إبرام الحكم النحوي عند ابن جني

ملخص الرسالة

إبرام الحكم النحوي عند ابن جني

المقدمة:

الحمد لله خالق الإنسان، المنعِم عليه بنعمة اللسان، المزيِّن له بالعقل والجنان؛ لينظر في الذي يشغله بإتقان، ويحكم في أمره بالعدل والميزان.

والصلاة والسلام على سيدنا محمد حبيب الرحمن، عددَ ما ذكر الثقلان، وعلى آله وصحبه ومن تبعه والنبيِّين طلبًا للرحمة والغفران.

وبعد:

فقد ظلَّت نحويةُ ابن جني تستهويني، وتحثني على البحث فيها، وقد تيسَّر لي ذلك عندما ارتضى أستاذي الدكتور "حنا حداد" الفكرة موضوعًا للبحث؛ لأكون سابقة إلى تناول أحكام ابن جني النحوية بالدراسة والتحليل، حيث جاءت أطروحتي، بعد المقدمة، في تمهيد، وفصول ثلاثة، ونتيجة.

حيث اشتمل التمهيد على دراسة معجميَّة للحكم النحوي لغة واصطلاحًا، وتتبُّع لمراحل نشأة الحكم النحوي وتطوره، ثم دراسة علاقته بكل من الفقه والمنطق، وعرض لأقسام الحكم النحوي.

واشتمل الفصل الأول على طرق إبرام ابن جني الحكم النحوي، وقدرته على استنباطه، ومذهبه في عرضه، ثم التقاط نماذج من أحكامه النحوية المبرمة في بعض كتبه، وعرضها ودراستها وتحليلها، مع بيان لأبرز نظرياته في الأحكام.

وعرضت في الفصل الثاني أقسامًا مختلفة من عِلَل ابن جني التي أقام عليها أحكامَه النحوية، مع العناية بالجانب النظري لفلسفة العلة عنده، وذلك بعد أن مهدت للعلة معجميًّا وتاريخيًّا.

وتناولت في الفصل الثالث مدى تأثُّر ابن جني بأستاذه الفارسي في إبرام الحكم النحوي، حيث طغت منهجيةُ الفارسي في إبرامه الحكم المعلل، وسريان الروح المنطقية في الدراسة، واستقلالية الشخصية العلمية - على ابن جني، الذي استطاع أن يفوق أستاذه في النهج والفكر أحيانًا.

ثم كانت النتيجة التي رصدت فيها نتائج دراستي التي ارتضيتها سمات تمثل نضوج التفكير النحوي، المتمثِّل في براعة إبرام الحكم النحوي عند ابن جني.

وألحقت الأطروحة بفهارس فنية للمحتويات، والسور القرآنية، والأشعار، والمصطلح، والأعلام.

وبعد:

فهذه تسع سنوات قضيتها في رحاب جامعتي الكبيرة - الصغيرة: جامعة اليرموك، نهلت فيها من فيض علم أساتيذها، الذين ساهموا في تكوين شخصيتي العلمية، وصقل شخصيتي الاجتماعية، فأكسبوني سَعةَ النظر، وإحكام المنهج، والثقة بالقدرات، وتعلُّم الصبر.

فمن حقهم عليَّ جميعًا أن أتوجه إليهم بالشكر والعرفان، وأخص اليوم منهم أستاذي المشرف الدكتور حنا حداد، وأعضاء لجنة المناقشة، بتقويمهم الرسالة، وتقييمها.

ويبقى أن أشكر رمز القيم الإنسانية الرفيعة عندي، بحب الخير للآخرين، وحسن الظن بهم، والطيبة والتسامح والكرم في زمن شح فيه التفاني والإخلاص؛ أسرتي الصغيرة، رعاكم الله.

والله أسأل أن تكون لي هذه الرسالة نهاية سبيل، وبداية السبيل، والحمد للمفضي بفضله عليَّ الحمدَ الجميل.

الخاتمة:

بعد أن أتممت دراسة الحكم النحوي المبرم عند ابن جني، بتتبُّع المسائل النحوية في بعض كتبه، واستنباط حكمه النحوي الذي أقامه على علل متنوعة، وتحليل مفردات هذا الحكم، ثم دراسة أثر الفارسي الأستاذ على ابن جني التلميذ في إبرام الحكم النحوي، أخلُص إلى النتائج التالية:

• يهتم ابن جني بالحد والتعريف، سمة من سمات نهجه النحوي.

• يمتاز ابن جني بدقة الملاحظة، والقدرة على لمح الإشارات الخاطفة، وإعمال الفكر والعقل والمنطق في الدراسة والتحليل والتعليل والقياس المبتكر.

• صاحب فكر مستقل، ورأي غير متعصب لمذهب، حيث كانت له اجتهادات نحوية خاصة به، لا يضيره مخالفةُ الجمهور، أو عدم القول بقول سيبويه إذا أعوزه الدليل على قَبول ما يذهب إليه.

• له طريقة ذكية في عرض الحكم النحوي المخالف لرأي الجمهور وحُجَّتِهم، حيث يعرض لهذا الرأي المخالف ويفنده، ثم يدحضه بالرد عليه معللًا ومدعمًا بالحجة غير القابلة للنقض، ثم يعرض رأيه الذي يراه صحيحًا لعدم احتمال نقضه، حيث بقاؤه دون إدحاض دليل على صحته، وهذا وَفق ما أشار إليه السيوطيُّ بالاستدلال الأولى والاستدلال بالتقسيم.

• اختلف إبرام الأحكام النحوية من حيث الإسهاب والاختصار، لا من حيث طريقة المعالجة والكيفية في كتبه، حيث امتازت في "الخصائص" مثلًا بالإسهاب المستطرد الشامل، في حين قابلها تكثيف مقتضب للمفردات الأساسية للحكم النحوي في "اللمع في العربية".

• تراوحت طرقه في إبرام الحكم النحوي بين طريقتين ظاهرتين:

• فهو إما أن يبتدأ بتعريف الحد للمفردة مفتاح الحكم، ثم يبرم الحكم النحوي العام، فيضرب الأمثلة، ويفترض الاحتمالات الافتراضية المنافية لحكمه على شكل تساؤلات، متبعًا أسلوب الفنقلة، ثم يتصدى لإبطالها ليرجح رأيه.

• وإما أن يبدأ بالأمثلة والشواهد، ليصل بطريق معاكسة إلى الحكم النحوي المراد إبرامه.

• لا يتحرج من توظيف الأحكام الفقهية والأحكام المنطقية في إبرامه أحكامه النحوية، وهو يستشهد بهذه الأحكام صراحة أحيانًا لتقوية حجته، فيتخذها أمثلة مدعمة.

• سرى روح المنطق في منهجه المبتكر في إبرامه الحكم النحوي بشكل خاص، ومناقشاته النحوية بشكل عام، حيث ظهر في تسلسل أجزائه المترابطة، والمنتظمة تحت منظومة المعنى العام للحكم.

• كان له نسق خاص في شواهده الشعرية، فقد يكتفي بكلمة أو كلمتين من الشاهد الشعري، أو يعرض لشطر منه، أو يورده كاملًا، وقد كان يلجأ أحيانًا إلى أمثلة وشواهد شعرية ونثرية غريبة، قلما اسشهد بها نحويٌّ قبله.

• كان يحمل الشواهد الشعرية الشاذة عن الحكم النحوي على الضرورة، أو يؤولها لتتوافق والحكم النحوي المطرد.

• كان يحمل الأمثال النثرية محمل الشعرية من جهة الضرورة؛ لتشابه الهدف في التسهيل، ويلجأ إلى الشاذ والنادر في تخريجاته الإعرابية، ويعتمد لهجات ولغات مختلفة في إبرامه الأحكام.

• ابتدع ابن جني نظرياتٍ في الأحكام، كان له الفضل في لفت الأنظار إلى مسائلها حيث غيِّبت، مثل ترافع الأحكام، وتبادل الأحكام، والحكم بالضد، والحكم للطارئ، ووجوب الحكم الجائز.

• أقام أحكامه النحوية على علل مختلفة، واعتمدها أصلًا دون نص كلام العرب، حيث يمكن قياس حكم على آخر عند تشابه العلل.

• كان لابن جني نظريات وآراء حول العلة، فالعلة النحوية أقربُ إلى العلة الكلامية منها إلى العلة الفقهية، وقد أوضح سبب ذلك بالدليل العقليِّ، وبالاحتكام إلى الحس والطبيعة النفسية.

• أقرَّ ابن جني بقدرة العرب على استشعار العلل وملاحظتها من خلال كلامهم؛ فالحكم النحوي مبرم عن بصيرة ووعي مدرك، لا على السجية المطلقة.

• ناقش قضايا تتعلق بفلسفة العلة؛ مثل تخصيص العلل، وتعارض العلل، وتعدُّد العلل، ودور العلل، وقوادح العلل.

• برزت في مسائله النحوية عللٌ أقام عليها الأحكام:

• فمن العلل التي اعتل بها في الخصائص: علة الاستخفاف، وعلة الاستثقال، وعلة الاستغناء، وعلة الإيجاز، وعلة كثرة الاستعمال، وعلة أمن اللبس، وعلة الجواز، وعلة الوجوب، وعلة الفرق.

• ومن علله في اللمع، التي تناسبت والأحكام المكثفة المختصرة فيه: علة الجواز، وعلة الحمل على المعنى، وعلة الاستغناء، وعلة التوكيد، وعلة التشبيه، وعلة الاحتياط، وعلة المعنى، وعلة القوة والضعف، وعلة الأولى، وعلة الاختصار، وعلة طول الكلام، وعلة التخفيف.

• ومن علله في المحتسب: علة الحمل على المعنى، وعلة التصرف وعدم الإجماد، وعلة الحمل على الضد، وعلة الحمل على النظير، وعلة دلالة الحال، وعلة القوة والضعف، وعلة الفرق، وعلة الأولى، وعلة التوهم والمجاورة.

• ومن علله في التمام: العلل القياسية: كعلة الشبيه، وعلة غلبة الفرع على الأصل، وعلة الضرورة الشعرية، وعلة التوكيد، وعلة الفرق، وعلة الحذف.

• ومن علله في علل التثنية: علة الاستخفاف، وعلة الاستثقال، وعلة القوة والضعف، وعلة الحذف، وعلة الفرق، وعلة الحمل على الضد.

• بدا تأثُّر ابن جني التلميذ بأستاذه الفارسي تأثرًا كبيرًا وعميقًا في إبرامه الحكم النحوي من حيث الأمانة العلمية في نسبة القول لأصحابه، ثم استقلالية الرأي، وعدم التعصب المذهبي، والموقف مع سيبويه، والتأثر به موضوعًا ونهجًا، وعدم التضير من مخالفته أحيانًا، والدفاع عن رأيه بالحجج أحايين أُخَر، ثم شرح ما غمض من أحكامه، واختزال ما استطرد فيه.

• تأثر ابن جني بأستاذه في طريقة إبرام الحكم النحوي، حيث سار على النهج نفسه، وتشابهت مفردات الأحكام عندهما، وكذلك تشابه نسق الشواهد، وطريقة الاستشهاد، والنظرة إلى الضرائر.

• وافق ابن جني أستاذه في كثير من أحكامه النحوية المبرمة، واتخذ أقواله وشواهده دليلًا على صحة حكمه، وخالفه أحايين أُخَرَ بأدب تلميذ مقدِّر لأستاذه.

• فاق التلميذ أستاذه أحيانًا في الإحاطة بمفردات الحكم، وبإحكام زمام السيطرة على المسألة، دون اللجوء إلى الاستطراد المخل، والمخرج عن الهدف الأساس في النقاش والاستشهاد.

فتكون هذه أهم النتائج التي خلَصت إليها في أطروحتي هذه، حول الحكم النحوي عند ابن جني، الذي يعد دليلًا على النضوج الفكري في النحو العربي عنده خاصة، وعند علماء زمانه عامة.