمُتْ
فَلاَ صَلَحَتْ دَعْدٌ لِذِي خُلَّةٍ بَعْدِي

 

فقال من حضر: والله، لأنت أجود الثلاثة قولاً، وأحسنهم بالشعر علمًا يا أمير المؤمنين"[8].

 

ولعل السر في هذا الاستحسان أنَّ الحب لا يعرف الشركة، فلو أن إنسانًا يعالج سكرات الموت، لَمَا حزن من أجل من سيخلُفه في حبه.

 

ونقف على ما رواه ابن قتيبة من أنَّ الرشيد قال ذات يوم للمفضل الضبي: "اذكر لي بيتًا يَحتاج إلى مقارعة الأذهان في استخراج خبيئه، ثم دعني وإياه"، فقال له المفضل: "أتعرف بيتًا أوَّله أعرابي في شَملته، هبَّ من نومته، كأنَّما ورد على ركب جرى في أجفانهم الوَسَن، فظل يستنفرهم بعنجهية البدو، وتعجرف الشدو، وآخره مدني رقيق غُذِّي بماء العقيق؟"، قال: لا أعرفه، قال: هو بيت جميل[9]:

أَلاَ أَيُّهَا الرَّكْبُ النِّيَامُ أَلاَ هُبُّوا     .....................،،.

 

ثم أدركته رقة الشوق فقال:

......................    أُسَائِلُكُمْ هَلْ يَقْتُلُ الرَّجُلَ الْحُبُّ؟

 

وعند ذاك قال له الرشيد: "أفتعرف أنت بيتًا أوَّله أكثم بن صيفي في أصالة الرأي ونبل العظة، وآخره بقراط لمعرفته بالداء والدواء؟".

 

قال: "قد هوَّلتَ عليَّ، فليت شعري بأي مَهْر تفترع عروس هذا الخِدر؟".

 

قال: "بإنصافك وإنصاتك، وهو بيت الحسن بن هانئ:

دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فَإِنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ
وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ [10]

وهكذا يطلع على المفضل في البيت الأول ذلك الأعرابي الخشن في الشطر الأول منه، وذلك المدني الرقيق في الشطر الثاني، ويطلع على الرشيد في البيت الثاني الحكيم أكثم بن صيفي في الشطر الأول منه، والطبيب بقراط في الشطر الثاني: وليس في البيتين - على التحقيق - أيُّ ذكر لأولئك الشخوص أو مُجرد الإشارة إليهم، بل إنَّ هذه الشخوص المستحضرة تخيلاً لا تدُلُّ على معنى البيتين في ذاتهما، وإنَّما هي بمثابة اللغة الواصفة للغة [11] Meta Language في البيتين، فالقول المتمثل في البيتين بما هو معطى وجودي أولي يتحوَّل لدى المتلقي إلى وجود آخر مُفارق عبر الغائب الممكن، الذي لا يَحضر إلا بجهد تأويلي خاص.

 

إنَّ كلاًّ من الرشيد والمفضل حين تلقى القول الشعري الذي تلقاه لم يكتفِ بفهم معناه، بل توصل بجهد تأويلي وتخييلي خاص إلى دلالة هذا المعنى، إذًا فهذا الضرب من المتلقي التشخيصي هو في الوقت نفسه طراز من التلقي التأويلي، لا يتاح - بطبيعة الحال - إلا لكفاءة عالية[12].

 

إنَّ تَجربة الإنسان إضافةً إلى عنصر الطبع هما اللَّذان يُحدِّدان ذوقَ المتلقي باعتبار الذوق أحدَ المقاييس النَّقدية، كما يتم تحديدُ نوعية أحكامه وتصوُّره للعالم ولتجارب الآخرين، انطلاقًا من إنتاجاتِهم، من هنا يُمكن الحديثُ عن تبايُن الاستعدادات والقُدرات عند المتلقين، زيادة على اختلاف النُّصوص وتفاوتِها في الحسن، وعلى أساس أنَّ النصَّ الشعري "مختلفٌ كاختلاف الناس في صورهم وأصواتهم وعقولهم... وكذلك الأشعار هي مُتفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس... ولكلٍّ اختيارٌ يُؤثره، وهوىً يتبعه، وبُغيةٌ لا يستبدلُ بها ولا يُؤْثِر سواها"[13].

 

فالمتلقي يَسعى حسب استعداده إلى ربط علاقة مع النص من أجل إنجاز مُهمة الفهم والتأويل أو النَّقد، إلا أنَّه لا يُمكن تَجاوز بعضِ الخصوصيات التي ميَّزت التلقي في المراحل الأولى عند العرب القُدامى؛ لكون الشعر نشاطًا يوميًّا، بل إنَّه كان فنَّ المجتمع؛ مما يدل على حضور المتلقي بشكل مكثَّف، وعلى وظيفة النص الاجتماعية، إضافة إلى الطبيعة الشفاهية للإلقاء.

 

وإذا اعتبرنا "الأذن لا تتيح فاصلاً ذهنيًّا لتشكيل صورة مرئية للكلمات بعد بذلها جهدًا وظيفيًّا في تلقي أصوات تلك الكلمات"[14]، فإنَّ العادةَ الشفاهية للإلقاء لا تسمحُ للعامة بتقويم النص الشعري والتفاعل معه بالمستوى نفسه الذي يَمتلكه الناقد، وفي هذا يقول عبدالقاهر الجرجاني: "إذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرًا أو يستجيد نثرًا... فاعلم أنَّه ليس يُنبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده"[15].

 

ذلك أنَّ النص الشعري يتوجه أكثر من أي جنس آخر إلى المتلقي الحاذق ذي الفهم الثاقب؛ لأنَّ "عيار الشعر" كما يرى ابن طباطبا "أن يورد على الفهم الثاقب فما قبله واصطفاه فهو وافٍ، وما مَجَّه ونفاه فهو ناقص"[16]؛ مما يحدد عنصر القيمة ويكشف عن الآثار التي يحدثها النص في المتلقي، وبما أنَّ العقل هو الضابط الذي يُحدد هذا العنصر، فقد عدَّه عبدالقاهر أساس إظهار تفاعل المتلقين بقوله: "... ولو كان الجنس الذي يُوصف من المعاني باللَّطافة لا يُحوجك إلى الفكر، ولا يحرك من حرصك على طلبه بمنع جانبه، لسقط تفاضُل السامعين في الفهم والتصور والتبيين، وكان كل من روى الشعر عالمًا به، وكل من حفظه ناقدًا في تمييز جيده من رديئه..."[17].

 

وقد سبق أنْ نحا أبو هلال العسكري (ت395هـ) هذا المنحى معتبرًا أن الكلام إذا جمع شروط الجودة، "فورد على الفهم الثاقب قبله ولم يرده، وعلى السمع المصيب، استوعبه ولم يمجه... ولا يقبل الكلام المضطرب إلاَّ الفهم المضطرب والروية الفاسدة"[18].

 

إضافة إلى هذه العناصر (الفهم الثاقب، والعقل، والفكر والروية) التي يرتكز عليها النُّقَّاد العرب، فإنَّهم لا ينكرون دور الذوق المثقف في تقويم النص، زِدْ على ذلك دَوْرَ الحواس المهم؛ إذ يتعلق الإدراك الحسي بالألفاظ المتناسبة، والأوزان المعتدلة، في حين يرتبط الإدراك العقلي بالمعاني المتناسبة فيما بينها تناسب العدل والصواب، كما أنَّ المتلقي يهدف إلى إزاحة اللثام عن المعنى؛ لأن غاية الباثِّ والمتلقي هي "البيان والتبيين"، و"الفهم والإفهام"، كما يؤكد هذا الجاحظ.

 

ويبقى الآن أنْ نقفَ على حالة التلقي الشِّعري الأخرى في هذا الاتِّجاه، وإن كانت فاعلية النص نفسه - وليس رصيد الخبرة النوعية لدى المتلقي أساسًا - هي المثيرة لها والموجهة إليها، وهي حالة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتلقي الشفاهي كذلك، خصوصًا على المستوى الجماعي؛ ولذلك لا يقتصر هذا النوع من التلقي على ما كان يَحدث في الزمن القديم، بل يَمتد إلى كل حالة - حتى في زماننا الراهن - يقف فيها الشاعر لكي يُلقي شعره على الآخرين، قلوا أو كثروا، والمقصود بفاعلية النص هنا اشتماله على مؤشر واضح يوجه ذهن المتلقي إلى اكتشاف قافية البيت من الشعر قبل وصول المتلقي إليها، وهي حالة من شأنها أنْ تُحدث لدى المتلقي انتعاشًا جماليًّا - إذا صح التعبير - على مستويين: الأول يتمثَّل في رضاء المتلقي عن نفسه؛ لقدرته على سبق الشاعر إلى القافية، والثاني يتمثَّل في الابتهاج بالنص نفسِه الذي يتحقق وفقًا لتصوره، وقد أطلقَ البلاغيُّون العرب على هذا النوع اسم "الإرصاد"، وسَموه أحيانًا "التسهيم"[19]، سواء على مستوى المعنى، كالذي تحدثنا عنه منذ قليل، أو على مستوى اللفظ، كالذي نحن بصدده.

 

ومن الشواهد الشعرية التي قدمت للتمثيل لهذا الإرصاد اللفظي قول البحتري:

أَحَلَّتْ دَمِي مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَحَرَّمَتْ
بِلاَ سَبَبٍ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَلاَمِي
فَلَيْسَ الَّذِي حَلَّلْتِهِ بِمُحَلَّلٍ
وَلَيْسَ الَّذِي حَرَّمْتِهِ بِحَرَامِ [20]

 

فما يكاد الشاعر يصل في البيت الثاني إلى كلمة "حرمته" حتى يسبقه المتلقي إلى كلمة "بحرام".

 

ومن ذلك أيضًا قول زهير بن أبي سلمى:

سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ
ثَمَانِينَ حَوْلاً - لاَ أَبَا لَكَ - يَسْأَمِ [21]

فقوله: "سئمت" في أول البيت من شأنه أنْ يقودَ المتلقي إلى قوله: "يسأم" في نهايته.

 

ومنه قول ابن هانئ الأندلسي:

فَإِذَا حَلَلْتَ فَكُلُّ وَادٍ مُمْرَعٌ
وَإِذَا ظَعَنْتَ فَكُلُّ شِعْبٍ مَاحِلُ
وَإِذَا بَعُدْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ نَاقِصٌ
وَإِذَا قَرُبْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ كَامِلُ [22]

وأعتقد أن شفاهية الشعر العربي القديم (بغض النظر عن عملية تدوينه) قد جعلت شواهد هذا اللون من الاستجابة للنص الشعري أكثرَ من أن تُحصى، وهي استجابة جمالية من الطِّراز الأول قائمة على "التعجيب"[23]، الذي يقوم دليلاً على أن النصوص في التصور القديم لم تنتج ليتأوَّلَها "أهل العلم بالشعر" أو الكلام عمومًا - كما تُوهم بذلك بعض الكتابات في التُّراث النقدي - بل أنتجت؛ ليتذوَّقَها الجمهور، فتسد في نفوس الناس حاجةً لا تَخلو من إبهام إلى الجمال والإغراب والرمز بمفهومه العام.

 

وتتم وظيفةُ "التعجيب" في نطاقِ علاقات تخيلية دقيقة معقدة؛ إذ يظل ما يتخيله المبدع من صور، وما يَقع في وهمه من مشاهد كامنًا في النص إلى أنْ تقعَ عليه نفس المتلقي "فتتخيل بما يخيل لها الشاعر من ذلك مَحاسن ضروب الزِّينة، فتبتهج لذلك"[24].

 

وعلى هذه الأنحاء التي ألممنا بها سريعًا كان دور أُفُق التوقُّع في توجيه عملية تلقي الشعر في تراثنا العربي.


[1] أفق التوقع: هو الخبرة المتراكمة عند المتلقي بفعل تَجارب الحياة ومُعطياتها المادية، والثقافِيَّة، والحضارية، والأدبيَّة، وما يطرأ لها من تغيُّرات وتَحولات، هو هذا السياق الثقافي بعامة، والأدبي بخاصة، وما يَحكمه من قيم فنية وجمالية ومضمونية تُكوِّن لكل قارئ أفقَه الخاص؛ أي: معاييره الخاصة التي يبني بها انسجام النص وتَماسكه دلاليًّا؛ أي: يؤوله، (ياوس، "نظرية التلقي"، صـ 104، بتصرف كبير من جانبنا).

[2] "الأغاني"، 1/73.

[3] "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي"، صـ 191.

[4] "ديوان عدي بن الرقاع"، صـ 83.

[5] انظر: "الشعر والشعراء"، 2/604، و"العمدة"، 2/33، و"الكامل"، 2/109، و"أسرار البلاغة"، صـ 140، 141، و"التبيان"، للطيبي، صـ 397، 398، و"التشبيه المستطرف"، صـ 521،

[6] انظر: "الأغاني"، 1/73، وراجع: "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي"، صـ 191.

[7] "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي"، صـ 193، وينظر: "الكامل"، 2/109، و"الشعر والشعراء"، 2/604، و"أسرار البلاغة"، صـ 140، 141، "التعبير البياني"، صـ 100، و"التصوير البياني"، صـ 120، 121.

[8] "الموشح"، صـ 198، و"الصناعتين"، صـ 113، ولمزيد من الشواهد في توجيه عبدالملك للشعراء انظر: "نقد اللغويين للشعر العربي"، صـ 109، وما بعدها.

[9] "ديوان جميل بثينة"، تح: عبد الستار فراج، صـ 25.

[10] "الشعر والشعراء"، 1/ 74، وينظر "ديوان أبي نواس"، صـ 6، 7، تحقيق: أحمد عبدالمجيد الغزالي، دار الكتاب العربي، القاهرة 1984م.

[11] "في مفهوم اللغة الواصفة للغة"، مصطفى الكيلاني، "في الميتالغوي والنص والقراءة، ط: دار أمية، 1994م.

[12] يُنظر: "كيفيات تلقي الشعر في التراث العربي"، صـ 177، 178.

[13] ابن طباطبا العلوي: "عيار الشعر"، تحقيـق د/ زغلول سلام، وطه الحاجري، منشأة دار المعارف بالإسكندرية، مطبعة التقدُّم، 1984، صـ 45.

[14] حاتم الصكر: "بعض مشكلات توصيل الشعر..."، مجلة وليلي، المدرسة العليا للأساتذة بمكناس، العدد 6115، صـ 34.

[15] عبد القاهر الجرجاني، "أسرار البلاغة"، تحقيق هـ . ريتر، دار المسيرة، صـ 4.

[16] ابن طباطبا العلوي، "عيار الشعر"، مرجع سابق صـ 20.

[17] عبدالقاهر الجرجاني، "أسرار البلاغة"، صـ 131، 132.

[18] أبو هلال العسكري: "الصناعتين: الكتابة والشعر"، تحقيق: مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1981م، صـ 71، 72.

[19] ينظر في التعريف بهذين المصطلحين: "معجم المصطلحات البلاغية وتطورها"، صـ 57، وما بعدها، وسمَّاه قدامة: "التوشيح"؛ (نقد الشعر صـ 191).

[20] "ديوان البحتري"، ب4، 7، ج3/1996، وينظر: "التبيان"، صـ 395، و"خزانة الأدب"، صـ100.

[21] "ديوان زهير"، صـ 34، وينظر: "التبيان"، صـ 395.

[22] "ديوان ابن هانئ الأندلسي"، صـ300، دار بيروت للطباعة والنشر، 1980م، وينظر: "الوسيلة الأدبية"، 2/178.

[23] انظر: "منهاج البلغاء"، صـ 289.

[24] "منهاج البلغاء"، صـ 94.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (1/ 10)
  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (2/ 10)
  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (4/ 10)
  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (10/5)
  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (8/ 10)
  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (10/9)

مختارات من الشبكة

  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (10/10)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (7/ 10)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (6/ 10)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الحضارات المجاورة لبلاد العرب عند ظهور الإسلام(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • نتائج بحث بلوغ المرام في قصة ظهور أول مصحف مرتل(مقالة - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • خاتمة ونتائج بحث بلوغ المرام في قصة ظهور أول مصحف مرتل في تاريخ الإسلام(مقالة - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • أثر ظهور أول تسجيل للقرآن الكريم في تاريخ الإسلام(مقالة - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • ظهور المنكر بين الناس(مقالة - آفاق الشريعة)
  • قصة ظهور أول تسجيل صوتي لبعض سور القرآن الكريم(مقالة - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • سبب ظهور ألقاب أهل السنة والجماعة(مقالة - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)

 


تعليقات الزوار
1- مساعدة بموضوع المتلقي
لهوارن - الجزائر 02-03-2015 11:00 AM

السلام عليكم
هذا الموضوع قيم ومبتكر
إذا أمكن نريد الحصول عليه إن كان في مجلة أو على ما شابهه من دراسات وكتب لأني أحضر الدكتوراه في هذا الموضوع ، أي أدرس ملامح وتجليات نظرية التلقي في النقد القديم من منظور النقاد المعاصرين، والمادة في هذا الموضوع شحيحة في الجزائر
لهذا نطلب المساعدة وشكرا مسبقا والسلام عليكم

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 23/11/1446هـ - الساعة: 18:47
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب