التراث الحائر

التراث الحائر

أثبتت تجارب الأمم الحديثة أن أي نهضة معاصرة لا يمكن أن تنشأ مبتورة الجذور؛ فالحضارة الأوروبية لم تنظر إلى الماضي في غضب، بل وضعت نُصب أعينها التراث اليوناني والتراث العربي، وشملتهما بالتطوير، فصعدت أوروبا وحضارتها إلى المقدمة بعد سقوط دولة الخلافة بالأندلس.

وقامت عدة دول وقتها بنقل 1.5مليون مخطوط عربي استغرقت ترجمتها حوالي 150عامًا، وأُنشئت على أثرها جامعات في بريطانيا وفرنسا، وألمانيا وبلجيكا؛ لتنشر أنوار الفكر العربي الذي قام بدوره باستيعاب الفكر اليوناني القديم الذي تشرب حضارات الشرق القديم، وخاصة الحضارة المصرية، وللسعي قدمًا إلى الهروب من نفق التخلف، ماذا فعلنا نحن ونحن لدينا تراث مصري يضرب بجذور عميقة في التاريخ بجانب تراثنا العربي الإسلامي؟!

فعلى الرغم من وجود أكثر من 50 ألف مخطوط، فإنه ليست لدينا جهة واحدة فقط تشرف عليها من الألف إلى الياء، وتقوم بتحقيقها وإخراجها إلى النور، ولا يوجد هناك تنسيق يقي التَّكرار، ويضع أُسسًا علمية متعارفًا عليها لتكتمل الجهود؛ حتى لا يظل التراث حبيس المخطوطات.

ذخائر العرب:

تهتم دار المعارف منذ عام 1890 بإصدار سلاسل تتناول جميع العلوم والمعارف، ومن بينها سلسلة ذخائر العرب، من خلال لجنة من كبار المحققين، ضمت د. طه حسين ومحمود شاكر، وعبدالسلام هارون، وإبراهيم الإبياري، فحققوا وأشرفوا على إصدار أكثر من 80 مخطوطًا في الأدب والنقد، والتاريخ والعلوم والفلسفة، ونشر عدد من الكتب المحققة التي صدرت في عدة أجزاء في طبعات ملخصة، ويترحم الشاعر أحمد سويلم - مدير إدارة النشر سابقًا، والمستشار الحالي للإدارة بدار المعارف - على هذا الجيل الذي قدَّم الكثير للتراث، وربط القارئ بهُويته بشكل علمي، فلا يكتفي بنشر النصوص، ولكن يضعها في صورة معاصرة، يَسهُل فَهمها واستيعابها، ويُبشرنا سويلم أنه بمناسبة احتفال دار المعارف بمرور 125 عامًا على إنشائها في إبريل المقبل، سيتم إعادة طباعة سلسلة ذخائر العرب، ودعوة كل مَن لديه المقدرة على تحقيق مخطوط جديد لم يسبق نشره إلينا، وسنيُسر نشره بمكافأة مجزية، كما طالب سويلم بضرورة إنشاء شعبة بكليات الآداب ودار العلوم لتخريج جيل جديد من المحققين، يتعهد المخطوطات بالرعاية، وكذلك تأسيس أول مركز عربي للمخطوطات، خاصة أن لدينا ما يقرب من 3 ملايين مخطوط.

المكتبة الرقمية:

ومن واقع تجربته في إدارة دار الكتب والوثائق سابقًا، يتحدث د. عبدالناصر حسن - أستاذ الأدب والنقد بجامعة عين شمس - قائلاً: بحوزتنا في دار الكتب ما يقرُب من 58 ألف مخطوط، وما حُقِّق منها لا يزيد على 7 آلاف، وبالدار لجنة لتحقيق التراث برئاسة د.حسين نصار، وخلال الفترة الماضية تمكَّنت من تطبيق أنظمة رقمية لتوفير نُسَخ إلكترونية من المخطوطات الورقية، وبالفعل نجحنا في تحويل 300 مخطوط، ونظرًا لعدم وجود وفرة في المحققين، لجأنا للعمل بطريقة العالم التركي فؤاد سيزكين، التي ترى أنه إذا لم يكن هناك من يحقق المخطوط، فلا مانع من نشره في 100 نسخة، علها تجد في المستقبل مَن يحققها، وأكد د.حسن ضرورة أن تأخذ لجان الترقيات بالكليات بالمخطوطات المحققة كوسيلة للترقي، وقيام وسائل الإعلام بدورها في الدعوة للاهتمام بالتراث ونشره، واستعادة المخطوطات التي تَم تهريبها إلى الخارج أُسوة بما يحدث للمقتنيات الأثرية.

احتياجات العصر:

ويُنبه د. عبدالحكيم راضي - أستاذ الأدب والنقد بآداب القاهرة - إلى أهمية الانتقاء، وفقًا للقيمة الذاتية للمؤلف، ونظرًا لأن التراث معطي تاريخي، ولأنه خرج للوجود، فلا شك أنه كان هناك.

ويكشف د.راضي أن عدم الدقة والتسرع، كان وراء شيوع عدد من المخطوطات التي نُشِرت بغير أسماء المؤلفين الفعليين والعناوين الحقيقية؛ مثل: كتاب نقد النثر لقدامة ابن جعفر؛ حيث اختلف د.طه حسين على أصل الكتاب مع د. عبدالحميد العبادي عندما اشتركا في تحقيقه، وأثبتت الأيام فيما بعد صحة زعم العميد حينما توصل أحمد مطلوب عضو المجمع العلمي العراقي إلى أصل المخطوط بمكتبة الأسكوريال بإسبانيا، واتَّضح أنه لكاتب عراقي، وكذلك كتاب الفوائد لابن القيم الذي طُبِع مرارًا، واتضح أنه مجرد مقدمة لتفسير ابن النقيب للقرآن، وكذلك نفتقر لإعداد فهارس تحليلية للمخطوطات.

وعما أضافه لسلسلة الذخائر التي تولَّى إصدارها فترة بهيئة قصور الثقافة قال د. راضي: إنه قدم مخطوطًا محققًا لأول مرة بعنوان الوشى المرقوم في صناعة المنثور من الكلام لابن الأثير بتحقيق خديجة السايح، بجانب أنه أعد مقدمات إضافية لكتب عديدة؛ منها: العقد الفريد لابن عبدربه، والحيوان والبيان والتبيين للجاحظ، وطبقات فحول الشعراء.

التنسيق المفقود:

هيئة قصور الثقافة لا تزال تقوم بدور مهم في عملية نشر التراث في سلسلة تصدر مرة كل شهر، بعنوان: الذخائر رغم قلة الموارد المالية، ويتولاها فريق عمل يضم محمد أبو المجد أمين عام النشر، وابتهال العسلي المدير، والحسيني عمران مدير التحرير الذي يقول: "نحاول بقدر المستطاع نشر مخطوطات لم يسبق نشرها، أو مر على إصدار أول طبعة لها 100 عام؛ مثل: «المِلل والنحل»؛ للشهرستاني، و«روضة العقلاء ونزلة الفضلاء»؛ للحافظ البستي، و«قوانين الدواوين»؛ لابن مماتي، وهو مخطوط يحتوي مسحًا شاملاً لتقسيم الأراضي الزراعية في عهد الدولة الأيوبية، ونُخطط حاليًّا لنشر: «تحفة الأحباب وبغية الطلاب»؛ لأبي الحسن السخاوي، و«خزانة الأدب وغاية الأرب»؛ لابن حجة الحموي، و«محاضرات الأدباء ومحاور الشعراء»؛ للراغب الأصفهاني، وإعادة طباعة أول 150كتابًا صدر في السلسلة في شكل أنيق يليق بمخطوطات؛ كبدائع الزهور في وقائع الدهور، وألف ليلة وليلة بأسعار زهيدة، وفي 5آلاف نسخة، والكلام لا يزال لعمران: والمرتجع من توزيع السلسلة ضئيل، والعائد المالي لا يعود للهيئة، ويذهب إلى وزارة المالية، على اعتبار أننا نصدر السلسلة الوحيدة التي تطرح للبيع لدى باعة الصحف".

ويرى ضرورة التنسيق بين هيئات وزارة الثقافة، بما يخدم عملية تيسير تحقيق المخطوطات، وعدم تَكرار الكتب، ووضع برنامج زمني لهذا الغرض.

تجربة فريدة:

أُنشئ مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية في عام 2002، بهدف جمع المخطوطات الأصلية وفهرستها، والحصول على النسخ الميكروفيلمية، والصور الرقمية، والمجموعات الخطية في العالم، هكذا بادرني د. مدحت عيسى مدير مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، وأضاف: نقوم بإجراء عمليات للتبادل العلمي مع المراكز المناظرة في العالم، ونشر التراث الحضاري العربي والإسلامي، وأبحاث مؤلفة ومترجمة في جميع المجالات، ومركز المخطوطات عبارة عن 3 أقسام: قسم يضم المخطوطات الأصلية، وآخر يهتم بنشر تحقيق المخطوطات، وإعداد البحوث، وترجمة البحوث ذات الصلة بالتراث، بالإضافة إلى عقد المؤتمرات والدورات التدريبية، بجانب وحدة لفهرسة المخطوطات ورقيًّا وإلكترونيًّا، وقد حصلنا على صور للمخطوطات النادرة من المراكز البحثية ببريطانيا، كما أهدى معهد المخطوطات العربية مجموعة ضخمة مصورة من المخطوطات، وأيضًا وصلتنا مجموعات من مكتبة الأسكوريال الإسبانية، ومن المكتبة البريطانية، ويواصل د. عيسى قائلاً: نعمل حاليًّا على تكوين فريق من المحققين بالمركز، على أن يتولى تدريبهم مجموعة من الخبراء، ونهدف إلى التنسيق بين كل الجهات المهتمة بالمخطوطات لتبادل الخبرات، وتشكيل لجنة تنسيقية عليا بين تلك الجهات.

المصدر: الأهرام؛ نشرت بتاريخ 8 سبتمبر 2014