التمييز بين نسخ مؤلف الكتاب العربي المخطوط، وما في حكمها

التمييز بين نسخ مؤلف الكتاب العربي المخطوط، وما في حكمها

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وبعد:

فهذا مبحث لطيف في التمييز بين نُسَخ مؤلف الكتاب العربي المخطوط، وما في حكمها، وقد جاء في ثلاثة مطالب وخاتمة[1].

المطلب الأول: أهمية التمييز بين نُسَخ المؤلف:

من أهمية التمييز بين النسخ الآتي:

1- معرفة مراتب نسخ المؤلف؛ ومنه: قول ياقوت الحموي (ت 626هـ): "وكتاب (البيان والتبيين) نسختان أولى وثانية، والثانية أصح وأجود"[2].

2- الوقوف على التطوُّر العلمي للمؤلف، والمراحل المعرفية للكتاب، ومنه: قول المسعودي (ت346هـ): "وفي النسخة الأخيرة من كتاب (مروج الذهب ومعادن الجوهر) التي قرَّرْنا أمرها في هذا الوقت المؤرَّخ به كتابنا، وهي أضعاف ما تقدَّم من النسخ"[3].

3- حماية جانب العلماء من التهمة والتخطئة فيما ينقلونه من النسخ التي لم نقف عليها؛ ومنه: اعتذار ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) لشيخه أبي الحسن الهيثمي (ت٨٠٧) في نسبة كلمة بَلَغَه أنها في (تاريخ) ابن خلدون (ت808هـ)؛ فقال: "قلت: ولم توجد هذه الكلمة في التاريخ الموجود الآن، وكأنه ذكرها في النسخة التي رجع عنها"[4].

المطلب الثاني: أنواع نسخ المؤلف (بخطِّه):

نسخ المؤلف أنواع؛ ومن أبرزها:

النوع الأول:المبيضة: وهي النسخة النهائية حين نسخها؛ ما لم تُسَوَّد.

وللمبيضة حالات؛ منها:

الأولى:أن تكون أُمًّا أو منصوبة، ترجع إليها بقية النسخ.

الثانية:المتزامنة: قال الجبرتي (ت 1237هـ) -في ترجمة السَّفْطي (ت 1158هـ)-: "إذا نسخ شيئًا من تحريراته رَقَمَ منها عدة نسخ دفعة واحدة، فيكتب من كل نسخة صفحة بحيث يُكْمِل الأربع أو الخَمس على ذلك النَّسَق؛ فَيُتم الجميع في دفعة واحدة"[5].

الثالثة: غير المتزامنة، وللمؤلف فيها حالتان:

1- تصريح المؤلف في النسخة الأخيرة بحال النسخة السابقة؛ ومنه: كلام الخطابي (ت388هـ) عمَّا وقع في النسخة الأولى من كتابه (غريب الحديث): "فغيرت وأصلحت وزدت وحذفت ورتبت الكتاب على الوجه الذي استقرَّ الآن عليه"[6].

2- عدم تصريح المؤلف بالنسخ الأخرى؛ ومنه تعدُّد نسخ كتاب (أخصر المختصرات) لابن بلبان (ت 1083هـ)؛ فأرَّخ إحداها سنة (1054هـ)[7]، وثانية سنة (1058هـ)[8]، وثالثة سنة (1063هـ)[9]، ولم يُصرِّح في النسخ اللاحقة بما قبلها.

والعمدة في النسخ غير المتزامنة آخرها، قال أبو البقاء البلوي (ت 767هـ) بخطِّ يده في نسخة من كتابه (تاج الـمَفْرِق في تحلية علماء المشرق): "هذه النسخة هي آخر نسخة كتبتها من مبيضة أنشأتها، وهذه هي التي اعتمدتها ونقحتها وارتضيتها"[10].

النوع الثاني: الـمُسَوَّدة: وهي نسخة المؤلف الخاضعة لتصرُّفه في المحتوى المعرفي.

وتعرف المسودة بالآتي:

1- تصريح المؤلف على ظهر النسخة؛ كما جاء بخطِّ ابن خلدون (ت808هـ): "هذه مُسَوَّدة المقدمة من كتاب (العبر في أخبار العرب والعجم والبربر... وكتب مؤلفها: عبدالرحمن بن خلدون"[11].

2- تصريح المؤلف في ختام النسخة؛ كما جاء في ختام كتاب (غوامض الصحاح) للصفدي (ت764هـ): "تمَّت المسودة على يد مؤلفها"[12].

3- تنصيص عالم على أن كتاب كذا لفلان مسودة، وهذا كثير في ترجمة السخاوي (ت 902هـ) شيخَه ابن حجر (ت852هـ) في كتابه (الجواهر والدرر).

4- عدم استقرار النص وعدم اعتماده؛ ومنه: ما ذكره أبو الحسن المجاشعي (ت 479هـ) في صفة كتاب مات عنه الجوهري (ت 39٣هـ): "بقي الكتاب مُسَوَّدة غير مُنقَّحة ولا مبيضة"[13].

في اعتماد النقل من المسوَّدة مسائل مرعية؛ منها:

أ‌. عدم الوقوف على المبيضة بخطِّ المؤلف، أو بواسطة نسخة صحيحة؛ ومنه: قيد ختام نسخة الحافظ ابن حجر (ت852هـ) من كتاب شيخه العراقي (ت 806 هـ) كتاب (ذيل ميزان الاعتدال): "أكمله أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الشافعي من خط ولد شيخي مصنِّفه... وكنت ملكت الأصل لهذه المسودة التي بخط شيخي، ونقلت منها في (لسان الميزان)، ثم وقفت على المبيضة بخط ولد شيخي، وذكر في آخرها ما نصه:

قال أحمد بن العراقي: هذا آخر ما وجدته بخط والدي في مسودة ومبيضة، وبالله التوفيق"[14].

ب‌. تسمية المسودة عند النقل؛ ومنه: قول ابن خلكان (ت 681هـ) في كتابه (وَفَيَات الأعيان): "نقلتها من خط القاضي كمال الدين بن العديم من مسودة تاريخه"[15].

جـ. معاملة المسودة كالمبيضة إذا وقع من المؤلف ما يُشعِر باعتمادها؛ ومنه: قول ابن حجر (ت 852هـ) في ختام (تبصير المنتبه بتحرير المشتبه): "وهذه مسودة الكتاب"[16]، ثم هي مقروءة عليه ومنقولة ومعارض بها، وكان آخرها سنة (842هـ)، وذلك لتلميذيه -المتوفيين كشيخهما سنة 852هـ- ابن خضر وأبي النعيم العقبي.

النوع الثالث: شِبْه الـمُسَوَّدة: وهي النسخة التي سُوِّدت بعد تبييضها؛ ومنه قول ابن حجر (ت 852هـ) في ختام كتابه (نزهة الألباب): "فرغ من جميع تبييض هذه النسخة جامع الكتاب ومُهذِّبه أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن حجر الشافعي - عفا الله عنه- وهذه ثاني نسخة منه، وقد صارت أيضًا شبه المسودة"[17].

النوع الرابع: شِبْه المبيضة: وهي نسخة مسودة تقارب في صفتها المبيضة؛ ومنه: قول السخاوي (ت 902هـ)- في ذكر مصنفات شيخه ابن حجر (ت 852هـ)-: "إقامة الدلائل على معرفة الأوائل... وهو مسودة بَعْدُ، بل كنت رأيت بخطه نسخة منه شبه المبيضة"[18].

المطلب الثالث: النسخ التي لها حكم نُسَخ المؤلف:

هذه النسخ على مراتب:

أ‌. النسخة تكون بخط تلميذ المؤلف، وعليها تقييدة المؤلف بسماع صاحبها أو بقراءتها -أو نحو ذلك- على المؤلف؛ كنسخة الخَيضري (ت 894هـ) بخطه من كتاب (المقدمة) لشيخه ابن حجر (ت 852هـ)[19].

ب‌. النسخة تُنْسَخ للتلميذ؛ فيقرؤها -أو نحو ذلك- على المؤلف، وعليها تقييدة توثيق المؤلف؛ كنسخة البقاعي (ت885هـ) من كتاب (المقدمة) لابن حجر (ت852هـ)[20].

جـ. النسخة ينسخها التلميذ من مسودة شيخه المؤلف، فَيُثْني عليها المؤلف، ولا نعرف قيدًا للمؤلف على النسخة؛ من ذلك حكاية ابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842هـ) ثناء السراج البلقيني (ت 805هـ) على نسخة والد ابن ناصر الدين؛ فقال: "لما قدم والدي -رحمه الله- مصر كتب بخطه نسخة (محاسن الاصطلاح) من مسودةٍ عَلَّقها الشيخ بخطِّه؛ فأثنى عليه الشيخ لإتقانه النسخة من تلك المسودة"[21].

(الخاتمة):

وبعد؛ فهذه أبرز النتائج:

1- أهمية التمييز بين نسخ مؤلف الكتاب العربي المخطوط.

2- أن نسخ المؤلف منها المبيضة وشِبْهها، والمسودة وشِبهها.

3- معرفة النسخ التي لها حكم نسخ المؤلف.

والحمد لله على مَنِّه وبلوغ التمام.