• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة
علامة باركود

ثلاثة أيام في القدس (قصة)

أمنية محمد السيد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 5/4/2010 ميلادي - 20/4/1431 هجري

الزيارات: 20884

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أفاق "زياد" مِن نومه مستغربًا وجودَ أصوات وجَلَبة خارجَ غرفته، على غير ما تعود، نظَر في الساعة، إنَّها ما زالت السادسة والنصف صباحًا! ترى ماذا هناك؟

 

خرج مسرعًا، وجد أختَه "فاطمة" قد جاءتْهم على غير عادة في هذا الوقت المبكِّر، بل وأيضًا تبكي سخينًا، وأمُّه تحاول تهدئتها، وأخته الصغرى "عالية" عابسةُ الوجه، تتمتم وما أنْ رأته أمامها حتى صاحتْ: قلت لكم من الأوَّل: هذه الزيجة لن تنفع، ومع ذلك لم يسمعْني أحد!

 

"زياد": ما زال ذاهلاً لا يفهم، اقترب من "فاطمة": ما بكِ أختي؟ أنتِ بخير؟ أصابَك مكروه؟ "عدنان" سليم؟ أو لعلَّه ضايقك؟ صرختْ "عالية" من جديد: هو هذا "عدنان".. السيِّد "عدنان"! جوهرةُ الزمان والمكان، شورتك يا "زياد"، ومباركة أمك.

 

حدَّجها بنظرة مستنكرة، تساءل - وقد علا صوتُه -: ماذا هناك؟ نظر لعيني أُمِّه، ففَهِم أنَّ شيئًا قويًّا هناك، فليس من عادة تلك المرأة الحكيمة أن تعمق في الصمتِ إلاَّ أن يكون حدثٌ جللٌ ألزَمَها السكونَ؛ لتفكِّر بهدوء، إلا أنَّ الحُزن المستفيض في قسماتها، والألَم في ملامح أخته "فاطمة"، جعلاَ عقلَه يكاد يغادره، لكن لم يلبثْ إلا أن جلس؛ علَّ الموقفَ يتضح.

 

مِن حِضْن أمها صرَّحت "فاطمة": لقد طلَّقني "عدنان"!

وقع الخبر عليه كالصاعقة، كيف؟! ولماذا؟! ماذا حدث؟!

قالت: لا شيء.

لم يتمالكْ نفسه، صرخ: كيف لا شيء؟!

نظر ناحية والدته ثانية، فابتلع لسانه، وغُصَّ حَلْقُه.

قالت: يُعِدُّ العُدَّة هو منذ فترة للسَّفر.

قال: نعم، تلك السفرة أعرِفها، وافقَ عليها مدير القناة التي نعمل بها بأعجوبة، واستخرجْنا التصاريح بمعجزة، حتى إني لم أنتهِ من كلِّ تصاريحي بعدُ، رغمَ أنَّ السفر غدًا وقد كنت أفكِّر جِدِّيًّا بالانسحاب؛ حتى لا أتعرَّض للمضايقات في الطريق.

قالت "عالية" في غضب: دعْها تُكمل...رجاءً.

 

استرسلت "فاطمة"، وقد تكوَّمت في كيان منقبض، أكثر ما يميزه الانتفاض والنشيج: بعدَ أن انتهينا من تحضير حاجياته، وترتيب أوقاتي في غِيابه، جلس بجواري بهدوء، صَمَت طويلاً، ثم تحدَّث كثيرًا، ونظر لي بحَنان عميق، ثم طلَّقني.

 

عقَّبت "عالية": يا لَه مِن حنون!

 

واصلت "فاطمة": في البداية لم أفهمْ مِن كلامه شيئًا، أوصاني بنفسي خيرًا، تحدَّث عن أخلاقي الطيِّبة، وحبِّه لي، وصحبة الخير، وعشرة الخير، وظروف، إلى أن وصل لفراق بمعروف.

 

ألجمني الصمت، ولفَّتني الحيرة، وأحسستُ بألف يدٍ صفَعتْني على وجهي! وكأنَّما طفل رفعَه أبوه لأعْلى وهو يضحك واثق من تلقُّف أبيه له، ولكنَّه انصدم أنه ألْقاه مِن أعْلى للشارع!

 

هنا نطقت الأم رغمًا عن القلق الذي يعصِف بها بلا رحمة: لا يا ابنتي، سلامتك، سلامتك، أنتِ بخير، في بيتك، وسط أهلك، قد تكونين أخطأتِ، قد تكونين تجاوزتِ مِن حيث لم تنتبهي، رغمَ أنَّ "عدنان" رجلٌ مهذَّب فطِن، وليس فظًّا جاهلاً!

 

ثلاث سنوات مضتَ لمْ تشتكي منه مطلقًا، ولم يَرَ أحدنا منه غيرَ كل خير، حتى إنه سعى لتوظيف أخيك في المحطة الفضائية نفسها، التي انتقل إليها؛ حرصًا على مستقبله، وبرًّا بكِ وبنا، فكيف؟! ولِمَ؟!

 

هزَّ "زياد" رأسه موافقًا، وما زالتِ الدهشة تملأ كيانه، وما زال الغضبُ والحنق يمنع خلايا عقلِه مِن التفكير.

 

صاحت "عالية" من جديد: ألم أقُلْ لكم؟! ألم أقل لكم: الزيجة من غير أبناء البلد الواحِد لا تنفع؟! ألم تشهدْ له يا "زياد" بحُسن رفقته لك، وطيب أخلاقه من أيَّام الجامعة، وحُسْن تصرُّفاته مع الجميع، وقلت لكم وقتَها: ولو! حتى إنْ كانت تنشئتُه سليمة، فيكفي أن جذورَه لم تشربْ ممَّا هنا، ها هو أمامكم قد ظَهَر على حقيقته، وافتضح أمره: أناني مغرور، لا يستطيع تحمُّل مسؤولية، عفوًا، لا يستطيع أن يكون رجلاً لأكثرَ من ثلاث سنوات.

 

هنا زاد نحيبُ "فاطمة"، وحَدَجتِ الأمُّ "عاليةَ" بنظرةٍ قاسية، ونقلت عينيها مِن ابنتها "فاطمة" لحيث "زياد":

يا "زياد"، ماذا تقول؟

ماذا أقول: لا أعرف، حتى إنَّه لم يخبرني بشيء! لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله، وصَمَت مفكرًا.

 

ضمَّتِ الأمُّ ابنتَها من جديد: يا "فاطمة"، لا تبكي، اصبري ولا تعجزي، سنعرف ماذا هناك، حتمًا سنعرف ماذا حَدَث.

"فاطمة": وحتى لو عرفنا يا أمِّي هو لا يريدني، حتى إنه أخذ قرارَه منفردًا! ألهذه الدرجة رخصتُ عنده، وهنتُ عليه فباعني؟! يا أمِّي مَن يُرِيد شيئًا لا يجرحه، بل لا يكسره، وإنَّما نكسر ونُلقي ما لا حاجةَ لنا به مطلقًا.

 

"عالية": حتى ما لا أريده فلن أكْسرَه، ولن أطرحَه، سأتركه لربَّما أفاد يومًا.

 

الأم: يا ابنتي.

كفى بربِّك كفى.

اذكري الله، واسترجعي.

"فاطمة": إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، لا أقدر يا أمَّاه، لا أقدر.

الظنون تنهش كياني، تقتلع رُوحي، آه يا أمِّي، آه يا أمي، أشعر بأخاديد محتقنة تُحفَر في جوفي، بشرايين عميقة تنتحر في قلْبي، بلهيب سخِين وقيح الخَديعة يجتثُّني من أمْني، حياتي وسلامي النفسي.

الأم: يا ابنتي، فإنْ كنتِ ثكْلَى فلا تكوني نائحة.

بل استعيني بالله واصبري، ولا تعجزي، فإنَّما الصبر عندَ الصدمة الأولى، وكله قَدَر الله، ونحن به راضون، ولا نقول إلا ما يُرضي الله.

قولي: اللهمَّ أَجِرْني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها.

وسال الدَّمْع حارًّا من عيون الجميع.

 

إلى هنا لم يتحمَّل "زياد" فقام متمتمًا في نفسه: "عدنان"؟ لا أصدِّق! لا بدَّ أن في الأمر سرًّا.

لم يقلْ هو لأمِّه وأختيه أنَّ سفرتهما ذات طبيعة خاصَّة جدًّا: للقدس، حيث جذور "عدنان".

 

في العمل: كانتْ في انتظار "زياد" المفاجأة الثانية: تقدَّم "عدنان" بطلب لمدير القناة لوقْف سفر "زياد"، متعلِّلاً بتأخر بعض تصاريح سفره، ممَّا قد يؤثِّر على المجموعة.

 

ملأ الحنق "زياد" وثار غاضبًا، إذًا فعلاً كان "عدنان" يتحيَّن الفُرْصة، مع أنَّه سابقًا كان "زياد" هو صاحب فِكرة زيارة فلسطين (المقدسات - القدس- الأقصى)، وكان "عدنان" يرفض قائلاً: لا حاجة بنا لزيارتها الآن، أو لا حاجة بها لزيارتنا، دعْنا نثبت أنفسنا أولاً، نبني القوَّة، ثم فلنفعل بعدَ ذلك ما نشاء، فلنسر في قَدَر الله إلى قَدَر الله.

 

هذا "العدنان"! كيف يستوي التناقضُ بيْن مَن هذه أفكاره وبيْن ما يفعله الآن؟!

 

أخيرًا دخل "زياد" محتقنًا حيث مكتب "عدنان"، كان يجلس هناك هادئًا، ولكنَّه بدَا شاردًا متعمقًا في تأمل، افترشت الخرائط من جميع الأحجام سطح مكتبه، وتناثرتِ الأوراق، نظر ناحية "زياد"، ثم أشاح بوجهه، بدَا كأنَّه محزون.

 

"زياد": أريد أن أفهم، لِمَ كلُّ هذه التصرُّفات المستحيلة؟!

تُطلِّق زوجتك؟! تشي بصديقك بل أخيك؟! لم أعرفْك غير رجل، كيف تفعل هذا بنا؟!

"عدنان" متشاغلاً: الموضوع منتهٍ "زياد"، رجاءً، اتركني لأشغالي.

 

أثارتْ هذه الكلمات الباردة "زياد"، حتى كاد الدمُ ينفجر من وجهه: لا إله إلا الله!!

هكذا ببساطة؟! منتهٍ! أيُّ موضوع منته؟! زوجتك؟! صديقك؟! أسرتك؟!

 

أَسْقط "عدنان" رأسَه بين كفيه: ليس عندي ما أقوله.

"زياد": لا أصدِّق عيني، إذًا كنتَ وهمًا، كنت زيفًا، وما ظهرت لك فرصة حتى طعنتَنا بلا رحمة! أحَجرٌ أنت؟!

رفع "عدنان" رأسه إليه، وقال بصوت عميق: ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 74]، أفنسيت؟

 

وكأنَّما أفاق "زياد" فجأة: إذًا خبِّرْني.

لم ينطق "عدنان" بل قام للباب ومضى.

 

عاد "زياد" للمنزل متعبًا مهزومًا، يشعر بالمرارة والانكسار، وزاده نحيبُ أخته همًّا على همٍّ، تمتم في داخله، بل سأذهب، سأسافِر وإن كان آخِر شيء أفعله في حياتي، فسأنتقم منك يا "عدنان"، بل سأقتلك.

 

في صباح اليوم التالي عندَ بوَّابة صلاح الدين برفَح تفاجأ طاقِم سيَّارة القناة المتوقِّف؛ انتظارًا لإذن العبور مِن مصر لغزة، بلحاق "زياد" بهم بمواصلات عامَّة: العريش، فالمساعيد، فالشيخ زويد، ثم معبر رفح، صرخ "عدنان": أمجنون أنت؟! ما أتى بك؟! أخبِرْني!

وصاح "زياد" بالمثل: هذا ليس شأنك!

معبر رفح

 

حاول "زياد" صعودَ الباص دفعه "عدنان"، وأمَر السائق بإغلاق الباب، حاول بقية الزُّملاء احتواءَ الموقِف، شعَر رِجال الأمن بالموقف، أحاطوا بالسيارة، صَمَت الجميع، صعِدوا إليها مطالبين بإثباتات إضافيَّة، وتساؤل عن طبيعة التراخيص، وخط السير، كان خط السير: "رفح"، "مخيم البريج"، المسار بجوار الشاطئ غربًا، ثم "الرمَّال"، فـ"جباليا" شَمالاً، فـ"بيت لاهيا"، ثم "الحاجز" للخروج من غزَّة لـ"بيت لحم"، فالحاجز عندَ الجدار الفاصل، فـ"القدس" لتغطية حية من القُدس والأقصى، تعامل معهم السائق والجميع في صَبر، ورغمَ التعاطف الذي لمسوه من عناصر الأمن، إلا أنَّ (الباص) انتظر ثلاث ساعات إضافية؛ للتثبُّت الوثيق من بيانات جميع الأفراد.

 

حبس الجميع الأنفاس فيها؛ خوفًا من تحويلهم للعبور مِن أحد المعابِر التجارية، سواء "العوجة"، أو "كرم أبو سالم"، فيجدوا أنفسهم في لحظة في صحراء النقب الصعبة، أو بيْن جنود الكيان الغاصب بلا رحمة.

 

عندما عادت لهم الأوراق مع أحد الضبَّاط الشباب، صاح السائق فرحًا: الله أكبر، الحمد لله، حاول أحد أفراد الطاقم تخفيفَ حِدَّة التوتُّر فسأل ممازحًا: كل هذا الوقت؟! ألا تريدونا نعبر للأقصى، أم ماذا؟ صَمَت الضابط لبُرهة، أرْجف السائل وتصبَّب عرقًًا، وكأنما ندم على السؤال، إلى أن قال الضابط بحميمية: على العكس نغبطكم على هذه الرِّحلة، وددْنا لو كنَّا معكم، لكنَّه نداء الواجب يحبسنا، كما أنَّه ضمان لسلامتكم.

سلامتنا؛ كيف؟

ابتسم الضابط، وقال: تفضَّلوا في أمان الله.

 

عبَرتِ السيارة البوابَّةَ الرئيسةَ لمعبر رفح، ثم المسافة الفاصِلة بيْن الحدود المنصوص عليها، ثم أصبحتْ في جنوب رفح الفلسطينية بقطاع غزَّة، يا الله! أخيرًا غزَّة فلسطين!! صاح الجميع في فرحة، ونزلوا بجوار أوَّل مسجد، سجَد كثيرٌ منهم لله شكرًا قبل الصلاة، نظروا ليجدوا كثيرًا ممَّا يرَوْنه في الأخبار حقيقةً حيَّة أمامهم، الجدار الحدودي الفاصِل بيْن مصر وغزَّة بدَا واضحًا، كما تلال الرِّمال من وراء بعض الأنفاق، وسيارات نقْل بضائع و(باصات) للركَّاب.

 

الأنفـــــــاق

 


من داخل النفق

سألوا وعرَفوا أنَّهم في طريقهم لـ"مخيَّم البريج" جنوبًا، ثم اتَّخذوا شريطَ البحْر غربًا، حيث "النصيرات"، توقَّفوا قليلاً عندَ البحر، واكتشفوا أنَّه رغمًا عن البحر الرائع الذي لم يشعروا بأيِّ تغيُّر فيه عن العَريش، أو الإسكندرية: كيف وهو نفس البَحْر، ونفس المياه؟! إلاَّ أنَّ هُناك مسافة محدودة جدًّا، التي يتمكَّن الناس أو الصيادون بالدُّخول لها في البحر، وإلا باغتتهم الدوريات البحريَّة الإسرائيليَّة بالعدوان.

 

أسْرعوا يحتمون (بالباص) أول ما سمعوا صوتَ الطائرات تحوم فوقهم، صاح "عدنان" أنِ ابتعدوا عنها، فلربما قصفها العدوُّ فكانوا فريسةً سهلة، بعد ثُلُث ساعة تقريبًا كانتِ الطائرات قد ذهبتْ، وكذا دماؤهم، فقد شحبتْ وجوههم حتى الموت، واعتراهم الرعب، لاذوا بالمسجد لصلاة المغرب من جديد، عرَف المصلُّون أنهم ضيوف، أصرُّوا أن يستضيفوهم، خاصَّة وليس مسموح بعبور الحواجز لخارج غزَّة مساءً.

 

كان رأس "زياد" مشغولاً، إضافةً لأحداثه بمستجداتها: مذهول بما رأى، كاد أن يفقد حياتَه اليوم بلا سبب؛ لمجرَّد وجوده على الشاطئ، وعرَف أنَّ الطائراتِ تقوم بطلعات أوَّل النهار وآخره، فقط لفرْض السيطرة والإذلال، وتعطي لنفسها الحقَّ في إصابة وقتْل كلِّ مَن ومَا تشتبه فيه على ظهر البسيطة: نفق، إنسان، حيوان، سيَّارة، أي شيء، يا الله! يا لشجاعة هؤلاء الناس! كيف يعيشون هكذا؟! ومع ذلك يشعرون بالحبِّ، ويُقدِّمون واجب الضيافة للجميع!

 

عرَفوا أنَّ الطعام غير متوفِّر عند الكلِّ كلَّ يوم؛ لذا فإنهم يقيمون حياتهم بحديثه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أطعموا الطَّعام))، لا يختزنون طعامًا لليوم التالي، بل الجميع يتشارك في طعام اليوم، ورزق الغد مِن الله، وكذا لا يمشون منفردين، وإنما يخرج المرء دومًا مع صَديق أو قريب واحد على الأقل؛ ضمانًا لأمْنه، وحتى إن حَدَث مكروه لأحدهما عاوَنَه الآخر، أو عاد بخبره لأهله.

 

لم تستطعْ عين أيِّ فرد منهم أن تغمضَ، ولم يترك لهم الشباب هذه الفرصة، فلا وقتَ للنوم.

 

حكايات كثيرة، وكأنما يعرف بعضُهم بعضًا من قديم الزمان، وفعلاً فقدِ اشتاق كلٌّ منهم أن يعرف أخبارَ أخيه على الجانب الآخر من المعْبَر.

 

فجرًا انطلق (الباص) من جديد؛ ليخرجَ من غزَّة، وقد لاحظ "زياد" سهرَ "عدنان" بجانب أحدِ الشباب منفردين، وقيامه بتدوين بعض الملاحظات، رمقَه بنظرة، ثم صرف بصره عنه.

شاطىء غزة

 

في "جباليا" طالب البعض بزيارة "الشجاعية" شرق غزَّة لزيارة مدرسة الياسين، ولكن السائق أفاد أنَّه ليس ممكنًا الخروج غير من المعابر المحدَّدة، وأنَّ أزمة السولار والبنزين تجعل المرءَ يحافظ على خطواته، حتى وهم قد أعدُّوا العدة بحمل نفْط إضافي، قدَّر الجميع الردَّ، خصوصًا وقد رأوا بعض السيَّارات وقد استخدم أصحابها زيتَ الطعام، بحيث أصبحتْ رائحة الشوارع لا تُطاق عند الازدحام، كما أصيب الجميع بالوجوم مِن مناظر التخريب والتدمير التي ما تركتْ حيًّا إلا وطالتْه، حتى المساجد!

 

وهالَهم منظر لخَيْمة تَمَّ نصبُها بجوار مبنى متهدِّم للجامعة الإسلاميَّة مكتوب عليها (رئاسة مجلس الوزراء)؛ أي: تابعة لمكتب الوزراء؛ لتسيير أمور الطلبة، والتخفيف عن المواطنين، سبحان الله! كيف يباشر هؤلاء مسؤولياتِهم من أعماق اللاشيء؟! وكيف يتهرَّب المسؤولون عادةً من واجباتهم، رغمًا عن المقاعد الوثيرة تحتَ التكييف؟! سؤال تمَّ طرْحُه داخل (الباص).

 

عندَ حاجز إيرز في الشَّمال، فَهِم أعضاء الرِّحلة مقصدَ الضابط، حين قال: لحمايتكم فيما بعدُ، فهم الآن يقابلون نوعًا غير كل أنواع البشر: صلف، غرور، غِلظة، تكبُّر لا حدودَ له، وفجاجة متعمَّدَة ومستفِزَّة، تنضح وجوههم بالشرِّ، والاستعداد للبطش بالآخر، ويتصيَّدون الهفواتِ للضرب والسحل، والتنكيل، بل الاعتقال، أو فتح النار.

هذا الحاجز لا يُفتح إلا موسميًّا، ولعبور حالات خاصة فقط.

 

ذَكَر صاحب إحدى السيارات: أنَّه ينتظر قرار لَمِّ الشَّمل مع أسرته في الضفَّة منذ اثنتي عشرة عامًا، حتى يستطيع عبورَ هذا الحاجز، هذا وقدِ اعتبر نفسه محظوظًا.

 

توقَّفتِ الحافلة طويلاً طويلاً، وبات الوقوف متعمدًا، وزاد عن خمس ساعات هذه المرة، تبادل خلالها أفرادُ الطاقم الصعودَ والهبوط؛ لتحريك أطرافهم وهم ينظرون بترقُّب لذاك الصوان المغلق كسرداب، الذي يمر فيه المسافرون مشاةً بعد التفتيش والتصريح بالمرور، متخيِّلين ترى ماذا بداخله، وكيف شكل الطريق بعدَه، وأخيرًا جاء الردُّ النهائي صادمًا: لا، صرخ الجميع: لا ماذا؟ لا لعبور أصحاب القناة؟ لماذا معنا تصاريح وو.. صاح الجندي، وقد تم استنفاره: قال العريف لن تعبروا من هنا: اذهبوا لـ"لنبي"! ارجعوا ارجعوا، ولوَّح بقبضته في الهواء مهدِّدًا، وتجمَّع حوله أصحابه.

 

استدار (الباص) وكلُّ مَن فيه واجمون، لم يفهموا شيئًا، سأل "عدنان" السائق: وهل تستجيب؟ معبر "اللنبي"؛ يعني: معبر "الكرامة"، ويقع بين فلسطين والأردن، يعني هو يريدنا أن نرجع مصر، ونسافر للأردن وندخل منها للأراضي الفلسطينيَّة؟!

 

تعالت أصواتُ الجمع مزمجرين وغاضبين، ولم يردَّ أحد بخبر يقين، إلا السائق الذي قرَّر: ليس بيدنا قرار، نعود أدراجنا مجبورين!

 

وما أنِ ابتعد بضعةَ أمتار (الباص) ملتفًّا للخلف، حتى ظهر بعض الصِّبية متجمهرين يلقون الحجارةَ على الدورية عندَ الحاجز؛ اعتراضًا على التعنُّت المهين عليه، وقاموا بإشْعال إطار سيارة، وكانوا في طريقهم لإشعال آخَرَ حينما تعاملت الدورية عندَ الحاجز مع الموقف بقسوة، وأطلقت الرَّصاص الحي باتجاههم، والرِّجال الصغار يصرخون في استبسال: الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، سنعبر الحاجز، سيندحر المحتل، الله أكبر، ولله الحمد، وبدؤوا في الركض باتجاه الدورية..

 

في لحظة استغلَّ "عدنان" الموقف ومِن النافذة العريضة بجواره سحَب جسده للأعلى، وقفز خارج (الباص).

"عدنان" "عدنان".. ماذا تفعل؟ أمر "زياد" السائق بأن يقف، وشعر بقية الزملاء بالجَزَع، ولكن السائق لم يستطعْ التوقُّف مطلقًا.

إنَّ التوقف يعني الموت! أو التنكيل والبطْش الأعمى لآلة الاحتلال، في غضب صرخ "زياد": افتح الباب.. افتح الباب.

 

فتح السائق باب (الباص) ولم يفكر "زياد" مرَّتين قفز بدوره قائلاً: توكَّلوا على الله، وهو يطيرُ بجسده خارجًا تراءتْ له حياتُه، صورًا صورًا مجمعة، مركَّزة، حتى كاد ليغيب عن الوعي لجزء من الثانية، لكن صوت إطلاق النار مِن بعيد حملَه للقفز سريعًا، وجسد "عدنان" المسجَّى أمامَه استدعاه ليظلَّ يقظًا، بل مرنًا متحركًا على نحو لم يعهدْه من نفسه سابقًا.

 

وصل لـ"عدنان" دفعه، أنت بخير؟ هيا هيا بسرعة، اركض اركض، وانطلقَا يعدوان واختلطَا بفلول للمظاهرة حيثُ أشار لهما بعضُ الشباب للطريق ليدخلاَ سرداب المرور، كمسافرين عاديين بعدَ تجاوزهما النقطة الملتهبة خلفَ الدورية المشغولة بتطويق المظاهَرة، وخلف الجنود الذين وقفوا في مقدمة السرداب حيارَى خائفين، وكأنما سُكّرت أبصارهم، عبرَا من خلفهم وكأنَّما يدٌ خفيَّة حملتهما.

 

وكان "زياد" يشعر بدقَّات قلبه تكاد تخلع قفصَه الصدري، بينما بدا وجه "عدنان" متَّسمًا بملامح جدية حديدية، وإن كانت أُذناه في قمة الاحمرار، وفي آخِر لحظة صَرَخ بهما جندي: هييه أنتما، توقَّفَا، استدارَا ببطء، تقدَّم منهما، أين أوراقكما؟ هنا أخرج "عدنان" من جيبه ورقةً زرقاء، أعطاها إياه الشاب من غزة، بالأمس عبارة عن تصريح مرور مختوم لعامِل شاحنة، وقال وهو يتصنَّع الاستغراب: لقد رآها الضابط بالخارج، ومد "عدنان" يده في جيبه الآخر، وكأنما سيخرج شيئًا آخر، وهذه لآخر لحظة أخرجها، هنا وَكَزه الجندي بعقب بندقيته: وهل أنتظر لحظاتك أيها الغبي؟ أعرف أنَّ الضابط رأى التصاريح بالخارج، وإلا لكنتَ ميتًا الآن لا تستطيع الكلام، وتعالت ضحكاتُه المستفزة وهو يأمرهما بالتحرُّك، تحرَّكَا ويداهما في جيبهما، ونفوسهما في كل مكان تلهج: يا رب يا رب.

 

في السرداب رأيَا ما لم يكن يخطر ببالهما: عائلات تم اعتراضُ عبورهم لسبب أو لآخر، فعلقت عبر السرداب، أمَّهات افترشن الأرض على بطاطين، أطفال يحاولون اللَّعِب بأحذيتهم، شباب! شباب جرْحى ومرْضى، وملقون على الأرض، وصَلتْ بهم (الإسعاف) إلى هنا، وفي انتظار الموافقة لإسعاف يحملهم من الجانب الآخر.

 

وأخيرًا، السماء، أخيرًا خرجَا، وهما لا يُصدِّقان النجاة.

 

هنا مروج الزيتون، وكرمات العنب، قالها "عدنان" متنفسًا الصعداء، وهما يسيران بحذر وسطَ حقل زيتون، تابع: هذا هو السِّرُّ الحقيقي للحركة الصِّهْيونية، تساءل "زياد" مستفهمًا: الزيتون والعنب؟ بل الخَمْر يا صديقي، الخمر، أجود وأغْلى أنواع الخمور العالمية يتمُّ إنتاجها مِن أنفس فصائل العنب في أراضينا المقدَّسة، هنا تذكر "زياد" وجه أخته الباكي، وما كان لينساه، ولكن الأحداث اللاهثة غيَّبت الموقف عن ساحة المواجهة.

 

"زياد": "عدنان"، قل لي ماذا حَدَث بينك وبيْن "فاطمة"؟

"عدنان": وهل ترَى الوقت مناسبًا؟ دعْنا نرَ مخرجًا أولاً.

 

صمت "زياد" والحيرة تنهشه: تُرى يا "عدنان" هل أنت فعلاً ذاك الخائن المغرور؟ أم أنَّك مَن أرَى مِن أسد هصور، صبرًا فلا بدَّ لي أن أعرفَ، ولن أعودَ لأختي إلا بما يُرضيها، ويشفي قلبها، فصبرًا.

مشيَا طيلةَ ما تبقى من نهار وهما يتخيَّران الأماكن المشجورة وسطَ الحقول، ولم يتبعَا الدربَ المطروق؛ تفاديًا للمشاكل، وهربًا من العيون.

 

أشار "عدنان" بيده قائلاً: هذه أرض الأنبياء يا "زياد"، هذا الطريق للقادم من الخليل وبيت لحم، فالقدس مملوءٌ بمواقع أثريَّة من أهمها مسجد بلال بن رباح.قطع "عدنان" حديثَه، فقد وصلاَ لكرمة مسوَّرة بسور حجري متصل ومفتوح، ومن خلفها بدَتْ أبواب حارَة، تهلَّل وجه "عدنان"، وكأنَّما شعر بأمان، واتجه فيها لأطفال يلعبون، ويعتلُون أشجار زيتون.

 

اقترب منهم "عدنان": مرحبًا، أوقات جميلة، انتبه إليه الأطفال بابتسام، سأل: أسأل عن الحاج أنور، أشار الأطفال بأيديهم ناحيةَ سور الحارَة خلفهم الذي بدَا متواصلاً ملتفًّا لا نهاية له ولا بداية، أُسقِطَ في يد الشابَّيْن، وكيف سندخل وكل الأبواب مغلقة؟

صاح طفل: الحاج أنور حدِّثاه على الجوال يفتح لكما، لكن ليس معنا جوَّال، جرى بيْن يديهما طفل ضاحكًا: تريدان الحاج أنور: تعاليَا معي، أنتما كبيران، ولكن لا تعرفان، نحن الصغار نعرف كيف نُساعِد الكِبار، ضحِك في جزل، واصطحبهما لمدخل حجري: كُوَّة مُقوَّسة في جانب من السور، دلَفَا بعده للحارة.

 

كانتْ قديمة جدًّا، إلا أنَّ أبنيتها راقية وكبيرة، ومساكنها متباعدة، لها طابع حجري مميَّز، من طابق واحد، أو اثنين على الأكثر.

اصطحبهما الطفل لدكَّان الحاج أنور، كانت الدَّكاكين في مكان واحد أمامَ البيوت، صغيرة متراصَّة، فيها حرف دق الجلد، وبيع أدوات منزليَّة، وبعض منتوجات ومشغولات، وعطارة تفوح منها رائحةُ الزعتر والبن والسمسم، كذا ومحل يبدو مِن رائحته وواجهته أنَّه يعرض الحلويات، وهناك مِن بعيد ظَهَر مبنًى منفردًا عبارة عن معصرة الزيتون.

دلَف الطفل لداخل الدُّكَّان: عمِّي أنور، عمي أنور، هذان الشابَّان يريدانك.

 

التفت ناحيتهما الحاجُّ في توجس: خير إنْ شاء الله، مَن أنتما؟ كانت عينا "زياد" تدور في المكان دون توقُّف، وفمه المفتوح حتى حلقه لا ينبئ بالثِّقة، أما "عدنان" فقد قال: نحن ضيفان، وتابع من طَرَف عزوز.

الحاج: يا هلا بالضيوف، لكن لا أعرف أيَّ عزوز، تابع "عدنان": عزوز صانِع الشاي، هنا ابتسم الحاج أنور، فهذه إشارة حقيقيَّة لعزوز الذي يعرف، فهو المختص بصنع الشاي الذي يحبُّه الحاج كلَّما جمعتهما زيارة.

يا أهلاً يا أهلاً بالضيوف، وأرسل الحاج لبيته يخبر أهله بمجيء الضيوف.

أكلاَ ونامَا كطِفلين، هكذا قال الحاج لأهله، وهو يُغلِق عليهما الباب ويتركهما ليرتاحَا مِن مشاقِّ السفر بعدَ أن سمع منهما وعرَف حاجتيهما.

 

تضوَّر"عدنان" من اللَّيْل، فوجد "زياد" متيقظًا يحدق فيه، اعتدل "عدنان" في جلسته، وقال لـ"زياد": "زياد"، أخي الحبيب أوَ تظنُّ بأخيك وصاحبك السوء؟

صمت "زياد"، أردف "عدنان": فلتعلمْ أنَّك وعائلتك كنتم خيرَ معين لي على الطريق.

هزَّ "زياد" رأسه: نعم؛ ولذا في أوَّل فرصة لفظتَ أختي خارجًا، ودبرتَ أمرك وحيدًا، وأعددتَ عُدَّتك منفردًا؛ لتهجرها وتتركنا نضرب أعتابَ الحقيقة بأصداف الظنون، فلا نحصل لأسئلتِنا على أجوبة.

"عدنان": أخي فلتعلم: ليس أحبُّ لي على ظهر البسيطة من زوجتي، ولم أجِدْ مثلها مَن يفهمني ويعطف عليَّ، ويغضُّ الطرف عن مساوئي، ويستر عيوبي.

"زياد": زوجتك؟ تلك التي طلقتها فجرَ يوم لم تعرفِ الشمس بعدَه؟ تلك التي طلقتها دون احترام لعائلة احتضنتْك كابنها، وأولتك ثقتها.

"عدنان": "زياد" أعلمُ أنَّه لا عُذْر لي في نظركم، وأنني خائن جبان في أعينكم، ولكنَّ الواجب أكبرُ مني.

"زياد": أي واجب؟ الرحلة للقدس التي انتظرناها ناجحةً مدوية يسمع صدَاها العالمون، والتي حولتَها بطيشك إلى مهمَّة مستحيلة، لا أدري متى سنسقط فيها صَرْعى.

ابتسم "عدنان": بل للأقصى أنسيت؟ ألم تكُ تدعو لصلاة في الأقصى.

"زياد": لا، ليس للأقْصى، نعم أدعو بل وأرجو الشهادةَ على أعتاب مقدَّساتنا، ولكنها تحت الاحتلال الآن، فما يُفيد دفعنا بحياتنا ثمنًا لمجرَّد زيارته؟!

"عدنان": سأكشِف لك سِرًّا، تنتمي عائلتي لمأمن الله، وهي مما حولَ القدس من ضواحٍ.

 

قاطعه "زياد": أعرف هذا، وأعرف أنَّكم ارتحلتم للعريش من بعدِ الاحتلال، وتطهير قريتكم عرقيًّا من الفلسطينيِّين المقدسيين، بل إنَّهم جمعوا الرجال والصبيان من البيوت وقتلوهم رميًا بالرصاص، وسَبَوا النساء والبنات، واحتلوا الدُّور، وحتى المقابر نبشوها ونهشوها، ولم ينجُ إلا مَن كتب الله له النجاة.

"عدنان": ما لا تعرفه يا صديقي: أنَّ بيتنا كان صامدًا، وأنه شاء الله أن يبقَى ضمنَ الخط الذي صانتْه المعاهدات الضعيفة للآن، وأنَّ مِن عائلتي خَرَج مجاهدون كثير، ومرابطون، بل وأسرى تجاوز بعضُهم خمسة وعشرين عامًا في المعتقل، وأنَّ هذا البيت الشريف مِن رموز الصمود لحي "مأمن الله" و"القدس"، وأنَّه مؤخَّرًا اتخذ الاحتلال قرارًا بضمِّه قسرًا وهَدمه ظلمًا، ورفع عليه عَلَمه.

 

لم أكن لأترك "فاطمة" أبدًا، مستحيل، ولكنِّي لا أستطيع الحياة معها، بل الحياة مطلقًا، وقد ناداني الواجبُ لأدفعَ عن بيت عائلتي، إنَّه دوري يا أخي لأسلمَ نفسي لعائلتي، يستعملونني كيف يشاؤون، إنَّها أقدار الرجال يا صديقي، قدَري ولا فكاك منه.

 

أطرق "زياد" في تفكير عميق: فإنْ قال له: أنت مخطئ، لكان تخلَّى عن كل مبادئ الرجولة والعروبة، والإباء والنصرة، ولو وافَقَه، لفقده، لم يجد جوابًا، فغرق في صَمْت، وجوفه بركان.

قطَع "عدنان" أزيز الصدور، ومراجل التفكير قائلاً وهو يجالد نفسه: الآن سيرتِّب لنا الحاج أنور المرورَ من بيت لحم للقدس عبرَ حاجز عندَ الجدار الفاصل.

"زياد": وكيف سيفعل ذلك؟

"عدنان": عن طريق جماعة يهوديَّة.

صعق "زياد": ماذا تقول؟!

 

"عدنان": نعم، ليس كلُّ اليهود صهاينة، بل إنَّ فيهم حركات مناهِضة للصِّهْيونيَّة، كما وأنَّ أغلبهم تجارًا لا يهمُّهم إلا المال، وسنعبر الحاجزَ بأمان وتصاريح مؤقَّتة، أذهب بعدَها لمأمن الله، لأهلي، أما أنت فليس لك مكان، ستذهب للقُدس تنتظر هناك كسائحٍ لحين يأتي زملاؤنا من جديد، تواصل معهم وقابلهم، وستعود معهم في أمان.

 

"زياد": وكيف أتركك وحيدًا؟ وكيف أعود بدونك لأختي؟

"عدنان": لا بدَّ لك، ستعود لترعاها، وقد طلقتُها لتنساني؛ لأني لو ذكرتُ لها الأمر لَمَا وافقتْ، ولو متُّ لحزنتْ عليَّ العمر، وهي ما زالتْ صغيرةً، وأريدها أن تحيا سعيدةً بدوني، ولم يملك الاثنان عبراتهما، فبَكيَا.

ناداهما الحاج أنور لصلاة الفجر، وبعدَ الإفطار انطلقَا مع إشراقةِ الصباح لخارج الحارة: حقول الزيتون مجدَّدًا.

أشرفَا على التلِّ، وهالهما منظرُ الجدار العنصري الفاصِل من الأعلى، صاحبهما الحاج أنور لأقربِ نقطة في بوَّابة المرور، وقال لهما: ستتمكَّنان من العبور إلى القُدس الشرقية، وستصلِّيان في الأقصى، مبارك لكما.

 

اقشعرَّتِ الأبدان، وفاضتِ العيون، واللهِ ما أخرجَنا إلا ذاك: قالها "زياد" في نفسِه.


جدار الفصل العنصري


حاجز حجري بجوار جدار الفصل العنصري

 

عبرَا الحاجز هذه المرَّة بصعوبات لا تُذكر، ثم اتَّجها غربًا ومشيَا طويلاً، إلى أن أشرفَا على جبل الزيتون، ونظرَا لبعضهما من جديد غير مصدِّقين: القدس، الله أكبر، الله أكبر، صاح بها "زياد" مهللاً، ومثله قال "عدنان" في ابتسام، فقد لاحتِ القدس عروسًا من فوق مروج جبل الزيتون، هما هنا.

احتضنا بعضهما؛ ليلمسَ أحدهما الآخر ليتأكَّدَا أنه ليس حُلمًا.

الأقصى من جبل الزيتون

 


القد س المحتلة


تجاوزَا الفرحة، "زياد": والآن لمأمن الله!

"عدنان": لا.

أنت للأقْصى، وأنا لمأمن الله.

"زياد": لا بل آتي معك.

"عدنان": إذًا؛ فلنتصاحب إلى أن يفرِّقنا الطريق، ولا تنسَ: لا عواطف ها هنا يا "زياد"، يجب أن تعودَ بسلام لـ"فاطمة".

 

شعر "زياد" بغُصَّة، ولكنَّه أكمل الطريق مع صديقه، كانَا صامتين مبهورين بما يريانِه مِن جمال، مقهورين لتشويه هذا الجمال الربَّاني الطاهر بمظاهر صاخبة مِن صنع الكيان المحتل، دلفَا مِن الجبل للمدينة، كانَا في الجانب الغربي منها، سألاَ عن "مأمن الله"، فقال المجيب: هناك باتجاه سلوان، تفضَّلاَ أوصلكما بسيارتي: في الطريق قال لهما المضيف: يبدو أنَّكما زائران حديثان، نعم، كيف عرفت؟ نحن نقول: "مام الله"، وليس "مأمن الله"؛ اختصارًا، فقد تسمَّى الحي بأسماء عديدة، منها "مام الله" و"ماء ميلو"، ويسميها اليهود: "بيت ميلو"، والنصارى "بابيلا"، واستقر أغلبُنا على مناداته "ماميلا"؛ يعني: اختصار "ماء من الله".

 

"عدنان": أيًا كان فقد تعرَّض للاغتصاب، المضيف: نعم يا أخي، ما من حي إلا وطئتْه بصمات الاحتلالُ: قطمون، مام الله، بيت أم الميس، بِدّو، بتّير، البريج، وهي التي أنشأ الكيان في جنوبها الآن مستعمرةَ سيدوت ميخا، والتي يخزن فيها صواريخَه الباليستية، ورؤوسه النوويَّة، حتى أبواب القُدس العتيقة لم تسلم: باب السلسلة، الخليل، المغاربة، داود، المطهرة، وحتى باب العامود، آخر ما يجلب الصهاينة بأرجلهم الآن؛ ليشتروا المحلاَّت من أصحابها هناك بعشرات الملايين من الدولارات، وفي الوقت ذاته يضغطون عليهم، ويُضيِّقون الخناق؛ ليبيعوا بزيادة الضرائب، وافتعال المشاكل، والإغلاقات والاعتقالات، الله المستعان.

 

استدرك: أين المكان في مام الله؟

قال "عدنان" بجوار المقبرة.

 

من جديد تحدث المضيف: نعم، تلك المقبرة هي أقدمُ مقبرة من قبل الآشوريين عام 714 قبلَ الميلاد، وقد تمَّ استخدامها لإلْقاء جثث السكَّان من قبل الفُرس عندما احتلُّوا المدينة عام 614 بعدَ الميلاد، وقد حوَتْ أجساد الطاهرين من صحابة وتابعي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثل الصحابي الجليل عُبادة بن الصامت بعدَ الفتح الإسلامي، وقد استردَّها صلاحُ الدِّين عندما أعاد تحرير القدس من أيدي الصليبيِّين عام 1187 بعدَ الميلاد، وأمر بدفن الشهداء فيها بجوار ضحايا مجازر الحروب الصليبيَّة، الذين قُدِّر عددهم بـ70 ألفًا من الرِّجال والنِّساء والأطفال.

يا للحروب! قالها "زياد".

 

تخطَّوا المقبرة الآن، ووصلوا لحدود البركة: بركة "ماميلا" حيث ضمَّها الاحتلال أيضًا إليه، وأوقف ضخَّ الماء منها للسكَّان، نزلاَ وشكرَا المضيف.

 

حي سلوان بالقد س

 


بركة مأمن الله (ماميلا)

 

 


من المقبرة

توجها رأسًا حيث منزل "عدنان"، صدمهما منظرُ السِّياج حولَه، وعلامة (ممنوع الاقتراب).

البيت المغتصب وعلامة ممنوع الاقتراب

ثم انطلقَا حيث بيتُ بعض أقارب "عدنان" في حيِّ سلوان، كان اللِّقاء حارًّا، وتمَّ الترحيب بهما، كثيرٌ من الحكايات سمعها "زياد" و"عدنان" على حدٍّ سواء، وكثير من الناس جاء فورًا لزيارة الابن الغائب "عدنان"، وأخو زوجته في حميمية لا تلغيها الجدران ولا الفواصل الزمنيَّة، في المساء جَلَس الصَّديقان ينظران للغروب على القُدس وهما يحمدان الله أنْ يسَّرَ لهما هذه الفرصة.

 

طلبَا مكالمات هاتفية، وطمأن "زياد" أسرتَه، وعلما أنَّ موعد وصول الزملاء بالقناة تحدَّد مِن جديد مع اختصار عددِ أفراد البَعْثة لفردَيْن فقط؛ ضغطًا للنفقات، وتم الاتفاق لترتيب اللِّقاء بالأقْصى.

 

سهر "عدنان" مع أقاربه وجدَهم أعدُّوا عريضةَ دعوى لرفْعها ضدَّ الكِيان لاغتصاب أراضيهم، وكان وجوده مؤثرًا، الآن سيستطيع إضافةَ صوته عن منزل عائلته بانضمامه للتوقيع بشخصه في المحكمة، في الصباح الباكِر قام بهذا الأمر، ومع أنَّ ذلك أخذ وقتًا وجهدًا وعنتًا، إلا أنه بنهاية النهار انتهى الأمر، وتمَّ تقديم الدعْوى بنجاح، ووعد المحامي برفْع دعوى مماثلة لدى دول الاتحاد الأوربي بما لديه من أوراق وتوكيلات، وبذا انتهى "عدنان" من مهمَّته، وأصبح سعيدًا، وكأنَّما وُلِد من جديد، ولم يعد قادرًا على مزيد من الصبر ليعودَ لزوجته، فيقبل رأسها ويصالحها، لم يتصوَّر أن يتمَّ الأمر بهذا اليسر، ولكنه قدر الله كما قال له "زياد"، هذا المساء وهما يتمشيان في أحياء القدس، اختلاف رهيب في طبيعة العمارة والتجارة والبشر على جانبي القدس الغربيَّة والشرقيَّة، لمسه الصديقان هذا المساءَ، واضطرم الصِّراع بيْن المشاعر الغيور في صدريهما على مقدَّساتهما، والتي سجَّلاَ العديد منها للقناة، والشعور بالراحة لانتهاء الموقف وعودتهما للمأمورية الرئيسة، وخط السير الطبيعي للقيا الزملاء.

القدس المحتلة


القدس المحتلة مساءً


القدس مساءً


قلعة القدس أو قلعة باب الخليل، ويسميها الصهاينة قلعة داودالقدس مساءً

حائط البراق في الجهة الغربية من الحرم المقدسي، ويطلق عليه حائط المبكى.

عادَا من جولتهما ليلاً ليتفاجأ بوليمة جمعتْ أقارب "عدنان" وجيرانه لإعدادها على شرفهما من أوَّل النهار، وتعرَّف "زياد" عن قُرْب على العادات الفلسطينيَّة التي تقوم على النشاط، ومدى قابليتهم للعمل الجماعي بتجهيز الولائم الضخْمة في أوقات قياسيَّة بطُرق مبتكرة، وبأضعف الإمكانيات.

 

الجوُّ الدافئ للعائلة، وبراءة المشاعر رغمًا عن كلِّ الظروف، غسلتْ كثيرًا من القلق الذي قابلاه للآن، وأسكنت التفاؤل والبُشرى قلْب الشابَّين، ونامَا على وعْد الصلاة بالحرم الأسير غدًا.

 

ولائم ضخمة بإمكانيات بسيطة

 


 

 

تقديم كل شيء في محبة وتعاون

في الصَّباح كان أوان الأقصى، أخيرًا الصلاة هناك.

مرَّا مع الناس ببوَّابات الأقْصى الرئيسة، ودخلاَ مِن جهة باب المغارِبة، وهو الذي أهداه صلاح الدين للجنود المغارِبة تقديرًا لدَوْرهم في حرْب تحرير القدس، اقتربَا من الحاجز، تفاجأا عندما رفض الجنودُ دخولهما بحُجَّة أنهما دون سِنِّ الأربعين، رغمَ أنهما يملكان تصريحًا استثنائيًّا بهذا الآن، بل تصريحين، واحد مِن القاهرة، والآخر من القدس!

عبثًا حاولاَ.

 

وقال المتحدِّث المسؤول باسم الكيان: لقد صدرتْ قرارت جديدة بمنْع المصلِّين دون سِنِّ الخمسين أيضًا؛ ابتهاجًا بتدشين كنيس الخراب، ووضع حجر الأساس له، وقد صدرتْ تصاريحكما قبلَ القرار لا بعدَه، لا عبور لكما للمسجد.

 

كيف ونحن بيننا وبيْن صحْن المسجد عبورُ هذا الباب؟ كيف بالله أخْبِروني يا بشر؟! صرخ "زياد" منفعلاً.

حاول معه "عدنان"، وتَمَّ سحبهما بالقوَّة من طابور المتقدِّمين للفحْص للدخول، ما لبث أن صليَا الظهر خارج المسجد بجانب السور مع جمْع من المصلِّين هناك.

 

بعدَ الصلاة بكى "زياد" عميقًا، كيف يصل إلى هنا، ويرحل مِن جوار هذا الجدار؟

اقترب منه مصلٍّ يلبس زِيَّ العمل، ما بك يا أخي؟ بي ما بكلِّ الأحرار يا أخي، أجاب "زياد" بحرارة.

 

جمع "زياد" و"عدنان" وجارَ المصلَّى حوارٌ قصير، اختُتِمَ بأن تقدم المصلِّي بعرْض أن يستبدل "زياد" بنفسه في استكمال يوم عمله في الداخل، فهو يعمل ضمنَ فريق صيانة داخلَ الحرم ولكنَّهم مع ذلك يخرجون لصلاة الفَرْض خارجَه، هكذا اشترط المحتل؛ ليوافقَ على أعمال الصيانة، ولكن قد تتوانَى الفرصة أحيانًا لبعْض العمَّال باختلاس ركَعَات في المصلى، وقد تكون هذه فرصة "زياد".

 

قال "عدنان": "زياد"، لسنا مضطرين لهذا، عاجلاً سيصل بقية الزملاء، وقد نُفلِح في الدخول بتصاريحنا.

"زياد": وقد لا نُفلِح، سآخذ هذه الفرصة.

صمت "عدنان".

 

قال الرجل: حسنًا، هيَّا إلى "الختيار"، وأضاف: رئيسي في العمل، وهو يصلِّي معنا أيضًا ها هنا، فموافقته أساسيَّة.

تغيَّر لون "زياد"، وأطرق من جديد، لكنَّه فوَّض أمره لله.

 

وافق الختيار، هكذا قال الرجل، وخلَع عنه تصريحَه المعلَّق على قميصه، وأعطاه لـ"زياد".. استقبله "زياد" بفرحة لا توصف، وقبَّل الرجل على رأسه، ودعَا له، ثم استدار فعَانق "عدنان" بحرارة، ثم مضى نفر عمال الصيانة، ودلفوا للحاجز بعدَ فحص أوراق "الختيار" الجامعة للطاقم مِن قِبل الجنود.

 

لحظات انحبستْ فيها أنفاس "زياد" و"عدنان"، وكل الطاقم، ولكن ثبَت الجميع، ولم يستغربْ "عدنان" رباطة جأش "الختيار" وقوَّة عزيمته، وهو ينظر للجندي، وقد ضاقتْ عيناه: ألم تفحْصها صباحًا؟ لم يرد الجندي، ثم ما لَبِث أن أشار بيده؛ أي: مرُّوا.

 

دلفوا للداخل، شعر "زياد" بعبق من نسيم الجَنَّة يغمره أوَّل ما عبر من الباب، وكأنَّما تغيَّرتِ الدنيا، وكأنَّما عانق رُوحه في لحظة، بالكاد طاق صبر نفسه حيث وصَلوا لجوار المصلَّى وسحَب نفسه كشعرة ودَخَل.

الله أكبر ماشاء الله.. سبحان الله! سكن قلبه المضطرب دومًا وتوقَّفت أفكارُه العاصفة، وحلَّت سكينة الإيمان في قلْبه في لحظة، خلَع عنه حذاءه، ثم استلم القِبلة: الله أكبر، وصلى بخشوع.

صلَّى بخشوع رغمَ الامتهان، رغمَ الغضب، صلَّى بأمان وأريحية، على الرغم من الخوف والاضطراب.

الرحلة التي تغيَّر نمطها فجأة، الأحداث المتلاحِقة التي مرَّ بها، المخاطِر المحدقة به - وبالأقْصى - من كلِّ اتجاه.

صلَّى لله.

سجَد: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى.

 

دعا بعد التشهد: الحمد لله الذي هيَّأ لي هذا، وما كنت لأفعلَه إلا أن يشاء الله، الحمد لله الذي هدى، الحمد لله الذي منَّ علينا بالإيمان، ربَّنا هيِّئ لديننا أمرَ رشد، يعزُّ به أهل طاعتك، وتهدي به أهلَ معصيتك، ربَّنا هبِ المسيئين منَّا للمصلحين، ربَّنا وفِّق أهلَ دينك للإيمان، ربنا واهدِهم سبلَ الرشاد، ربنا وفِّقهم لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، سبحانك ربي الأعلى.

 

يا مَن هديت وسترت، وعفوت عني، وجُدتَ بإكرام عبدك الضَّعيف بصلاته هذه خالصة لك بيْن يديك في البُقعة المقدَّسة، اللهمَّ كما يسرتَها لي فاقبلْها مني، اللهمَّ ربي اغفرْ لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

 

الحمد لله اللَّطيف الذي سَتَر القبيح، وأظهر الجميل، ولم يهتكِ الستر، ولم يؤاخذْ بالجريرة، ربَّنا لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا، ربَّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملتَه على اللذين مِن قبلنا، ربنا لا تجعلْ في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا.

 

ربَّنا اغفرْ لي ولوالدي وللمؤمنين يومَ يقوم الحساب، اللهم دينك دينك، اللهم وعدك وعدك، اللهم إخوتي إخوتي، اللهم أمي أمي، اللهم لا حولَ ولا قُوَّة إلا بالله العليِّ العظيم، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارِكْ على محمد وآله أجمعين.

خَتَم "زياد" صلاته، وخرج وهو إنسانٌ آخَرُ، يشعر بنفسه تملأ بيْن الأرض والسَّماء، ويشعر بحفيف الملائكة في المسجد يُطيِّب المكان.

 

سمع الجلبة مِن جديد في الخارج، شرطة الكيان المحتلِّ انتشرتْ في باحة الأقصى الشريف، وتنادَى المصلُّون كالعادة في مثل هذا الظرف: اقتحام اقتحام، الْتقط الإمام المكبِّر وخرج: يا أهل بيت المقدِس، يا أهل بيت المقدس: الأقْصى يناديكم، الله أكبر، أكبر الله أكبر، يا مجيب يا مغيث، الله أكبر.

 

خرج "زياد" مع مَن خرج، واشتبك مع مَن اشتبك، ولم يجد إلا حذاءه، فقَذَف به المعتدي، وبذِهْنه حاضرة صورة الصبية الفلسطينيِّين الذين رجموا المحتلَّ بالحجارة، وأعطوه تأشيرة الدخول الحقيقيَّة للأقْصى، الْتقط الحجارة مثلهم ورجمهم، وبقلْبه مطبوعة صور كلِّ مَن ترَكهم خلفَه مِن جرْحى ومرْضى بانتظار - فقط - الحصول على حد أدْنى من العلاج، بكل ما خبره مِن صور عدوان فاجِر، ودمار غاشم لا يرحم، رجمهم نيابةً عن حيرة أمِّه، وشتات أسرته، ودموع أخته، وأسر رجولته، رَجَمهم نيابةً عن كلِّ رجل وامرأة، وطفل حرٍّ يُعاني خلف الأسوار، يشكو كرامتَه السليبة، وأقصاه المهان، رَجَمهم بحذائِه، وضرب بيديه ولم يشعرْ بالهراوات على يديه ورأسه وجسده، لم يشعر أي جزء منه أُصيب، ولا أي عِظامه تُكسَّر!

والأبطال حولَه يتساقطون يدفعون بأجسادهم، بأرواحهم.

 

وأخيرًا: تَرَجَّلَ البطل، وأخيرًا ارْتقى الشهيد بصِدقه، سقط "زياد" وصوت المؤذِّن: حي على الفلاح.. حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر...لا إله إلا الله.

تمَّت بحمد الله.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الحنين إلى القدس (قصيدة)
  • المسجد الأقصى ومدينة القدس في الرؤية الإسلامية والتاريخية
  • نداء القدس (قصيدة)
  • القدس وآفاق التحدي (1)
  • نفوس العرب
  • قصيدة القدس
  • الأقصى وملك اليهود
  • هل لليهود حق في فلسطين؟
  • مسيلمة السلام (قصيدة تفعيلة)
  • منى وأمها (قصة)
  • أيام في أوروبا
  • فاس والقدس

مختارات من الشبكة

  • أيام الله المعظمة: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق(مقالة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر لا سيما الأيام البيض(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرح حديث: رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة(مقالة - موقع الشيخ عبد القادر شيبة الحمد)
  • لا يجوز ذبح الهدي إلا يوم العيد وثلاثة أيام بعده(مقالة - ملفات خاصة)
  • أيام التشريق أيام ذكر لله (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)
  • يوم عرفة يوم من أيام الله (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)
  • يوم من أيام الله عزوجل (خصوصية يوم عرفة)(مادة مرئية - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • يوم من أيام الله عزوجل (تحقيق الدعوة يوم عرفة)(مادة مرئية - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • يوم من أيام الله عزوجل (أنه يوم الدعاء)(مادة مرئية - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • أيام الأضحى والنحر أيام تضحية وفداء وذكر (خطبة عيد الأضحى 1439هـ)(مقالة - ملفات خاصة)

 


تعليقات الزوار
5- عمر في القدس
مفيدة - تونس 07-04-2010 02:30 PM

لا اجد كلاما شكرا لجميل المعنى وقوة العبارة وقوة الكلام الذي ينقل الحكاية ويصور الواقع ويرسم الصدق واضحا جليا، اقول اني لم اقرا نصا بدقة الإحساس كهذا لذك اشكر من رسم قلمه احاسيس بعذا العمق لتصل الينا بنفس القوة والعمق

4- ما شاء الله ..
تمام البدر - فلسطين 06-04-2010 02:05 AM

بارك الله فيكِ يا حرة .. يا أبية ..

صدقا عشت الأحداث كأني موجودة معهم ..

قلم من ذهب لكاتبة من طهر ..

3- جهود جباره بارك الله فيكم يارب
Amr - UAE 05-04-2010 10:21 PM

جهود جباره بارك الله فيكم يارب

2- تبارك الله
امل - فلسطين 05-04-2010 07:03 PM

ما شاء الله لا قوة الا بالله ...جدا جميل يا دكتورة امنية كعادتك ..تنشرين ابداعك ...بارك الله فيك ...سأنشرها بإذن الله باسمك في الفيس بوك ان اذنت ذلك

1- جهد طيب بوركتم
عمار - السعودية 05-04-2010 03:54 PM

جهد طيب بارك الله فيكم وفرج الله عن أمة الإسلام وعن المسلمين

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 17/11/1446هـ - الساعة: 9:44
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب