• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    التأويل بالحال السببي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / روافد
علامة باركود

في الماضي

محمود محمد شاكر

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 11/9/2010 ميلادي - 2/10/1431 هجري

الزيارات: 5281

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

كنت أتمنَّى أن يكون لي مكان هذا القلم الأصمِّ قلمٌ حي نابض يَصحبني حيثما سِرْتُ، ويُلهمه الله من دِقَّة الحسِّ ما يجعله يتلقَّف كلَّ خاطرة تومِض في أعماق نفسي، ويَشعر بكلِّ هاجس يعتلُّ في سرِّ ضميري، وإلا فإنَّ الكاتبَ ذا القلم أعجزُ من أن يُطيق لَمَّ هذا الشعثِ المنثال المتتابع مِن الخواطر والهواجس التي تَنْتابه وتعتريه، وهو يرَى أو يسمع أو يفكِّر.

 

وفي هذا اليوم بِعَيْنه كنتُ أشدَّ الناسِ ضراعةً في التمنِّي أنْ لو أتاح الله لي مثلَ هذا القلم النابض الحي، حتى يأخذَ عنِّي وعمَّا يُحيط بي، ويُسجِّلَه قبل أن تمسحَه عن قلبي يدُ الدقائق والساعات التي جعلها الزمن رصدًا على الأفكار تمحوها بالنِّسيان، أو تطمسها بالفتور، أو تعفيها بتُراب الحوادث التي تجدُّ في كلِّ لحظة من لحظات العمر.

 

خرجتُ أنا وصديقان لي، هما الأستاذ علاَّل الفاسي الزعيم المراكشي الصابر على لأواء[1] الجِهاد في سبيل بلاده، والأستاذ يحيى حقِّي القصَّاص المبدِع في زمنٍ ليس للإبداع فيه قيمةٌ ولا قدْر، وكان الذي دعانا إلى هذا الخروجِ فنَّانٌ كهل قد ودَّع الصبا، ولكنَّه تشبَّث بعطرِه ونفحاته وتوهُّجه، فلا تزال تَشَمُّ من فنه حين يتحدَّث عنه شَذًا لطيفًا من عنفوان الصِّبا والشباب، وذلك الفنان هو الصَّديق الأستاذ حسن فتحي المهندس، الذي أبَى أن يتعبَّد للهندسة، بل أرادها أن تكونَ عبدًا له يخدم فنَّه الذي يعيش فيه، ويعيش به.

 

كان يومُ الأحد السادس عشر من رمضان سنة 1366، يومًا قائظًا ومدًّا[2]، يجعل العَرَق ثقيلاً كثيفًا يُضجر النفس، ويأخذ بالأنفاس، فلمَّا ركبْنا السيارة، وتخفَّفنا من بعض ثيابنا، واستقبلتنا لفحاتُ الهواء الساخِن، انتعشتِ القلوب، ودبَّت فيها الحركة، على سكونها وفتورها مِن شدَّة الصيام، وحاجة الأبدان إلى الماء في مِثل هذا اليوم، وعندئذٍ بدأ الفنَّان يتحدَّث عن الوجه الذي يقودنا إليه، فطاف علينا مِن حديثه مثل الظل، حتى نسينا أنَّنا في رمضانَ في يوم قائظٍ تحت الشمس.

 

إنَّه ماضٍ بنا إلى أثَر عربي قديم في ناحية (بيت القاضي) يُقال له: (قاعة محب الدين الشافعي)، وتُعرف أيضًا بقاعة (كتخدا)، فلمَّا أوشكْنا على دخول القاهرة القديمة، شممتُ روائحَ مصر الإسلامية، وتمثَّلتْ لعيني خوالي أيَّامها، ورأيتُ كأنَّ هذه الجموع التي تسير في الطرقات كأنَّما انبعثتْ من الماضي البعيد بلِباسها وشمائلها وآدابها، رائحةً غاديةً تحتَ عيني، وكان حديثُ الفنَّان يُحْيي هذه الصورَ في نفسي حياةً جديدة، حتى كِدت إخالني أُحدِّثها وأسمع رجعَ حديثها، وأرى الثياب الفَضْفاضة، والعمائمَ البِيض، واللِّحى المرسلة، والسَّمْت الوقور، والمشية الهادئة، وكأنَّ كلَّ شيء قد انقلبَ فجأةً فصار ماضيًا لم تمسخْه يدُ الحضارة الغربية الحديثة، ولم تمحُ مِن بهائه وروائه ذلك الجمالَ الوديع اللطيف المطمئن، القانعَ بالحياة كما شاء الله أن تكون.

 

ثم نزلْنا مِن السيَّارة، وفُتِح لنا بابُ القاعة التي صارتْ في عداد الآثار، فما كادتْ قدمي تطأ بلاطَها الضخم حتى أحسستُ كأنَّ قلبي ينتفض من فُجاءة الذِّكرى، وكأني دخلتُ داري التي ألفتُها وعشتُ فيها، وسمعتُ في أرجائها غمغمةَ الحديث، وقهقهة الضَّحكات، والتي سعيتُ في نواحيها طفلاً وشابًّا وكهلاً، حتى نشأتْ لها في قلبي مودةٌ لا تبليها الغُربة، ولا تطمس آثارَها الرحلةُ في أرجاء الدنيا، وتطارح الزمن المشِت المفرِّق بيْن الأحباب والأحباب، ففي هذا المكان عهدتني أجلس على أريكة موشاةٍ بالثياب المطرَّزة، وأستقبل هذه (الفسقية) الجميلة التي أراها في وسطِ القاعة، مزيَّنة أرضُها بالرخام الملوَّن المرسوم على أشكال تستريح إليها العينُ راحةً لا يَعدِلُها شيء مِن متاع هذه الأرض.

 

ومِن هذا المكان عهدتُني أرى تلك الحِلية الهائلة التي كأنها محرابُ الدهر، مصنوعة منمَّقة، قد أجلَّها وأدقَّها الصَّنَعُ الماهر الذي لم يعبأْ بالزمن كيف يمضي ويتصرَّم، بل كان كلُّ همِّه أن يُتقن الفن الجميل الثابت، الذي يُريك الإبداعَ في صورة حيَّة باقيةٍ، تشعرك بأنَّ الحياةَ هي الاستمتاعُ بفنِّ الحياة، لا بأشياء الحياة.

 

ومِن هذا المكان كنتُ أُرْسل طرْفي إلى القُبَّة العالية، التي تتوسَّط السقف كأنَّها هامَة مفكِّرة، كلُّ أفكارها أحلامٌ جميلة سامية، لَم تتدنسْ بالمطامع الدنيَّة التي يكدَح في سبيلها الإنسانُ على أديم هذه البسيطة.

 

وجعل صديقُنا الفنَّان يُحدِّثنا وهو يتدفَّق مِن نواحيه عن رَوْعة هذا الذي نرى، وعن جلاله وعظمته، وعن هذه الضخامةِ الهائلة في البِناء، وكيف استطاع بانيها الفنانُ أن يحفظَ النِّسبَ بين ضخامتها وبيْن سائر ما في القاعة، كالأبواب وغيرها، حتى لا يشعرَ الإنسان بالرَّهْبة والمخافة والارْتياع، بل يُشعرُه بأنَّه مالك هذا كلِّه والمستولي عليه، والمستمتع به، فهو يُروِّض الفخامةَ والضخامة حتى تكونَ أليفةً مستأنسة محبَّة إلى رائيها وصاحبها، فجعل الأبوابَ بيْن بيْن لا تطول قامةَ الرجل إلا قليلاً، ولَم يجعلها هي أيضًا عاليةً ضخمة فخْمة، فيحس المرء عندئذٍ بالقِلَّة والذلة، والغُرْبة والوحشة في البيت الذي هو سكنُ النفْس، ومكان ارتياحها؛ وكنتُ أسمع هذا ونحوًا منه؛ ولكن لم يأخذْني منه شيء، فإني كنتُ أسمع همساتٍ مِن هنا وهنا ومِن ثَم، هي همساتُ الآباء والأجداد، تُذكِّرني بما أضعْناه مِن فنٍّ نحنُ أنشأْناه وتعهدناه، وقُمْنا عليه، وأتقنَّا دقيقه وجليله، ثم رُحْنا نستعير أشياءَ الناس نتشبَّع بها ونتصنَّع، على غير هُدًى ولا بصيرة، ولا فنٍّ، وأكاد أقول: ولا حياة، فنحن أحياء ولا أحياء؛ لأنَّنا نستعير حياتَنا ولا نُنشئها إنشاءً، ونتزين بزينة مسلوبة نحن فيها كالصُّعلوك الأشعث الأغبر في ثياب مَلِك.

 

كنتُ أسمع حديث الأسلاف، وأسمع في صوتِ صديقنا الفنانِ وهو يشرح ويبيِّن بكاءً وحسراتٍ، وتنهداتٍ وآلامًا، كأنَّه وقف يؤبِّن أعزَّ أحبابه متجلدًا خاشعًا بيْن أقوام لا يحسُّون ما يحسُّ، ولا يشعرون بما يشعر به، إنه خليقٌ أن ييئس، ولكنَّه يجاهد حتى ينتزعَ الأمل من بيْن دواعي اليأس، يريد أن يستنقذَ الدُّرَّة المضيئة قبل أن تلفَّها الأمواج الطاغية العاتية، وتذهب بها إلى حيثُ لا رجعة.

 

كنتُ كالمأخوذ لا أُريد أن أُفارِقَ هذا الملك الذي أعيشُ في رِحابه، إنها قاعةٌ صغيرة، ولكنَّها قد اتَّسعتْ حتى رأيتُها تشمل كلَّ هذه الأرض المِصريَّة؛ لأنَّ كلَّ شيء فيها منتزَع من طبيعة الأرض وجوِّها وسمائها، وأيَّامِها وليالِيها، واختلاف فصولها، ومِن طبائع أهلها، وشمائلهم ونوازعِ قلوبهم، ومِن كل شيء يقول: أنا مصريٌّ عربيٌّ.

 

وأخيرًا فارقتُها على رغْم، ولم أدرِ حتى انتهينا أو انتهتْ بنا السيَّارة إلى قاعة أخرى، أو أثر آخَرَ بُني بعدَ جيل من زمان هذه القاعة، فكان الفَرْق بيِّنًا.

 

فقد أخذ الضعْفُ يغزو القوَّة، ولكن القوَّة أبَتْ إلا أن تَتَبَدَّى كما هي، برغم هذه الطوارئ التي تنتابها أو تعمل فيها، فها هنا أثرُ الضَّعْف الإنساني إذا بدأ الإنسانُ يشعر بأنَّه غيرُ حرٍّ، وغير مريد للحرية، وأنَّه مروَّع في حياته بشيء لا يملِك له دفعًا ولا ردًّا، فهو يتخاذل، وكذلك يتخاذل فنُّه، ويتخاذل بناؤه، وهو حائرٌ لا يَدري ما يأتي وما يذر، فإذا فنُّه حائرٌ لا يَدري ما يأتي وما يذر، وهو مختلطُ الإرادة، وإذا فنُّه مختلط، يأخذ بأسبابها الأولى، ولكنَّه لا يلبث أن يَحيدَ عنها إلى شيءٍ ليس منه، ولا مِن خاصِّ طبائعه، ومع كلِّ ذلك فإنَّ النفحةَ الخالدة لا تزال عالقةً به تجعله قُوَّة صريحة مصمِّمة، مريدةً للبقاء.

 

ثم خرجْنا إلى آخِرِ أثر زُرْناه، وهو (بيت السحيمي)، وهو بيْتٌ كامل - لا قاعة ولا جزء من بيْت - وأخَذْنا نطوف في أرجائه ونواحيه، فهذه غُرْفةُ الضيوف، وهذا مصلَّى الرِّجال، وهذا مكان الطعام، وهذه غُرْفة استقبال النِّساء، وهذه غُرف النَّوْم، وهذا مصلَّى النِّساء، وكلها موزَّعة على مساحة الأرض في الطابق الأسفل والأعلى على نِظامٍ هندسي، فيه شيءٌ من التحرُّر من أَسْر الهندسة الدقيقة، فتكاد تشعر بأنَّ بانيَه لَم يكن يُبالي أن يتقيَّد بشيء، بل يُريد أن يكون حرًّا طليقًا، يُفضِي من مكانٍ إلى مكان كما يشاء له هواه.

 

وكنتُ كلَّما دخلتُ منها مكانًا أحسستُ بشيءٍ فيه يناديني، فلمَّا دخلْنا القاعة الأولى هتَفَ بي الهاتفُ إلى الصلاة، فقُمْنا نصلي، فكأنِّي ما صليتُ في دارٍ قطُّ سوى هذه الدار، إنَّ في البناء رُوحًا إسلاميَّة عجيبة، فيه وَرَع وصِدق ومحبَّة، وتخفُّف مِن ثِقل هذه التكاليف الداعية إلى الكَدْح والطَّمع والعدوان، وفيه ألْفة لم أحسَّ بمثلها قطُّ، ولم أشعرْ إلا يومئذٍ أنَّ أصدقائي الذين معي هم أصدقائي لا مَعارفي، ألْقاهم بوجه، وأستدبرهم بوجه، ولم أجدْ إلا يومئذٍ تلك اللذةَ المنعِشة بالأُخوَّة تجمَع بين الرَّجلين على اختلاف الدَّار والنشأة، وخفَق قلْبي خفقةً كأنَّه يقول لعلال الفاسي: مرحبًا بك مِن أخٍ جمعتْ بيني وبينه أُخوَّةُ هذا الدِّين النبيل، الذي جعل أهلَه أمَّةً واحدة، فكانت خيرَ أمَّة أُخرجتْ للناس.

 

ومضيْنا نطوف بالدار العجيبة، فكأنِّي كنتُ أسمع حِسَّ أهلها وهم يتنادَون، وأراهم وهم يسعَوْن، وأشهد إماءَهم وعبيدَهم وهم يطوفون عليهم، وأرَى الضيوف وهم يتسامرون، فلمَّا دخلتُ غُرفةَ استقبال النساء، ورأيتُ الذَّوْق اللطيف، والنوافذ عليها المشربيات الدقيقة الصُّنْع، والخزَّانات القائمة في الجُدران بنقشها البديع، ورأيت (الصُّفَّة) التي يلمع رخامها، وتتحلَّى بزينة مِن رُسومها الدقيقة وأعمدتها القائمة كأنَّها ساقُ غانيةٍ راقصة، ورأيتُ ذلك الزُّجاج الملوَّن بالألوان الهادِئة الناعِمة، وهذا الجوَّ الساطع بالغِنى والنعمة، الساكن بالوقار والطُّمأنينة، الناعم بالرِّقَّة والجمال؛ عندئذٍ أَخَذني مثل الحُلم فرأيتُ ربَّةَ الدار في حُلِّيها الأنيق، وثيابها الموشاة، وضفائرها المرسَلة، ووجه يُنير في جنباتِ هذه القاعة بالنُّبل والكَرَم والحفاوة بضيوفه من الأصحاب والأحباب، وسمعتُ حَديثهنَّ المتخافِت باللفظ المرقَّق، والصوت الناعم المنغَّم، وانتهتْ إليَّ ضحكاتُهنَّ الحيية التي كأنها ابتسامةٌ مشرِقة من وراء نِقاب.

 

رأيتُ الماضي ينبعث كلُّه بفضائله ورذائله، ورأيتُني أعيشُ ساعةً أتنسم نسماتِ من حياة أجدُها في دمي، كما يجدُها كلُّ مصري وعربي في دَمِه، ولكنَّنا كِدْنا ننساها بطول التَّرْك، وقلَّة العمل على استحيائها واستنقاذها واستعادتها، حتى نتعلمَ منها كيف نكون أحرارًا في التعبير عن سِرِّ طبائعنا الكامنة في أعماق قلوبنا وضمائرنا.

 

إنَّ هذا الفنَّ الذي أوحتْ به حضارةٌ لها أصولٌ لا تزال قائمةً في نفوسنا، وفي تُربة أرْضنا، وفي جوِّ سمائنا - ينبغي أن ينبعثَ جديرًا مرَّة أخرى بما يُلائم حاجتَنا، وبما يُعينُنا على تمييز أنفسنا بيْن الناس، فلا ندخل في غِمار حضارات الأُمم التي لا يجمع بيننا وبينها وطنٌ، ولا خُلُق ولا دِين ولا أدبٌ، ولا جنس ولا دم، ولا شيءِّ مما يتقارب به الناس أو يختلفون، وتمنيتُ عندئذ أن أُفيقَ مِن أحلامي، فأجدني قد رجعتُ إلى داري، فإذا هي تنفحُني بهذه النفحات التي تُحيي النفس؛ لأنَّ فيها شيئًا مِن سرِّ هذه النَّفْس، فلمَّا خرجْنا من بيت السحيمي، حقَّق الله طَرَفًا مِن هذه الأمنية.

 

لقدْ حملَنا صديقُنا الفنَّان إلى داره، وهي في عمارةٍ كسائر عمارات القاهرة في ظاهرها، وهو يسكن منها شقةً كسائر الشُّقق التي يسكنها سائرُ المصريِّين، بَيْد أنَّ المصريِّين يعيشون عبيدًا لهذه الهندسة الغربيَّة الغريبَة عن بلادِهم، ويَسكُنون فيها إلى أنماطٍ منَ الحياة ليستْ لهم، وليسوا منها في شيء.

 

أمَّا هو فما كاد يَفتح لي الباب حتى هبَّتْ تلك النفحة المسكِرة من الماضي المنبعِث حيًّا نابضًا كأحسنِ ما تنبض الحياة، لقد رُفِعتْ هذه الأبواب الحديثة الثقيلة، ووُضِعتْ مكانَها الستائرُ مِن النسيج العربي الشَّرْقي بألوانه وتقاسيمه وفنِّه، ووُضِع مكانَ بعضها أبوابٌ مشبَّكة، وأُقيمتْ هنا وهنا المشربيَّات الدقيقة، وبُسِطت الأرْض بالبُسُط العربية الرسم، المصريَّة الصنع، وهذه الأرائك والمناضِد والقناديل، وكل شيء يجعل البيت عربيًّا هادئًا مطمئنًّا في وسط هذه المَعْمعة الطاحِنة الفوَّارة التي تَسحَق طبائعنا، وتمسخ قلوبَنا، وتُحيل أذواقَنا، وتجعلنا عالةً على الأمم، نأخذ منها عارية[3] لا تَزيدُنا حضارة، بل تَزيد بؤسًا وشقاءً، وحيرةً ونفورًا، وقَلقًا في هذه الحياة، وفي هذه الأرض، وفي هذه الطبيعية التي تَكتنِفُنا مِن حولنا، وفي هذه الطبائع التي تستولي على دَخائلنا وضمائرِنا.

 

هذا بيتي، هكذا قال لي قلبي، فاطمأننتُ، وكان الصوم والتَّعب قد بلغَا منا جميعًا، فآوينا إلى مضاجعنا، فلمَّا قُمْنا إلى إفطارنا، وأُضيئتِ القناديل (بالكهرباء)، ورأيتُ ظلال المشبك على الجدران، وطالعتْني المشربية مِن ناحية البيت، رأيتني أحيَا في هذا الغموض الهادئ بقلْبٍ جديد نابض، مؤمِّل في الحياة مستبشر، راضٍ عنها غيرِ يائس منها.

 

وتَمَنَّيتُ لكلِّ مصريّ أن يقضيَ في الماضي يومًا من كلِّ أسبوع حتى يجدِّد حياته، وحتى يُتاح لنا بذلك أن نجدِّد لأنفسنا فنًّا وعيشة، وسيرة وحضارة ليستْ مسلوبةً ولا منتزعة، ولا مستعارة مِن أحد مِن خَلْق الله؛ بل هي فنّنا نحن، وعيشتنا نحن وحضارتنا نحن، تألفُها نفوسنا وقلوبنا، ويَعرفُنا الناس بها، وتكون عَلَمًا علينا، وتدلُّ على أننا نصنع الفنَّ فنُجيد، ونبني الحضارة فنُبدع كما أبدع آباؤنا - رضي الله عنهم.

 

يوم واحد تعيشه في الماضي، وتحسُّ أنَّك قد عشتَه وتملَّيتَ بالعيش فيه، لهو ذخيرةٌ لا تنفد، تُعينك على فَهْم طبيعة الأرض التي تسكنها، وعلى الوصول إلى كُنه ما تنطوي عليه نفسُك، وهو بَعْثٌ للهِمة الراقدة، وإحياء للقوَّة الكامنة، وتحريرٌ لنا من أسْر التعبُّد للمدنيَّة الغربيَّة على غير هدى وفي غير طائل.

 

يوم في الماضي يُحرِّر المرْء من أسْر الحاضر، فإذا نالتِ النفس حريتَها فهي خليقةٌ أن تعرِف طريقها إلى تحرير أمَّة مِن استعباد أمَّة أخرى، أرادت أن تَفرض عليها إرادتها وحضارتها معًا، ونحن مُقبِلون على اليوم الذي ينبغي أن تُملأَ قلوبُنا حريةً مستمدَّة من أصولنا البعيدة، لا حرية مستعارة مِنَ الأمم المعاصِرة، فلنرجع إذًا إلى الماضي قليلاً، ففيه المدَدُ الذي لا ينفد والمَعِين الذي لا يَغيض.



[1] اللأواء: الشِّدَّة والبأس.

[2] المَدّ: الماء، يعني رطوبة الجو.

[3] العارية: الشيء المستعار.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الشعر والشعراء
  • الطريق إلى الحق
  • الحنين إلى الماضي ( قصة قصيرة )
  • الماضي
  • رواسب الماضي
  • عودة الماضي

مختارات من الشبكة

  • بناء الفعل الماضي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الفعل الدال على الزمن الماضي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • جيل الطيبين والحنين إلى الماضي(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الوجيز في أصول التفسير بين الماضي والحاضر (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الوجيز في أصول التفسير بين الماضي والحاضر (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الدوافع والمنطلقات في البحث العلمي بين الماضي والحاضر(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كتاب شرح سباعية الفعل الماضي في القرآن الكريم (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • ذنوب الماضي تؤرقني(استشارة - الاستشارات)
  • لا أستطيع نسيان الماضي(استشارة - الاستشارات)
  • تزوجت بعد وفاة زوجتي، وزوجتي تخاف من الماضي(استشارة - الاستشارات)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 23/11/1446هـ - الساعة: 18:47
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب