• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

غدا القيامة ولا عهدة على الراوي (2)

الصرخة الكاذبة والهيعة
محمد صادق عبدالعال

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 22/12/2016 ميلادي - 22/3/1438 هجري

الزيارات: 4563

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

غدًا القيامة

ولا عهدة على الراوي

(2)

الصرخة الكاذبة والهيعة


ساورني الشَّكُّ مُساوَرةً بشأن تلك القرية؛ إذ لم أجدْ عزمًا للبِساط في قَبول حُجَّتي لها بشأن الشمس كعلامة كبرى.

تكهَّنتُ: (إنه لا يخرج عن كونِه جمادًا؛ فلا عقلَ ولا حَدْس له؛ لذا أنا أوعى منه فَهمًا، وأوسعُ إدراكًا، وسوف ينتبهُ الناسُ لتلك الخديعة الكبرى).

وبينما أنا على تلك الحال وبساطي العزيز صامت لا يدري ما يجول بصدري حِيالَه، ولا حيال القرية وأهليها المَغشيِّ عليهم من الهَلَكةِ - إذا بصيحةٍ عالية صاخبة تُدوِّي دوِيًّا كأنها بأرضٍ جُرُز؛ فلا زرعَ يمتصُّ الصَّوتَ، ولا شجرَ يتلقَّاه، ولا ديارَ تحتويه فتخفِّفَ من حِدَّتِه وفَزْعَتِه، ارتعدت فرائصي، وزُلزلت قدماي، واهتزَّ بي بساط الريح هزًّا عنيفًا كدتُ أُطرحُ من فوقه طرحًا فنهوي معًا، فاحتميتُ بقوله تعالى: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]، واستمرَّت الصَّيحة تُدوِّي في الناس دويًّا فيتردد صداها:

• غدًا القيامة!

• غدًا القيامة!

القيامةُ غدًا، فُزِّعَ الناس، وهاجت الأرض وماجت، وضجَّت بأخلاطهم، وتشابكت الكلمات، وأقبل بعضُهم على بعض يتلاومون:

"القيامة؟!

أحقًّا هي القيامة؟!

بغتة هكذا؟!

هل بموت (الأشرف) تقوم القيامة؟!".

 

وقد أصابني الذُّهولُ ممَّا أسمع وأرى:

(ألهذا الحدِّ حَدَا بالناس الجهلُ، فصُدِّقت تلك الفتنة؟!).

تمنَّيتُ لو نعود أدراجَنا أنا والبساط، فقلتُ له:

"ألا ينبغي أن تُنهيَ الرحلة؟"

قال متعجِّبًا ساخرًا: "أتخشى القيامة؟"

غضِبتُ: "الحمد لله على نعمة العلم والعقل".

• بساط الريح: "إذًا، فلا ضيرَ من أن تَطَّلعَ وترى، وما الحياة إلا مواقف، مَن لم يواجه البوائقَ، جاز أن يقعَ فيها، فمتى تكتسب الخبرات؟".

كانت كلمات البساط لاذعةً قاسية تُنبئُ بجديد لم أعهَدْه، أو شديدٍ لم أتوقَّعْه، وربما يكون قد حَلَّق بآخرين غيري؛ لذا فلن أتكهَّنَ ولن أنصرف، وسوف أواجه وأُثابر.

علِم عنِّي البساط عزمي على استكمال المسيرة بعدما وَثَبْتُ وثبةً عليه فحرَّكْتُه، فانطلق هو الآخر، ولسان حاله يقول لي: (أصبتَ موضعًا من حكمة)، ثم قال لي: "دعنا نرى المشاهدَ والصور، وكن خيرَ شاهدٍ لمشهود".

قلت: "بإذن الله".

 

مشهد أول

وكانت الصورةُ الأولى، ولم تكنْ متوقَّعةً أصلًا، ولا أقول بأنها خطرت لي؛ إذ يراها الناس هيِّنةً وسهلةَ الانقضاء وهي عند الله عظيمة، ولها كتاب موقوت.

رجال يصرخون ويُهروِلون، فيتساقطُ منهم الكثيرُ من هول الصَّرخة والهَيعَة؛ فكانوا يتركون المحالَّ والمصانع، والمقاهيَ والبيوت، ويُهرعون إلى المساجد، عمدوا إلى المصاحف التي كانت بالمسجد - وقد ران عليها التُّرابُ وغمرها - فتنازعوا عليها نِزاعًا كأنهم يتنازعون على حُطام الدنيا من قبل؛ كانوا يفِرُّون من صفحة لصفحة ومن سورة لأخرى، لا يجدون ما يقرؤون؛ بكيتُ وقلتُ للبساط:

"وددتُ لو أسألك هذه المرة فتجيبني"، فما رقَّ لي بساط الريح، ولا تراجع عن قراره.

جال برأسي حينها أنهم ومَن على شاكلتهم أشبهُ ما يكونون بالطَّالبِ الفاشل الذي أُقحم بالاختبار، ولم يكن قد حفِظ من قبل.

وبينما هم على تلك الحالة، اقترب نداءُ الفجر، فراحوا يصطرخون وترتعد منهم الفرائص، ويقولون: (يا ويلنا، فجرُ القيامة قد أوشك على البُزُوغ)، فرأيتُهم يتدافعون أيُّهم يؤمُّهم للصلاة، وكلما زُجَّ بواحد منهم، تراجع وتلاه مدفوع آخر!

ولمَّا رأى بساط الريح مني تأثُّرًا وبكاءً، انتفض وعرَّج بي بعيدًا؛ فقلت: (علَّه أشفقَ عليَّ، وسيُنهي تلك الرحلةَ العجيبة المؤثِّرة المُفجِعة)؛ لكن خاب ظنِّي، ووجدتُني في موقع آخرَ على مقترف كبيرة ألبسها الناس خِلْعةً حديثة، فكنتُ أُتمتِمُ: "يا ربِّ سَلِّمْ، يا رب سلِّم".

 

مشهد ثانٍ

رأيتُ طائفة أخرى تهرول وتُهرع لطرق متعددة؛ ومنهم العامدُ لدار رعاية المسنِّين، فغاب عن مخيلتي لِما هم ذاهبون في تلك الساعات الرهيبة العصيبة التي تتطلَّب سجودًا وركوعًا ليقبِضوا على طاعة!

تمنَّيتُ لو أسأل البساط؛ لكنه لم يُبدِ لي من أمرها ما قد علِم، وقلت:

(ألم يخبرْني بساط الريح أن الإجابة تلي الموقف الحاصل؟ فلِمَ المذلَّة لمثل هذا البساط، وإني على فَهمها لمَكينٌ أمين؟!)

 

انتبهتُ أنظر، فرأيتُ رجلًا يطرُق بشدة بابًا لدار رعاية المسنين، يستنجد:

(أمِّي أمي، أنقذيني، رجاءً لا تتركيني)، وآخر يقول: (أبي، عُدْ لدارِك، أبي، سأكون من الخاسرين إن لم ترضَ عني وتسامحْني، لأكونن من الهالكين).

ورأيتُ آخرين ينتظرون من يأتيهم من ذويهم الذين تركوهم بغير حقٍّ، واثَّاقلَ عليهم رعايتُهم.

قلت في نفسي: (ربما كانت لهم ظروفٌ تستدعي ذلك؛ لكن لا، ليسوا سواءً؛ منهم الجاحدُ، ومنهم المُقصِّر، وإن لم يكونوا كذلك، لَما فزِعوا ولما جاؤوا).

إن الأمهات في الديار كما الدُّرر، فمن تخلَّى، فليحذرِ الخطر؛ وها هو الخطر مُحدِق بهم، فيا رب سلِّم سلم.

ثم تحدث المفاجأة؛ تهبِط أمٌّ درجات السُّلَّم، ويتمنى ولدُها لو يمتلك أنيابًا فولاذية يُقطِّع بها حديدَ تلك البوابة ليرتميَ في أحضان أمِّه خشيةَ أن يلقى الله وهو لها عاقٌّ، فعجيبٌ أمر الخلق؛ ما يُشترى في الدنيا بهيِّنٍ، لا تُغني عنه في الأخرى الجبالُ!

 

ويقول الولد لأمِّه:

(أسألكِ الصَّفح عني؛ كانت الظُّروف أقسى مني وأعتى، فتعالَي معي تجمعُنا الدار ونلقى الله معًا، ونستعدُّ لقيامة قائمة، ونرتجي جنَّةً عالية، قطوفُها دانية).

 

الأمُّ - بعين عَبرى وقلبٍ مكلوم -:

(آلآن ولدي؟! سامحتُك، ما كان لفؤاد الأم أن يقسوَ حتى ولو أظهر الوجهُ غيرَ ذلك، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن فِراقك أحرُّ على كَبِدي من حُرْقة كبدك على ولدك؛ لكني لن آتيَ معك؛ فعسى القيامةُ أن تقومَ وأنا على تلك الحالة، فيغفر لي ربي بها زلَّةً طالما نسيتُها ولم ينسَها هو).

رجع الولد من عند أمه باكيًا آسِفًا، ثمَّ وقع الفتى مغشيًّا عليه، فحسِبنا أنه قد مات.

وهذا آخَرُ يرجو أباه، نزل إليه أصحابُ الدار يخبرونه: (إن أباك قد مات منذ شهر، ودُفن بمقابر الصدقة).

فبكى وعلا بكاؤه وقال: (هلكتُ بأبي!).

ثم توجَّه إليهم معاتبًا ومعنِّفًا لمن حوله: (لِمَ لَمْ تخبروني خبرَ موته؟ قبَّحكم الله)، فقالوا: (عجبًا لك! أوَلمْ تنْهَنا عن أن نخبرَك بشيء عنه، حتى عن موته؟!).

مَشاهدُ بَشعِةٌ؛ عاقٌّ لأمٍّ وعاق لوالدٍ: أين كنتم من ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ ﴾ [العنكبوت: 8] التي في القرآن؟ أين كنتم؟

رفعتُ أكُفَّ الضَّراعة لله مبتهِلًا: "اللهم ارحم أمِّي رحمةً واسعةً، واشملْها بعفوك في عبادك الذين قلتَ فيهم: {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40] ودعوتُ لأبي بطول العمر والبركة، وألَّا يقبضنا إلا على خير؛ فلربما كان برُّه وتقواه منجاةً لي مما عَثَرت به قدمي وزلَّت، فردد بساط الريح معي: "آمين آمين".

قال البساط بعدما أمَّن معي: "يكفيك هذا، أم ترى وتستبصر؟".

وقعت في حيرة؛ لكن روح المغامرة وتمنِّي الزَّوال لتلك المؤامرة التي حيكت للقرية حفَّزتني، وأصبح الأمر تحدِّيًا لتلك الفتنة الإبليسية القذرة، فقلت:

"استمرَّ، هيا أيها البساط".

فقال: "يا رب سلم"، فقلت مثلما قال.

 

مشهد ثالث

قارون العصر

مثلُه مثلُ الكثيرِ ممن ألهاه الشغلُ وانشغل حتى نسي وغفل؛ فصدَّق لتوِّه الهَيعَةَ بقيام القيامة، فتحسَّر على ما جمع، لم يجدْ مفرًّا مما اكتنز، وكم سمِع الوعظ وما اتعظ! فراح ينادي على الخدم والسَّدَنَةِ ممن كان يمُنُّ عليهم بالفُتاتِ؛ لكي يحملوا عنه الصَّدقات والزكوات التي أرجأها سنين عددًا، ولم يجد أحدًا بقصره، فيُدوِّي صوته في القصر دويًّا، لا يرى أحدًا ليستنصرهم فلم ينصروه، ويستصرخهم فلم يُنقِذوه؛ لقد فزِعوا مما فزع منه غيرُهم، وتركوه بين أمواله التي هي كحبَّات قلبه ممتلكة السُّوَيداء منه والشَّغاف، ولو تراه وهو يجول في القصر حيرانَ فَزِعًا كالذي يُغشى عليه من النار، فطرأت له فكرةُ خروجه هو بالمال ليتصدَّقَ به؛ لكنه لا يستطيع؛ فعُودُه قد انحنى من جمْعِه، فأنَّى له اليوم أن يحملَه جملةً واحدة؟!

 

يصعد حجرةَ مكتبه، يتوجه إلى الخزانة الرقمية الخاصة به، ضاعت من أمِّ رأسه الأرقامُ التي كان يحفَظُها عن ظهر قلب، فيعمِد لكسرها فيلقى نَصَبًا ورَهَقًا، ويلعن الساعةَ التي جعلته يجلبُها من خارج البلاد لتكون أكثر أمانًا، وإنها اليوم أعتى عليه من جيوب الفقراء ومن جِعاب البائسين، الذين تمنَّوا لو يُغدِق عليهم قليلًا يكفيهم!

 

تذكَّر حقيبةَ الجواهر والنَّفائس إذ يسهُل فتحُها، فأمكن منها، ثم علتْ همَّتُه فشجَّ رأس الخزانة الثانية، فسقطت منها الجواهرُ والعملات على اختلاف بلدانها، بكى من كثرتها؛ أنى له أن يحملها على ثِقَلِها ووزنها؟!

كنت في شديد الانتباه إليه وهو يتحسر، وكلام الله يتردَّد على مسامعي بشأن أمثاله الذين يكنزون ويكتنزون.

عاد يهبط درجات السُّلَّم، يئِنُّ من ثقل حِمْلِه ومن كاهله المُتعَب، سألتُ نفسي: "أوَلم تكنْ تُحِسُّ ذاك الثقل والعنت في جمعها وحصرها وحبسها؟".

 

سمعني البساط فقال لي:

"اسم هذا الرجل هارون، ويُكنِّيه الناس في تلك القرية الكبيرة بـ(قارون العصر)".

لم أُعقِّبْ؛ فقد كانت لهفتي على رؤية هذا الرجل وما يصدر عنه أدعى للانتباه، وكذلك الناس كيف سيتلقَّون عطاءه السَّخيَّ؛ فالوقت ضيق للغاية؛ فقد انتصف الليل وانشطر، وكاد الفجر يبزُغُ بُزُوغًا ويشُقُّ كبد السماء، ومما هَالَه وراعه وأوقع اليأس في قلبه، أنه أبصر بالطرقات أموالًا على اختلاف عملاتها وبلدانها، وحُلِيًّا من شتى الأصناف، فلم يندهش قدر ما ابتئس، وما علم أن العملة الآن قد اختلفت.

 

طرق أبوابًا كثيرة فلم ينتبهْ إليه أحد، وعمد لدُورٍ عديدة فلم يلقَ ترحيبًا ولا احتفالًا، ولم يجد مَن يقبل عطاياه.

فتلك دار لفقير طرق بابَها، وألحَّ في الطَّرْق حتى خرج له صاحب الدار:

(عُدْ لربِّك فصلِّ، ولن أقول لك: انحر؛ لأنك ما كنت لتذبحَ لله يومًا دجاجةً إلا بثمنها).

 

قارون العصر - متودِّدًا إليه ودافعًا إليه الأموال والحُلي المُذهَّبة جُزافًا -:

(خذها؛ فلن تضيرك قدر ما تخفف عني).

الفقير - متعجبًا -: (آلآن خرجتْ هيِّنةً مِطواعة سهلة سلسة؟ آلآن وقد منعت قبلُ؟ أتذْكُرُ ضيقَ ذاتِ اليد والعَوَز والحاجة؟ أتذكر اليوم البئيس وشَظَفَ العيش والحُرْقة على أكباد جائعة؟

والآن ترجو نوال الأجر؟ وممن؟ من الفقير الذي كان أكرهُ ما عندك إبصارَ وجهه القَمِيء ومُحيَّاه العابس، حتى الذين كانوا لا يسألون الناس إلحافًا من التَّعفُّف عرفتهم اليوم بسيماهم، وأنكرتَ الحاجة والعوز لهم وأظهرتَ البشاشة، وتمنَّيتَ أن يصير الكل على تلك الشاكلة، أنت مَن تمرُّ على الأرملة مرورَ الهارب خشية أن تُسأل الإطعام، و على المحتاج خشية الإكرام:

إذا ملكت يداه الفلسَ أمسى ♦♦♦ رقيقًا ليس يطمع في العتاقِ [مقتبس]

 

فارجِعْ بأكياسك ومُدَّخراتك؛ فما أنا بالأبلهِ الذي يقبل اليوم أوزارَ غيره، كفاني أوزاري).

قارون العصر - مبتئسًا -: (وما أفعل بها؟).

الفقير: (ألقِها كمن ألقى).

فقلت للبساط: "لقد تلقَّى هذا المُكنَّى من قِبل الناس بقارون العصر درسًا، لعله يعتبر فيما بعد".

بساط الريح: "قل: يا رب سلِّمْ".

فأقول: "يا رب سلم سلم".

 

مشهد رابع

وآخر على نفس الشَّاكلة وإن اختلفت المسألة:

يمتلك جنتين ذواتي أُكُلٍ كثيرٍ يجمع خيرَ الفصول الأربعة، ويوانع الصيف، وبوادر الربيع، كان يُضرب بهما المثلُ، جعل لهما مانعًا وسورًا من الحجر عاليًا لا تطُولُه يدُ البشر ولا المارة، ثمَّ أسلاكًا شائكة تصرِف أنظارَ مَن تُسوِّل له نفسُه أن يفكر بارتقاءِ السور الشاهق لنوال ثمرة - أراه الآن وقد فتح بوابةَ حائطِه على مصراعيها، وتمنى لو ينتشر الناس بها انتشارَ الجراد بأرض مثمرة؛ فيكون له بكل تمرة وثمرة أجرٌ.

فأقول للبساط: "عَرِّج عَرِّج يا بساط الريح".

 

مشهد خامس

فنرى آخر يطرق بابًا لأبناء أخيه ويستمر في الطرق، خرج له ولد لم يتجاوز عمره عشرة أعوام، وقال له الغلام: (من أنت؟)

فقال: (أنا جَدُّك وعمُّ أبيك).

الغلام: (إن جدي قد مات وتلاه أبي، وما بالدار غير جدتي وأمي وأخي).

قال الرجل: (اذهب، فابعث لي أخًا يكبُرك).

الغلام: (لا وقت لدينا، نحن نقرأ القرآن، ألا تدري أن غدًا القيامة؟).

يلحُّ مُكررًا طلبه: (يا غلام، اذهب وأرسل لي أمَّك أو أخًا يكبرك).

يدلِف الغلام ويغيب فترة، كانت أقسى على الواقف بالباب من أي شيء قد مضى، ويرجع الغلام ويقول: (إن جدتي تقول لك: اذهب فلتأتِ بصكٍّ مصكوك، من جدي الذي هو أخوك، أنه قد سامحك جراء سنواتِ البؤس التي عاصرها بيتُنا).

الرجل بتعجب: (من علمك هذا الكلام؟!).

لم يردَّ، وانطلق إلى أمه تتلو عليهم القرآن.

ألقى الرجل الأموال في صحن الدار، ثم انطلق يفِرُّ منها فِرارًا.

ضحِكتُ وضحك البساط، فاهتز بي، فقال: "ما يُضحكك؟"، قلت: "ما أضحكك".

 

صورة أخيرة

ثم دارٌ للقضاء والفصل بين العباد بابُها اليوم مُوصد؛ لكنَّ الواقفين بأعتابها ينتظرون، أو قُل: إنهم جاؤوا؛ لتقوم القيامة عليهم وهم قائمون، لم أشأ أن أسأل البساط؛ ولكنه وعدني أنها الصورة الأخيرة أو المشهد الأخير، وكان فيه ما فيه:

واحد جاء يُقِرُّ بأنه شهِد زورًا ليُجامل، وآخرُ ليحابيَ، وآخر مُرابٍ، وكثير وكثير وما في التعليل التماسٌ لعذر؛ أولم يكفِهم: ((وكان مُتَّكِئًا فجلس))؟

اعتدلتُ على بساط الريح، وقلت له: "آن الأوان لتفيَ بوعدك، وتُنهيَ الرحلة الغريبة الكئيبة؛ فإني قد كُفيتُ"، وقد خارت قواي، وما عادت لتحملني على الثبات قدماي، حتى - وأنا في وضع القُرفُصاء - غلبني النوم، وصرعني سلطانُه صرعةَ الجائع له، ثم استيقظت على قول البساط لي: "عشرة كاملة لصور ومشاهد"، صرختُ - نافيًا -:

"لم أرَ كل تلك الصور، أين كنت أنا منها؟".

فقال: "غلبك النومُ فما أردتُ أن أُزعجك يا صاحب التعريجة".

قلتُ - منزعجًا -: "وخطبة الجمعة؟".

قال: "سنكون عليها من الشاهدين بإذن الله"، ثم أراد البساط تهدئتي وكسبَ رضاي فقال: "كنت أسمعك مع كل مشهد نمرُّ به تتلو آيةً، وتذكر حديثًا للنبي الأكرم، ومأثورًا مما تحفظ، ما أروعك!".

ابتسمتُ وأعجبني الإطراء، فقلت: "هيا، انطلق إلى أرض الجمعة الأخيرة".

عاج بي بساط الريح ناحية تلك الأرض الجامعةِ الشاهدةِ لصلاة الجمعة الأخيرة كما يظنها أصحاب القرية، رأيت سوادًا عظيمًا حتى كدتُ أُفتن به فُتُونًا، وأصدِّق أنها القيامة بحقٍّ، وجدتُني أنهض من فوق بساط الريح ومن جُثُوِّي؛ فلقد تعِب ظهري كثيرًا من الانحناءة تلك في كل موقف ومشهد مروع مرَّ بنا، فاتخذت وضع القرفصاء على بساط الريح، وقلت له بحزم وعزم: "يا بساط الريح، أتعرف من أنا؟".

البساط: "محمد".

قلت: "أنا سيِّدُ الرَّكب، وأنت الحادي".

قال: "ومن قال غير ذلك؟".

قلت: "ومن تراه بخطبة الجمعة قدير ومكين وعليهم أمين؟".

اهتز بساط الريح، ثم قال: "ما أروعك وما أبلغك يا فتيق اللسان، يا صاحب البيان!".

قال الراوي: "إذًا فأنزلني منزلي، ولا تمنعْني فرصتي؛ فما سمِعتَ مني إلا غيضةً من فيضِ علمٍ، وقطرةً من بحر فَهم أنعم الله عليَّ به، وما تجد فيهم من هو أوعى مني، وأكثر سمعًا وفهمًا".

قال بساط الريح: "لك ذلك، فاستعدَّ أيها الخطيب الألمعيُّ البليغ".

ثارت ثائرةُ البساط حتى ألقاني إليهم أهوي كمن خرَّ من السماء فتخطَّفتْني أيديهم يدفعون بي للإمامة دفعًا، وأنا أتراجع وأراوغ، غاب من رأسي كلُّ الذكر والحكمة وكل نصٍّ صريح، ارتميت وسط هذا السَّواد العظيم، انكببتُ على نفسي أبكي مما اعتراني، وقارنتُ حالي وأنا مُحلِّق بالبساط، وحالي الآن وأنا بين هذا السَّواد.


وإلى لقاء مع الجزء الأخير من تعريجة الراوي وبساط الريح.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • طوفان مهند (قصة)
  • مسيخ البَخور (قصة)
  • ملاك غائب (قصة)
  • حرز الجوشن (قصة)
  • غدا القيامة ولا عهدة على الراوي (3) الخطيب

مختارات من الشبكة

  • غدا القيامة ولا عهدة على الراوي (1)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • رمضان غدا أو بعد غد (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)
  • أنت غدا بينهم (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • غدا تبدأ الدراسة(مقالة - موقع الشيخ أحمد بن حسن المعلِّم)
  • غدا بالفضل باذله (قصيدة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الدرس التاسع عشر: يا عبد الله ماذا تقول لربك غدا؟(مقالة - ملفات خاصة)
  • القول الأكمل في معنى قول الناس غدا أجمل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • غدا ستفرحون بالآثار (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فليحذر أرباب الأموال إذا ضنوا بها من صولة المال غدا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • غدا يا أمير الحياة الجميل (قصيدة)(مقالة - موقع أ. محمود مفلح)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب