• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

مدينتي الجميلة

مدينتي الجميلة
جواد عامر

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/7/2023 ميلادي - 20/12/1444 هجري

الزيارات: 3825

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مدينتي الجميلة


كانت هناك مدينةٌ تعيش هانئة مطمئنة، يعمل سكانها بجدٍّ ونشاط، يستيقظ كل عامل فيذهب إلى عمله، ثم يعود في المساء إلى منزله؛ ليرتاح من عناء العمل، لكنَّ بعض أحيائها كانت شديدة الاتساخ والتلوُّث، فأهلها لم يكونوا مكترثين لِما يصيبها كل يوم من أدرانٍ؛ لانشغالهم بأعمالٍ كان أغلبها تجارات بسيطة في الأسواق القريبة، أو حرفًا يدوية يمتهنونها، فلا ينتهون إلا في المساء، وربما أسْدَلَ الليلُ سِتاره، وظل بعضهم منهمكًا في عمل من الأعمال، فلا يعود حتى يفرَغ منه، وقد أخذ التعب منه كل مأخذ، فظلَّت تلك الأحياء على حالها شهورًا طوالًا وهي تئِنُّ من عبثهم وعدم مبالاتهم، يرمُون الأزبال أينما اتَّفَقَ لهم، فلا حاويات تُجمَع فيها غير أراضٍ متفرقة هنا وهناك، اتخذوها مطارحَ للنفايات، ولا شاحنات مختصة في عمل التنظيف، والنقل إلى المطارح البعيدة أو المصانع؛ قصدَ إعادة التدوير تلِج أحياءهم؛ لكثرة ما كان جمع القمامة مُتْعِبًا للعاملين في التنظيف، بخلاف الأحياء الراقية، فقد كان سكانها يضعون القمامة في أكياس مغلقة داخل سلَّات المهملات، المثبتة على أعمدة خاصة، أو المنتشرة على طول الأرصفة؛ إذ لم يكن لهم أبناء يحطمون السلات، أو يسوقونها داخل الأزقة، فهم على درجة عالية من حسن الخلق، لا كأبناء هاته الأحياء الهامشية، لا يعرفون غير العبث والتخريب، فكنت ترى القطط والكلاب الضالة تتهافت عليها لتناول بقايا الأطعمة، وتجد الذباب كجيش عَرَمْرَمٍ يَطِنُّ وغيره من الحشرات المقززة تدِبُّ دبيبًا فوق عصائر الأزبال، التي تزكم الأنوف، هكذا ظلت المدينة المسكينة على حالها؛ روائح النفايات نتنة، ومياه المجاري تفيض من بالُوعات هذه الأحياء، فتفيض سائلة في الطرق، وريحها يكاد يخنُق الأنفاس، هكذا بقيت المدينة على هاته الحال، تَرثي نفسها، وكانت تعلم أن الأمر إذا استمر بهذا الشكل، فإن الإنسان سيدفع ثمنه آجلًا أو عاجلًا.

 

وجدتِ الطفيليات والجراثيم ملاذًا رائعًا للتكاثر والانتشار، فقرر جيشها أن يغزو المدينة؛ ليقرر السكن في الأجسام البشرية، فهي موئل أفضل ولا بد أن دِفْأها ملائم، هكذا أقنعت الجراثيم نفسها، وانطلقت في فلول كبيرة نحو المدينة، إنها كائنات مخيفة تهجُم على الأجسام بغير رحمة، مضت أيام قليلة على الهجوم، فشعرت كثير من الأجسام بالتعب والفتور، لم تقوَ على مبارحة المكان، فلا قدرة لها على الذهاب للعمل، ظل كثير من أهل هذه الأحياء يعانون من أعراض صحية؛ كالقَيء والإسهال والحُمَّى، وفرحت الجراثيم بانتصارها على الإنسان أيما فرح، وتغنَّت بغبائه؛ فهو من أفسح لها مجال التكاثر والعيش في سلام داخل جسمه؛ بسبب إهماله للبيئة، وجريه وراء المال، متناسيًا أن المحيط يستوجب العناية الكبرى؛ لأن صحة الإنسان مقدَّمة على الأموال ومتاع الحياة.

 

سمع سكان الأحياء الراقية بعد أيام بما حل بالعائلات في الأحياء الهامشية، فالأخبار تنتشر كالنار في الهشيم، وكان من بين هؤلاء طبيب مشهور، فقرر مساعدة الأهالي لتجْنِيبهم مضاعفات المرض، فذهب إلى واحد من هذه الأحياء الواقعة جنوب المدينة، تتبعه سيارة إسعاف للحالات العاجلة، جال ببصره في الرُّكام المنثور هنا وهناك من القُمامة، ورأى بعينيه تسرُّب مياه بعض البالوعات وهو يقود سيارته ببطء، متجنبًا حُفَرًا في الطريق، لقد كان كل شيء في هذا الحي يبعث على الشفقة، بعض العيون تتطلع إلى القادم الجديد، فهم لم يألفوا مجيء سيارات فارهة من هذا اللون، أكثر مما ألِفوا عربات تجرها بغال وحمير هزَلَتْ، أغلبها انسلخ جلدها من كثرة العمل ومشقته، وسيارات الشرطة الباحثة عن لص أو بائع مخدِّر، علمت بعد التحريات أنه يختبئ في وكر من هذه الأوكار الهامشية.

 

عرَف الطبيب أن غالب السكان هنا لا بد أنهم مصابون بوباء تسببه جرثومة تتكاثر في الأوساط المتعفنة، ولا بد أنها أصابت عددًا منهم، وستصيب البقية إذا لم يتم تحصينهم؛ لذا فعلى المصابين أن يتناولوا دواء خاصًّا، غير أن الاستمرار في العيش بهذا الوسط المتسخ سيكون مدعاةً للإصابة بالمرض من جديد؛ لذا أقنع الطبيب الساكنةَ بضرورة تنظيف الحي، وإزالة كل أسباب التلوث؛ حفاظًا على المحيط، وأنه سيتكفل شخصيًّا بإلزام شاحنات نقل القمامة بحمل كل نفاياتهم، شرطَ أن يُعِينوهم بسلوكهم الرشيد، فلا يكسِروا حاوية، ولا يخربوا سلةً؛ لأن هذا سيعود عليهم بالنفع، وعلى حيهم ومدينتهم التي يعدون جزءًا منها، أنهى الطبيب مهمته في هذا الحي بعد أن وزَّع الدواء على عدد من المرضى، وبيَّن لهم طريقة الاستعمال، ثم راح ليكمل بقية المهمة مع أحياء أخرى تقع قريبة من المكان، فكان المشهد يعيد نفسه؛ قُمامة هنا وهناك، روائح تزكم الأنوف، أخرج الطبيب كمامة جديدة ووضعها على أنفه وفمه؛ اتقاء الجراثيم المنتشرة في الموضع... وقدم نصحه للسكان محذرًا إياهم من انتشار المرض بينهم، وانتقال العدوى إلى الآخرين، فيصير الكل في مواجهة مرض متطور قد يستعصي علاجه، أثَارَ كلام الطبيب مخاوفَ المستمعين الذين وعدوا الرجل والمسعفين معه بتنظيف الحي، ومنحه كل الجمال، وطلبوا منه العودة إلى المكان بعد حين؛ ليرى بنفسه ما سيفعله شباب وأطفال هذا الحي.

 

عاد الطبيب برفقة المسعفين وقد شعروا أن ساكنة الأحياء قد فهموا أن سبب مرض كبارهم وصغارهم من أصحاب المناعات الضعيفة، هو الجراثيم التي نشأت بفعل غياب النظافة في حيِّهم؛ لذلك قرر كل أبناء الأحياء التعاون فيما بينهم للقضاء على كل مطارح القمامة، وتنظيف الأزِقَّة والشارع المؤدي إلى حيِّهم؛ حيث يتدفق ماء الصرف الصحي، اتفق الشبان على أخذ المعاول والمجارف، والتوجه نحو المطارح المتفرقة، والعمل على جمع كل القاذورات في أكياس تهيئة لعمال النظافة، الذين سيأتون لأخذها إلى مطرح بعيد عن المدينة، بدأ العمل على قَدَمٍ وساقٍ، والشباب يجِدُّون فيما يصنعون، مضت ساعات قليلة ففرغ المكان من كل القمامة، والشاحنة تمتلئ بالأكياس، بينما كان شباب آخرون ينظفون بخرطوم ماء شارعهم من الأتربة والأقذاء العالقة على الجنبات، فتحوا غطاء البالوعة، وشرع شاب متطوع يُخرِج ما علِق فيها بقضيب حديدي، فأخرج بعض الأثواب البالية التي كانت متكدسة، فسدت فتحة المجرى، فتدفق ماء الصرف الصحي داخلها بكل سهولة، فأُعِيد الغطاء إلى موضعه، وأخذ خرطوم الماء يغسل المكان، ويزيل كل أثر مخلف هناك، حتى غدا الشارع غاية في النظافة، وهكذا صنع بقية الأفراد من شبان الأحياء الأخرى، حتى صارت أحياؤهم على درجة عالية من النظافة، لكنهم لم يقتنعوا بذلك، فعزموا على تجميل الأزقة، فتوافقوا بتنسيق مع بقية الأحياء على اختيار أمهر الرسامين لرسم جداريات مختلفة، وتزيين الأزقة بالمزهريات ذات الورود المختلفة، وزرع الأشجار والنباتات في الأماكن التي كانت تُرمى فيها القُمامة.

 

في صباح الغد، سُمِع هدير محركات، فإذا هي شاحنات محملة بحاويات للقمامة وسلات للمهملات، أخذ العمال يوزعونها بعناية ودقة بين الأزقة، وعلى مسافات متباعدة بجوار الطريق، فهُرع بعض الشبان يساعدون العمال في الإنجاز، وما هي إلا لحظات حتى وُضع كل شيء بعناية في مكانه، شكر الشبان وسكان الأحياء للعاملين صنيعَهم، ووعدوهم بالحفاظ على نظافة الحي، وتجميع القمامة في أكياس، مع تصنيفها بين مواد ورقية، وأخرى معدنية وزجاجية؛ وقاية للعاملين من الإصابات، وتسهيلًا لعمليات الفرز؛ قصدَ أخذ المخلفات إلى مصانع التدوير من جديد.

 

حضر الرسامون والريشات والأصباغ بين أياديهم، وشرعوا في رسم اللوحات الجميلة، وكتابة الشعارات المحفزة على الحفاظ على البيئة، والاعتناء بجمال المدينة، فأخذت التشكيلات الفنية من الألوان والظلال والأبعاد ترتسم على الحيطان يومًا بعد يوم، حتى أخذت حُلَّتَها الرائعة، وغَدَتِ الأزقة تُحفًا جميلة تسبي الناظر إليها، مزهريات ملأى بالورود والأزاهير من شتى الأصناف، ومطارح سابقة غَدَتْ حدائق غنَّاء، زُرِعت فيها شجيرات وبعض النباتات الخضراء، وأخَذَ الشبان على عاتقهم مهمة سقيها كل يوم حتى تغدو يانعة، وتتحول إلى فضاء جميل بعدما كانت مجرد مطرح للقمامة، تجمعت فيه الحشرات والكلاب والقطط، وموئلًا للجراثيم.

 

أخذ المرضى يتعافَون بعد شربهم للأدوية وخلودهم للراحة، فما إن همَّ كل واحد منهم بالخروج إلى عمله، حتى رأى فضاء غير الذي اعتاده، وقفت أمامه العيون في ذهول، ألوان وأصباغ صُنِعت لوحات بديعة، ومزهريات مختلفةٌ ألوانُ ورودها، وشارع وأزقة غاية في النظافة، أدرك الجميع أن المسؤولية مُلقاة على عواتقهم، من أجل فضاء نقيٍّ صافٍ من كل الأدران، بل أكثر من هذا نقل الشبان تجربة التشجير والرسم على الجداريات إلى أحياء أخرى، فما إن رأى الناس إقدام هؤلاء الشباب على هذا الصنيع، حتى هُرعت الأيادي تجمع ما عرض لها في الطرقات والأرصفة من ضروب القمامات، وأخذ شبانها يزينون الأحياء بكل أنواع الزينة، ولم تتوانَ الجهات المسؤولة في العمل الدؤوب؛ لِما رأته من عزم الناس على تأهيل فضاء مدينتهم، فأخذت على عاتقها بمهمة تشجير الأرصفة وتزيينها بالألوان الزاهية بين أحمر قانٍ، وأبيضٍ ناصع، وأخضر يانع، وأصفر فاقع، ووضعت أعمدة من كهرباء تحوي مصابيحَ ملوَّنة، تشتعل وتنطفئ، فتظهر المدينة ليلًا، وكأنها مهرجان بديع مزيَّن بمصابيحَ تتوهج حينًا، وتنطفئ حينًا آخرَ في لوحة بانورامية رائعة الجمال.

 

ماتت الجراثيم والطفيليات، وانتهى أمرها للأبد، وعادت الحياة تدِبُّ على قدم وساق في كل ناحية، والجمال يؤثِّث المدينة، لقد صارت أجمل مما كانت عليه، هكذا أقنع سكانها نفوسهم، فزادهم هذا إصرارًا على المحافظة على كل معلم من معالم جمالها، لم ينسَ الطبيب وعدَه لسكان الأحياء الهامشية، فراح في جولة استطلاعية لتفقُّد الأجواء هناك: "يا للعجب! لقد تغير كل شيء، هؤلاء الشباب صادقون فيما زعموا، بل أكثر من ذلك، فالفضل يعود لهم في تزيين كل المدينة، وفي تنافس كل سكان الأحياء لتجميل محيطهم".

 

قالها الطبيب مندهشًا وهو يقود سيارته بتُؤَدَة في الشارع، لا وقاية للسيارة من الاهتزاز بين الحفر، فلا وجود لواحدة؛ إذ تم حشوها وإغلاقها، فهي أيضًا وجدت من يمنحها شيئًا من العناية، وإنما ليتملَّى بناظريه في لوحات هؤلاء الفنانين القابعين في الهوامش الضيقة، دون أن يلتفت إلى مقدرتهم الهائلة على الإبداع، إنهم طاقات حية لو وجدوا مَن يرعى مواهبهم هكذا، فقال الطبيب في قرارة نفسه متحسرًا، لكنه أحس بالانتشاء؛ لأن كلامه وجهده لم يضع هدرًا؛ فقد أثمر فواكه النجاح، وصنع الجمال، الذي طالما حلَم أن يراه في مدينته التي نشأ فيها منذ نعومة أظفاره، إنه طبيب ناجح، لا مع مرضاه فقط، ولكن مع الناس كلهم، يُحسِن مخاطبتهم، ويفهم حالهم، فقد كان لدراسته علم النفس في الجامعة الباريسية أثرٌ كبيرٌ في قدرته على مخاطبة الناس، وفهم أحوالهم واحتياجاتهم، وقعت عيناه على حدائقَ فيحاءَ، ملأى بألوان النبات، وسلات المهملات، وحاويات القمامة منتشرة في كل مكان، لفت نظره صبي دون العاشرة يحمل كيسًا، ويضعه بعناية في حاوية على الرصيف، عرف الطبيب أن الرسالة قد وصلت، وأن حب الجمال باتت بذراته تُغرَس في الناشئة، فاطمأنَّ قلبه وهنأ باله لِما رأى من جميل الصنيع، فالمدينة ارتدت حلة جديدة، لم يُسبَق إلى مثيل لها من قبل.

 

تكفَّل شباب بكتابة شعارات تحمل أسماء من قبيل "مدينتي الجميلة"، و"لنحافظ معًا على جمال مدينتنا"، و"لنبنِ مدينة رائعة الجمال"، و"النظافة من الإيمان"، نشروها على امتداد الشوارع، وتكفَّل رسامون منهم برسم لوحات لأشخاص يزيلون القمامة، ويضعونها في سلات المهملات، كنوع من التوعية والتحسيس، فكان الكل على قدر المسؤولية يفهم دوره في الحياة.

 

تحولت المدينة - بخاصة أحياؤها الهامشية، وشوارعها وأزقتها، ومرافقها العامة، وحدائقها - إلى تحف جمالية يُضرَب بها المثل، فأصبحت الألسنة تلوكها، وتتحدث عن سمعتها الطيبة، فإذا دخل غريبٌ مدينتَهم، وحدثته نفسه ولو سهوًا برمي ما يُفْسِد جمالها في شارع أو زُقاق، إلا وجد ناهرًا يَنْهَره، وآمرًا يأمره بحمل ما رمى، ووضعه في مكانه المخصص له، حتى غدا كل زائر لهذه المدينة على اختلاف أحيائها يرى كل آية من آيات الجمال باديةً، فيخجل من أن يفسد ما صنعته الأيادي فيها.

 

اتفق ذات يوم أن زارت المدينة ليلًا مجموعة من الغرباء، كانت قد سمعت عن جمال ونظافة المدينة، فوجدت ما قيل لها حقًّا، أضواء تلتمع، وشوارع غاية في النقاء، وأرصفة خالية من القمامة، فغاظهم ذلك، واتقدت نار الحقد في قلوبهم، فأرادوا تشويه معالم الجمال فيها؛ حتى لا تكون أفضل من مدينتهم، فانتظروا وتربصوا حتى خَلَتِ المدينة من المارة، وسكن الوجود، فاتخذوا حديقة ملأى بالأشجار مثوًى لهم، تناولوا فيه طعامهم، ولما فرغوا تركوا البقايا في موضعهم، ونثرها أحدهم راكلًا إياها بقدمه، وضحكاتهم تتعالى ممزِّقة هَدْأَة الليل، مضَوا كالمتسكعين في اتجاه كل سلة تلوح لهم، وكل حاوية للقمامة ظهرت في طريقهم، وجعلوا يفرغونها وينثرون ما فيها على الأرض، فعلوا هذا طوال الليل، وكلما ظهرت لهم أضواء سيارة قادمة من بعيد بين الفينة والأخرى، التزموا مكانهم في هدوء، كأن شيئًا لم يكن، ثم يعيدون الكَرَّةَ، حتى غدا الكثير من الأرصفة والطرقات على غير عادة معتادة، مليئًا بالقاذورات المتناثرة هنا وهناك.

 

في الصباح استفاق الناس كعادتهم للذهاب إلى أعمالهم، لكنهم اصطدموا بمشهد غريب، وكأن كائنات ما عبثت بمدينتهم، ظل الناس يتساءلون عن الفاعل، لكن أسئلتهم ظلت معلَّقة بغير جواب، تولى عمال جمع القمامة زمام الأمر، فنظفوا المدينة، وأعادوا الأمور إلى نصابها، لكن الأمر لم يكن ليعجب الغرباء الزائرين الذين جالوا في المدينة نهارًا، فغاظتهم الجداريات والمزهريات المنتشرة في الأزقة، وكثرة سلات المهملات، ففكروا وخططوا لإفساد الجداريات، وقطع الزهور، وتكسير المزهريات، وتخريب سلات المهملات، فانتظروا حلول الظلام؛ فهم يعلمون أن الكل متعب من عمل النهار، ولا بد أن الخلود للنوم سيكون فرصة مواتية لإنجاز شرورهم، قرروا شراء بعض الأصباغ والريشات لتلطيخ اللوحات وإفسادها، واقتنَوا أدوات لتقطيع سلات المهملات.

 

أسدل الليل ستاره البهيم على الوجود الناعس بعد أن فَتَرَ الناس، وتوقفت الحركة لتنام المدينة على أمل إشراق شمس جديدة في صباح اليوم التالي، توجه الغرباء الثلاثة في جولة صغيرة، وقد وزعوا الأدوار بينهم، فالتزم أحدهم بتلطيخ الجداريات، وآخر بتخريب سلات المهملات، بينما أُسنِدت للثالث مهمة قطع الزهور، وكسر أغصان الشجر، شرع الأشرار في عملهم الخبيث، وبينما همَّ الغريب الأول بتلطيخ إحدى الجداريات حتى أمسكت به يد قوية ثَنَتْهُ عن فعله الشنيع، وبأخرى تلكُمه فتُسْقِطه أرضًا، لتجتمع حوله أجساد آدمية أثارت زوبعة من الغضب الشديد حول الجسد المطروح على الأرض، فأجبره الشباب على البَوح بسبب هذا الصنيع وعن مساعديه، فأخبرهم بصوت لا يكاد يُبين عن رفيقيه، لتتعقبهما الأقدام على طول الشارع الكبير، فوجدت أحدهما قد نثر القمامة من إحدى الحاويات وكسر جزءًا منها،، بينما كان الآخر في إحدى الحدائق يقطع الأزهار، وقد كسر بضعة أغصان، لتتحلق حولهما جماعات من الشباب، وتشبعهما صفعًا وضربًا، ليتدخل أحد الشباب فيلتمس من أقرانه التوقف عن ضرب هؤلاء الأوغاد، وتسليمهم إلى الشرطة؛ كي ينالوا العقاب؛ فهم يخربون ممتلكات عامة، ويفسدون جمال المدينة، توسل الأشرار الثلاثة إلى الشبان ألَّا يسلموهم إلى الشرطة؛ فقد نالوا من العقاب ما يكفي، ووعدوهم ألَّا يعودوا إلى فعل ذلك مرة أخرى، لكن الشبان لم يقتنعوا، وقرروا أن ينادوا على الشرطة، التي لم تتوانَ في الحضور لتعتقل الغرباء الثلاثة، وتأخذهم للمحاكمة.

 

عرفت الشرطة أن الغرباء كانوا قد قدِموا من مدينة مجاورة، وأن الحقد كان دافعًا لفعلهم الشنيع، فقد سمعوا عن مدينة الجمال، فغاظهم ذلك؛ لأن مدينتهم شديدة التلوث والاتساخ، فلم يشاؤوا أن تتفوق عليهم مدينة أخرى، فما كان منهم إلا أن يقدموا على تدنيس وتخريب المدينة الجميلة، استغرب المحققون لأمر هؤلاء الغرباء، ووبَّخوهم على صنيعهم هذا؛ إذ كان من الأَولَى أن يتخذوا من المدينة نموذجًا يُحتذى به، فيتنافسوا بينهم ليجعلوا مدينتهم أجمل وأنظف، فبالتعاون والعزم وصدق الإرادة يستطيع الإنسان أن يصنع المستحيل.

 

اعتذر الغرباء الثلاثة، وشعروا بتأنيب الضمير، لكن ذلك غير كافٍ ليمنع العقاب، فقد استوجبوا على القانون أن ينظر في أمرهم؛ ليكونوا عِبرة لكل من تسوِّلُ له نفسه تخريب ما ينفع الناس، وتلويث المحيط الذي نعيش بين ربوعه.

 

يحدثنا التاريخ أن الغرباء الثلاثة قضَوا عقوبة سجنية، ولم يغادروا أسوار السجن حتى تعلموا درسًا رائعًا في الأخلاق وحب الجمال.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • مسجدان جديدان بمدينتي تيرانا وديبر في ألبانيا
  • عشرات المسلمين الجدد بمدينتين في زيمبابوي
  • حملتان للتدفئة ومساعدة المحتاجين بمدينتي يلونايف وإدمونتون في كندا
  • ندوة للأمة ومسابقة للأذان بمدينتي رازغراد وكارجلي في بلغاريا

مختارات من الشبكة

  • أزمة لغتنا الجميلة (PDF)(كتاب - حضارة الكلمة)
  • الذكرى الجميلة(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • أهم سبعة أسرار للكتابة الجميلة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • تحليل محتوى كتاب لغتي الجميلة للصف الخامس الابتدائي في ضوء مهارات التفكير فوق المعرفي (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • البوح بالمشاعر الجميلة بين الزوجين(مقالة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • البوح بالمشاعر الجميلة بين الزوجين(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • مخطوطة تغريد الجميلة لمنادمة العقيلة في رسم القرآن (نسخة ثانية)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة تغريد الجميلة لمنادمة العقيلة في رسم القرآن(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • المعاني الجميلة للعيد(مقالة - ملفات خاصة)
  • الفنون الجميلة والمنهج الإسلامي(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 17/11/1446هـ - الساعة: 9:44
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب