• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    التأويل بالحال السببي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / روافد
علامة باركود

إلى أين (1)

محمود محمد شاكر

المصدر: الرسالة، السنة الثامنة (العدد362)، 1940م.

تاريخ الإضافة: 27/11/2010 ميلادي - 20/12/1431 هجري

الزيارات: 4836

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

- 1-

جلستُ وصاحبي تحت جنح من اللَّيل كأنَّه باز أسود قد طوى أفقًا من السَّماء في كهف من جناحه، وطمس هذا اللَّيل الدَّامس ذلك الشعاع الذي لا يزال يبرق به وجْه صاحبي كلَّما سكن ظاهره واطمأنَّ، وبقيتْ نفسه من وراء ذلك السكون الوديع تتوقَّد بأفكارها المشْتعلة، وترسل لهيبها يتلألأُ على محيَّاه ويتموَّج، وكان إحساسنا بمعنى الغارة الجوّيَّة، يثير النفس ثمَّ يجثم عليها متثاقلاً بوطأته، فلا هو يَجعلنا نثور فيخفّ ما نجد من ثقله، ولا هو يتركُنا نهدأ.

 

وبقي صاحبي صامتًا لا يتكلم، ولكنِّي كنت أكاد أجد الألفاظ والمعاني وهي تعترك في داخله وتتشاجر، أما إني ما رأيته - أو قل: ما أحسسته - كاليوم.

 

لقد كان كالعاصفة من اللهيب مكفوفة في محيطها، تدور وتتراكض، وكان هو هذا المحيط، لقد رحِمْته حتَّى كدتُ مرَّات أقوم إليه أضع يدي على رأْسِه، أقول: ذلك ممَّا يخفض عنه بعض ما يغتلي فيه من سعير الفكر، ولكنّي كنت أهاب أن أُشعره أنِّي قد نفذتُ إلى بعض أسراره الَّتي يريد كتمانها، فسكتُّ معه ساعة أحتال في خواطري لفضّ هذه الأغلاق التي يضرِبُها على ضمير نفسه، فلست أشكُّ أنَّ بعض الحديث إذا اشتكى خفف وأراح.

 

لم تكن لي حيلة معه، ولكن طول الصَّمت بيني وبينه في ظلّ هذا الليل الأسود كان هو مفْتاح هذه الأقفال الكثيرة، وكان الحجاب الذي أسدله دجى الليل هو الحيلة التي جعلته يقلق ويتململ في مجلسه يريد أن يستكتمَني، وهذا الليل سرًّا من القدَر.

 

ثم سكت سكتةً ظننتُ معها أنَّ أنفاسه قد أبت عليه أن يتنفس بها، لقد كان يُجاهد نفسه: كان هو يأبى أن يتكلم، وكان الذي يجده في صدره من الضيق يأبَى عليه إلا أن يتكلم، كان نزاعًا هائلاً بين قوتَيْن متحاربتَيْن صارمتين عنيدتَيْن متكافئتَيْن، لقد أَثْبتَه ذلك حتى كاد يتمزق، إني لأحسّ بل أسمع صوت التمزيق الذي يحدثه في نفسه هذا الصراع المخيف الرائع بين إلحاح هاتَيْن القوَّتين في تنازعهما، ومضت الدقائق وأنا أعدّها ساعات من عجلة النفس إلى تخفيف العذاب عن هذا الصَّديق البائس المحطم، والذي يأبَى عليه عناده إلا أن يتجلَّد.

 

ولكنَّه ما لبث أن شقَّ كثافة هذا الصَّمت المبهم بكلمة ضربت فيه:

• لستُ أدري! لست أدري!

 

لقد سمعْتُ لكلماته في أذني صليلاً كما يَصِلُّ الحجر الصلد على ضربة معول من الحديد الصلب، لقد بغَتَني بصليلها حتَّى نسيت أفكاري فيه منذ أوَّل اللَّيل، ولكني سرعان ما اجتمعت لحديثه، وأردتُ أن أحتال للتَّخفيف عنه ما استطعت، فقلت، وكأني أعلم خبء ما يشير إليه:

• كلنا ليس يدري، وهذه هي الحياة، إنَّك لا تستطيع أن تعرف الحقيقة حتى تخوض إليها الباطل خوضًا، إنَّ الشَّكَّ هو أعظم أعمال النَّفس الإنسانيَّة، فإذا ما ابُتلي به الإنسان فهو بين نهايتَيْن: بين أن يهتدي فيلحق بالذروة، فيستوي على عرش من عروش الحِكْمة، وبين أن يضلَّ ويتزايلَ فيتدَهْدَى على هذه الصخور الفكرية العاتية فيتحطم، وأيُّ ذلك كان، فالمسألة كلها قدر محتوم يا صديقي، رُفِعَت الأقلامُ وجفَّت الكتب.

 

لقد رأيت شرارتَين تتطايران من عينيه في جوف هذا الظلام، ولكأنِّي اقتدحتُ بكلماتي من النار التي تكمُن في تلك الصَّخرة الفكرية الملمْلمة التي انطوت عليها ضلوع هذا الصديق المسكين.

 

ثمَّ رأيتُه يرتدُّ مرَّة أخرى إلى صمته وصراعه، ولكنّي كنت أشعر به وهو يلين ويتخشَّع من كلّ ناحية، لقد كان هذا الصَّديق قاسيًا عنيفًا، ولكنه كان رقيقًا أيضًا، وكان صبورًا، ولكنَّه ربَّما استكان للجزع، وكان مستَوْحشًا آبدًا، لكنه ربما ألف وطاوع وانقاد، وكأنه لم يجمح مرة، وكان راسخًا شامخًا وطيد الإيمان، ولكني كنتُ أنفذ إليه أحيانًا فأجد الزلزلة التي في قلبه قد جعلته يتزعزع ويتطامن ويضطرب بعضه في بعض اضطراب الموج في تياره.

 

لست أدري، ولكني أريد أن أحدثك، أريد أن أنبذ إليك من القول لتشركني في بعض الفكر.

 

ثمَّ سكت وسكن، ولكنَّه أقبل علي وقد جمع أطراف نفسه المبعثرة، يقول: كانا صغيرين، وكانت أيَّامهما الصغيرة لا تدرك معنى النَّظرات التي تلتقي فتتعانق، فتتعقد عقدة لا تحل.

 

وهكذا نسيهما الزَّمن في معبده الآمن، ثم انتبه يومًا فزفر بينهما زفرة واحدة فتفرقا، لَم يدركا يومئذ شيئًا من معاني الفراق المهلكة التي تمحق النَّفس بالتَّأمّل واللهفة والحنين، بل نظرا ثمَّ توادعا، ثمَّ افترقا ثمَّ نسيا، أو هكذا كان، ولكنَّه لم يكن في الحقيقة نسيانًا، بل كان عملاً من أعمال القدر الغامضة، كان تعْبِئة للأحداث العظيمة التي تتهيَّأ فتصنع النَّفس الإنسانيَّة صنعة جديدة، لقد عرفت ذلك فيما بعدُ، وتسحَّبت حواشي الحياة بينهما، حتَّى رقَّت أيامهما الأولى، ثم جعلت ترقّ حتَّى استحارت أحلامًا من الذِّكْرى المبهمة ترفّ على القلب رفيف النسمات: لا تُرى بل تُحَس، ولا تمسك ولكنَّها تلقي عطرها في القلب وتمضي، نعم لقد نامت تلك العواطف النَّاضرة الصغيرة في مهْدٍ من النسيان، ولكنَّها كانت تنمو أيضًا في جو هذا المهد.

 

ومشى الزمن بينهما يقيم سدودًا وأسوارًا من السنين وأحداثها، وكما كبر وامتدَّا من أيَّام العمر، كبرت السماءُ التي تظلّهما وترامتْ آفاقها، واستحالت الأيامُ الصغيرة الأولى أشباحًا ضامرة لا تكاد تبين مِنْ دقَّتِها وخفائها.

 

ثم فجأهما القدرُ فتلاقيا بعد دهْر طويلٍ، كما يتلاقى نجمان في ظُلمة الليل، يتناظران لَمْحةً وشعاعًا من بعيد لبعيد، هكذا عرفتُ، لقد كان هو يحسُّ في بعض أيامه قبل ذلك اللقاء أنَّ الفلك قد دار دورته في القدَر، وأنَّ القوة المسخرة قد قذفت به في نظام من الجذب جديد، فلم يكدْ حتى لمح له شُعاعها من بعيد يليح إليه بأضوائه، وكأنَّما يقول: أقبل... هلم إليَّ... هأنذا، هأنذا.

 

ولم يلبث أنْ أتَمَّ هذا الفلك دَوْرته، فإذا هما يتناسمان في جوٍّ عطرٍ تنفح من أرْدانه أنفاس الأيام الصَّغيرة الأولى؛ أيَّام الطفولة التي تنمو فيها عواطف القلْب وتتفتَّح، كما تنمو الزهْرة في أكمامها تحت السَّحر في مهْد الفجر بين روح وشعاع وندًى.

 

واجتمعا، فإذا هي غادة مضيئة تزهر، ولكأنَّ الزَّمن اختطفها كلَّ هذا الدهر وتسلَّل بها في بعض مصانعه العجيبة، وجعل يجهد جهْده بأناملِه النَّابغة الدقيقة، فهو يَجْلوها ويصقلها حتى إذا فرغ من فنِّه الذي احتفى لها به، ردَّها إليه ينبوعًا من النور الضاحك المرِح يَتَرَقْرق لعينيه ممثلاً في صورتها، لقد شبت الصَّغيرة، ولكن شبابها كان رقَّة وحنانًا في أُنوثتها، واستوتْ فكان استواؤها دقَّة في فنٍّ من جمالها، ونمت نموًّا وضاحًا، وكأنما كان يَغْذوها نور الكواكب ويُرْضعها روح الزهر، لقد وجدها وهي تضوع وتلألأ من جميع نواحيها، لقد كان يخيَّل إليه أن النسيم من حولها يطُوف بها متعبِّدًا خاشعًا، ثمَّ يسعى إليه حاملاً نفحةً من نفحات الجنة.

 

فكان يحس دائمًا أنَّ جوَّها ينتقل إليه فينفذ إلى قلْبه، فيقعد هناك يُتمتم يحدِّثه بأخبارها أو يصفُ له منها ما يُوعِب هذا القلب الحزين؛ افتتانًا، ولوعة، وحنينًا.

 

لقد شبَّتِ الصَّغيرة، فنَضَتْ عنها كل مطارف الطفولة، وتجلَّت جَلْوة العروس في زينة من الصبا والشباب، لقد خلعتْ كلَّ قديمها، ولكنَّ شيئًا واحدًا بقي كما هو، لا، بل بقي أقوى ممَّا كان وأصفى، تلك هي روحها، الرّوح القوية الآسرة المتسلِّطة، تغيَّر كلّ شيء إلاَّ عيونها التي تشفّ عن هذه الروح التي لا تتغيَّر، فالنَّظرةُ الباسمة الخاطفة التي كانت تُخضع بها تمرُّد ذلك الصبي العارم الصَّغير، هي هي النَّظرة الباسمة الخاطِفة الَّتي هجمتْ منْه على الرجل، فأضاء وميضها له الطَّريق، وحبستْه بأمرها وسلطانها على هذا الطريق نفسه وفي وقت معًا.

 

ثم نحَّى صاحبي بصره إلى قِطْع من الليل جاثم من عن يمينه، وأطال النظر في جَوْفِه، ثم خيل إليَّ أنه قد جعل يصغي إلى همس الليل، ويتسمَّع وسوسته الخافتة إلى رِمال الصحراء، وبقي زمانًا لا يكاد يتحرَّك، ثم انتفض في مكانه انتفاضةً خفيفة، ما رأيتها ولكن رعدتها جرتْ في دمي وأوصالي قشعريرة عرفتها.

 

ثم عاد إليَّ يتنهَّد ويقول:

• هكذا هي...، أو هكذا كانتْ... أمَّا هو...

 

وارتعشت الكلمات في نبراته وعلى شفتيه فأمسك وسكت، وكأنَّه عزم ألا يتم ما بدأ من حديثه عن الرَّجُل، فخفت أن ينقطع عني دون خبره، وأردت أن أستفزَّه من حيث أعلم كيف أستنبط نبع حديثه، فعجلتُ إليه أقول:

• أمَّا هو - يا صاحبي - فقد كان مجنونًا، تنشئ له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي، و....

 

فانقضَّ عليَّ بصوته يقول:

• كلا، كلا، لا تقُل هذا، ليس الأمر كذلك، لا تعْجل عليه، إنَّك لا تعرفه، ولو عرفته فما أظنّك تحسن فَهْم حياته التي يعايش بها النَّاس، سأحدثك عنه، لقد علمت أنَّك تريد أن تحملني على ذلك، ولا بأس إذًا، لا أقول لك: إنّي فهمته، واستطعتُ أن أكشف لنفسي عن سرِّ طبيعته، كلا، بل أقول لك: إني لأحسُّ بكلِّ ما يعتلج في قلبه مِنْ آلامِه، وكأنَّها عندي هي كلّ آلامي إنَّه رجل قد امتلأ حكمة من طول ما جرَّب، ومن عُنف ما لقي من الأحداث التي نقضت بناء حياته مرَّة بعد مرَّة، نعم إنَّه لملْء رجولته تجربة، ولكن... ولكنّي سأصفه لك على كلّ حال، سأُحاول أن أعبر لك عن حقيقة معرفتي به، نعم، هو إنسان غامض مبهم محيّر، إذا صحبته رأيت من نقائضه الَّتي تجتمع لك من أعماله وظواهره، ما يلتوي بفكرِك فيه من هنا إلى هناك، حتَّى تَجد وكأنَّما أنت تمشي منه في غمض من الأرض منكر قد درست صُواه[1]، وعَفَت رسومُه، وجهلت معالمه.

 

لا تهتدي فيه أبدًا إلى شيء تستطيع به أن تقول: هذا هو، هذه هي الفكرة، هذا هو الطريق!

 

سكت صاحبي قليلاً، وقد طرح فكرَه في مذاهبه ثم عاد يقول: فلنعدْ إلى حديثنا إذًا، لقد حملتني على أن أذهب بك بعيدًا، كذلك كانتْ هي كما وصفتها لك بل أرْوع مما وصفتها، حين التقيا على غير موعدٍ يتوقَّعه أحدهما.

 

أما هو فكان يومئذ رجلاً ضربًا[2]، مُتَوَقدًا ثائرًا عنيفًا، لا يزال يتمزَّع من جميع نواحيه كأن في تجاليد شخصه روحَ وحش شارد، لا يألف الحياة ولا هي تألفه.

 

كان فكرة شامخة عاتية عضلة تأبَى أن تتهضَّم لأحد أو تستذل، كان كالبركان في عنفوان فورته تتقلَّع به صواعقه وزلازله، وهكذا كنت أبدًا أعرفه، ولكنَّه كان مع كل ذلك يحب أن ينطوي على هذه العواصف الَّتي تتقصَّف برعودها بين جنبَيْه، ومن أجل ذلك كنت أجد في عينيْه أحيانًا بارقًا ساطعًا يتداركَ ويَتلهَّبُ، حتَّى يجعل نظراته كأنَّها سياط من الأشعَّة يتضرَّم اللهب على عذباتها[3]، لا تعجب، فأشهد لقد خيل لي مرارًا أنَّ نظرته هذه إنَّما تكوي مَن يتعرَّض لها أو مَن يجلده بها، حتَّى لأخْشى أن تكونَ تترك فيه من آثارها أخاديد تنتفض كسَلَع[4] النار على الجسد.

 

لا تعجل، ولا تشطط، لقد تعلم أنَّه كان - مع كل هذا الذي وصفت لك - إنسانًا وديعًا رقيقًا، كان قلبه خلاصة صافية ممثلة من الحنان والشفقة، ولكنه أُصيب بأحداث كثيرة جعلتْه ظنونًا حزينًا؛ فهو لذلك يضَنُّ بما في قلْبه أن يطَّلع على حقيقته الكاملة أحدٌ من النَّاس، لَم أرَ - فيمَن رأيت من الناس - مَن هو أبعد منه مذهبًا في الاحتراس والحذر، ومع ذلك أيضًا، فلو أنَّك رأيتَه في بعض ساعاته لظننتَ أنَّه رجل غُمْر[5]، يختدعه عن نفْسِه كل أحد، ولكنه ليس كذلك، نعم، لقد كان هشًّا أحيانًا بين يدي من يتناوله، فإذا أُخِذ بالاعتناف والقسْر، انقلب الذي فيه ضاريًا لا يطيق ولا يُطاق.

 

هكذا كان أوَّل ما تلاقيا.

 

ثمَّ صمت صاحبي، وخُيل إليَّ أنه يضحك، لقد كان يخافت من ضحكه، كأنَّما هو يسخر، ورجع إليَّ بعد قليل فواصل حديثه: كيف قلتَ في نعته؟ كان مجنونًا تنشئ له أعصابه المريضة الهالكة معانيَها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي، نعم، ربَّما كان ذلك صحيحًا من بعض وجوهه، ولكنِّي على يقين من أنَّك لا تكاد تعرف وجه الحقّ في تأويل هذا الوصف.

 

لا بأس ومع ذلك، فأيّ هذا الناسِ ليس مجنونًا على الحقيقة من بعض نواحيه؟ إنَّك لو جهدت فتتبعتَ تاريخ الإنسانية كلَّه لَم يخلص لك من أصحاب العقل الكامل إلاَّ أفذاذ قلائل.

 

ومع ذلك، فليس أحدٌ من هؤلاء الأفذاذ قد نجا من قذْف النَّاس إيَّاه بالجنون، ألا فخبِّرني أي الأنبياء - وهُم فضائل الإنسانيَّة الكاملة - بريء أن يقول فيه أهلُه وعشيرته: "إنْ هو إلاَّ رجُل به جنَّة"، أو: "ساحر"، أو: "مجنون"؟

 

إنَّ مِنْ أعظم حقائق الحياة الدنيا أنَّ العقل لا يستطيع أن يدرك حقيقة العقل؛ أي إنَّه لا يستطيع أن يدرك حقيقة نفسه، و....

 

وصدَع السكونَ صوت صفير الغارة الجوّيَّة، فانتزع صاحبي ثمَّ قال: أليس هذا هو صوت جنون سكَّان العالم؟ أليس كذلك؟!


لها تتمَّة



[1] الصُّوَى: علامات تقام في الطريق يهتدي به المسافر.

[2] الرجل الضَّرْب: الممتلئ حيويَّة ونشاطًا، هكذا وصف طرفة نفسه في معلقته.

[3] عَذَبَةُ السوط: طرفه.

[4] السَّلَع: آثار النار بالجسد.

[5] الغُمْر: الغِرّ القليل التجارب.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
2- لله درك
محمد أنور عبيد - الأردن 25-04-2015 03:28 PM

لله درّك ..

1- شكر وطلب
فتاة الرسالة - المملكة العربية السعودية 03-06-2011 09:16 PM

رائع ونحن ننتظر التتمة بشوق

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 22/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب