• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / اللغة .. والقلم / الوعي اللغوي
علامة باركود

الفكر اللغوي عند عبدالقاهر الجرجاني

أحمد محمود سعيد أبو دنيا

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 17/10/2010 ميلادي - 9/11/1431 هجري

الزيارات: 252701

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

المقدمة

 

بسم الله، والصلاة والسلام على نبيِّ الهدى وخاتم الأنبياء.

 

أمَّا بعدُ:

فالحمد لله الذي جعَل العربيَّة لنا لسانًا، ولما يَجُول في أذهاننا وخَواطِرنا بَيانًا، فأضحَتْ تُعطِي لكلِّ مُحِبٍّ لها من حياتها جَنَّة ونعيمًا، حتى كان الناطق بها يتحدَّث كلُّ عضوٍ فيه كيف هي استَولَتْ على قلبه وأركانه.

 

أمَّا بعدُ:

فقد ذهبتُ إلى قمَّة البلاغة لأقَع على مَكنُون اللغة، فاختَرتُ بحثًا يجمَع بين العِلمَيْن "علم اللغة وعلم البلاغة"، ولكن مقصد البحث الأولى دون الثانية، فكان عنوان البحث "الفكر اللغوي عند عبدالقاهر الجرجاني" من خلال كتابه "دلائل الإعجاز".

 

وكلُّنا يعلَم مَكانَةَ عبدالقاهر الجرجاني في الدرس البلاغي، ويَعلَم كم هو أحبَّ العلم ودافَع عنه، ووهَبَه نفسَه التي بين جنبَيْه، فقد اختَرتُ هذا البحث لما ثارَ عندي من أسئلةٍ، لا سيَّما أنَّ الرجل في كتابه يضع منهجًا للمعرفة بعامَّة، ولعلم البلاغة بخاصَّة، ولقد ثار الجدل كثيرًا حول نظريَّته "النظم" التي حَواها الكتاب، فبين رافضٍ لها مُرتاب، يَعتَبِر الجرجاني يُدافِع عن مذهبه الأشعري، وبين مُنبَهِر لما تَوَصَّل إليه القاضي الإمام، فإنَّ عبدالقاهر الجرجاني لم يَتوقَّف عند مستوى التنظير الذي سبَقَه به أصحابُه من قبله "عبدالجبار المعتزلي" في بَيان إعجاز القرآن، بل تَعَدَّاه إلى مستوى التطبيق، وهذا هو سِرُّ تفوُّقه على أقرانه وسابِقِيه.

 

ولَمَّا أنْ كان موضوع البحث في اللغة فإنِّي قد نظَرتُ إلى نظريَّة النظم، فحاوَلتُ أنْ أَعرِف فَحواها وما يَدور حولها من نِزاع، وهو ما سيُوضَّح من خِلال البحث، والأسئلة التي ثارَتْ هي:

1- ما هو قِوام نظريَّة النَّظم عند عبدالقاهر في "دلائل الإعجاز"؟

 

2- ما العلاقة بين علم اللغة وعلم البلاغة؟

 

3- هل يَقصِد عبدالقاهر الجرجاني بمعاني النحو العلامات الإعرابيَّة أو العلاقات التركيبيَّة؟ وهل العلاقات التركيبيَّة فقط، أو علاقتها بالحال أو المقام "الصحة الداخلية، والصحة الخارجية"؟

 

4- ما علاقة ارتِباط اللفظ بالمعنى بعلم اللغة؟

 

5- هل تَلاقَى عبدالقاهر الجرجانيُّ مع اللغويين المحدَثِين رغمَ الفارق الزمني والفجوة البعيدة؟

 

فأردت من هذا البحث أنْ أوضِّح تلك الأسئلة، فالدراسة وصفيَّة تاريخيَّة؛ وصفيَّة لأنَّني قد اخترتُ كتاب "الدلائل" أذكُر ما وُجِد فيه من قواعد لغويَّة، وكيف هي تَلاقَتْ مع علم اللغة، وتاريخيَّة للفارق الزمني بين عبدالقاهر الجرجاني، وما تعرَّضتْ له عند رائد علم اللغة الحديث "العالم السويسري دي سوسير"، وإنْ كان بالنَّذْرِ اليسير، فكان المنهج الذي سلكتُه في البحث كالآتي:

الفصل الأول:

وقد تناوَلتُ فيه مبحثين:

الأول: التعريف بالإمام عبدالقاهر، وأساتذته، وتلامذته، وجهوده البلاغيَّة، وبيان حبِّه للعلم وأهله.

 

الثاني: تعرَّضتُ فيه لسبب تأليف الكتاب "دلائل الإعجاز"، مع نظرة تاريخيَّة لهذا النِّزاع على نظريَّة النَّظم، ثم تعرَّضتُ لأيِّ مادَّة قد استَقَى الجرجاني مادَّة كتابه.

 

الفصل الثاني:

وقد تناولتُ فيه مبحثين، ويُعتَبَر هذا الجانب من البحث هو الجانب النظري لهذه النظريَّة:

الأول: تحدَّثتُ فيه عن علاقة علم اللغة بعلم الدلالة من خِلال تعريفاتهم لعلم البلاغة، ثم عرَضتُ لمفهوم نظريَّة النَّظْم عند عبدالقاهر، وعلاقتها بعلم اللغة، مُوضِّحًا كيف قامَتْ على علم الفكر اللغوي.

 

الثاني: يشتَمِل على الجانب التحليلي للنظريَّة، فذكرتُ بعضَ الأمثلة التي جاء بها عبدالقاهر في كتابه من القرآن والشِّعر، علمًا بأنَّه قد مزَج بين علم سيبويه والخليل، وبين علم الجاحظ، وهو مزجٌ بين اللغة والشِّعر.

 

ثم تناوَلتُ الحديث عن العلاقة بين اللغة والفكر، وكيف كانتْ نظرية النظْم تمثِّل ذلك أجلى تمثيل، ثم ذكرت تلاقي عبدالقاهر الجرجاني بفكره اللغوي ومنهجه مع عُلَماء علم اللغة الحديث رغم هذه الفجوة الزمنيَّة الواسعة.

والله الموفِّق لما فيه الخير والنجاة.

 

•    •   •

الفصل الأول


المبحث الأول: التعريف بالإمام عبدالقاهر الجرجاني:

هو أبو بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد، فارسيُّ الأصل، جرجانيُّ الدار، متكلِّمٌ على مذهب الأشعري، فقيهٌ على مذهب الشافعي، وُلِد بجرجان ولم يبرحها حتى لطلب العلم، ولما طافَتْ شهرته الآفاق شُدَّت إليه الرِّحالُ وحُثَّت المَطِيُّ، وظلَّ متصدِّرًا جرجان يُفِيد الراحِلين إليه والوافدين عليها إلى أنْ تُوُفِّي بجرجان ودُفِن بها سنة 741 هـ[1].

 

أساتذة الجرجاني:

تتَلمَذ على يد شيخِه أبي الحسين محمد بن الحسن بن عبدالوارث الفارسي ابن أخت أبي عليٍّ الفارسي، وأنَّه قد قرأ على القاضي الجرجاني علي بن عبدالعزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجرجاني، وقد قرَأ عليه وحمَل عنه الأدب وعلومه، وكان يفتَخِر به في مجالسه[2].

 

جهوده:

آثار عبدالقاهر الجرجاني تُشِير بأنَّه قد أحاط علمًا بما صنَّفَه السابقون عليه في علوم الدين والفلسفة والكلام والأدب واللغة، وأدلَى بدلوه فيما عرَضوا له من قضايا ومشاكل، بالإضافة إلى ما حُفِظ وجُمِع له من شعره، فيتَّضِح من آثاره وإحاطته بما كتب أبو عمرو بن العلاء، والخليل، ويونس، والأخفش، وسيبويه، وابن قتيبة، وأبو هلال العسكري... وغيرهم.

 

وتتَلمَذ في الفقه على مذهب الشافعي، وفي الكلام على مذهب الأشعري، وغلبَتْ عليه شهرة اللغوي النحوي.

 

تلامذته:

تتَلمَذ على يديه جِلَّةٌ من العلماء؛ مثل: علي بن زيد الفصيحي، وهو من أشهر تلامذته، قيل عنه: إنَّه النحوي الحاذق بما أخَذ عن عبدالقاهر، وأبو النصر أحمد بن محمد الشجري، وهو من العلماء المبرَّزين في اللغة والنحو بعامَّة.

 

اشتَهَر عبدالقاهر بسَعَة الصدر، وطول النفس في مُناقَشة معاصِريه؛ ممَّا يُثبِت خلافَ ما يرى البعض، وكذلك في استِطراداته في مصنَّفاته التقليديَّة، وفي استِقصاءاته في نظريَّته التجديديَّة، يُضاف إلى ذلك ما يُفهَم ممَّا قاله صراحةً من ولائه للعلم، وبقائه على عهده، فهو الصديق الذي لا يدخل في الوُدِّ، والصاحب الذي لا يصحُّ عليه النكت والعذر.

 

وأنَّه على الرغم من ضِيقِه بعصره وأخلاق مُعاصِريه، إلا أنَّه انصَرَف إلى العلم حُبًّا فيه وإخلاصًا ووفاء، وكان تأثُّره بأستاذه ابن أخت أبي عليٍّ الفارسي شديدًا، وانتقل منه إعجابه بخاله وبمصنَّفاته؛ فوَعاها وترسَّم خُطاها على نحو ما كانت منه.

 

نبذة عن مؤلفاته:

1- المغني: وهو شرح مبسوط للإيضاح يقع في ثلاثين مجلدًا.

 

2- المقتصد: اقتصد الجرجاني شرح المغني في مصنفه المقتصد.

 

3- الإيجار: هو اختصار إيضاح أبي عليٍّ الفارسي، ووصَفَه صاحب "كشف الظنون" بقوله: "إنَّ أوَّله: الحمد لله الذي تظاهرت علينا آلاؤه".

 

4- والتكملة: علَّق عليه صاحب "الإنباه" بقوله: "إنَّ عبدالقاهر لو شاء لأطال".

 

5- الجمل: وصَفَه صاحب "كشف الظنون" وصفًا يُطابِق واقعه.

 

وللجرجاني كتب أخرى؛ مثل: (التلخيص، العوامل المائة في النحو، العمدة في التصريف، كتاب العروض، المختار، كتاب رسالة الشافية، أسرار البلاغة، دلائل الإعجاز الذي هو معنا)[3].

 

المبحث الثاني: سبب تأليف "دلائل الإعجاز":

إنَّ الناظر إلى كتاب عبدالقاهر الجرجاني يجدُ رجلاً يحمل سيفًا، لا يألو أنْ يشهره دائمًا في وجه خصمه، إلاَّ أنَّ الرجل طغى عليه حبُّ العلم، ولا سيَّما إذا كان في كتاب الله، فالقارئ لكتابه يَلمِس تلك المنافحة التي يحسُّها بيديه وجَنانه من قِبَل الجرجاني في دِفاعه عن نظريَّة النظم على طريقة المتكلِّمين، وردِّه وجهَ الإعجاز بسببها.

 

فإنَّ عبدالقاهر الجرجاني يُصرِّح تارَةً ويُلمِّح أخرى لأُناسٍ قد سبَقُوه في الكلام عن وجْه الإعجاز بفِكْرٍ وطريقةٍ لم يَرْضَ بها الجرجاني، ويقصد الجرجانيُّ الأشعريُّ عبدَالجبار المعتزليَّ، فيُمكِن القول: إنَّ الجرجاني انتهى إليه القول في قضيَّة الإعجاز، وسبق الجرجاني بالكلام عن قضيَّة النظم من قبل عبدالجبار، والباقلاني، والجاحظ، وغيرهم من علماء البلاغة المرمُوقِين[4].

 

ويردُّ عبدالقاهر في هذا الكتاب على المعتزلة؛ لأنهم ردُّوا الفصاحة للفظ فقط دون المعنى، وأنَّ المعاني عارية مطروحة في الطريق، فمَن ألبَسَها لفظًا رائقًا كان أولى وأحقَّ بها، ثم يستَنكِر على مَن فسَّر الفصاحة "بأنها خصوصية في نظْم الكلم، وضم بعضها إلى بعضٍ على طريقةٍ مخصوصة، أو على وجوهٍ تَظهَر بها الفائدة"[5].

 

أو ما أشبَه ذلك من القول المجمَل بأنَّه لو كان كافيًا في معرفتها، ومغنيًا في العلم بها، لكفى مثله في الصناعات كلها، وأنَّ بلاغة القرآن لم تكن في ألفاظه دون معانيه[6].

 

من أين استَقَى الجرجانيُّ مادَّته؟

الكتاب قد أُلِّف من أجل بيان وجه الإعجاز في القرآن، إذًا فمادَّته الأولى هي القرآن، ثم إنَّ عبدالقاهر اعتَمَد على عَلَمَيْن جليلَيْن؛ وهما: سيبويه والجاحظ، فهو لم ينتَفِع بهما في الجزئيَّات فحسب، وإنما دخَلاَ عنده في صلب مادَّته التي ابتَدَأها واستَخرَجها، فقد ذكَر الجرجاني أنَّ الخليل وسيبويه بلَغَا في فقه النحو مبلغًا لم يسبقهم إليه أحدٌ، ولم يلحقهما فيه أحد، وأنهما ذروة هذا العلم، ثم ذكَر أنَّ الجاحظ بلَغ في بابه- أي: علم الشعر ومعرفة جوهره وطابعه ومعدنه- مبلغ الشيخين في علم النحو، وتفرَّد الجاحظ في علم الشعر كتفرُّد الشيخين في علم معاني النحو[7].

 

•    •     •     •

  

الفصل الثاني

المبحث الأول: "الجانب النظري:

العلاقة بين علم الدلالة والبلاغة:

أولاً: تعريف علم الدلالة "Semantic":

"هو الفرع الذي يدرس علاقة الرموز بالأشياء التي تنطَبِق عليها"[8]، ونوع الدلالة الذي يَدخُل في الدراسة اللغويَّة هو المعنى التوزيعي؛ أي: التحديد الذي تُضِيفه الكلمة المصاحبة في سِياقٍ ما على كلمةٍ معيَّنة من جهة، ومجموع ما تُضفِيه الكلمات من خِلال السِّياقات التي تَظهَر فيها هذه الكلمات من جهةٍ أخرى؛ مثل: كلمة "الساعة" في السِّياقات الآتية:

• قوله- تعالى-: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ﴾ [القمر: 1].

• دقَّت ساعة الجامعة.

• كم الساعة معك؟[9]

 

ثانيًا: تعريف البلاغة:

"إصابة المعنى والقصد إلى الحجَّة مع الإيجاز"[10]، أو هي: إيضاح المعنى وتحسين اللفظ، أو هي: تصحيح الأقسام واختيار الكلام، أو هي مُطابَقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحَته.

 

استَغلَّ البلاغيُّون هذه المعاني للبلاغة وربَطُوا بين اللفظ والمعنى، وهذه هي نظرية النظم عينُها عندَ عبدالقاهر الجرجاني، بَيْدَ أنَّه قد أَوْلَى المعنى مَزِيَّةً عن اللفظ، فقد استَخدَم البلاغيُّون الألفاظ في التراكيب لتُعَبِّر عن المعنى في نفس المتكلم، ليُحدِث تأثيرًا في نفس السامع.

 

وهذا الهدف الذي قصَد إليه البلاغيُّون يتَّفِق مع النظرية التصوُّرية العقليَّة mentalistic image ideafional، التي تعتبر اللغة وسيلةً أو أداةً لتوصيل الأفكار، أو تمثيلاً خارجيًّا أو معنويًّا لحالة داخليَّة.

 

وهذه النظريَّة تقتَضِي بالنسبة لكلِّ تعبيرٍ لغوي، أو كلِّ معنى متميز للتعبير اللغوي- أنْ يملك فكرةً، وهذه الفكرة يجب أنْ:

• تكون حاضرةً في ذهن المتكلِّم.

 

• ينتج المتكلم التعبير الذي يَجعَل الجمهور يُدرِك أنَّ الفكرة المعيَّنة موجودةٌ في عقله في ذلك الوقت.

 

• يكون التعبير قادرًا على استِدعاء الفكرة في عقل السامع "الوظيفة الفكريَّة [11] Ideational".

 

• فهذه النظريَّة تتَّفِق وحرص عُلَماء البلاغة من خلال تعريفاتهم على ربْط اللغة بالفكر، مع تحقيق ما يسعَوْن إليه دائمًا؛ وهو تحقيق البلاغة من أقرب طريق من خلال التراكيب "اللفظ والمعنى"، والعلاقة الوَشِيجة التي بين هذه التراكيب، وهو ما سُمِّي بنظريَّة "النظم".

 

مفهوم نظريَّة "النظم" عند عبدالقاهر الجرجاني:

ومفهوم النظم عند عبدالقاهر يوضِّحه بقوله: "اعلم أنْ ليس النظم إلاَّ أنْ تضع كلامَك الوَضْعَ الذي يقتَضِيه (علم النحو)، وتعمَل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تَزِيغ عنها، وتحفَظ الرُّسوم التي رُسِمتْ لك، فلا تخل بشيءٍ منها"[12]؛ إذًا فالنظم هو توخِّي معاني النحو.

 

إنَّ ما رأيته واضحًا في كتاب "دلائل الإعجاز" هي نظرية النظم التي يتحقَّق بها وجهُ إعجاز القرآن الكريم، وإنَّ خصوصيَّة منهج الجرجاني تَكمُن في تقديم تفسيرٍ لغوي موضوعي لوجوه هذه النُّظُم التي بها يتحقَّق الإعجاز.

 

وقد ألَحَّ الجرجاني في نظريَّته هذه على المواءمة بين الاستقامة النحويَّة والصحَّة الدلاليَّة، وذلك من خِلال كشف فاعليَّة النحو في توضيح النص وتفسيره واستخراج طاقاته من جهة، وإتاحة أكبر قَدْرٍ ممكن لتفسير المبادئ الدلاليَّة معتمدًا على القواعد النحويَّة الضابطة للنظام اللغوي.

 

والذي يُمَيِّز الجرجاني عن سابِقِيه أنَّه قد تجاوز مستوى التنظير الذي وقَف عنده سابقوه، وتَعدَّاه إلى مستوى التطبيق؛ فقد ردُّوا جميعًا إعجاز القرآن إلى فصاحته، وهذا يتَّفقون عليه جميعًا، إلاَّ أنَّ الاختلاف: لأيِّ شيء يُوصَف بالبلاغة أو الفصاحة؟ فإنَّ الجرجاني يجعلها في المعاني والألفاظ إلاَّ أن المعاني مقدَّمة، ويجعلها القاضي عبدالجبار في الألفاظ؛ فيقول عبدالجبار في تفسير معنى الفصاحة: "إنها خصوصيَّة في نظم الكَلِم وضمُّ بعضها إلى بعض على طريقةٍ مخصوصة، أو على وجهةٍ تظهر بها الفائدة"[13].

 

ولكنَّ عبدالقاهر لا يرى هذا الوجه كافيًا لمعرفة وجهِ الإعجاز، وإنَّ عبدالقاهر لم يترك الكلام برُمَّته، إلاَّ أنَّه يرى أنَّ تفسير الفصاحة بأنها خصوصيَّة في نظْم الكَلِم وضم بعضها إلى بعضٍ على طريقةٍ مخصوصة أو على وجهٍ تظهر به الفائدة، بل لا تكون من معرفتها بشيءٍ حتى تفصل القول، وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظْم الكَلِم، وتعدُّها واحة واحدة، وتسمعها شيئًا فشيئًا.

 

إنَّ جوهر نظريَّة النظم الاعتزاليَّة في النظم يَكمُن فيها أنْ كون المعاني لا يقَع فيها تَزايُد، وإنما يقَع التزايُد في الألفاظ التي تُعبِّر عنها، وهذا عكس النظريَّة الأشعريَّة التي تقول بأنَّ الألفاظ لا يقَع فيها تزايُد، وإنما يقَع التزايُد في المعاني التي تدلُّ عليها.

 

وعبدالقاهر بذلك يَربِط بين الصحَّة الداخليَّة والصحَّة الخارجيَّة، فقد تحدَّث عن معنى البلاغة، وأنَّ الكلمة لا تُوصَف بالحسن، ولا تستَولِي على هوى النفس، وذلك من وظيفة البلاغة، أو ما تنعت به الكلام الذي شأنه كذلك من لفظ البلاغة.

 

فإنَّنا لا يَرُوق لنا لفظٌ ولا نستَحسِنه، ولا يَظهَر لنا في حُلَّةٍ جميلةٍ إلاَّ إذا كان مُؤدِّيًا لمعناه على أتَمِّ وجهٍ، مختارًا له من الألفاظ ما يظهر فيها؛ كي يكشف عنه ويفصح[14]، وعندما ننظر في كتاب الجرجاني فيمكن أنْ نتَناوَله في نقطتين أساسيتين:

أ- عُنِي فيها بتحديد المكوِّنات الأساسيَّة لنظريَّة النظم، وهي المكوِّنات التي استُخلِصت من المَقُولات والتصوُّرات النظريَّة التي عرَضَها الجرجاني في نقطتين:

1- قبل التطبيق: حيث مهَّد له في عرض مبدئي.

 

2- بعد التطبيقات: حيث اتخذت صورة الردود على وجهات النظر المُخالِفة له، مُدعِّمًا تلك الرُّدود بالأدلَّة والبراهين المُستَخرَجة من التطبيقات.

 

ب- التحليلي، فيقتَصِر على تحليل بعض نماذج وجوه النظم التي عالَجَها الجرجاني للوقوف على طرقه في التحليل والتفسير، وهو ما قدَّمَه في أبواب؛ مثل: التقديم والتأخير، والحذف والذكر، والقصر والاختصاص.

 

وفي هذه النقطة أبيِّن دور المكونات الأساسيَّة؛ مثل: غرض أو قصد المتكلِّم، والتشكيل اللغوي، والقرائن المقاليَّة والحاليَّة، وفهْم المخاطَب، وكذا تحديد العلاقة بين القاعدة النحويَّة وفهْم الدلالة، وكيفيَّة وقوع المُواءَمة بين الاختيار أو القصد والائتِلاف.

 

إنَّ عبدالقاهر قد نظَر إلى أقوال العلماء في معنى "الفصاحة، والبلاغة، والبيان، والبراعة"، وتفسيرها والمراد بها، وكان كلامهم كالرمز والإيماء، ولكنَّ الجرجاني يقول: "ووجَدتُ المعول على أنَّ هاهنا نظمًا وترتيبًا، وتأليفًا وتركيبًا، وصياغة وتصويرًا، ونسجًا وتحبيرًا، وأنَّ سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجازٌ فيه سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها"[15].

 

فإنَّ المفاضَلة لا تقَع للفظ من حيث هو مفرد قبلَ دخوله في التركيب على طريقةٍ مخصوصةٍ، فما وجهُ المفاضَلة بين كلمة (رجل) وكلمة (فرس) إذ لم يتبيَّن لي موضعها من حيث النظم، يقول عبدالقاهر: "وهل يقع في وهْم وإنْ جهد أنْ تَتفاضَل الكلمتان المفردتان من غير أنْ ينظر إلى مكانٍ تقَع فيه من التأليف والنظم"[16].

 

فإنَّ الفصاحة لا تتوقَّف على كوْن هذه الكلمة مألوفةً مستعملةً، وتلك غريبة وحشيَّة، أو أنْ تكون حروف هذه أخفَّ، ولكن تعتبر فصاحتها بالنظر إلى مكانها في النظم، ومن مُلاءَمة معناها لمعنى جاراتها، وفضل مُؤانَستها لأخواتها[17].

 

إذ إنَّ الكلمة في النظم تُرَتَّب وتؤلَّف، ففي التركيب وحسن العلاقة والاختيار جمالُ الكلام، فارتِباط الكلام بعضه ببعضٍ من صيغ وصرف، ومُلاءَمة معناها لمعنى التي تَلِيها، وإيناسها لأخواتها- لَدليلٌ على ترتيب الأفكار، وحسنِ ما يَدُور في العقل من معانٍ، فإنَّ الألفاظ وعاء المعاني، فيَجمُل الوِعاء ويُستَحسَن بما يَحوِيه.

 

وانطِلاقًا من تَأرجُح فكره بين اللفظ والمعنى، فإنَّ القارئ لما يقول الإمام في النظم يُرَجِّح أنَّه قد اهتَمَّ بالمعنى دون اللفظ، إلاَّ أنَّ النصوص أو كلام عبدالقاهر يُوضِّح أنَّ وجْه الإعجاز أو أنَّ الفصاحة لا تتمُّ إلا إذا تعلَّق اللفظ بالمعنى، ولكن من الحكمة أنْ يُعلِي من شأن المعنى أولاً إذا كان يُناظِر مذهبًا قد جعَل المزيَّة للفظ دون المعنى، وعبدالقاهر في تَنظِيره كما سبَق يَربِط بين مرحلتَيْن، أو يُمكِن أن نضَعَها تحت عنوان "علاقة الفكر باللغة"، أو "العلاقة بين الدال والمدلول".

 

فيقول في تحقيق القول في البلاغة والفصاحة والبيان، والبراعة: "... ممَّا يُعبَّر به عن فضْل بعضِ القائلين على بعض من حيث نطَقُوا وتكلَّموا، وأخبَرُوا السامعين عن الأغراض والمقاصد، وراموا أنْ يُعلِموهم ما في نفوسهم، ويَكشِفوا لهم عن ضمائر قلوبهم"[18].

 

يُحاوِل الجرجاني أنْ يُحلِّل عمليَّة الإبداع، فيُقسِّمها إلى عمليَّتين:

الأولى: غير لغويَّة، نفسيَّة عقليَّة تدور في الذهن حيث يَحدُث التلاؤم بين المعنى واللفظ، أو ما يُطلَق عليه عمليَّة الانتِقاء والاختِيار.

 

الثانية: وهي لغويَّة، منطوقة أو بدايَتها النُّطق حيث يُوجَد التأليف، وهذه المُقابَلة بين العمليَّة التي تقَع خارج الواقع اللغوي والعملية التي تقع داخل الواقع، وهي جوهر الخِلاف بين عبدالقاهر وعبدالجبار.

 

والجرجانيُّ من خِلال نَصِّه هذا يُبيِّن المكوِّنات الأساسيَّة لفكرة النظم من مرحلةٍ غير لغويَّة، وهي مرحلة اختِيار المعنى، والمرحلة اللغويَّة وهو المنطوق الذي يقَع في التأليف، وهو الوجود الخارجي، يقول: "وهل تجد أحدًا يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلاَّ وهو يعتَبِر مكانها من النظم، وحسنَ مُلاءَمة معناها لمعنى جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها؟"[19].

 

وهو بذلك لا يَفصِل بين اللفظ والمعنى؛ لأنَّ التلاؤم أو المؤانسة أو التناسُب أو غير ذلك قد وقَع بينهما في العمليَّة الذهنيَّة الأولى، ولا يمكن أن تنفَصِل العمليَّة الذهنيَّة الثانية؛ حيث لا ينفَصِل الاختيار عن التأليف، فالنظم إذًا يصل بين اللفظ والمعنى معًا.

 

ثم ينظُر الجرجاني لهذا التأليف كيف يكون حيث يُعجِز مَن سمِعَه، ويقرُّ بالفصاحة والبلاغة، فيقول: "معلومٌ أنْ ليس النظم سوى تعليق الكَلِم بعضها ببعض، وجعْل بعضها بسببٍ من بعض"[20].

 

فعبدالقاهر يمدُّ أصابعه إلى عمليَّة الإبداع، فنظَر إلى ما يعمله مُنشِئ الكلام، فقد كان كَلِفًا بمعرفة حقيقة البيان وكُنهِه، وقد وجَد عبدالقاهر أنَّ هذا لا يكون في ألفاظ؛ لأنَّ ألفاظ اللغة مشتركةٌ بين أهل اللغة جميعًا، كلهم يستَعمِل ما يَشاء، وهي ألفاظٌ تعود إلى مواضعها من رصيد اللغة، الذي يَأخُذ كلُّ لسانٍ منه ما يشاء ليَصُوغَ معانيه، ويدلَّ على مَرامِيه بطريقته هو[21].

 

إذًا؛ فلا بُدَّ أنْ يكون هناك شيءٌ غير هذه الألفاظ هو الذي يرجع إليها جوهر البيان، وهو الذي يُجَمِّل نفس صاحبه، وبهذه النفس ينسب إليه، ولا شيء هناك بعد الألفاظ إلاَّ "العلاقات والروابط التي هي بين الكلمات"، كأنها المِلاط الذي يَصِلُ الكلمة بالكلمة، ويربط الكلمة بالكلمة، ويُرتِّب الكلمة على الكلمة، فتكون هذه خبرًا عن تلك، أو وصفًا لها، أو حالاً منها، أو عامِلاً فيها أو معمولاً، فإنَّ الكلام بناء... ثم يسرد بعد ذلك ما يشعر بترادف النظم مع مفاهيم أخرى مثل:

(الترتيب، التأليف، التنظيم، التركيب، الصياغة، التصوير، النسج، التحبير... إلخ).

 

وهذا ما يُؤكِّد الصلة بين مصطلحات الإعجاز، ويستنتج الدكتور العمري من ذلك: أنَّ الكلمة الفصيحة وحدَها لا اعتِبارَ لها في نفسها، بل تستمدُّ قيمتَها البلاغية من حُسْنِ موقعها وتنسيقها، ومُلاءَمتها لما قبلها ولما بعدها[22].

 

فهذا النظم وتلك الرَّوابِط التي تكون فيها الكلمة هي التي تستَخرِج من ألفاظ اللغة دلالاتها، وهذا هو سِرُّ فعلِها، وكأنها المفتاح أصبت به مدخلاً لطيفًا للكلمة، وهذه الروابط هي التي تفرغ لنا من الكلمات طعومها وألوانها، وإنَّ لَقانَةَ المتكلم وموهبته كل ذلك من المهارة التي تجعَلُه يتَّخِذ من هذه الروابط والعلاقات وسائل ناجحة في الوصول إلى عمق الكلمة؛ حتى يستخرج منها ما لم يستخرجه غيره، ويفتح له بابًا من الدلالة لم يفتح من قبله[23].

 

والجرجاني هنا حين يقول بتعليق الكَلِم بعضها ببعض، وإيناسها لجاراتها، فهو يُشِير إلى معاني التركيب الذي تلعب فيه معاني النحو دورًا أساسيًّا، فلو أنَّ الكلمة إذا حَسُنتْ حَسُنتْ من حيث هي لفظ، وإذا استَحقَّت المزيَّة والشَّرف استحقَّت ذلك في ذاتها وفي انفرادها، دون أنْ يكون السبب في ذلك حالا لها مع أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف بها الحال، ولكانت إمَّا تَحسُن أبدًا، أو لا تَحسُن أبدًا.

 

وربما قد تجاوَز الجرجاني هنا مستوى المعاني النحويَّة، وهو ما ينتج من تعلُّق الكلم بعضه ببعض، وكذا بناؤه بعضه على بعض- إلى السِّياق أو قرائن الحال والمقام.

 

فالجرجاني قد ميَّز بين دلالة الوضع ودلالة السِّياق، أو بيان دلالة الكلمة منفردة ودلالتها في حالة تأليفها، وطبقًا لنظريَّة النظم فإنَّه يهمُّه الجانب الثاني من الدلالة؛ لأنَّه يريد أنْ ينفذ إلى الدلالة المباشرة، والتي يعود إليها النظم في جميع أحواله لا إلى الكلمة المفردة؛ لأنَّ الكلمة المفردة التي نَراها في المعجم صامتة خَرساء، وهي في الحقيقة منطوية على ذخائر الأفكار والخواطر والصُّوَر التي لا حدود لها، وكلُّ ذلك وأضعافه مذخورٌ فيها، والبراعة إنما هي في استِخراجِه وإنطاقه، وإشاعتها بواسطة العلاقات التي نسمِّيها أحيانًا سَبكًا ورَصفًا، وهذه العلاقات وهذا السبك وهذا الرصف إنما يكون بينها وبين أخواتها في الجملة[24].

 

فإنَّ لكلِّ مَقام مقالاً؛ لأنَّ الكلمة مع كلِّ سبك ورصف مقال جديد؛ أعني: دلالة جديدة، ومعنى جديدًا ومنطقًا جديدًا، (انظر إلى سحبان وكيف وصف بالفصاحة ضد ما قيل عن باقل)[25].

 

فمن السهل أنْ نَنطِق باللغة، ومن الصعب أنْ نَنطِق اللغة، لا ريب أنَّ تفوُّق "قفا نبك" الذي صارَتْ به أميرة شعر العرب، إنما كان لأنَّ امرأ القيس أنطَقَ الكلمات، وأخرَجَ من ضمائرها أصواتًا لغويَّة جديدة، كانت حبيسةً في مستقرِّها البعيد، والكلمات أضغان كما يقول أبو الفتح، وهذا مُتوقِّف على سَعَة علم مَن يَتعامَل معها.

 

ويُؤَكِّد الجرجاني فكرةَ التمييز بين دلالة الوضع ودلالة السِّياق السابقة حين يُقابِل في نصٍّ آخَر بين الحروف المنظومة والكَلِم المنظوم، فيقول: "وذلك أنَّ نظم الحروف هو تَوالِيها في النُّطق، وليس نظمها بمقتضى عن معنى، ولا الناظم لها بمقتفٍ في ذلك رسمًا من العقل اقتضى أنْ يتحرَّى في نظمه لها ما تَحرَّاه، فلو أنَّ واضع اللغة كان قد قال "ربض" مكان "ضرب" لما كان في ذلك ما يُؤَدِّي إلى فساد... إلخ"[26].

 

يُؤكِّد الجرجاني أنَّ للحروف نظمًا وترتيبًا، ولكنَّه يفقد جانب المعنى كما أنَّ الحروف أو نظمها منطوق، ولكن ليس مرحلة له سابقة ذهنيَّة، وهو ما يُعرَف بعشوائيَّة العلامة اللغويَّة، وهو ما لا يُوجَد معها ترابطٌ داخلي بين الدالِّ والمدلول.

 

أمَّا نظم الكَلِم فيختَلِف عن نظْم الحروف قبل مرحلة النُّطق مسبوقة بالعمليَّة النفسيَّة، فنظْم الكَلِم تُقتَفَى فيه آثارُ المعاني في النفس، فهو إذًا: "نظمٌ يُعتَبَر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، لا ضم الشيء كيف جاء واتَّفق"[27].

 

ويُدلِّل الجرجاني على قوله بأنَّ مَدار الأمر في النظم والترابُط بين أجزاء الجملة في علاقات وتراكيب، وحيث لاقَت الأولى الثانية، والثانية الثالثة، وهكذا، ويأتي بمثالٍ من القرآن وهو قوله- تعالى-: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44].

 

فإنَّ عبدالقاهر يردُّ إعجاز هذه الآية وما فيها من المزيَّة الظاهرة والفضيلة الباهرة إلى أمرٍ يرجع إلى ارتِباط هذه الكلم بعضه ببعض، وأنها لم تعرض إلى الحسن والشرف إلاَّ من حيث لاقَت الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة، وهكذا... فأنت لو تأمَّلتَ وأخذتَ لفظة مفردة "ابلعي" من بين أخواتها هل تراها تؤدِّي إلى الفصاحة مثلما كانت عليه في الآية؟

 

ثم إنَّ الكلمة المفردة لا يكون لها معنى من حيث هي لفظ، إذا كانت موضوعةً بإزاء الصُّوَر الذهنيَّة التي تُدرَك من الخارج قبلَ النطق بها، أو كانتْ في الذهن فقط كالعلم ونحوه.

 

ويُحلِّل عبدالقاهر تلك الآية، وكيف كانت الكلمات مُنتَقاة، كذا معاني النحو واختيار الأدوات، مثل اختيار (يا) دون (أيتها)، واختيار الصِّيغة التي للبناء لما لم يُسَمَّ فاعلُه للتفخيم والتعظيم، يقول: "وكيف بالشكِّ في ذلك، ومعلومٌ أنَّ مبدأ العظَمَة في أنْ نُودِيت الأرض، ثم أُمِرت، ثم في أنْ كان النداء بـ "يا" دون "أي" نحو: "يا أيتها الأرض"، ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقول: "أبلعي الماء"، ثم أنْ أتبع نداء الأرض، وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء، وأمرها كذلك بما يخصُّها، ثم أنْ قيل: ﴿ وَغِيضَ الْمَاءُ ﴾ فجاء الفعل على صِيغَة فِعْل الدالَّة على أنَّه لم يَغِضْ إلا بأمر آمِر وقُدرة قادر"[28].

 

ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله- تعالى-: ﴿ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو ﴿ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾ [هود: 44]، ثم إضمار السفينة قبلَ الذِّكر كما هو شرْط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مُقابَلة ﴿ وَقِيلَ ﴾ في الخاتمة.

 

فهذا هو الإعجاز من النظم؛ حيث ترتَبِط الكلمة بالتي بعدَها أو قبلَها حتى تُفضِي بالمعنى، وقد قيل من قبلُ: إنَّ نظم الكَلِم هو نظمٌ يُعتَبَر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، لا ضم الشيء كيف جاء واتَّفَق، وقد أَلَحَّ الجرجاني على هذا المعنى في النظم حيث جعَلَه نظيرًا للتأليف والنسج والصِّياغة والبناء، والوشي والتحبير، وما أشبه ذلك، ممَّا يُوجِب اعتبارَ الأجزاء بعضها مع بعض، حتى يكون الوضع كلٌّ حيث وُضِع علَّة تقتَضِي كونَه هناك، وحتى لو وُضِع في مكان غيره لم يَصلُح، فالمقام لَمَّا أنْ كان مقامَ تهويلٍ وتعظيمٍ استخدم صيغة البِناء لما لم يُسَمَّ فاعِلُه، مثلها مثل قوله- تعالى-: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾ [التكوير: 1- 2].

 

فالإمام عرَض للتركيب والعلاقة بين كلمة وكلمة، وصيغة وصيغة، وكيف تكون هذه الكلمة مُستَحسَنة في هذا الموضع وقَلِقَة نابية في موضعٍ آخَر، ثم تحدَّث عن اختيار الصيغة الصرفيَّة، وكيف كان المقام عاملاً في اختيار صيغة معيَّنة، ثم تعريجه على باب التقديم والتأخير، والذكر والحذف، ثم الإقرار والتأكيد، وكيف كان المقام عليه تُنظَم الكلمات وتأتَلِف حتى تكون حسنَةَ المظهر جليَّة المعنى بفصاحتها، ثم ترقَّى لمستوى أعلى وهو بلاغة الكلام، وهو ما سأعرِض له في الجانب الثاني من البحث (الجانب التحليلي).

 

فنظمُ الكَلِم هو العلاقة بين ما وُضِع في نفس المتكلِّم من معانٍ، أو بين العلاقات الدلالية والتركيبية، وهو ما يظهر بعدَ ذلك في عمليَّة النطق.

 

يتبيَّن من ذلك أنَّ عبدالقاهر قد أَلَحَّ كثيرًا في القسم الأول من الكتاب على فكرة المعاني النفسيَّة التي تترتَّب في الذهن، وهو مستوى ما قبلَ النُّطق، وفي القسم الثاني على تَوالِي الألفاظ في مستوى التأليف والعلاقات بينها، واختلاف الدلالات باختلاف الترتيب (أو التوالي أو الضم أو البناء)، "فالكلمة تَرُوقُنِي في موضِعٍ وتثقل وتُوحِشني في موضعٍ"[29].

 

فالغَرَض من نظم الكلام ما تَناسَقت دلالاتها وتلاقَتْ معانيها، لا تَوالِي ألفاظها في النُّطق على الوجه الذي اقتَضَاه العقل؛ لذا جعَلَه- أي: النظم- نظيرًا للصِّياغة والتَّحبير، والتفويف والنقش.

 

يقول عبدالقاهر مؤكِّدًا ما سبق: "واعلَم أنَّ ما ترى أنَّه لا بُدَّ منه ترتيب الألفاظ وتواليها على النظم الخاص، ليس هو الذي طلبتَه بالفكر، ولكنَّه شيءٌ يقع بسبب الأوَّل ضرورة، من حيث إنَّ الألفاظ إذا كانت أوعِيَةً للمعاني فإنها لا محالةَ تَتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجَب لمعنى أنْ يكون أولاً في النفس، وجَب اللفظ الدال عليه أنْ يكون مثله أولاً في النطق..."[30].

 

فهذا هو مَقصِد الجرجاني من قضيَّة النظم، فإنَّ تصوُّر الألفاظ أنْ تكون المقصودة قبلَ المعاني بالنظم والترتيب، وأنْ يكون الفكر في النظم الذي يَتواصَفُه البُلَغاء فكرًا في نظم الألفاظ، أو أن نحتاج بعد ترتيب المعاني إلى فكرٍ تستَأنِفه، لأنْ تجيء بالألفاظ على نسقها فباطلٌ من الظن...

 

ومن النص السابق حيث ربَط عبدالقاهر بين العمليَّة النفسيَّة الذهنيَّة، وبين النطق الفعلي للكلام حيث يقع ترتيب الألفاظ حيث تَتلاءَم الدلالات المعجميَّة بالدلالات السياقيَّة على مستوى التأليف.

 

ولكن هناك جانب ثالث وهو (مستوى التفسير)، ويمكن أنْ يُتَصوَّر الجانبان أو المستويان السابقان على النحو التالي كما وضَّح الدكتور: سعيد بحيري:

عملية نفسية سابقة...... عملية لغوية لاحقة.

تقع خارج اللغة...... تقع داخل اللغة.

دلالات نفسية...... ألفاظ منطوقة.

اختيار الألفاظ الدالَّة...... تأليف بين الدلالات النحوية.

قصد المتكلم...... والنص اللغوي.

 

يقول الدكتور سعيد البحيري: "فكما أنَّ قصْد المتكلم هو الذي أنتج النص اللغوي، فإنَّ النصَّ اللغويَّ هو السبيل الوحيد للكشْف عن قصْد المتكلم، فلم يكن الترتيب إذًا إلاَّ سبيلاً للتصوُّر ومُعِينًا على الإفهام؛ إذ إنَّ تأليف الألفاظ راجعٌ حتمًا إلى تأليف الدلالات النحويَّة الذي يُشكِّل صورة واقعيَّة (أو واقعًا ماديًّا) لتأليف المعاني في النفس"[31].

 

ويُلِحُّ الجرجاني على ضرورة عدم الفصْل بينهما، فإنَّه لا يُتَصَّور للفظ موضعٌ من غير أنْ تعرف معناه، ولا أنْ تتوخَّى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبًا ونظمًا، وأنَّك تتوخَّي الترتيب في المعاني وتُعمِل الفكر هناك، فإذا تَمَّ ذلك أتبعتها الألفاظ وقفَوْت بها آثارها، وأنَّك إذا فرغتَ من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتَجْ أنْ تستَأنِف فكرًا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتَّب تلك بحكم أنها خَدَمٌ للمعاني، وتابعةٌ لها ولاحقة بها، وأنَّ العلم بواقع المعاني في النفس علمٌ بمواقع الألفاظ الدالَّة عليها في النطق.

 

ويقول الجرجاني: "معنى لطيف، ولفظ شريف"[32].

 

ممَّا يدلُّ على أنَّ المَزِيَّة والفضل يتَقاسَمهما اللفظ والمعنى معًا، فليس وصف اللقب بمنفَصِلٍ عن وصْف المعاني، سواء قلنا: فصاحة أم نظمًا، وهذا يُؤكِّد أنَّ الجرجاني لم يكن من أنصار المعنى، وأنَّه أهمل اللفظ في مَواضِع، وهو الذي قال ذلك ردًّا على مَن عُنِي باللفظ وحدَه.

 

وجوهر نظريَّته- رحمه الله- أنَّنا لا نستَطِيع الوصولَ إلى المدلول إلاَّ من خِلال الدالِّ، يقول: "لا يَصعُب مرام اللفظ بسبب المعنى، وإنما يَصعُب مرام المعنى بسبب اللفظ".

 

وأكَّد الجرجاني أنْ لا مزيَّة لحصر المعنى دون اللفظ، أو حصر اللفظ دون المعنى، فالمزيَّة تَرجِع لكليهما على سواء؛ لأنَّ اللفظ لا يُتصوَّر أنْ ينفصل عن المعنى؛ إذ لا بُدَّ لكلِّ دالٍّ من مدلول، فترتيب الألفاظ ليس من حيث هي ألفاظ، بل هو كنايةٌ عن ترتيب المعاني، فأيُّ حصرٍ لأحدهما عن الآخَر كان بترًا للفكر عن اللغة أو العكس، وهل يُتَصوَّر أنْ تترتَّب معاني أسماء وأفعال وحروف في النفس ثم يَخفَى علينا مواقعها في النُّطق، حتى نحتاج إلى فكرٍ ورَوِيَّة؟ وأنَّ هذا ما لا يَشُكُّ فيه عاقل إذا هو رجَع إلى نفسه، يقول على طريقة المتكلمين ردًّا على خصمه: "وإذا بطل أنْ يكون ترتيب الألفاظ ثم بالألفاظ مطلوبًا بحال، ولم يكن المطلوب أبدًا إلا ترتيب المعاني... فقد اضمحلَّ كلامه"[33].

 

وفي موضعٍ آخَر يُفسِّر القصد من الترتيب وهو أنَّه: لَمَّا كانت المعاني لا تتبيَّن إلا بالألفاظ، كان على المرتب أنْ يُعلِّمك ما صنَع في ترتيبها بفكره في ترتيب الألفاظ في نطقه، فتجوَّزوا وكنوا ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ ثم بالألفاظ بحذف الترتيب، ثم اتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبانَ الغرَض وكشَف عن المراد.

 

ثم قالوا بأنَّ هناك "لفظ متمكِّن" يُرِيدون أنَّه بموافقة معناه لمعنى ما يَلِيه كالشيء الحاصِل في مكانٍ صالح يطمئنُّ فيه، وعن آخَر "قلق نابٍ" يريدون أنَّه من أجل معناه غير مُوافِق لما يَلِيه، كالحاصل في مكانٍ لا يصلح له، ممَّا يعلم أنَّه مُستعارٌ له من معناه، وأنهم نحلوا إيَّاه، بسبب مضمونه ومُؤدَّاه.

 

ومن هذا النص السابق ربما قصَد الجرجاني الانتقالَ من هذا المعنى الارتباط الوثيق بين "اللفظ والمعنى"، أو "العلاقة بين ترتيب المعاني الألفاظ" إلى مستوى النطق، حيث يستخدم النظم في معنى التعليق أو التأليف بين المعاني النحوية أو العلاقات النحوية؛ لأنَّه- كما قال أحد الدارسين- لَمَّا كانت الألفاظ لم تُوضَع لتُعرَف معانيها أنفسها، كما قال: فإنَّ الفكر لا يُمكِنه أن ينفذ منها إلى الدلالات النفسيَّة، فتكون العلاقات بين معاني هذه الألفاظ، أو ما يُعبَّر عنه بمعاني النحو، هو السبيل الوحيد للكشف عن الدلالات النفسيَّة.

 

فالنظم عند عبدالقاهر هو تَوَخِّي معاني النحو؛ وبيان ذلك أنْ تضع كلامَك الموضعَ الذي يقتَضِيه علم النحو، وتَعمَل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت له فلا تزيغ عنها، ولا تخل بشيءٍ منها.

 

وهو بهذا يُرِيدنا أنْ نَنظُر إلى مستوى الصحَّة والذي لا بدَّ منه من خِلال التعليق بين الأسماء والأفعال والحروف، وهو ما ينقلنا للتمييز بين الدلالات المختلفة، وتحديد الدلالات المشتركة، والكشف عن الدلالات الخاصَّة والمعاني الإضافية، والتي منها نُدرِك مستوى الجمال أو البلاغة.

 

ولا بُدَّ أنْ نَفهَم النظم على طريقة الجرجاني تلك؛ لأنَّه لا قَدْرَ للكلام إذا هو لم يستَقِم له، ولو بلَغ في غَرابة معناه ما بلَغ، والجرجانيُّ في حديثه عن مستوى الصحَّة النحويَّة لا يَعنِي به مستوى حركات الإعراب في حَدِّ ذاتها، بل العلاقات النحوية بين أجزاء الكلام؛ إذ لا يرجع إليها وحدَها الوصف بالصحَّة أو الفَساد، يقول الإمام: "فلا ترى كلامًا وُصِف بصحَّة نظمٍ أو فساده، أو وُصِف بمزيَّة وفضل فيه، إلا وأنت تجد مرجع تلك وذلك للفساد، وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يَدخُل في أصلٍ من أصوله، وتصل ببابٍ من أبوابه"[34].

 

ثم يُقدِّم لنا أمثلةً تُبيِّن صحَّة النظم لما تُوُخِّي فيه العلاقات والتركيب، وكذا فساد النظم يَرجِع إلى تَخَلِّينا عن قانون النحو ونظامه في العلاقة بين التراكيب، وإنْ كان الجرجاني لم يَقنَع بكِفاية العلاقات النحويَّة، فليست المزيَّة بموجبةٍ لها في حَدِّ ذاتها.

 

يقول الجرجاني: "وإذ قد عرَفتَ أنَّ مَدار أمر النَّظم على معاني النحو... واستِعمال بعضها مع بعض".

 

وقوله أيضًا: "ليس من فضلٍ ومزيَّة إلا بحسب الوضع، وبحسب المعنى الذي تُرتِّب، والغرض الذي تَؤمُّ"[35].

 

فالمعاني النحويَّة إذًا جزءٌ من المعاني العامَّة للأساليب، وفي ذلك توسيعٌ بدون شَكٍّ لإطار النظم عندَه، فلا يقتَصِر على العلاقات النحويَّة المختلفة فحسب، بل يَضُمُّ إمكانات أسلوبيَّة تختَلِف وتتعدَّد باختلاف وتَعَدُّد المقامات والأحوال، كما قال د. سعيد البحيري، وموضحًا بالرسم أيضًا:

دلالات نفسية... دلالات أسلوبية كبرى... دلالات نحوية صغرى، خارج النص اللغوي... دلالات لفظية... داخل النص اللغوي[36].

 

فبذلك تتضمَّن نظريَّة النظم دلالات متنوِّعة، يرتَكِز التفسير فيها على معايير لغويَّة؛ مثل: الدلالات المختلفة الناتجة عن الاختيار والتأليف، ومعايير غير لغوية؛ مثل: قصد المتكلم (+ معاني الكلام وأغراضه)، وحال المخاطب وأنواع السياقات والمقامات والأحوال.

 

والأمثلة التي قدَّمها الجرجاني بيانًا لصحَّة النظم تتمثَّل في(التقديم والتأخير، والتعريف، والفصل والوصل....)، وهو ما سأقدِّمه- بإذن الله- في الجانب التحليلي.

 

المبحث الثاني (الجانبي التحليلي):

أمثلة تحليلية:

أولاً: عبدالقاهر يضَع منهجًا في كتابه لتحليل لغة المعرفة:

وضَع عبدالقاهر كتابًا يُعِين على الوصول إلى معاني الكلام، وأنَّ البناء اللغوي الذي شغَل به كتابه يَقصِد به ما وراء هذا من فقهٍ دقيقٍ للمعاني، وأنَّ عبدالقاهر يُعَلِّمنا منهج العلم كله أو منهج المعرفة، وأنَّ أصل هذا المنهج هو تحليل اللغة؛ لغة الفكر والأدب والعلوم وكل ذلك[37].

 

وهذا يعني: أنَّ كشْف المعاني التي وراء المباني هي غاية الدرس، فلا يجوز أنْ يشغل عنها، والذين يَقِفون عند تحليل المباني من غير أنْ يَصِلوا إلى جوهر معاني النص من فكرٍ وعلومٍ لم يُحقِّقوا الغاية من هذا العلم.

 

وقول الشيخ: "ولتعطَّلتْ قُوَى الخواطر والأفكار من معانيها... ولَوقَع الحي الحسَّاس في مَرتَبة الجماد".

 

فإنَّ صريحَ هذا الكلام يقول: إنَّ اللغة هي التي تَبعَث قُوَى الخواطر والأفكار، وأنَّك بمقدار تمكُّنك منها تكون قوَّة خَواطِرك وقوَّة أفكارك، وهذا معناه: أنَّ قوَّة الفكر وضعفه في اللغة، وأنَّ بمقدار تمكُّن الأمَّة من لغتها تكون قوَّة أفكارها وخواطرها، وبمقدار ضعْف الأمَّة وتهافُتِها في لغتها يكون ضعف خواطرها، وتهافت أفكارها.

 

فاللغة هي مدخل تغيير الإنسان، وإنَّ النص اللغوي الذي يُثِير عندَك ما يجعَلُك تكشف عن مَكنُون ضمائره، ليُؤصِّل عندَك الفكر العميق لا الفكر السطحي، والإحياء اللغوي هو أساس نهضة الأُمَم، ولا تَخفَى علينا نهضة الغرب.

 

كان عبدالقاهر في منهجه التحليلي يَمُدُّ أصابعه إلى عمليَّة الإبداع، فكما سبَق أنَّه كان كَلِفًا بحقيقة البيان وكُنهِه، ولكلِّ إنسان طريقتُه، وفيما سبَق كان تركيز الجرجاني على العلاقات في تراكيب الكلمات التي بمثابة المِلاط الذي يَصِلُ بين الكلمات، أو ما يُسَمَّى بالمعاني النحويَّة، وقد أوردت مثالاً من كتاب الله، علمًا بأنَّ الإمام قد مزَج بين سيبويه، والجاحظ، أو بين اللغة "معاني النحو" والأدب متمثِّلاً في إمامه الجاحظ.

 

فقد قال الله- تعالى-: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44]، فالغَمام كما أشرت مسبقًا للتركيب والعلاقة بين كلمة وكلمة، وكيف تكون هذه الكلمة مُستَحسَنة في هذا الموضع وقَلِقَةً ونابية في موضعٍ آخَر، ثم تحدَّث عن اختيار الصِّيغة الصرفيَّة، وكيف كان المقام عاملاً في اختيار صيغة معيَّنة.

 

ويُورِد لنا الجرجاني أمثلةً من الشعر، فيقول: "وما يَشهَد لتلك أنَّك ترى الكلمة تَرُوقُك وتُؤنِسك في موضعٍ لم ترها بعينها تَثقُل عليك وتُوحِشك في موضعٍ آخَر، كلفظ "الأخدع" في بيت الحماسة:

تَلَفَّتُّ نَحْوَ الْحَيِّ حَتَّى وَجَدتُنِي
رَجَعْتُ مِنَ الإِصْغَاءِ لَيْتًا وَأَخْدَعَا

 

وبيت البحتري:

وَإِنِّي وَإِنْ بَلَّغْتَنِي شَرَفَ الغِنَى
وَأَعْتَقْتَ مِنْ رِقِّ المَطَامِعِ أَخْدَعِي

 

فإنَّ لها في هذين المكانين ما لا يَخفَى من الحسنى، ثم إنَّك تتأمَّلها في بيت أبي تمام:

يَا دَهْرُ قَوِّمْ مِنْ أَخْدَعَيْكَ فَقَدْ
أَضْجَجْتَ هَذَا الأَنَامَ مِنْ خُرُقِكْ

 

فتجد لها من الثِّقَل على النفس ومن التَّنغِيص والتَّكدِير أضعافَ ما وجدت هناك من الروح والخفَّة، ومن الإيناس والبَهجة.

 

فعبدالقاهر يُرجِع المزيَّة إلى المعاني (معاني النحو، وترابُط بعضها ببعض) لا إلى الألفاظ في حُسْنِ الاتِّساق والترتيب، ولو كان الأمر هو الألفاظ حيث كانتْ مفردة لما اختلف الحال، ولكانتْ إمَّا تحسن أبدًا، أو لا تحسن أبدًا.

 

قرَّر من قبلُ أنَّ النظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض؛ لذا كان عندهم نظيرًا للنسج والتأليف والصِّياغة والبناء... حتى يكون لوضْع كلٍّ حيث وُضِع علَّة تقتَضِي كونه هناك، وحتى لو وُضِع في مكان غيره لم يَصلُح.

 

انظر على قوله: "النسج والتأليف، والصياغة والبناء"، فإنَّ التركيب للجملة والنصِّ لا يكون بناءً لفظيًّا قبل أنْ يكون بناءً للمعنى؛ إذ كيف تَدخُل الأصوات في اللغة إذا لم تدلَّ على معنى؟ ثم إنَّ هذا المعنى لا يكون مفردًا بل تكتَمِل أهليَّته ويَظهَر سحره بضمِّه إلى جنب أخيه في تَناسُقٍ فكري، وهنا تكون الكلمة مُستَحسَنة، وأخرى مُستَغرَبة، فعلى حسن تركيب الشاعر أو اللغوي في كلامه من معانٍ يجذب بعضها بعضًا، وينسجها بعنايةٍ تَفُوق أيَّ كلامٍ عادي تكون الفصاحة؛ وعليه كان اختيار المتكلم للذكر والحذف، والتقديم والتأخير، وترك الصفة وإقرارها، وإظهار الفاعل واستتاره، يقول الإمام: "إنَّ الألفاظ إذا كانتْ أوعِيَة للمعاني فإنها لا مَحالَةَ تتبع المعاني في مَواقِعها، فإذا وجَب لمعنًى أنْ يكون أوَّلاً في النفس، وجَب للفظ الدالِّ عليه أنْ يكون أوَّلاً في النطق..."[38].

 

فإنَّ عبدالقاهر يُرِيد أنَّه ليس من الممكن أنْ تكون الألفاظ هي المقصودة قبلَ المعاني باللفظ والترتيب، فهذا وهمٌ لا يُتَخيَّل؛ إذ كيف يُمكِن أنْ تكون مُفكِّرًا في الألفاظ وأنت لا تَعقِل لها أوصافًا وأحوالاً إذا عرَفتَها عرَفتَ أنَّ حقَّها أنْ تُنظَم على وجه كذا؟

 

ثم تحت فصل (النظم هو تَوَخِّي معاني الإعراب) يقول عبدالقاهر: "واعلَم أنَّك إذا رجَعتَ إلى نفسك عَلِمتَ.... ألاَّ نظم في الكَلِم ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويُبنَى بعضها على بعض..."[39].

 

وعبدالقاهر لا يتوقَّف عند ذاك الحدِّ، بل يذهب ليُوضِّح ذلك، فلا محصول غير أنْ تعمد إلى اسمٍ فتجعَله فاعلاً لفعل أو مفعولاً، أو تعمد إلى اسمين فتجعَل أحدهما خبرًا عن الآخر، أو تتبع الاسم اسمًا على أنْ يكون الثاني صفةً للأول، أو تأكيدًا له، أو بدلاً منه، أو تجيء باسمٍ بعد تمام كلامك على أنْ يكون صفةً أو حالاً أو تمييزًا.

 

ويُمكِن أنْ تتوخَّى في كلامٍ هو لإثبات معنى أنْ يصير نفيًا أو استفهامًا أو تمنِّيًا، فتُدخِل عليه الحروفَ الموضوعة لذلك، أو تُرِيد في فعلَيْن أنْ تجعل أحدهما شرطًا في الآخَر، فتَجِيء بهما بعدَ الحروف الموضوعة لهذا المعنى، أو بعد اسمٍ من الأسماء التي ضُمِّنت معنى تلك الحروف، وعلى هذا القياس.

 

وينتَقِل الجرجاني من مجال الصحَّة الداخليَّة رابطًا إيَّاها بالصحَّة الخارجيَّة، ويربطها بالمقام في التركيب، يقول: "... أنْ يجب فيها ترتيبٌ ونظمٌ، وأنْ يجعل لها أمكِنةً ومنازل، وأنْ يجب النطق بهذه قبلَ النطق بتلك، والله الموفِّق للصواب"[40].

 

ويُمَثِّل على ذلك بمثالٍ، وهو قول (إبراهيم بن العباس):

فَلَوْ إِذْ نَبَا دَهْرٌ وَأَنْكَرَ صَاحِبٌ
وَسُلِّطَ أَعْدَاءٌ، وَغَابَ نَصِيرُ
تَكُونُ عَنِ الأَهْوَازِ دَارِي بِنَجْوَةٍ
وَلَكِنْ مَقَادِيرٌ جَرَتْ وَأُمُورُ
وَإِنِّي لَأَرْجُو بَعْدَ هَذَا مُحَمَّدًا
لِأَفْضَلَ مَا يُرْجَى أَخٌ وَوَزِيرُ

 

وسَم عبدالقاهر هذه الأبيات بأنَّ فيها من الحسن والطَّراوَة ما فيها، ثم تتفقَّد السبب في ذلك، فتجده أنَّه من أجل تقديمه الظرف الذي هو "إذ نبا" على عامله الذي هو "تكون"، وأنَّه لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا الدهر، ثم أنْ قال: "تكون"، ولم يقل: "كان"، ثم أنْ نَكَّرَ الدهر، ولم يقل: فلو إذ نبأ الدهر، ثم أنْ ساقَ هذا التنكير في جميع ما أتَى به من بعدُ، ثم أنْ قال: "وأنكر صاحب" ولم يقل: أنكرت صاحبًا.

 

ثم يُظهِر الجرجاني إعجابَه بما في البيتين، فأنت لا ترى في البيتين الأوَّلين شيئًا غير الذي عددته لك تجعَلُه حسنًا في النظم، وكلُّه من معاني النحو كما ترى، وهكذا السبيل أبدًا في كلِّ حسنٍ ومزيَّة رأيتهما قد نُسِبَا إلى النظم، وفضل وشرف أُحِيل فيهما عليه.

 

العلاقة بين اللغة والفكر:

لقد أدرك عبدالقاهر الجرجاني طبيعةَ العلاقة القائمة بين الفكر واللغة، وأنَّ هذه العلاقة طبيعيَّة بين الألفاظ ودلالاتها، وبأنها قائمة كوجود الحياة في الأجسام الحيَّة، ولِتوضيح ذلك أُعَرِّج على الاتِّجاه القائل بالفصل بين الفكر واللغة؛ فقد اعتَبَروا أنَّ العلاقة القائمة بين الفكر واللغة علاقة مباشرة، قائمة بين الرمز وذات الشيء نفسه، وأنَّ تركيب الكلام يجب أنْ يكون مُساوِيًا لما فيها من أسماءٍ للجماد والحيوان، وأصحاب هذا المذهب (الفيلسوف العربي جابر بن حيان والفارابي، وابن سيده)، وهو اتِّجاه متأثِّر إلى حَدٍّ بعيد بما جاء به (أفلاطون) الفيلسوف اليوناني[41].

 

يردُّ ذلك ما قاله (دي سوسير) في حديثه عن طبيعة العلاقة اللغويَّة: إنَّ العلاقة اللغويَّة لا تخلو من الوحدة بين الاسم والشيء، ولكن بين فكرة وصورة سمعيَّة، فالوحدة جامعةٌ بين الاسم والفكرة، والعلاقة قائمةٌ بين الكلمة والفكرة التي هي في الذهن، ولا يمكن أنْ يكون من الكلمة والشيء وحدة واحدة"[42].

 

ويُؤكِّد جون بكس: "أنَّ الاسم لا يدلُّ على الشيء، بل يدل على فكرته في الذهن".

 

هذا بالنسبة لهذا المذهب، وقد ردَّه علماء اللغة المحدَثين، أمَّا عبدالقاهر الجرجاني- وهو من العُلَماء الأوائل- فقد كشَف عن طبيعة العلاقة بين الفكر واللغة بحسِّه السامي وذوقه السليم داخل الأسلوب القرآني.

 

رأى عبدالقاهر أنَّ الألفاظ تخدم المعاني، والمعاني هي الأصل في أيِّ تعبيرٍ لغوي داخل نظامٍ محكمٍ، فاللغة إذًا غيرُ الفكر، مع وجود تَلاحُمٍ بينَها في ارتِباط عضوٍ محكم.

 

لم يَفصِل عبدالقاهر بين الفكر واللغة إلا فصلاً مظهريًّا، لإيمانه بِمَتانَة هذه الصلة بين هذه الروابط، ونرى هذا بعد إعداد جملةٍ من القول في النظم كي تتكشَّف له أسرارها ودقائقها.

 

يقول الجرجاني: "ليس الغرض من توالي الكَلِم أنْ توالَتْ ألفاظُها في النطق، بل أنْ تَناسَقتْ دلالتها، وتَلاقَتْ معانيها على الوجه الذي اقتَضاه العقل..."[43].

 

نلاحِظ من النص السابق العلاقة العضويَّة التي لمسها عبدالقاهر بين الفكر واللغة، وعليه تتوقَّف درجة نجاح التعبير اللغوي ودلالاته في إبداعه معنى معينًا، وعليها تتوقَّف قوَّة ترابُط الأفكار وترابُط دلالاتها مع دلالات الكلمات الأخرى.

 

ويُدلِي العالِم اللغوي السويسري دي سوسير برأيه في طبيعة هذه العلاقة قائلاً: "إنَّه لا كيان للغة إلا في ذهن الأفراد؛ وعلى ذلك فلا وجودَ للأفكار بدون كلمات، ولا حياةَ للكلمات بدون أفكار"[44].

 

يقول عبدالقاهر: "ما في الألفاظ لولا المعنى، وهل الكلام إلا بمعناه؟!".

 

تنبَّه الجرجاني إلى هذا الترابُط، فأشار إلى الإعراب والموسيقا اللفظيَّة، وجمال الصورة وحُسْنِ الأسلوب، والفكرة والرمز، والتناسُق والانسِجام داخِلَ جسمٍ واحد؛ حيث يَصعُب التخلِّي عن أيِّ رابطٍ، وإلاَّ ضَعُف التركيب، وانتَفَى الإعجاز.

 

ويُؤكِّد عبدالقاهر دائمًا على شدَّة الارتباط بين الفكر واللغة، وعدم إمكانيَّة الفصل بينهما بفاصلٍ، وبأنَّ عمليَّة التفكير بالمعاني سابقةٌ لعمليَّة التفكير باللفظ، بقوله: واعلم أنَّ ممَّا هو أصلٌ في أنْ يدقَّ النظر ويغمض المسلك في تَوَخِّي المعاني التي عرفت، أن تتحدَّد أجزاء الكلام، ويَدخُل بعضها في بعض، ويشتدَّ ارتباط ثانٍ منها بأوَّل، وأنْ يحتاج في الجملة إلى أن تضَعَها في النفس وضعًا واحدًا، وأن تكون حالك فيها حالَ الباني؛ يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك، ومن دقيق ذلك وخفيِّه أنَّك ترى الناس إذا ذكَرُوا قوله- تعالى-: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4] لم يزيدوا فيه"[45].

 

إنَّ عمليَّة نظْم الكلام وترتيبِه ضمن الترابط العضوي بين الفكر واللغة تتطلَّب جهودًا فكريَّة في المعاني قبلَ عمليَّة التفكير في تنظيم الألفاظ وترتيبها حسب ترتيب المعاني في النفس وتناسُق دلالاتها؛ كي تتلاقى معانيها على الوجه الذي يَرتَضِيه العقل، ويقتَضِيه علم النحو وقوانينه وأصوله، "إنَّ عمليَّة تنظيم الكلمات وتركيبه النفساني يَخضَع لقوانين لغويَّة".

 

تَلاقِي عبدالقاهر مع اللغويين المحدَثين:

يلتَقِي عبدالقاهر بمنهجه الفريد وفكره المستنير مع المفكِّرين الغربيِّين، ولوحاته اللغويَّة الرائعة رغم اتِّساع بساط الزمن بينه وبينهم في حديثه عن العلاقة القائمة بين الفكر واللغة من أن لا كيان للغة إلا في ذهن الأفراد، ولا وجود للأفكار دون كلمات، ولا حياة للكلمات دون أفكار، وبأنَّ اللغة أساس الفكر، وهي طريق الإنسان إلى إدراك الحياة ومعرفة الحقيقة، بل إنها عنصرٌ من العناصر المهمَّة في حياة الإنسانيَّة جمعاء، تُلازِم الفردَ في حياته، وتمتدُّ إلى الأعماق من كيانه، وتبلُغ إلى أخفَى رغباته وخطراته.

 

واللغة متلبِّسة بالفكر لا يستطيع أحدُهما أنْ يتحرَّر من الآخَر، فلا يستطيع الإنسان أنْ يفكِّر دون لغة، كما أنَّ اللغة ليستْ علامةً للتفكير وحدها، بل إنهما مُتَداخِلان يضمُّ أحدهما الآخَر، فإذا كان المعنى يُؤخَذ من العبارة، فإنَّ العبارة ليستْ إلا وجودًا خارجيًّا للمعنى، ويستَوِي في ذلك الطفل والبالغ، وقد أشار إلى ذلك الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه "من أسرار اللغة".

 

وقد سبَق عبدالقاهر هذه الأفكار بقوله: "وإذا قد عرفت هذه الجملة فينبغي أنْ ننظُر إلى هذه المعاني واحدًا واحدًا، وتعرف محصولها وحقائقها... ولا يَخفَي على مَن له أدنى تمييز أنَّ الأغراض التي تكون للناس في ذلك لا تُعرَف من الألفاظ، ولكن تكون المعاني، المعاني الحاصلة من مجموع الكلام أدلَّة على المقاصد والأغراض، وأنَّا لو فرضنا أنْ تخلوا الألفاظ من المعاني لم يتصوَّر أنْ يجب فيها نظم وترتيب، فترى الرجل منهم يرى ويعلم أنَّ الإنسان لا يستطيع أنْ يجيء بالألفاظ مُرَتَّبة إلا من بعد أنْ يُفَكِّر في المعاني ويُرَتِّبها في نفسه على ما أعلمناك"[46].

 

وقد سبَق الكلام عن رائد علم اللغة الحديث (دي سوسير) وكيف وافَق عبدالقاهر رغم الزمن السَّحِيق بين العالم الإمام ودي سوسير.

 

وقد نادَى بهذا الاتِّجاهِ اللغوي كلٌّ من الدكتور مندور، وإبراهيم سلامة، والدكتور أنيس في "الفكر اللغوي المعاصر"، يقول الدكتور مندور: "من أنَّ عبدالقاهر يستَنِد في نظرته هذه إلى نظريَّة في اللغة، بأنها تتماشى مع ما توصَّل إليه علمُ اللسان الحديث من آراء، ونقطة البدء تجدها في آخِر كتاب "الدلائل"؛ حيث يُقرِّر ما يُقرِّره علماء اليوم من أنَّ اللغة ليستْ مجموعةً من الألفاظ، بل مجموعة من العلاقات اللغويَّة، وعلى هذا بنى عبدالقاهر كلَّ تفكيره اللغوي التطبيقي"[47].

 

الخاتمة

 

إنَّ عبدالقاهر الجرجاني يضَع منهجًا للفكر البلاغي بعامَّة والفكر اللغوي بخاصَّة من خلال نظريَّة النظم في كتابه "دلائل الإعجاز"، وقد توصَّلت إلى نتائج عدَّة من خِلال البحث في كتابه، وكذا من خِلال كتب عن نظريَّته والنتائج هي:

1- من خِلال تعريف عبدالقاهر الجرجاني للبلاغة، وكذا من خِلال تعريف عُلَماء البلاغة من قبله لها نتبيَّن علاقة علم الدلالة- وهو فرعٌ من فروع علم اللغة- بعلم البلاغة، فإذا كانت البلاغة هي "إصابة المعنى والقصد إلى الحجَّة مع الإيجاز"، والدلالة تعني: العلم الذي يدرس علاقة الرموز بالأشياء التي تنطَبِق عليها، فاللغة في المقام الأوَّل: وسيلةٌ يُعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم ومقاصدهم، وعلم الدلالة يعتَنِي في المقام الأوَّل بالدلالة من خِلال السِّياقات المختلفة، وهذا يدخُل فيه الحال والمقام، وهو ما يَتوافَق مع تعريف البلاغة بأنها مُطابَقة الكلام لمقتَضَى الحال مع فصاحته.

 

2- إنَّ عبدالقاهر الجرجاني من خِلال نظريَّة النظم قد اهتَمَّ بجانبي الصحَّة الداخليَّة (البنية أو الصرف والعلاقات والتراكيب)، والصحَّة الخارجيَّة (المقام أو الحال)، ولا يَخفَى أنَّ اللغة ظاهرة اجتماعيَّة، تتَحدَّد دلالة ألفاظها من خِلال السياق وملابساته.

 

3- ربَط عبدالقاهر الجرجاني بين مستويَيْن من مستويات اللغة: المستوى الأول: مستوى ما قبلَ النطق، والمستوى الثاني: مستوى ما بعد النطق؛ أي: المستوى الذهني الذي يختصُّ به علماء النفس أكثر من علماء اللغة، وهو مستوى اختِيار المعاني والألفاظ الدالَّة وانتِقاء الأفكار، ومستوى النطق وهي العلاقات والتراكيب القائمة على معاني النحو، الذي يخضَع لدراسة اللغة واختصاصها.

 

4- ربَط عبدالقاهر الجرجاني بين مستوى ما قبل النطق، والمستوى اللغوي المنطوق، وبين الحال والمقام والذي تتحقَّق به البلاغة، وهو بذلك ربَط بين الفكر واللغة، وهو بهذا يختَلِف عن سابِقِيه حيث اعتبَرُوا وجهَ الإعجاز في الألفاظ "المنطوق" دون المعاني.

 

5- إنَّ نظريَّة عبدالقاهر تسعى إلى قمَّة سواء سُمِّيت بالقصد أو الغرض أو معنى المعنى، ولا نُدرِك تلك القمَّة إلا من خِلال تفاعُلات مُتواصِلة للدلالات المتشابِكة، بدءًا من دلالات الألفاظ فدلالات العلاقات النحوية، فدلالات الأغراض والمقامات والأحوال، حتى ترسو عند الدلالات الإضافيَّة (المعاني النفسيَّة)، ولا يُمكِن تحقيق ذلك الغرض إلا بالنظر إلى معنى المعنى وحدَه، الناتج عن ربْط الفكر باللغة، وكذا بالمقامات والأحوال.

 

6- تَلاقَي عبدالقاهر الجرجاني مع علماء اللغة المحدَثين بفكره الفذِّ داخل مجال البحث اللغوي في قضيَّة العلاقات القائمة بين الفكر واللغة من أن لا كيان للغة إلا في ذهن الأفراد، ولا وجود للأفكار بدون كلمات، ولا حياة للكلمات بدون أفكار، وبأنَّ اللغة هي أساس الفكر، وأنها طريق الإنسان إلى إدراك الحياة ومعرفة الحقيقة.

 

والله وَلِيُّ التوفيق.

 

ثبت المراجع

 

أولاً الرسائل:

1- الدكتور إبراهيم الدسوقي، جهود البلاغيين العرب في مجالي الأصوات والدلالة في ضوء علم اللغة الحديث (رسالة دكتوراه).

 

2- البدراوي زهران، عبدالقاهر الجرجاني لغويًّا (رسالة ماجستير)، القاهرة 1974م.

 

ثانيًا الكتب:

1- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيين، ج1، ط4؛ تحقيق: عبدالسلام هارون، الخانجي، القاهرة، 1975 م.

 

2- عبدالقاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ط5؛ قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر، الخانجي، القاهرة، 1424 هـ- 1998 م.

 

3- الدكتور محمد أبو موسى، مدخل إلى كتابي عبدالقاهر الجرجاني، ط1 مكتبة وهبة، القاهرة، 1418هـ- 1998 م.

 

4- الدكتور سعيد البحيري، دراسات لغوية وتطبيقية (في العلاقة بين البنية والدلالة)، زهراء الشرق، القاهرة، 1997 م.

 

5- الدكتور أحمد مختار عمر، علم الدلالة، دار العروبة، الكويت، 1982 م.

 

6- الأستاذ وليد محمد مراد، نظرية النظم وقيمتها العلمية في الدراسات اللغوية عند عبدالقاهر الجرجاني، طـ1، دار الفكر، دمشق، 1403 هـ- 1982 م.

 

7- الدكتور محمد مندور، الميزان الجديد، طـ2، القاهرة، 1962.



[1] البدراوي زهران، "عبدالقاهر الجرجاني لغويًّا" (رسالة ماجستير) القاهرة 1974 هـ، ص 3.

[2] السابق ص 5.

[3] السابق، ص 14.

[4] دكتور سعيد بحيري: "دراسة لغوية تطبيقية (في العلاقة بين البنية والدلالة)"، زهراء الشرق القاهرة 1997 ص: 15.

[5] عبدالقاهر الجرجاني: "دلائل الإعجاز"، الخانجي، ط 5 القاهرة: 1424 هـ، 2004 م ص 43.

[6] الدكتور محمد أبو موسى: "مدخل إلى كتابَيْ عبدالقاهر الجرجاني" ط1 مكتبة وهبة القاهرة 1418 هـ، 1998 م، ص 50.

[7] السابق ص 24.

[8] الدكتور: أحمد مختار عمر: "علم الدلالة"، دار العروبة، الكويت، 1982 م، ص 11.

[9] الدكتور إبراهيم الدسوقي: "جهود البلاغيين العرب في مجالي الأصوات والدلالة في ضوء علم اللغة الحديث"، رسالة دكتوراه، ص 87.

[10] الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: "البيان والتبيين"، ج1، ط4؛ تحقيق: عبدالسلام هارون، الخانجي، القاهرة: 1975 ص 151.

[11] "جهود البلاغيين العرب في مجالي الأصوات والدلالة في ضوء علم اللغة الحديث"، ص 93.

[12] دلائل الإعجاز ص 81.

[13] "دلائل الإعجاز"، ص 36.

[14] السابق ص 36.

[15] السابق، ص 43.

[16] السابق، ص: 44.

[17] "مدخل إلى كتابَيْ عبدالقاهر الجرجاني" ص 87.

[18] "دلائل الإعجاز" ص 46.

[19] السابق ص 81.

[20] السابق ص 65.

[21] "مدخل إلى كتابَيْ عبدالقاهر" ص 57.

[22] الدكتور العمري: "المباحث القرآنية في ضوء قضية الإعجاز القرآني" ص 143.

[23] "مدخل إلى كتابَيْ عبدالقاهر" ص 57.

[24] "مدخل إلى كتابَيْ عبدالقاهر"، ص 50.

[25] السابق ص 45.

[26] "دلائل الإعجاز" ص 49.

[27] "دراسات لغوية تطبيقية" ص 176.

[28] "دلائل الإعجاز" ص 45.

[29] "دلائل الإعجاز" ص 64.

[30] السابق، ص 52.

[31] "دراسات لغوية تطبيقية" ص 184.

[32] "دلائل الإعجاز"، ص 64.

[33] "دلائل الإعجاز"، ص 62.

[34] "دلائل الإعجاز": ص 83.

[35] السابق، ص 87.

[36] "دراسات لغوية تطبيقية" ص 188.

[37] "مدخل إلى كتابَيْ عبدالقاهر الجرجاني"، 52، 53.

[38] "دلائل الإعجاز" ص 52.

[39] السابق، ص 84.

[40] السابق، ص 47.

[41] أ. وليد محمد مراد: "نظرية النظم وقيمتها في الدراسات اللغوية"، ط1 دار الفكر، دمشق 1983 م، ص 153.

[42] د. محمد وراد: "محاضرات جامعية" ص 28، و"مجلة المعرفة" عدد 202، ص 90.

[43] "دلائل الإعجاز" ص 25.

[44] "نظرية النظم وقيمتها العلمية في الدراسات اللغوية"، ص 154.

[45] "دلائل الإعجاز"، ص 64.

[46] "دلائل الإعجاز"، ص 308، 265، 280.

[47] الدكتور مندور: "الميزان الجديد"، ص 173، نقلاً عن كتاب: "عبدالقاهر الجرجاني لغويًّا" ص 163.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • التجديد اللغوي الشامل
  • أهمية الحديث النبوي في الدراسات اللغوية والنحوية
  • نظرات تربوية في المسألة اللغوية
  • الكشف عن أصول دلائل الإعجاز للإمام عبدالقاهر الجرجاني
  • التحليل اللغوي: فكرة عامة، وتطبيق
  • فكرة النظم عند عبدالقاهر وغيره من العلماء
  • عبدالقاهر الجرجاني ورأيه في الإعجاز بالنظم
  • عبدالقاهر الجرجاني وكتابه دلائل الإعجاز
  • الغموض الفني لدى عبدالقاهر الجرجاني
  • نظم الكلام البياني عند عبدالقاهر الجرجاني
  • الجر على الجوار في النحو
  • بلاغة الحذف عند عبدالقاهر الجرجاني
  • لمحة عن المقتضيات الفنية عند عبدالقاهر الجرجاني
  • أنوثة اللغة عند الشيخ "عبدالقاهر الجرجاني"

مختارات من الشبكة

  • رعاية الفكر في مواجهة الفكر(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مفهوم الثقافة في الفكر العربي والفكر الغربي (PDF)(كتاب - ثقافة ومعرفة)
  • مقاصد الشريعة بين الفكر الأصولي والفكر الحداثي (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • بين فكر الأزمة وأزمة الفكر(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • ثراء الفكر وفكر الثراء(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة ​​حواشي وشروح على نخبة الفكر(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • الفكر الأخلاقي والدراسات المعاصرة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • معنى الفكر الإسلامي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • اكتساب اللغة بين منهجي: الفكر اللغوي العربي القديم واللسانيات الحديثة (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • خصائص الفكر اللغوي الغربي(مقالة - حضارة الكلمة)

 


تعليقات الزوار
6- ما شاء الله مجهود رائع
احمد جمال أبوأحمد - مصر 26-07-2021 02:43 AM

وفقك الله وبارك فيك
مجهود رأئع جزاك الله خير الجزاء

5- شكر وتقدير
تيسير الامين - السودان 21-09-2017 12:11 AM

في البدء نحمد الله أن وقفنا للاطلاع على مقالاتكم النيرة وأسأله سبحانه أن يجعله ثبتاً في ميزان حسناتكم
وجزاكم الله خيرا.

4- شكرًا
أحمد محمود سعيد - مصر 23-06-2016 05:10 PM

شكرًا لمن اهتمَّ بقراءة هذا البحث البسيط، وشكرًا جزيلا لمن علَّق عليه، جزاكم الله خيرًا.

3- شكر
نبيل الحرجوج - اليمن 23-04-2016 09:42 PM

مجهود رائع يستحق الشكر .
وافر الشكر والعرفان للباحث والموقع .

2- شكر
youcef - alger 09-02-2015 08:30 PM

شكرا جزيلا أخي الكريم على هذا الجهد. بارك الله فيك.

1- شكر
أحمد مصطفى عبدالحليم - مصر 10-06-2011 03:15 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حياك الله أخي أبا دنيا، وجزاك الله خيرًا على هذا البحث الجيد.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب