• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / روافد
علامة باركود

من مذكرات ابن أبي ربيعة: الحقيقة المؤمنة

محمود محمد شاكر

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/9/2010 ميلادي - 9/10/1431 هجري

الزيارات: 12565

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من مذكرات ابن أبي ربيعة

الحقيقة المؤمنة

قال (عمر بن أبي ربيعة): فبادرت أعدو يَكادُ ينشَقُّ عليَّ جِلْدي من شدَّة العَدْوِ، فقد أَكَلَتْ منِّي السِّنُّ وتعرَّقَتْني   [1] أَنيابُ الكِبَر، فما جاوَزْتُ رَوْضة قصر أمير المؤمنين حتى تقطَّعَتْ أنفاسي من الجهد، وتلقَّاني الآذِنُ: ما عدا بك يا أبا الخطاب؟ فقلت: ائذَن لي على أمير المؤمنين (هو الوليد بن عبدالملك)، فقد نزل بنا ما لا ردَّ له، وتبِعتُه، والله إنَّ فرائصي لتُرْعَدُ وكأني محمومٌ قد جرت عليه هبَّةُ ريح باردة، وغاب الآذِنُ، فما هو إلا أمير المؤمنين يستقبِلني كالفَزِع، وقد خرج إليَّ، فقال: أيُّ شيء هو يا ابن أبي ربيعة؟

 

قلت: والله ما أدري يا أمير المؤمنين، فما كان إلا ومحمد بن عروة (بن الزبير) تحت سنابكها، فما زالت تضربه بقوائمها، وما أدركناه إلا وقد تهشَّم وجهُه، وتحطَّمت أضلاعه!

 

وكأنما فارقَتْنِي الرُّوح، فما أشعر إلا وأمير المؤمنين قائِمٌ على رأسي ينضَح الماءَ على وجهي، وقد قُرِّبتْ إليَّ مِجْمرَةٌ يسطع منها ريح المندَلِ الرطِب، فلمَّا أفَقْتُ ورجَعَتْ إليَّ رُوحي سألَني أمير المؤمنين أن أقصَّ عليه الخبرَ.

 

قلت: خرجنا أنا ومحمد بن عروة وهشام أخوه نُرِيد منزلنا من قصر أمير المؤمنين، نرجو أن نتخفَّف من بعض ثيابنا، فقد أنهَكَنا الحرُّ، فنَظَر محمد إلى مرآةٍ من فِضِّة مجلوَّةٍ مُعلَّقةٍ في البيت، ثم قال: أتذكُر يا أبا الخطاب حَجَّتنا تلك، قلت: أيَّتهنَّ؟ فقد أكثرتَ وعمَّك الحج؟ فقال: سرعان ما نسي الشيخ، لقد كبرت والله يا أبا الخطاب، وقد حدثني أبي بالذي كان منك، فقد كنت تُسايِره وتُحادِثه، فلم تلبث أن سألتَه: وأين زينُ المواكب[2] يا أبا عبدالله؟ فقال لك: أمامَك، فأردت تركضُ راحلتك تطلبُنِي، فقال لك: يا أبا الخطاب، أوَلسنا أكْفاءً كِرامًا لمحادثتك، ونحن أَوْلَى أن تُسايِرَنا؟ فقلت له: بلى، بأبي أنت وأمي يا أبا عبدالله، ولكن مُغرًى بهذا الجمال اتَّبعهُ حيث كان، ثم عدلتَ بِراحلتك وضربتَها وأقبلتَ إليَّ، وجعل أبي يتعجَّب منك وَيضحك، وقد استنار وجهه، إحدى سوءاتك هي والله يا أبا الخطاب.

 

فضحكت لقوله وتناقَلْنا الحديث، وإذا هو ساكنٌ ساجٍ كأنما غشِيَتْه غاشيةُ همٍّ، فقلت: ما بك يا محمد؟ فزفر والله يا أمير المؤمنين زفرةً كأنما انشقَّت لها كَبِدي، ثم قال: أرأيت هذا الجمال الذي تبعته يا أبا الخطاب، يُوشِك أن يكون طعامًا يلحَسُه تراب القبر، فما ترى إلا عظمًا أغبر من جمجمة تقذف الرعب من محجريها، لقد رَوَّعنِي والله يا أمير المؤمنين حتى تطيَّرتُ وما بيَ الطيرَة، فأردت أن أصرفه عن بعض وهمه أن يكون الصيف قد أوْقَد عليه حرَّه فحيَّره، فانطلقنا جميعًا (يعني: هو وهشام ومحمد) إلى سطح البيت نستظلُّ بظلَّته ونستَرْوِح النسمات، وأقبلنا نضحك ونعبث ونلهو من بعض اللهو، وإذا طائر يَحوم يصفِّق بجناحيه، ثم رنَّق فكسرهما من الإعياء، ثم سقط، ثم درج، ثم اضطرَب قد كاد يقتله الظمأ، فجرَى إليه (محمد) ليأخذه فَيبُلُّ ظمَأَه، فخفَّ الطائر فهوَى إليه محمد ليُدرِكه، فما نرى والله محمدًا، قد اختطَفَه أجَلُه فجذَبَه فهوَى به إلى إصطبل الدواب، فيقع بينها فيثيرها فتَهِيج، وإذا (زين المواكب) تحت سنابكها تضربه، فما أدركناه والله يا أمير المؤمنين إلا جثَّة قد ذهب رأسُها، وما نرى إلا الدم - رحمة الله عليه - لقد...

 

قال أمير المؤمنين: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فكيف نحتال لهذا الأمر يا ابن أبي ربيعة؟ قلت: فيمَ الحيلة يا أمير المؤمنين وقد ذهب القدَر بما يُحتال له؟

 

فقال: أههنا أنت يا عمر، نمتَ وسار الرَّكْبُ، هذا أبوه أبو عبدالله شيخ كبير يُوشِك أن يُصاب في نفسه.

قلت: يا أمير المؤمنين، هذا مُصَابُه في ابنه، فما مُصَابُه في نفسه إلا أن يكون الخبَر إذ يبلغه؟ وسأحتال له.

 

قال أمير المؤمنين: مهلاً يا عمر، لقد علمت أن أبا عبدالله (عروة بن الزبير بن العوام) كان قد اشتَكَى رجله وما زال يشتكي، فبينا نحن الساعةَ جلوسٌ إذ دخل علينا (أبو الحكم) الطبيب النصراني، فاستأذنت أبا عبدالله أن يدع (أبا الحكم) حتى يرى علَّة رجلِه، فما راعَنَا إلا (أبو الحكم) يقول: إنها الأكلة، وإنها قد ارتفعت تريد الركبة، وإنها إذا بلغت الركبة أفسَدَتْ عليه جسده كله فقتلَتْه، فما بُدٌّ من أن تُقطَع رجله الساعة؛ خشيةَ أن تدبَّ الأكَلَة إلى حيث لا ينفع القطْع ولا البتْر.

 

فوجَمتُ والله لهذا البلاء، وقد اختلف به القدر على شيخ مثل أبي عبدالله في إدبارٍ من العمر، وأخذ أمير المؤمنين بيدي وقام، فدخلنا مجلس الخلافة، وإذا وجوه الناس قد جلسوا إلى عُرْوة أبي عبدالله يُواسُونه ويُصبِّرونه ويُذَكِّرونه بقدَر الله خيرِه وشرِّه، وإذا فيهم سليمان بن عبدالملك أخو أمير المؤمنين، وعمر بن عبدالعزيز، والقاسم بن محمد، وعبدالله بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وقد حضَرَه ولده هشام فأرَمَّ[3] قد انتُسِف لونه من الحزن على أخيه والرحمة لأبيه، وأقبَلَ أمير المؤمنين وأنا معه على عروة، فتفرَّق الناس إلى مجالسهم، وإذا عُرْوة كأنْ ليس به شيء، يرفُّ وجهه كأنه فلْقة قمر، وهو يضحك ويقول: لقد كرهت يا أمير المؤمنين أن يقطعوا مِنِّي عضوًا يَحُطُّ عنِّي بعض ذنوبي، فقد حُدِّثنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123]؛ فكل سوءِ عملناهُ جُزِينا به، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((غفر الله لك يا أبا بكر، ألستَ تَمَرضُ؟ ألستَ تَنْصَبُ؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأْوَاءُ[4]؟))، قال: بلى يا رسول الله، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فهو ما تُجزَون به، فإن ذاك بذاك))، لَوَدِدت - يا أمير المؤمنين - أنها بقِيَتْ بِدائها فهي كفارة تحتُّ الذَّنْب.

 

قال أمير المؤمنين: غفَر الله لك، غفَر الله لك، وما أعجبُ لصبرك، فأُمُّك أسماء بنت أبي بكر الصديق (ذات النِّطاقَين)، وأبوك حَوَاريُّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وابن عمَّته الزبير بن العوام، فرضي الله عنك وأرضاك يا أبا عبدالله.

 

فما كدنا حتى أقبَل أبو الحكم، وهو شيخ نصرانيٌّ طويل فارعٌ مَشبوحُ[5] العظام، قد تخدَّد لحمه، أحمرُ أزْهرُ أصلع الرأس إلا شعرات بيضًا قد بقِيَتْ له، كثُّ اللحية طويلها، لو ضربَتْها الرِّيح لطارَتْ به، ودخل أبو الحَكَم وراء لحيته وهي تسعى بين يديه، حتى وقف على عروة بن الزبير فقال: لا بُدَّ ممَّا ليس منه بُدٌّ يا أبا عبدالله، وإني والله لأرحمك وأخشى أن يبلُغ منك الجهد، فما أرى لك إلا أن نسقيك الخمر حتى لا تجد بها ألَمَ القطع، قال عروة: أَبْعدَكَ الله من شيخ، وبئس والله ما رأيت! إنَّا والله ما نحبُّ أن يرانا الله بحيث نستعين بحرامه على ما نرجو من عافيته، قال أبو الحكم: فنسقيك المُرْقِدَ[6]، يا أبا عبدالله، قال عروة: ما أحبُّ أن أُسْلَبَ عضوًا من أعضائي وأنا لا أجد أَلَم ذلك فأحتسبه عند الله.

 

قال أبو الحكم: وقَاك الله يا أبا عبدالله، لقد ألَنْتَ منَّا قلوبًا كانت قاسية، ثم التَفَتَ (أبو الحكم) إلى رجال سُود غِلاظ شداد قد وقفوا ناحِيَة، فقال: أقبِلوا، فأقبَلوا، فأخذَتْهم عينُ عروة فأنكَرَهم، فقال: ما هؤلاء؟ فقال أبو الحكم: يُمسِكونك، فإن الألم ربما عزب[7] معه الصبر، قال عروة: أمَا تُقلِع أيها الشيخ عن باطِلك، انصرفوا - يرحمكم الله - وإني لأرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي، ولا والله ما يسَعُنِي أن هذا الحائط وقَاني أذاها فاحتَمَل عنِّي ألَمَها، أقبِلْ يا أبا الحكم، وخُذْ فيما جئت له؛ ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 193- 194].

 

فرأيت أبا الحكم وقد برق وجهه وتوقَّد كأنما أسلم بعد كفر، ثم نشر درجًا كان في يده، وأخرج منشارًا دقيقًا طويلاً صقيلاً يضحك فيه الشعاع، ووُضِع الطسْت ومَدَّ أبو عبدالله رجْله على الطَّسْتِ وهو يقول: باسم الله، والحمد الله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله؛ ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ﴾ [البقرة: 286]، تقدَّم يا أبا الحَكَم فقد احتسبتها لله، فما بَقِيَ والله أحدٌ في المجلس إلا استَدَار ودفن وجهه في كفَّيْه، وبكى القوم فعَلاَ نشيجُهم، وإن عروةَ لساكِن قارٌّ ينظر إلى ما يُرادُ به، وكأنما مَلَكٌ قد جاء إلى الأرض يستقبِل آلامَها بروح من السماء، ووضع أبو الحكم منشاره في اللحم إلى العظم، وإن عروة لصائم يومه ذاك، فما تضوَّر وجهُه ولا تقبَّض، والمنشار يأكل في عظمه الحي، وما يزيد على أن يُهَلِّل ويُكَبِّر ويُسَبِّح، وكأن الدار والله قد أضاء جوُّها كأنه شعاع ينسَكِب من تهليله وتكبيره، ودخل رجال يحملون مغارف من حديد يَفُور منها ريح الزيت وقد غلي فيها على النار، ودنوا، فما هو إلا أن فرغ أبو الحكم وقد فار الدم منها وتفجَّر مثل الينبوع، فأخَذَها أبو الحكم يغمسها في الزيت فيسمع نشيشها فيه حتى حسم الدم، وإذا عروة قد غُشِي عليه، وإذا وجهه قد صفِر من الدم، وقد نجِدَ[8] فنَضَح وجهُه بالعرق، ولكنه بقي مُشرِقًا نيِّرًا يرفُّ كأنه عَرارة[9] تحت الندى، قال أبو الحكم: ما رأيت كاليوم يا أمير المؤمنين إنه الرجل، وإنها الحقيقة المؤمِنة، وإن إيمانه ليَحُوطُه ويثبِّته ويسكِّنه وينفُض عنه الجزع، ثم التفت إلى عروة يقول: جزاك الله خيرًا يا أبا عبدالله، لأَنت والله تمثال الصبر في إهاب رجل.

 

وما لبثنا حتى إذا أفاق أبو عبدالله جلس يقول: لا إله إلا الله، والحمد لله، ويمسح عن وجهه النوم والعرق بكفيه، وينظر فيرى قدمه في يد رجلٍ يهمُّ أن يخرج بها فيناديه: على رِسْلِك أيها الرجل، أرِني ما تحمل، فيأخذ قدمه في يده فيرنو إليها وقد سكن وحرَّك شفتيه، ثم يقلِّبها في يده، ثم يقول لها: أمَا والذي حمَلَنِي عليك، لقد علمتِ أني ما مشيت بك إلى حرام ولا معصية، اللهم هذه نعمةٌ أنعمت بها عليَّ، ثم سلبتَنِيها، أحتسبُها عندك راضيًا مطمئنًّا إنك أنت الغفور الرحيم، خذها أيها الرجل، ثم أضاء وجهه بالإيمان والصبر عن مثل الدُّرَّة في شعاع الشمس.

 

قال أمير المؤمنين: غفر الله لك يا أبا عبدالله، وإن في الناس لَمَن هو أعظم بلاءً منك، يا عمر (يريد: عمر بن عبدالعزيز)، نادِ الرجل من أخوالي (يعني: من بني عَبْس)، فيُقبِل عمر معه رجلٌ ضريرٌ محطومُ الوجهِ لا تُرى إلاَّ دمامته، فيقول لهُ أمير المؤمنين: حدِّثْ أبا عبدالله بخبرك يا أبا صعصعة، فيلتفت الرجل إلى عُرْوة ويُقبِل عليه فيقول: ابنَ الزُّبير، قد والله لقيتَ البلاءَ، يا فقيه المدينة، وابن حواريِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإني والله محدِّثك عنِّي بخبري عسى أن يرفع عنك، فقد بِتُّ ليلة في بطن وادٍ، ولا أعلم عَبسيًّا في الأرض يَزِيد ماله على مالي، فطرَقَنَا سيلٌ جارِفٌ كأنه الطوفان، يتقاذَف بين يديه موجًا كالجبال، فذهَبَ بما كان لي من أهل ومال وولد، إلا صبيًّا مولودًا وبعيرًا نِضوًا ضعيفًا، فندَّ البعيرُ يومًا والصبيُّ معي، فوضعته واتَّبعت البعير أطلبه، فما جاوزت ابني قليلاً إلا ورأسُ الذئب في بطنه قد بعَجَها بأنيابه العُصل فاستَلَّ أحشاءه، وإن الصغير ليصرخ، ويركض برجليه الأرض، فكدت والله أسوخ في الأرض ممَّا رأيت، ولكن ذكرت الله واستعنته واحتسبتُ الصغير فتركته لقدَر الله واتَّبعت البعير، فهممت آخذ بذنبه وقد أدركته، فرمحني رمحةً حطم بها وجهي وأذهب عينَيَّ، فأصبحت لا ذا مال ولا ذا ولد ولا ذا بصر، وإني أحمد الله إليك، يا أبا عبدالله، فاصبِر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور، قال عُروة: لقد أفضل الله عليك يا أبا صعصعة، وإني لأرجو لك الجنة.

 

قال عمر بن أبي ربيعة: وألاَح إليَّ أمير المؤمنين أن أَقبِل، فدنوت إليه فأسرَّ إليَّ: إنْ أردت الحيلة فقد أمكَنتُك، فاذهب إلى أبي عبدالله فانْعِ إليه ولدَه (زين المواكب)، قلت: هو والله الرأي يا أمير المؤمنين، ثم مضيت إلى عروة وقد غلبَتْنِي عيناي بالبكاءِ.

 

فلمَّا قاربته قلت: عزاءك يا أبا عبدالله، قال عروة: فيمَ تعزِّيني يا أبا الخطاب؟ إن كنت تعزيني برجلي فقد احتسبتُها لله، قلت: رضي الله عنك، بأبي أنت وأمي، بل أعزِّيك (بزيْن المواكب)، فدهش وتلفَّت ولم يرَ إلا هشامًا ولده، فرأيت في وجهه المعرفة ثم هدأ فقال: ما له يا أبا الخطاب؟ فجلست إليه وتحلَّق الناس حوالينا وتكنَّفُونا، وأخذت أحدِّثه بشأنه، ووالله ما يزيد علي أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، فلمَّا فرغت من خبري ما زاد على أن قال:

وَكُنْتُ إِذَا الأَيَّامُ أَحْدَثْنَ هَالِكًا
أَقُولُ شَوًى مَا لَمْ يُصِبْنَ حَمِيمِي[10]

 

ثم رفع وجهه إلى السماء وقد تندَّت عيناه ثم قال: اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدًا وأبقيت لي ثلاثة، فلك الحمد فيما أخذت وأبقيت، اللهم أخذت عضوًا وتركت أعضاء، وأخذت ابنًا وتركت أبناء، وايْمُ الله لئن كنت أخذت لقد أبقيتَ، ولئن ابتَلَيت لطالما عافَيت، سبحانك ربنا إليك المصير.

 

قوموا إلى جهاز أخيكم - يرحمكم الله - وانظروا لا تكون عليه نائحة ولا مُعْوِلة؛ فإن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عن النياحة، ومُرُوهنَّ بالصبر للصدمة؛ فإن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أتى على امرأة تبكي صبيًّا لها فقال لها: ((اتقي الله واصبري))، فقالت: وما تُبالِي بمصيبتي! فلمَّا ذهب قِيل لها: إنه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخذها مثل الموت، فأتَتْ بابه فلم تجد على بابه بوَّابين فقالت: يا رسول الله، لم أعرِفْكَ، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما الصبر عند أوَّل الصدمة)).

 

وجزاك الله خيرًا عنِّي وعن ولدي يا أمير المؤمنين، ﴿ فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾ [الجاثية: 36 - 37].


 

[1] تعرَّق فلانٌ العَظْمَ: أخذ عنه اللحم.

[2] كان محمد بن عروة يُسَمَّى زين المواكب، ربما لجماله وبهائه.

[3] أَرَمَّ: جلس ساكنًا لا يتحرَّك.

[4] اللأَوْاءَ: الشدَّة.

[5] مشبوح: عريض.

[6] المُرْقِد: شيء يُشرَب فيُنَوِّمُ مَنْ شربه ويُرْقِدُه.

[7] عزب (من باب ضرب ونصر): بَعُدَ.

[8] نجد: سال عَرَقُه.

[9] العَرارة: نبتة طيبة الريح، وهي النرجس البرِّي.

[10] الشَّوَى: اليسير الهيِّن.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • من مذكرات عمر بن أبي ربيعة
  • من مذكرات عمر بن أبي ربيعة ( أيام حزينة )
  • لا تردوا الحق
  • يا ربيعة ألا تتزوج (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • عن رواية: مذكرات رجل أخرق(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من مذكرات شخص ما(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • مذكرات مدخن (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مذكرات مدخن (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مسودات على مذكرات الحديث وعلومه كلية أسيوط – جامعة الأزهر(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إعجاز القرآن الكريم (مذكرات في علوم التفسير - 5)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مذكرات في علوم التفسير (4)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مذكرات في علوم التفسير (3)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مذكرات في علوم التفسير (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مذكرات في علوم التفسير (1)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب