• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | المكتبة المرئية   المكتبة المقروءة   المكتبة السمعية   مكتبة التصميمات   كتب د. خالد الجريسي   كتب د. سعد الحميد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    سفر الأربعين في آداب حملة القرآن المبين (PDF)
    طاهر بن نجم الدين بن نصر المحسي
  •  
    الأساس في الفقه القديم والمعاصر (PDF)
    د. عبدالله إسماعيل عبدالله هادي
  •  
    المسائل العقدية المتعلقة بإسلام النجاشي رحمه الله ...
    الدكتور سعد بن فلاح بن عبدالعزيز
  •  
    حديث في فقه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: دروس ...
    د. إبراهيم بن فهد بن إبراهيم الودعان
  •  
    تأملات في سورة الفاتحة
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    لا تؤجل التوبة (بطاقة دعوية)
    د. منال محمد أبو العزائم
  •  
    شرح كتاب الأصول الثلاثة: الدرس الثاني
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    الإبداع في القرآن الكريم: أنواعه، مجالاته، آثاره ...
    عبدالله محمد الفلاحي
  •  
    صفة الحج: برنامج عملي لمريد الحج وفق السنة ...
    أ. د. عبدالله بن محمد الطيار
  •  
    سبعون أدبا في الصحبة والسفر والعلم (PDF)
    د. عدنان بن سليمان الجابري
  •  
    شرح كتاب: فصول الآداب ومكارم الأخلاق المشروعة ...
    عيسى بن سالم بن سدحان العازمي
  •  
    كفى بالموت واعظا
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
شبكة الألوكة / مكتبة الألوكة / المكتبة المقروءة / مكتبة المخطوطات / علم المخطوطات
علامة باركود

علم الاكتناه العربي الإسلامي

د. فيصل الحفيان

المصدر: مجلة تراثيات – العدد الثاني ، ص 137– يوليو 2002

تاريخ الإضافة: 20/7/2010 ميلادي - 8/8/1431 هجري

الزيارات: 20612

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مفتتح القول: أن "علم الاكتناه العربي الإسلامي"؛ للدكتور قاسم السامرائي كتابٌ شدَّني إليه من غير طريق عنوانه أول، واسم مؤلفه ثانيًا، وقبل هذين معا: موضوعه. هذا الموضوع (المخطوطات العربية) الذي أعيش فيه وله منذ أكثر من عشرين عامًا، وإن كان العيش قد بدأ على الهامش أو الحاشية، وتدرج شيئًا فشيئًا حتى تركَّز في صلب المتن.  والفضل في ذلك - بعد الله سبحانه - يرجع إلى معهد المخطوطات العربية الذي دخلته شابًّا لم أجاوز الثالثة والعشرين، وأنا الآن لا أزال فيه، كهلاً أطرق باب منتصف العقد الخامس، لقد وجَّه المعهد نظري إلى هذا الميدان المعرفي الذي لا يجد - على أهميته - اليوم من يُعنَى به، ويصرف همَّه إليه، سوى فئة قليلة؛ منها: د. السامرائي صاحب (علم الاكتناه) وكتب أخرى مشابهة في هذا الاتجاه، وبحوث عديدة.

 

كانت المرة الأولى التي صافح فيها سمعي عنوان الكتاب في أثناء معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2002، فقد نقل إلي الأخ الكريم د. أيمن فؤاد سيد أنه حصل على نسخة من المعرض، وسَعَيت يومها للحصول على نسخة فأخفقت، وشاءت الظروف بعد ذلك أن أسافر إلى الرياض؛ لأفتتح دورة تدريبية على فهرسة المخطوطات، نظَّمها المعهد بالتعاون مع مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، والتقيت هناك أمينه العام الأخ الفاضل د. يحيى محمود بن جنيد، فطلبت منه نسخةً، فاستجاب مشكورًا، وشعرت أني امتلكت كنزًا ثمينًا، وبدأت رحلتي مع الكتاب، الذي عرَّفني عن قرب على شخصية مؤلف موسوعي من ناحية، وعلى كتاب مؤلَّف ذي قيمة في بابه من ناحية أخرى.  ولعل أوَّل ما يستحق التنويه هو تلك اللغة التي كتب بها الكتاب، والتي تدل على تمكُّن صاحبها من ناصية الكلمة العربية الرصينة، وتشير في الوقت ذاته إلى صلته الوثيقة بالتراث ومفرداته وتراكيبه وشواهده ونصوصه التي بعُد عهد التراثيِّين بها، بَلْهَ المثقفين عامة.  ولقد ظل الكتاب ملازمًا لي أسابيع عدة، انتهزت فيها كل فرصة للعودة إليه، واستكمال ما بدأته فيه، وتكرار قراءة ما لم أتمثَّله في القراءة الأولى، ومع القراءة أو القراءات هذه تجمَّعت لدي مجموعةٌ من الملاحظات والأسئلة التي لا تقلل من قدر الكتاب، ولا تعيب صاحبَه، فما إلى ذلك قصدت، وما ينبغي لي، ولكنها مجرد قراءة تسعى إلى الفهم أكثر مما تضيف، وتتساءَل في سبيل ذلك دون أن تنتقص أو تتَّهم أو تزري، ولا شكَّ أن صدر صاحب الكتاب - وهو عالم يدرك معنى العلم، ويعي مشروعية الأسئلة فيه - سيتَّسع لي، وصولاً إلى اكتمال المعرفة وتراكمها، وهي الغاية التي نسعى إليها جميعًا، وبخاصة في مجال التراث العربي الإسلامي، هذا الحصن الأخير الذي به نحتمي، وإليه نلجأ في زمن يتكالبون فيه علينا - وما أكثرهم - ليخلعونا من جذورنا، ويطمسوا ملامحنا، تحت شعارات العولمة، وما إليها، وما وراءها.

 

إن قراءتي لـ (علم الاكتناه) تنقسم قسمين رئيسين:

أولهما: خاص بعرض مادة الكتاب، فلا شك أن كثيرين جدًّا لا يعرفونه، وكثيرين جدًّا أيضًا لا يملكونه، وسيكون العرض مركَّزًا لا فضول فيه؛ إذ الهدف منه مجرد اللفت، كما أنه ضروري لأبني عليه ما سأقول في القسم الثاني.

وثانيهما: خاص بالأسئلة التي أشرت إليها.  فلنبدأ مستعينين بالله، مؤكدين مرة أخرى أن الغاية هي التعريف والتتميم، والله من وراء القصد أولاً وأخيرًا.

 

-1-

تقديم الكتاب:

صدر "علم الاكتناه العربي الإسلامي" عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض، عام 1422هـ- 2001م، وهي الطبعة الأولى، وقد وقع في اثنتين وستين وخمسمائة صفحة من القطع المتوسط، فهو كتاب كبير لا صغير، كما وصفه مؤلفه غير مرة. شغلت المادة العلمية ستًّا وأربعمائة صفحة، في حين شغلت جريدة المصادر المختارة - كما عُنونت - ثلاث عشرة صفحة (ص 407- 420)، أعقبتها مراجع مختارة في دراسة الخط العربي، (ص421- 423)، وأخرى في صناعة الكاغد (ص424)، وثالثة في دراسة الأنباط والآراميين (ص 425)، ورابعة في دراسة الأرقام (ص 426)، ثم جاءت جريدة المصادر الأجنبية (ص427- 434)، وتلتها جريدة الكشافات العامة (ص 437- 493)، وأخيرًا ملحق نماذج الصور (ص 497- 562).  ويبدو واضحًا من خلال هذا التقسيم مدى عناية المؤلف بالتوثيق العلمي، والحرص على ذكر المصادر مصنفة على الموضوعات التي تحدث فيها من خط وكاغد من ناحية، ومقسومة على عربية وأجنبية من ناحية أخرى، مما يشير إلى اطلاعه الواسع وتعدُّد المصادر وتنوعها وانفتاحها، ثم إن الحرص على الكشَّافات تصل بثقافته التراثية بسبب وثيق، فهي التي تفتح مغاليق الكتاب، وتضع اليد بيسر على محتوياته، وفي هذا السياق يأتي ملحق نماذج الصور.

 

لقد احتلَّت المصادر والمراجع والكشافات والنماذج ستَّا وخمسين ومائة صفحة، مما يعني بمؤشر النسبة المئوية أكثر من ثلث المادة العلمية، وهو ما له دلالاته الواضحة.  وتكشف جريدة المحتويات التي صدر بها الكتاب أن الموضوعات جاءت منجَّمة، لم تنتظمها أبواب أو فصول أو مباحث، وقد اندرجت هذه الموضوعات تحت عناوين بلغت عدتها - ما خلا التقديم - واحدًا وأربعين عنوانًا، وهي مرتبة على النحو التالي:  تقديم، ما علم الاكتناه؟ أصل الخط العربي، الأنباط والمؤرخون، تاريخ الأنباط السياسي والحضاري، الأنباط والأرقام، الأنباط والخط العربي، تحقيق المخطوطات وأصول الفهرسة، المستشرقون وتحقيق النصوص العربية، رأيان في أصول التحقيق، تحقيق النسخة الفريدة، تحقيق المسوَّدة، مشكلات الفهرسة، طراز الخط، بطاقة الفهرسة، مثالان تطبيقيان للبطاقة، تقييدات الوقف، تقييدات التملُّك، تقييدات الشراء، واجب المفهرس ومعوقاته، أهمية الكشكول والكناش في التحقيق والفهرسة، الإجازات، تقييد الختام، المسطرة، التعقيبات، رموز المقابلة، الكراسات وأنظمة الترقيم، صفحة العنوان، حساب الجُمَّل، الخط العربي وأنماطه، صناعة ورق البردي والرق والكاغد، صناعة الرق، تاريخ صناعة الكاغد، الخطوط والعلامات المائية في الكاغد، صناعة المِدَاد والحبر، صناعة الكتاب الإسلامي، طباعة الكتاب الإسلامي، التزوير في الوثائق والمخطوطات، تعتيق الكاغد وتزوير السَّماعات، الغش في الكاغد، المسكوكات والفهرسة.  بدأ الكتاب باقتباسٍ على ورقته الأولى من "ديوان الحافظ ابن حجر العسقلاني"، مع تصرُّف في كلمةٍ، وانتهى باقتباس من كلام الحافظ ابن عساكر، ومن "الورقة" لمحمد بن داود الجراح، مما يشير مرة أخرى إلى ثقافة المؤلف، وينسجم مع موضوع المؤلَّف.

 

وجاء العنوان الأول (ما علم الاكتناه؟) ثم توالت العناوين التي يمكن أن نجمعها أو نركِّزها في تسع نقاط: الخط، الأرقام، التحقيق، الفهرسة، التقييدات وما يتصل بها، الورق وما يتصل به، المداد وما يتصل به، صناعة الكتاب، التزوير في المخطوطات، المسكوكات.

 

وأول ما ينبغي التلبُّث عنده: التقديم الذي رسم فيه المؤلف خطته وغايته، فالكتاب - في رأيه -: "هو أول دراسة علمية شاملة لعلم الاكتناه العربي الإسلامي الذي لم يتناوله كتاب عربي بعدُ بهذا المعنى الجديد، ليكون دليلاً للمفهرِس، ومفتاحًا للمحقق، وهو بعد ليس ترجمة لأي عمل أوربي، ولا تقليدًا له، مع استفادتي الواسعة مما كُتِب في علم الاكتناه الأوربي حول المخطوطات اليونانية واللاتينية والهندية وغيرها"[1].

 

والكتاب - أو كثير مما جاء فيه - درسه صاحبه كفاحًا أو علميًّا، أو ألقاه في بعض الندوات التدريسية أو المؤتمرات الدولية، ولكنه زاد على كل ذلك، وأنقص، وغيَّر بعض آرائه وبدَّلها نتيجة تجربته في الفهرسة، واطِّلاعه على الكثير من المخطوطات[2].

 

والمؤلف لا يدَّعي أنه ألمَّ بكل جوانب البحث، أو أحاط به علمًا، أو أن ما سطَّره هو الصواب، وحسبُه أنه لم يضِنَّ بجهد، ولم يبخل بما عنده، لكنه يدرك تمامًا أن كثيرًا من التجارِب العلمية لا يستطيع الإنسان نقلَها إلى الآخرين أو وصفها لهم[3].

 

وعلى الرغم مما صدَّر به المؤلف التقديم من أن كتابه هو أوَّل دراسة علمية في الموضوع، فإنه أشار إلى بعض العلماء الذين حاولوا جادِّين لَمْلَمة بعض حواشيه -حواشي علم الاكتناه - المتباعدة، وضم جمل وأشتات من أطرافه المتباينة، فذكر عبدالسلام هارون، وصلاح الدين المنجد، وعبدالستار الحلوجي، وأيمن فؤاد سيد، وميري عبودي فتوحي، وعابد سليمان المشوخي، ومحمد المنوني، وكوركيس عواد، ونبيهة عبُّود، وحبيب زيات، وناجي معروف، وحسن حسني عبدالوهَّاب، وعبدالعزيز الدالي، ومحمد محمد أمان، وعبداللطيف إبراهيم، ومحمد محمد أمين، ومحمد ماهر حمادة، ويحيى محمود ابن جنيد، وأبا عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وعبدالله عسيلان، وعبدالهادي الفضلي، ومحمد مندور، وأحمد محمد الخرَّاط، ومحمد عجاج الخطيب، وأحمد حسن فرحات، وإياد خالد الطباع، كما ذكر سفند دال، وبالمر، وبيدرسون، وإلكسندر ستيبتشفيج، وكرومان، وكاراباجيك، وسامبول شتيرن، وهانس آرنست[4].

 

ولم يتعرَّض المؤلف - كما ذكر - للتزويق والتذهيب، والتصوير وتاريخه وأنماطه، وأساليب التجليد ومدارسه في المخطوطات؛ لأن هذه الفروع درست بإمعان وتفصل في كتب أو مقالات عديدة جدًّا بلغات مختلفة، فلم يرِد أن يكرر أو يسطو على جهود الآخرين، واكتفى بذكر هذه الكتب والمقالات في جريدة المصادر[5].

 

كما أنه قصد قصدًا إلى ألا يثقل كتابه بالشروح والتفاصيل والجداول؛ حتى لا يعزف عنه القارئ الجادِّ، وكرَّر ما أشار إليه قبلُ من أنه لم يحسن التعبير عن جوانب كثيرة يستطيع إدراكها؛ بما تراكم عنده من مران وممارسة، بَيْدَ أنه يقف عاجزًا عن شرحها أو توصيلها للقارئ، وهذا من النقص الذي لا يسلم منه إنسان[6].

 

إن المؤلف معتزٌّ بكتابه وتجربته مع المخطوطات العربية، غير أن ذلك لم يُسلِمه إلى الغرور، أو إنكار جهود الآخرين وإسهاماتهم، وهو - من بعدُ - على طريقة القدماء يلتمس العذر من شطِّ قلمه أو عثرة خاطره، ومما يذكر له تلك الاقتباسات الموفَّقة من كلام السابقين وتقييدات المخطوطات التي نثرها في كلامه في التقديم[7].

 

كان هذا العرض لمادة الكتاب ضروريًّا؛ حتى يكون القارئ على بينة أولاً، وحتى أبني - كما أسلفت - عليه ما سأقول في لاحق الكلام، وهو ما يتلخص في خمسة أسئلة، مع ملاحظة أن السؤال هنا بمعنى القضيَّة أو المشكِلة، وليس بالمعنى القريب الذي يتطلب جوابًا.

 

-2-

2-1 سؤال العنوان:

أحسب أن عنوان الكتاب يستحق وقفة طويلة فهو عنوان جديد، ثم إنه ليس مجرد عنوان فحسب، بل هو - كما أراده صاحبه - عَلَم على عِلم، لقد فاجأ العنوان المتخصصين في المخطوطات، بَلْهَ المشتغلين بالتراث عامة، فاستغربوه، وتساءَلوا عن معنى (الاكتناه)، وعلاقته بموضوع الكتاب، وما إذا كان السامَرَّائي قد اخترعه، أو أنه مقابل عربي لعلم غربي، وأشياء أخرى تتَّصل بذلك.

 

وعلى الرغم من أن السامرائي قد عقد عنوانًا مستقلاًّ بعد مقدمة الكتاب مباشرة، صاغه بأسلوب الاستفهام (ما علم الاكتناه؟) وملأ تحته ست صفحات - فإن الصورة لم تتَّضح، وظلَّت الرؤية غائمة، إنه يقول: "يشتمل علم الاكتناه في اللغات الأوربية على فنَّين، هما: باليوغرافي Palaeograghy، وكوديكولوج Codicologyـ" [8]، ومنطوق هذا القول: أنَّ هناك علم اكتناه أوربيًّا، تحته فنَّان، وسبق للسامرائي أن قال في التقديم: "مع استفادتي الواسعة ممَّا كُتِب في علم الاكتناه الأوربي حول المخطوطات اليونانية واللاتينية والهندية وغيرها"[9]، كأنَّه وطَّأ بكلامه الأخير هذا لما قال بعدُ في أول موضوعات الكتاب، وصدَّق بكلامه التالي كلامه الأول في التقديم، وكان أوَّل ما تبادر إلى خاطري: الاكتناه كلمة عربيةٌ، فما هي الكلمة أو الكلمات المقابلة لها في الاصطلاح الغربي إذا كان هناك علم اكتناه أوربي؟ ولماذا لم يقرن هذا المقابل بالمصطلح العربي؟ كما نقرن مثلاً المصطلح العربي (علم المخطوطات) بالكلمة الفرنسية Codicologie التي اقترحها ألفونس دان عام 1944، لدراسة العناصر المادية التي يتكوَّن منها المخطوطُ، مخلِّصًا بذلك هذا العلم من كلمة باليوغرافيا التي كانت تشمله، وهذه الكلمة الأخيرة نقرنها بدورها بـ(علم الخطوط القديمة) وقِس على ذلك.

 

واتَّهمت نفسي بالجهل، وسارعت إلى بعض الأصدقاء من المتخصِّصين، الذين يتميزون بالانفتاح على الثقافة الغربية، وبعضهم ممَّن تخرَّج في باريس، كما أُتِيحت لي فرصة الالتقاء ببعض الفرنسيين ممَّن يعملون في معهد البحث وتاريخ النُّصوص والمكتبة الوطنية الفرنسية، مثل د. مارك جوفروا، وجونفيف غيدون، لكنَّ أحدًا لم يضف إلي، سوى أنه ليس هناك مقابل لـ(علم الاكتناه)، وأنَّه لا يوجد علمٌ غربي يجمع شمل علمي الكوديكولوجيا والباليوغرافيا، كما فعل السامرائي في كتابه.

 

إن كلام السامرائي ينقُض بعضُه بعضًا، فقد بدأ أول كلماته في الكتاب بالقول: "لقد قصدتُ من هذا الكتاب الصغير أن يكون دراسةً علمية شاملة لعلم الاكتناه العربي الإسلامي الذي لم يتناوله كتابٌ عربيٌّ بعدُ بهذا المعنى الجديد... مع استفادتي الواسعة ممَّا كُتِب في علم الاكتناه الأوربي..."[10]، وهذا قولٌ يشير إلى أن ثمة علم اكتناه عربيًّا، لكنه لم يؤلف فيه كتاب عربي، وفي موطن آخر يقول: "وقد اشتققت من كل ما سبق من المعاني والدلالات مصطلحًا عربيًّا هو علم الاكتناه..."[11]، ويظهر لي أن التوفيق لم يحالف السامرائي في التعبير عمَّا في نفسه، في مواطن تستلزم الوضوح والدقة، وتترى الأسئلة، أو التساؤلات: هل كان هناك علم اكتناه عربي قبل السامرائي؟ أو أنه شكل من رصيد التراث وألَّف اعتمادًا عليه علمًا جديدًا، اخترع هو اسمه؟ وتأتي الإجابة بصورتها اليسيرة والقريبة - على حدِّ تعبيره هو -: "لم يحسن التعبير عن جوانب (أفكار) استطاع إدراكها... بَيْدَ أنه عجز عن شرحها أو توصيلها للقارئ... وهذا من النقص الذي لا يسلم منه إنسان"[12].

 

وما أراه بعد إمعان النظر وتقليب الأمر على وجوهه المختلفة: هو أن السامرائي أراد أن يؤلِّف بين مجموعة من المعارف اعتمادًا على التراث، ويجعل منها علمًا واحدًا غايته خدمة مفهرس المخطوطات العربية ومحقِّقَها، وأطلق على هذا العلم اسمًا جديدًا.

 

ومن اللافت أنه عندما صاغ الاسم أو المصطلح الجديد لم يتوقَّف أدنى توقُّف عند الدلالة اللغوية لكلمة (الاكتناه)، وكان حقه أن يتريَّث عند هذه النقطة في مظنتها، الموضوع الذي استهلَّ به الكتاب (ما علم الاكتناه؟) فهذه الدلالة ذات أهمية في التأسيس لمصطلح جديد، صرَّح صاحبُه بأنه اشتقَّه، جاعلاً تحته كل ما يدخل تحت علمي الكوديكولوجيا والباليوغرافيا في اللغات الأوربية.

 

ولا شكَّ أن عملية اختيار مفردة وجعلها رأسًا على علم هي عملية عقلية، تقتضي بداهة وجود علاقة أو صلة بين الدلالة اللغوية لها، والاصطلاح الجديد؛ حتى يستقيم الأمر.

 

وإذا كان السامرائي لم يشفِ الغلَّة، وهو - دون شك - أقدر على ذلك، إذ هو فارس الكتاب وعنوانه، فقد رأيت لزامًا أن أجتهد في الأمر؛ إنفاذًا لحق العلم، وإرضاءً لفضولي العلمي، في انتظار أن تقطع جهيزة قول كل خطيب.

 

ذكرت المعجمات اللغوية دلالاتٍ عدةً للجذر اللغوي (كنه) وقد تتبعتها في "الصحاح"؛ للجوهري (ت 393 هـ)، و"المحكم"؛ لابن سيده (ت 458 هـ)، و"أساس البلاغة"؛ للزمخشري (ت 538 هـ)، و"لسان العرب"؛ لابن منظور (ت 711 هـ)، و"القاموس المحيط"؛ للفيروزآبادي (ت 817 هـ)، و"المعجم الوسيط"، و"المعجم الكبير"؛ مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومعجمات أخرى تتبعتها فرأيتها لا تتجاوز: جوهر الشيء، ووقته، وغايته ونهايته، وقدره، ووجهه، وحقيقته، وأخيرًا كيفيته[13]، وأول هذه المعاني: (جوهر الشيء)، وثالثها: (غايتها ونهايتها)، وآخرها: (حقيقته، وكيفيته) - لا تبعد عن بعضها، فقد رأيت المعجمات تفسر بعضها ببعض، فحقيقة الشيء: منتهاه، وأصله المشتمِل عليه، وحقيقة الإيمان: خالصه ومحضه وكنهه، والجوهر: الأصل، هي دلالات متداخِلة متناوبة، فالكُنْه: الحقيقة والكيفية، والكنه أيضًا: الغاية والنهاية، والحقيقة بدورها: المنتهى والأصل.

 

على أن استخدام الكُنْه بمعنى الحقيقة والكيفية مما وقع فيه خلاف، فقد نسبه ابن دُرَيد إلى العامة[14]، لكن الجماهير أقرَّته واستعملته فيها، ولعل الفيروزآبادي أسقط معنى (الحقيقة)[15] بسبب هذا الخلاف، وإذا كان ابن دريد قد غمز في الدلالة على الحقيقة، فإن الجوهري ذكر أنه لا يشتق منه فعل، ونعت وما ورد من قولهم: "لا يكتنهه الوصف"؛ بمعنى: لا يبلغ كنهه، بأنه كلام مولَّد، لكن الأزهري صحَّح استخدام الفعل[16].

 

وعلى الرغم من غمز ابن دريد دلالة الحقيقة، وطعن الجوهري في اشتقاق الفعل، فإن أقرب الدلالات الآن وأكثرها شيوعًا هي الحقيقة، كما أن الفعل مستخدَم مستقر.

 

كان ذلك عن الدلالة أو الدلالات اللغوية لجذر الكلمة، واستخدام فعل منه، فماذا عن الدلالة الصرفية للصيغة (الاكتناه) مصدر (اكتنه) على وزن افتعل؟

 

من المعلوم عند الصرفيين أن (افتعل) لها دلالات عديدة، تكتسبها من الصيغة أو الوزن نفسه، زيادة على معنى (فعل) مجردًا، فـ(ارتمى) مثلاً غير (رمى)، و(اشتوى) غير (شوى)، و(اصطنع) غير (صنع)، و(اشتبه) غير (شبه)[17]... والدلالة الجديدة التي تضاف هنا في (اكتنه) هي المشقة والاجتهاد والمبالغة والتعمُّل في تحصيل أصل الفعل، كأن (الاكتناه) هو السعي بجهد وإصرار وإلحاح للوصول إلى (الكنه) بمعنى الحقيقة، والكيفية، والأصل، والجوهر، وقد اخترتُ هذه الدلالة؛ لأنها هي التي توافق استخدام الكلمة.

 

ويبقى السؤال: ما علاقة كل ذلك بموضوع الكتاب، أو بمفردات العلم الذي أراده السامرائي، وهل قصدها حقًّا؟

 

أمَّا السؤال الأخير فأغلب الظن أنها مقصودة، على الأقل في لَمْح معنى الحقيقة من مادة (كنه).

 

وأما السؤال الأول؛ فالمسألة يمكن فهمها من باب أن ثمة أشياء يطلق عليها (أوعية المعرفة)؛ مثل الوثيقة، والمسكوكة، والمخطوطة، والأثر، أيًّا كانت الأداة التي تمَّ بوساطتها صبُّ المعرفة في هذا الوعاء أو ذاك: القلم، أو الإزميل، أو غيرها، وأيًّا كانت الأدوات المساعدة الأخرى في صياغة هذا الوعاء وملئه بمحتواه، وأيًّا كانت الإضافات التي تجعل الوعاء قابلاً للتداول وذا قيمة، وهي في حال المخطوطة أصباغ وألوان وجلد وتهذيب وتزويق... إلخ.

 

وإذا كان علم الاكتناه - كما حدَّده السامرائي - بدءًا من غلاف كتابه - علمًا يشمل الباليوغرافيا والكوديكولوجيا، فمن الممكن أن نفهم - دون أن يكون الفهم مشوبًا بالتعسُّف أو الافتعال - أن هذه الأوعية بوصفها مواد، أيًّا كانت طبيعتها، وخطوطها، وأصباغها، وألوانها، وجلودها، ورسومها، ونقوشها، من الممكن أن نفهم أنها هي (الأصل، والجوهر، والحقيقة، والكيفية) التي ينبغي أن نصرف إليها ومن أجلها جهدًا كبيرًا؛ حتى نستطيع أن نصل إلى المعرفة المسجلة عليها، ونحيط بأبعادها، وفي الوقت نفسه نرصد الظروف الاجتماعية والتاريخية والجغرافية الاقتصادية والسياسية والعلمية التي أحاطت بهذه المعرفة من ناحية، والتي أَثْرَت المعرفة بدورها فيها من ناحية أخرى، هي إذًا عملية مركبة، فهذه الأوعية ذات قيمة عظيمة تكشف لنا الكثير، وبها وعن طريقها نصل إلى المعرفة بمفهومها الواسع والعميق، ثم إنها هي نفسها تؤثر في هذه المعرفة، وتوجهها نحو آفاق جديدة.

 

إن السامرائي يرى في علم الاكتناه - بناء على الرؤية السالفة - علمًا أساسيًّا، ويجعل من موضوع درسه: الوعاء المعرفي العربي الإسلامي (المخطوط) هدفًا في حد ذاته، متابعًا الكوديكولوجيين الذين يرون أن الكتاب المخطوط "مادة أساسية تدرس لذاتها لا كوسيلة لتحقيق غاية أخرى، وأنه لا يمكن دراسة نص من النصوص دون معرفة الأسس المادية والظروف التي أُنتِج فيها المخطوط، وكذا معرفة الطريقة التي وصل بها إلينا هذا النص"[18]. إنه بلك يكون قد تجاوز النظرة القديمة لدينا هنا - نحن العرب والمسلمين - هذه النظرة التي تجعل من علم المخطوطات علمًا مساعدًا مهمته مساعدة محققي النصوص ودارسيها.

 

إن دراسة المخطوط حتى عند الغربيين كانت - كما يقول أحمد شوقي بنبين -: "تعتبر دراسة ثانوية، يهتم به كوسيلة أو مصدر للتاريخ الثقافي، كدراسة عنصر معين من جوانب مختلفة، أو يهتم به كقطعة أثرية نادرة، غير أن علماء الفيلولوجيا اليوم قد اختاروا مقاربة معاكسة لدراسة المخطوط، بمعنى أن التاريخ الثقافي يصبح عند الاقتضاء إحدى الوسائل للبحث في تاريخ المخطوط"[19]، ولا بأس أن أورد في هذا السياق ما قاله المستشرق كونينجسفيلد (Konningsfild): "إن المخطوطات ليست نصوصًا مصدرية فحسب، ولكنها شاهد أيضًا على النشاط الثقافي لهذا القطر أو ذاك، أو هذا البلد أو ذاك، وفي فترة معينة من التاريخ، إذ إن كل مخطوطة إنما هي مرآة تعكس الحياة الثقافية للزمان والمكان الذي نسخت فيه المخطوطات"[20].

 

لقد تعمدت أن أزجي هذه الآراء والنُّقول في ثنايا محاولتي فهم عنوان الكتاب، والحق أن هذه الآراء والنقول مرتبطة بعلم المخطوطات أو الكوديكولوجيا، وهو نصيف علم الاكتناه، فما نشير إليه ينطبق إلى حدٍّ ما على علم الاكتناه أو بعضه، وقد يتراءى لدى بعضهم أني أذهب بعيدًا في فهم العنوان وكلام صاحبه، لكن عذري أني أحاول تفسير ما لم يفسره السامرائي، وهي محاولةٌ تربط الدلالة اللغوية للعنوان برؤية صاحب الكتاب للعلم، وبكلام المختصين في علم المخطوطات.

 

خلاصة القول:

ألا يستحق - بعد كل ما سبق - أن يكون العلم الذي يُعنَى بأوعية المعرفة علمًا نشتق اسمه من جذر لغوي يدل على الأصل والجوهر والحقيقة، والكيفية، ثم نجعل هذه الدلالة في صيغة تشير إلى مَدَى الجهد الذي تحتاجه هذه الدراسة المعقَّدة المرتبطة بالزمان والمكان، وما نتج عنهما وفيهما من مواد وأساليب... إلخ.

 

لا شك أن السامرائي قد وُفِّق إلى حد بعيد في اختيار هذا المصطلح محمَّلاً بكل المعاني السابقة، بغضِّ النظر عن مدى الاتِّفاق أو الاختلاف معه في انسجام ما أدرج تحته وفي إمكانية ذلك، وهذا هو موضوع السؤال التالي.

 

ومما يذكر هنا أن مصطلح (علم الاكتناه) قد أدخله د. أحمد شوقي بنين وزميله مصطفى طوبى معجمهما الذي صدر حديثًا جدًّا (2003م) "معجم مصطلحات المخطوط العربي"، باسم قاسم السامرائي[21].

 

2 - 2 سؤال الموضوع:

موضوع علم الاكتناه العربي الإسلامي - كما رسم السامرائي - أوسع مما قد يُتَصوَّر، فهو يجمع علومًا كثيرة، نعم حدد السامرائي على غلاف كتابه علمين فقط يشملهما علم الاكتناه، وأكَّد ذلك نصًّا صريحًا واضحًا، فقال إنه - أي: علم الاكتناه - يشتمل على فنين هما: الباليوغرافيا، والكوديكولوجيا[22].

 

وأولهما - الباليوغرافيا - يعني: "البحث في كل ما هو مكتوب، أو منقوش، أو مرسوم، واختبار المواد المستعملة في هذه العمليات، وإخضاعها للتحليل والتركيب، ومن ثمَّ استنباط النتائج منها"[23]، وهو أيضًا "فنٌّ يُعنَى بفك الخطوط القديمة، ورموز الكتابة الأثرية، والنقوش والمسكوكات"[24].

 

وثانيهما - الكوديكولوجيا - يعني: "دراسة الكتاب المخطوط أو صناعته، بما في ذلك صناعة الأحبار، وفن التوريق، أو النساخة، والتجليد، والتذهيب وصناعة الرقوق، والجلود، والكاغَد، وما يتبع كل ذلك من فنون، وما يتَّصل بها، مثل: حجم الكَرَّاسة، ونظام الترقيم، والتعقيبات، والسَّمَاعات، والقراءات، والإجازات، والمقابلات، وتقييدات التَّمَلُّك، وتقييدات الوقف، وما يظهر في نهاية المخطوطة"[25].

 

ثم أضاف إلى هذا وذاك: "أن يكون الخبير بعلم الاكتناه على معرفة جيدة ودربة وافية بعلم تطوُّر الخطوط العربية وأنماطها، وتطوُّر صناعة ورق البردي، والرق، والكاغد، والزجاج، والنسيج، والنحاس، والحديد، والخشب، والأحجار الكريمة والرخيصة"[26].

 

وكذلك: "أن يكون على علمٍ واسع بصناعة الأمدة، والأحبار، والمواد المصنوعة منها عبر العصور الإسلامية، والأصباغ، والألوان، وصناعة الجلد، والتجليد، والتذهيب، والتزويق، في كل قُطْر من الأقطار الإسلامية"[27].

 

والخبير بعلم الاكتناه: "لا يستغني أيضًا عن المعرفة الواسعة بالشريعة الإسلامية، ومذاهبها، وأصول أحكامها، وما يتبعها من مختلف الفروع؛ كنظام القضاء، والحسبة، والشرطة وأنظمة الدواوين، والأوقاف، فضلاً[28] عن اللغة والتاريخ"[29].

 

وإضافة إلى هذا كله فإن الخبير: "يجب أن يكون عارفًا بالمصادر والمراجع الأساسية المختلفة، وأساليب استعمالها"[30].

 

وأخيرًا: فإن علم الاكتناه يندرج تحته معرفة تاريخ الطباعة في العالم العربي والإسلامي؛ لأن الطباعة بدأت تقليدًا للمخطوطات في خطها وإخراجها[31].

 

ويلاحظ أن الفرع الأخير من فروع علم الاكتناه (معرفة تاريخ الطباعة) لم يرد في مظنته حيث الفروع الأخرى، ولكنه جاء بعيدًا في إخراجه في آخر الكتاب حيث موضوع (طباعة الكتاب الإسلامي)، فلعل هناك فروعًا أخرى أفلتت مني أثناء القراءة.

 

هذه المعارف الكثيرة في الكَمِّ، المتباعدة أحيانًا في المنطلقات والأبعاد والأهداف معًا، المتنافرة أحيانًا في التكوين الذي تتطلَّبه، والثقافة التي تحتاجها، تدخل جميعًا تحت علم الاكتناه، كما يتصوَّره السامرائي ويؤسِّسه.

 

وأحسب أن هذا التأسيس لعلم يذكر بمقولة قديمة عن اللغة، مفادها أنه "لا يحيط بها إلا نبي"، وعلم الاكتناه بالمفهوم السامرائي يحتاج أيضًا إلى أنبياء.

 

وبعيدًا عن هذه المقولة التي قد لا تكون حُجَّة في معرض مناقشة علمية، أودُّ أن أتلبَّث قليلاً لأزيد الأمر تفصيلاً، ومن ثم أرسخ الاقتناع بما أذهب إليه.

 

أ- يَعرِف السامرائي أن كلاًّ من الباليوغرافيا والكوديكولوجيا مجالان معرفيَّان مستقلاَّن اليوم، وأعني: أنهما علمان، كلٌّ له استقلاليته والدائرة التي يتحرك خلالها، وإن كانت دائرتهما تتداخلان أحيانًا - شأنَ المجالات المعرفية الأخرى - على أن مصطلح الكوديكولوجيا أو علم المخطوطات خرج من رَحِم الباليوغرافيا أو علم الخطوط القديمة، وكان ذلك في العصر الحديث، يقول د. أحمد شوقي بنبين: "وحتى العصر الحديث كان علم المخطوطات يعتبر جزءًا من الباليوغرافيا... وقد كان العلماء يقولون: (الباليوغرافيا التطبيقية) أو (التاريخية) للتعبير عن علم المخطوطات، قبل أن يستعملوا لفظ (هاندشر يفيتنكونده)، واحتفظوا بلفظ الباليوغرافيا لعلم الخطوط القديمة، أمَّا في فرنسا حيث ازدهر البحث الفيلولوجي ازدهارًا كبيرًا، وظهرت أعمالٌ جادَّة في هذا المجال - خاصَّة في النصف الأول من هذا القرن - فإن الفيلولوجي الكبير ألفونس دان قد اقترح عام 1944م لفظ (كوديكولوجيا) مترجمًا به اللفظ الألماني (هاندشر يفيتنكونده) لدراسة العناصر التي يتكوَّن منها المخطوط، بصرف النظر عن الكتاب، واقتصر لفظ (باليوغرافيا) على دراسة الخطوط القديمة دراسة علمية"[32].

 

وإذا كان علم المخطوطات أو "الكوديكولوجيا" قد انفصل عن علم الباليوغرافيا، فإن جمعهما مرة أخرى - كما فعل السامرائي - هو عودةٌ بالزمن إلى الخلف، إذ لا شك أن هذا الانفصال أو الانعتاق - انعتاق الكوديكولوجيا من إسار الباليوغرافيا - إنما حدث لأن هناك ما استدعى ذلك، والأسباب كثيرة؛ منها: ما يرتبط بالتراكم المعرفي للمجال أو العلم الجديد، ومنها ما له علاقةٌ بخصوصية هذا الدرس الجديد، واتخاذه ملامح مميِّزة، ومنها ما يعود ربَّما إلى الغايات التي يسعى إليها... وأشياء أخرى ليس هذا موطن استقصائها.

 

وإمعانًا في التوضيح، فإن الباليوغرافيا هي - كما عرفها ألفونس دان -: "علم الخطوط القديمة وأسس هاته الخطوط"[33]، وأوعية هذه الخطوط كثيرة، منها وعاء المخطوط أو الكتاب، فدراسة المخطوط أو الكتاب ومادة الكتاب، وصناعة الكتاب، واستعمالاته، ودراسة شكله، هذا كله يدخل في إطار الباليوغرافيا، لكن المخطوط ليس خطًّا وصناعة وشكلاً فحسب، بل إن هناك مجالات أخرى جدَّ مهمة لدراسة هذا الوعاء الحضاري المهم؛ من مثل: إعداد الكشَّافات أو القوائم أو الفهارس على وفق أسس مختلفة، ومن جوانب متعددة؛ موضوعية (طب، لغة، تاريخ...) وتاريخية (قرن معين، أو فترة زمنية ما)، وجغرافية (منطقة معينة، أو بلد بعينها)، وفنية (مزخرفة، ملونة، مذهبة، فيها رسوم أو أشكال)، وذات خصوصية (قديمة، فريدة، نادرة)، وكذلك من مثل: صناعة فهارس الفهارس، ورصد ما يكتب عن المخطوطات في أوعية النشر المختلفة، وعمل فهارس للنسخ المختلفة للكتاب الواحد، وللنساخ، وأصحاب المجموعات (المُلاَّك)، والمكتبات التي انقرضت، والمجلِّدين، وخوارج الكتب ومقدِّماتها، وتجارة المخطوطات، إلى مهامَّ أخرى عديدة هي من صميم عمل الكوديكولوجي، ولا علاقة للباليوغرافي بها.

 

وبالمقابل فإن الباليوغرافيا أوسع في الميادين أو الأوعية التي تُعنَى بها، فهناك ما يسمى بباليوغرافيا الوثائق، وباليوغرافيا البرديات، وباليوغرافيا السجلات، وباليوغرافيا المسكوكات والقِطَع المعدنية، وباليوغرافيا الآثار.

 

ويظل الكتاب المخطوط هو محور الكوديكولوجيا، ليس في خطه ومداده وصنعته فحسب، وإنما في آفاق أخرى، تتطلَّبها طبيعة هذا الوعاء، ويدفع هو نفسه إليها.

 

ألا يحقُّ لنا بعد بهذا أن نعترض على أن نجمع شمل العلمين تحت علم واحد، خلافًا لسنة التطور، وطبيعة الأشياء؟!

ب- يدرج السامرائي ضمن علم الاكتناه ما أسماه بالمعرفة الواسعة بالشريعة الإسلامية ومذاهبها... إلخ، ويلاحظ أن معرفة خبير الاكتناه بالشريعة ليست معرفةً عادية بل هي معرفة (واسعة)، كأنه مطالب بأن يكون عالمًا بالشريعة.

مثل هذه المعرفة تنقل علم الاكتناه - في رأيي - خارج دائرتي الباليوغرافيا والكوديكولوجيا معًا نقلة بعيدة، إذ إنهما دائرتان تقومان على أسس تقنية تتَّصل على نحو بالعلوم التطبيقية ومنها الكيمياء، وأسس نسقية ترتبط بالوعاء أيًّا كان نوعه، وطبيعة تنظيم ما يكتب أو ينقش فيه، بالإضافة إلى الخطِّ، وهو أيضًا يدخل في الأمور النَّسَقية، في حين أن الدائرة الجديدة (الشريعة) مبنيةٌ على محتوى المخطوط العلمي، وهو ما يندرج تحت الدراسة الفيلولوجية.

 

جـ- والكلام الآنف نفسه ينطبق تمامًا على ما أشار إليه من ضرورة معرفة الخبير من باب أَوْلى باللغة والتاريخ، والمصادر والمراجع الأساسية المختلفة وبأساليب استعمالها، وواضحٌ أن المقصود بالمصادر والمراجع: مصادر اللغة، والتاريخ، والشريعة، وفي ذلك خَلْط غير مقبول، وليٌّ لأعناق تخصُّصات علمية، كلُّ تخصص منها له أدواته وأساليبه ومصادره ومناهجه وثقافته، التي ينفق عليها عمر الإنسان حتى يتم التمكُّن منها، أو الاقتراب من ذلك.

 

د- رابعة الأثافي - إن كان ثمة رابعة - أن يقوم السامرائي بحشر موضوعات خاصَّة بالتحقيق العلمي، أو ما يسمِّيه بالدراسة الفيلولوجية للمخطوطات، في كتابه، ولا أظنُّ أحدًا يجعل التحقيق العلمي هذا جزءًا من الباليوغرافيا، ولا من الكوديكولوجيا.

 

إن بحث التحقيق العلمي أو التعرُّض له في سياق هذين العلمين إنما يكون من زاوية العلائق التي تصل بينه وبينهما، حاجته إليهما، وحاجتهما إليه، وما يفيد كل علم من الآخر، وهذا ما فعله د. أحمد شوقي بنبين في كتابه "دراسات في علم المخطوطات والبحث الباليوغرافي" فقد ضمَّنه بحثًا في (علم المخطوطات والتحقيق العلمي) درس فيه عنصرين من عناصر المخطوطات، عدَّهما أكثر ارتباطًا من غيرهما بعملية التحقيق العلمي، هما البحث أو التفتيش عن المخطوطات، وأثر النساخة والنُّسَّاخ في المخطوط العربي عبر تاريخ الطويل[34].

 

إن السامرائي عقد عِدَّة عناوين لمسائل التحقيق العلمي (تحقيق المخطوطات وأصول الفهرسة)، و(المستشرقون وتحقيق النصوص العربية) و(رأيان في أصول التحقيق)، وهو لم يعرض فيها من قرب أو بعيد لأمور تتصل بالكوديكولوجيا والباليوغرافيا، وركَّز كل التركيز على التحقيق العلمي الصِّرف: همومه ومن كتب فيه، والدُّخَلاء عليه الذين شوَّهوا النصوص، والتصحيفات والتحريفات التي ارتكبوها، وأسباب الجناية التاريخية على هذه النصوص، والشُّروط التي ينبغي أن تتوافر في المُحَقِّق، ومناهج المحقِّقين في إخراج النصوص... إلخ، وذلك كله بعيدٌ أيَّما بعد عن علمَي (علم الاكتناه).

 

إن ما جمعه السامرائي في إهاب علم الاكتناه، وما أقحمه إقحامًا بعد أن ضاق الإهاب بما فيه - شيءٌ فوق طاقة الأذكياء أن يقدروا عليه، وما نادى به متعذِّر التحقُّق أو الوجود في الواقع، إلا في حالات نادرة، ولا يسوغ بناء العلوم أو تأسيسها على مفاهيم كهذه.

 

2 - 3 - سؤال البناء:

كيف بنى السامرائي كتابه؟ وهل وُفِّق في تشييد هذا البناء؟ وإلى أيِّ مدًى استطاع أن يؤلِّف بين المواد، ويجعل منها منظومات متَّسقة، ترفعه في النهاية صرحًا متماسكًا يشدُّ بعضُه بعضًا؟

هذه الأسئلة وغيرها التي تقودنا في تالي الكلام.

 

قال السامرائي في تقديمه الكتاب: "إن الكثير مما جاء في هذا الكتاب، كنت قد درَّسته كفاحًا، أو عمليًّا، في قسم المكتبات والمعلومات بكلية العلوم الاجتماعية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، أو سبق أن ألقيتُ أشياء منه في بعض الندوات، أو المؤتمرات، أو في الدورات التدريبية، فزدت على ذلك ما عنَّ لي، وغيرت بعض آرائي وبدَّلتها نتيجة تجربتي، إضافة إلى مناقشاتي الجادَّة مع المهتمِّين..." [35].

 

المادة إذًا أشتاتٌ جمعها صاحبُها، ليصبها في وعاء واحد، ولا حرج في ذلك ولا تثريب، فهي جميعًا تتَّصل بالتراث، بغضِّ النظر عن مدى انسجامها مع بعضها، ولكن ذلك لا يعفي من التأليف بين الأشباه، وجمع النظائر؛ حتى تستقيم بنية الكتاب، فلا تتقطع أوصال الموضوع الواحد، ولا تتمزَّق الفكرة الواحدة شذَر مذَر من ناحية، وحتى يجد الباحث بغيته في مكان واحد، وفي الموضوع الذي يتوقَّع من ناحية أخرى، وحتى تتضافر أجزاء الموضوع الواحد في خدمة فكرته، وتتعانق مع الموضوعات الأخرى، لتكوِّن في النهاية لوحة لا أَمت فيها ولا اعوجاج.

 

لقد تناول المؤلف موضوع الخط العربي في أربعة مواضع:

أولها: في بداية الكتاب تحت عنوان (أصل الخط العربي) (ص 23- 28).

وثانيها: تحت عنوان (الأنباط والخط العربي) (ص 57- 58) فاصلاً بينهما بموضوعات "الأنباط والمؤرخون"، و"تاريخ الأنباط السياسي"، و"الأنباط والأرقام".

وثالثها: تحت عنوان (طراز الخط) (109) فاصلاً بين هذا وسابقه بستة موضوعات لا علاقة لها بالخط، صحيحٌ أنه عرضه بوصفه مشكلةً من مشكلات الفهرسة، لكن السياق لا يقتضي إفراده بعنوان، فقد كان يمكن إدراجه في الموضوع الرئيس (مشكلات الفهرسة) كما أدرج مشكلة إعداد المفهرِس، وقواعد الفهرسة، وعناوين المخطوطات، أو فقدان الورقة الأولى من المخطوط، واختلاط المطبوعات بالمخطوطات، فلماذا أفرد (طراز الخط) بعنوان، والكلام فيه - بالإضافة إلى الاعتبار الموضوعي السابق - لم يتعدَّ صفحة، وما قيل فيها تكرَّر مرة أخرى في الموضوع الرابع.

ورابعها: تحت عنوان (الخط العربي وأنماطه) (ص 215- 224)، وبين هذا وسابقه خمسة عشر موضوعًا (عنوانًا).

 

والسؤال: ألم يكن من الأفضل لمُّ شمل الموضوع، بدل بعثرته كل هذه البعثرة؟!

 

الموضوع الثاني الذي حظي باهتمام السامرائي هو موضوع الأنباط، وقد تناوله على التوالي في خمسة مواضع، منها أربعة ظهرت فيها كلمة (الأنباط) في العنوان، في حين اختفت الأنباط في واحد، وأولها (أصل الخط العربي) وقد تلاه: الأنباط والمؤرِّخون، تاريخ الأنباط السياسي والحضاري، والأنباط والأرقام، والأنباط والخط العربي.

 

والحق أنَّها جميعًا تندرج تحت موضوع واحد هو أصل الخط العربي، فهذا هو ما يهمُّ الخبير بعلم الاكتناه على حدِّ تعبير السامرائي، فتاريخ الأنباط لا يهم هذا الخبير إلا في سياق تعرُّفه على أصل الخط العربي، إنها عناوين توهم القارئ أن المؤلف قد خرج من نطاق العلم، موضوع الكتاب إلى التاريخ، وهو علم له رجاله، فإذا ما دخلنا في مادَّة هذه الموضوعات فإننا نجد دخولاً في تفصيلات تاريخية، وشبه غياب لموضوع الخط، على الرغم من أن العكس تمامًا هو المطلوب، على ما ألمحت آنفًا.

 

الموضوع الثالث موضوع الفهرسة، وهذا جرى تناوله في ثلاثة موضوعات: مشكلات الفهرسة (ص 93-  108)، وبطاقة الفهرسة ومثالان تطبيقيان لها (ص 111- 118)، وواجب المفهرس ومعوقاته (ص 145- 150)، وبين هذا وسابقه ثلاثة موضوعات: تقييدات الوقف، وتقييدات التملُّك، وتقييدات الشراء، ولا علاقة لهذه الموضوعات من الزاوية التي نظر فيها السَّامَرائي بالفهرسة، فمثلاً عرَّف الوقف فقهيًّا، وتتبَّع ظاهرة المصاحف والكتب، وساق نماذج من تقييدات الوقف ومواطنها في المخطوطات، وأمورًا أخرى، وكل ما يتَّصل بالفهرسة من الموضوعات لا يعدو إشارة عاجلة إلى أهمية الوقف للمفهرس والمحقِّق؛ لأنها وسيلة من وسائل التوثيق، وعون على تحديد مكان النسخ، وقد تُعرَف باسم المؤلف وعنوان الكتاب... إلخ. وأدخلت كلمة الفهرسة في ثلاثة عناوين أخرى دون حاجة إلى ذلك: تحقيق المخطوطات وأصول الفهرسة، وأهمية الكشكول والكناش في التحقيق والفهرسة، والمسكوكات والفهرسة.

 

الموضوع الرابع موضوع لتحقيق وهو - في رأيي - شيء آخر غير الكوديكولوجيا والباليوغرافيا، صحيحٌ أنه يفيد منهما ويعتمد عليهما، ولكنه غيرهما، ولا يجوز جعله ضمن (علم الاكتناه)؛ لأنه يحتاج إلى تخصُّص في المحتوى العلمي للمخطوطة، فمخطوطةٌ فقهية يحقِّقها دارس للشريعة، ومخطوطة طبيَّة يقوم بها طبيب، ومخطوطة في الكيمياء تحتاج إلى دارس في هذا العلم، وهؤلاء الدارسون جميعًا يفيدون أيَّما إفادة من نتائج علم الباليوغرافيا وعلم الكوديكولوجيا، لكنَّنا لا نستطيع مطالبتهم بأن يكونوا باليوغرافيين ولا كوديكولوجيين، كما أنَّنا لا نتوقع أن يكون الباليوغرافي أو الكوديكولوجي عالمًا بالفقه، ولا بالطب، ولا بالكيمياء.

 

أعود إلى موضوع التحقيق الذي ورد في خمسة مواطن: تحقيق المخطوطات وأصول الفهرسة، والمستشرقون وتحقيق النصوص العربية، ورأيان في أصول التحقيق، وتحقيق النسخة الفريدة، وتحقيق المسوَّدة، وقد جاءت - والحق يقال - متعاقبة، على أن الموضوع الأول (تحقيق المخطوطات وأصول الفهرسة)، أراد السامرائي أن يعرض فيه لموضوعين: تحقيق النصوص أو المخطوطات، ثم الكشَّافات التي تلحق بالنصوص؛ لتذلل سبل البحث في هذه النصوص، والفهرسة هنا ليست (فهرسة المخطوطات)، بل هي الفهرسة الكاشفة، ولا مشاحَّة في الاصطلاح؛ لكن المادة العلمية التي أدرجت تحت العنوان جاءت إنشائية، أهملت التأسيس النظري لمفهوم التحقيق، مكتفية بالنعي على بعض المحققين عدم تمكنهم من الصنعة، وعلى بعض دور النشر الورقية والإلكترونية تشويهها كثيرًا من النصوص، واقفة عند حد إشارات سريعة إلى ألوان القصور فيها.

 

أما الموضوع الثاني: (المستشرقون وتحقيق النصوص العربية) فليس فيه من جديد على الموضوع الأول إلا  كلمة (المستشرقون) في العنوان، الذين لمس رأيهم سريعًا، مؤكدًا أن العرب في القديم عُنوا بإخراج النصوص الصحيحة الثابتة عناية تفوق ما يفعله محققو اليوم من العرب أو من المستشرقين، ثم نكص إلى موضوع التحقيق: مفهومه، وشرط المحقق، ومنها انطلق إلى طرائف التصحيف والتحريف.

 

وأما الموضوع الثالث فحظ «الرأيين» فيه قليل، لا يتجاوز صفحة، ثم التوى عنق الكلام مرة أخرى إلى مفهوم التحقيق وأهمية النسخ واختلافها، وهو ما يتصل على نحو ما بالموضوع الثاني.

 

بقي الموضوعان الأخيران «تحقيق النسخة الفريدة» و«تحقيق المسودة»، وهما مكتوبان على عجل، وكان يمكن أن يُضَمَّنَا في ما سبقهما، إن موضوعات التحقيق الخمسة موضوع واحد متداخل، ولا تستحق أن يفرد لهما خمسة عناوين.

 

وهناك موضوعات نشرت دون مراعاة العلاقات التي تشد بعضها إلى بعض، فتقطعت شذرًا، فقد والى د. السامرائي بين تقييدات الوقف وتقييدات التملك، وتقييدات الشراء، ثم بين الإجازات، وتقييدات الختام، والمسطرة، والتعقيبات، ورموز المقابلة، والكراسات، وأنظمة الترقيم، وصفحة العنوان، وحساب الجُمَّل.

 

وأحسب أن ثمة ما يربط بين الإجازات ورموز المقابلة من ناحية، وتقييد الختام وصفحة العنوان من ناحية ثانية، والمسطرة والتعقيبات والكراسات وأنظمة الترقيم وحساب الجُمَّل من ناحية ثالثة، فالمجموعة الأولى تدخل في باب توثيق المخطوطة، والمجموعة الثانية ينظر في تواليها إلى ناحية شكلية تقوم على أنهما الورقة الأولى والأخيرة عن المخطوطة، وهما وعاءان مهمان جدًّا في بنيتها، دون أن يتعارض ذلك مع فوائدها الأخرى من توثيق وغيره، والمجموعة الثالثة يجمعها أن فيها جميعًا نوعًا من الصنعة يتَّصل بشكل الوعاء المعرفي (المخطوطة)، ومقاس الورقة، وضبط توالي الأوراق، وتقسيم الفقرات والجمل، وتاريخ النسخ، داخل كل مجموعة يمكن أن تكون هناك أسس مقبولة لتواليها، لن ندخل في تفصيلاتها.

 

وتبقى لدينا الموضوعات التالية نذكرها على وفق ترتيبها في الكتاب: صناعة ورق البردي والرق والكاغد، صناعة الرق، تاريخ صناعة الكاغد، الخطوط والعلامات المائية في الكاغد، صناعة المداد والحبر، صناعة الكتاب الإسلامي، طباعة الكتاب الإسلامي، التزوير في الوثائق والمخطوطات، تعتيق الكاغد وتزوير السَّمَاعات، الغش في الكاغد، المسكوكات والفهرسة.

 

ولنا عليها الملاحظات والتساؤلات التالية:

أ- (الرق) تردد في موضوعين، ووروده في أولهما جاء عرَضًا.

ب- الكاغد تردد في خمسة موضوعات.

ج- تداخلت العناوين، فلدينا: صناعة ورق البردي والرق والكاغد، ثم صناعة الرق، ثم تاريخ صناعة الكاغد، ثم بعد عدة موضوعات: تعتيق الكاغد.

ومحور هذه الموضوعات: الصناعة، والتزوير، وكان يمكن أن تبنى هكذا: الكتاب الإسلامي: مادة وصناعة وطباعة، وتحت هذا العنوان تتفرَّع: ورق البردي والرق والكاغد - المداد والحبر - نشأة الكتاب الإسلامي، طباعة الكتاب الإسلامي.

التزوير والغش في المخطوطات: وتحت هذا العنوان: التزوير: مفهومًا وتاريخًا، ألوان التزوير وغايات، غش الكاغد وتعتيقه.

د- موضوع (المسكوكات والفهرسة) جاء خارج السياق، فلقد صرَّح السامرائي بأنه ليس من النُّقَّاد الخُبَراء في المسكوكات، على الرغم من أنَّه أكَّد أنَّ كل ما يتصل بها يدخل في علم الاكتناه، ويفهم من العنوان ومن كلامه تحته أن الموضوع مُسَاق من أجل المفهرِس؛ ليتدرب على معرفة الخطوط... إلخ، وعليه فإن هذا الموضوع ألصق بموضوعات الفهرسة التي تحتاج حقًّا إلى إعادة بناء في عناوينها ومادتها.

 

2 - 4 سؤال المصادر:

لا شك أن مصادر (علم الاكتناه) غنية غنى الموضوعات التي تناولها، وتؤكد ذلك جرائد المصادر والمراجع التي سلفت الإشارة إليها، وقد أفاد السامرائي منها، واقتبس منها، ودلَّل بها، وخدم بها مادته، لكن أهم من الجرائد من الناحية العلمية تلك الوقفات والإشارات التي وقفها ونثرها على امتداد الكتاب، وناقش فيها ومن خلالها الباحثين الذين تعرَّضوا لما خاض فيه.

 

والأسئلة التي نوردها في هذه الفقرة تتلخَّص في: كيف تعامل مع مصادره؟ وما هي القضايا العلمية التي اتَّفق أو اختلف معهم فيها؟ وما مدى توفيقه في ذلك؟

 

لقد اتَّسمت طريقة تعامل السامرائي مع مصادره بسمات رئيسة، هي:

أ- ظهور مواقفه الشخصية وعلاقاته الخاصة بوضوح.

ب- إصدار أحكام تقريرية عامة مطلقة.

ج- حدَّة اللهجة والقسوة في النقد.

 

والحق أن هذه السمات - على الرغم من كونه على حق في بعض الأحيان - تلقي في روع القارئ شيئًا نحو مواقفه وآرائه العلمية ذاتها.

 

وتتجلَّى مواقفه وعلاقاته الخاصة في الحرص على الدعاء بالرحمة لبعض الباحثين ممَّن فارقوا دنيانا، وإغفال الدعاء لبعضهم الآخر، فالسامرائي لا يذكر الأستاذ محمد المنوني إلا قال: رحمه الله وإيَّانا، وكذلك حاله مع د. محمود الطناحي وعبدالحميد الحلوجي، وقد ذكر غيرهم - وليسوا أقلَّ شأنًا - عُطلاً، ومنهم د. محمد مندور، ود. عبداللطيف إبراهيم، وغيرهما.

 

أمَّا أحكامه المطلقة، فتتبدَّى في نحو قوله ناعتًا خالد الطباع: "وهو أحسن من كتب في أصول التحقيق من المعاصرين"، ومثل ذلك بدرجة أقل ما قاله عن د. أيمن فؤاد سيد: "وأوجز أيمن فؤاد سيد قواعد تحقيق التراث في الكتاب العربي المخطوط، فأفاد".

 

وأما حدَّة اللهجة وقسوة النقد - وقد يعتذر له عنها لأسباب لا تخفى - فقوله في سياق حديثه عن التحقيق: "ومثال آخر يظهر فيه كسل المحقِّق وازدراؤه لذكاء القارئ ما نشره محمد التونجي من كتاب "المقنع من أخبار الملوك والخلفاء وولاة مكة الشرفاء" في حلب سنة 1406هـ- 1986م" (ص61)، وقوله في السياق نفسه: "انعدام الوازع الخلقي والخلفية العلمية عند من دسَّ أنفه في عالم التحقيق، فدخل فيه الصادِح والباغِم؛ مثل: محمد زينهم محمد عزب الذي لا يفهم من التحقيق شيئا" (ص 66).

 

وقوله أيضًا في إحدى حواشيه: "انظر ما كتبه عبدالعزيز الساوري حول كتاب "أسماء شيوخ مالك بن أنس"؛ لابن خلفون الأندلسي الذي نشره هذا المُخرِّب الأَشِر في القاهرة" (ص 66).

 

وعلى كلٍّ، فإن ثمة وقفات للسامرائي مع عدد من الباحثين رأينا أن نعرضها؛ لأنها تتَّصل بمسائل علمية مهمَّة وتتجاوز دائرة الأحكام العامة، والثناء، والذم، والتفصيلات الهيِّنة، وقد اخترنا ثلاثة، هم: د. عبدالستار الحلوجي، ود. أيمن فؤاد سيد، ود. أحمد شوقي بنبين.

 

مسألة: الحلوجي وصفحة العنوان:

يرى الحلوجي أن العرب لم يعرفوا صفحة العنوان في أول عهدهم بصناعة الكتب، وأن العنوان كان يأتي في المقدمة - إن وجدت - وفي نهاية المخطوط[36].

 

وقد رده السامرائي واستغربه، لكنه خلط أحيانًا في هذا الرد بين معرفة العرب والعنوان، ومعرفة صفحة العنوان، قال: "فليس من المقبول عقلاً أن يصنِّف مُصنِّف كتابًا دون أن يختار له عنوانًا يعرف به، وكتابا بروكلمان وسزكين مليئان بعناوين المؤلَّفات القديمة"، وفرق بداهة بين الأمرين: العنوان، وصفحة مستقلة له، والحلوجي لم يَنْفِ الأول.

 

وأُراني أميل إلى ما ذهب إليه الحلوجي، وبخاصَّة أنه يتَّفق مع طبيعة الأشياء في بداياتها، ومنطقيٌّ ألا يتنبَّه المؤلفون القدامى إلى إفراد صفحة مستقلة للعنوان، وهو أمر شكليٌّ يصعُب الوصول إليه قبل مرور فترة زمنية، يصبح معها التأليف عملاً ذا تقاليد، على أن الحلوجي لم يحالفه التوفيق في الاستدلال بأقدم المخطوطات التي وصلت إلينا، ومنها رسالة الإمام الشافعي، التي نسخها تلميذه الربيع بن سليمان قبل سنة 204هـ، وقد أورد الحلوجي نفسه الورقة الأولى مثبتًا عليها العنوان، الأمر - في تقديري - أقدم من الرسالة، فالتأليف لم يبدأ بالإمام الشافعي، بل إنه يعود إلى منتصف القرن الأول الهجري، وربما العقد الخامس من النصف الأول، فزياد بن أبيه (ت 53 هـ) أول من ألف كتابًا في المثالب، وصحار العبدي - أحد النسابين والخطباء في أيام معاوية بن أبي سفيان - له من الكتب "كتاب الأمثال"[37].

 

مسألة: الحلوجي وترقيم المخطوطات والتَّعقِيبة:

يذهب الحلوجي إلى أن أوراق المخطوط في أوَّل عهدها لم تكن تخضع لأي نوع من الترقيم[38].

 

وهذا أيضًا ردَّه السامرائي في موطنين، وعده رأيًّا لا يستند على علم عملي قطُّ (كذا)[39] وينقضه ما وصل إلينا من المخطوطات القديمة، كما أن كلامه اللاحق يَشِير أيضًا إلى أنه فهم كلام الحلوجي على غير وجهه، فالرجل قصد بـ(الترقيم) ما أوضحه في الحاشية (ترقيم الأوراق، وترقيم كل ورقة باعتبار وجهيها فتكون الأرقام 1، 3، 5.. وأخيرًا ترقيم الصفحات)، هذا أولاً، والتعقيبة - كما نعتها - دليل يهدي إلى الورقة التالية، صحيحٌ أنه قرر أنها لم تظهر إلاَّ بعد القرن الرابع الهجري؛ لأننا لا نجد لها أثرًا في أي مخطوطة من مخطوطات القرنين الثالث والرابع التي تحت أيدينا، لكنه استدرك: "ومن يدري؟ فلعل المستقبل يأتينا بجديد في هذا الموضوع"[40].

 

وقد استشهد السامرائي ببعض المخطوطات المتضمِّنة للتعقيبة، فكان منها ما هو مؤرَّخ في 374هـ "الروحة"؛ للجرباذقاني، وما يرجع على 371هـ "تفسير القصائد التسع"؛ للنحاس، بل إن إحداها ترجع إلى 243هـ "تاريخ ملوك العرب"؛ للأصمعي[41].

 

وكان أحمد شوقي بنبين قد سبق إلى هذا الرأي الذي قال به السامرائي، وذكر مخطوطة الأصمعي ومخطوطاتٍ أخرى، ونصَّ على أنه فحص مخطوطة الأصمعي التي نسخها ابن السِّكِّيت بخطِّه في العاشر من شوال 243هـ، فبدا له أن اليد التي نسخت الكتاب هي التي وضعت التعقيبة[42]، وبذلك تكون التعقيبة قد عادت إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري.

 

على أن ما قاله السامرائي والحلوجي ليس فصلاً، فنحن لم ندرس مخطوطات القرن الثاني الهجري، بله القرن الأول، الذي لم تصل إلينا مخطوطاته أصلاً.

 

مسألة: د. أيمن فؤاد سيد وتحقيق المسودة:

حقق د. أيمن - كما هو معلوم - مسوَّدة خطط المقريزي "المواعظ والاعتبار في ذكر الخُطَط والآثار"، وقد رأى السامرائي أن بعض المحققين أفنى وقته في تحقيق بعض المسودات - و(بعض) هنا تشمل د. أيمن وإن لم يذكر اسمه - مع وجود نسخ مبيَّضة عديدة، وأن ذلك لا يجوز إلاَّ إذا لم يصل إلينا من النص المبيَّض إلا قطعة أو قطعًا، أو وصل إلينا مخرومًا، أو كاملاً في نسخة واحدة فقط، أو أن المبيضة لم تشمل فصولاً في المسودة، أو لم تصل إلا المسودة.

 

والأمر لا يستقيم بهذه الصورة غير المكتملة من ناحية، وغير المنسجمة من ناحية أخرى، فالكلامُ في المسودة أو المسودات، وخاصة إذا وضعنا في حسباننا علم الاكتناه بالمفهوم السامرائي الواسع لا يجوز أن يقتصر على تحقيقها، وحتى إذا ما اقتصرنا على جانب التحقيق، فإن صفحة واحدة - مهما صغر الكتاب - لا تتَّسع لهذه الظاهرة التأليفية المهمة والممتدَّة على المساحة الزمنية للتأليف العربي الإسلامي جميعًا، وقبل هذا وذاك فإن الكتاب خاصٌّ بعلم الاكتناه الذي يشمل علمي الباليوغرافيا والكوديكولوجيا، إضافة إلى التحقيق والدراسة الفيلولوجية للنصوص، والمسودات لها صلة بذلك كله، وليس تحقيقها سوى جانب من جوانب الاهتمام بها في إطار هذا المفهوم العام.

 

إن مفهوم كلام السامرائي يجعل من المسوَّدات نوعًا من التأليف ترتبط أهميته بمقابله (المبيضات)، فوجود هذا المقابل يجبُّها، إنها نصٌّ لاحق، أو مكمل، تراب لا نلجأ إليه إلا إذا فقد الماء، وهذا مفهوم يظلم كثيرًا هذا النوع من النصوص، الذي يمكن أن تقوم عليه دراساتٌ ترتبط بالباليوغرافيا، وذلك إذا ما أردنا أن ندرس تطوُّر خط مؤلفه، كما تقوم عليه دراسات من عناصر أخرى مثل الزمان والمكان اللذين سوَّد فيهما مؤلَّفه، كما تقوم عليه دراساتٌ أخرى على جانب كبير من الأهمية، وتقع في صميم علم الكوديكولوجيا، مثل العناصر المادية لهذه النسخة (المسوَّدة): ورقها، ومدادها، وتجليدها، وترقيمها، وما حوته ظهريتها وغاشيتها، وما يمكن أن تدل عليه خوارج الكتاب من دلالات متنوعة ومتباينة: ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية وتاريخية، وما يمكن أن يضيفه ذلك كله إلى السياق العام للزمان والمكان: آنه وسابقه ولاحقه.

 

ليس ذلك فحسب، ولكن المسودات تكشف أيضًا عن طرق التأليف عند القدماء، ومناهجهم في التفكير، وأساليبهم في التعبير، وأمور أخرى كثيرة.

 

ونصل إلى الجزئية التي توقف عندها السامرائي: التحقيق، فهل يَجُبُّ نصُّ (المبيَّضة) نصَّ (المسوَّدة)، ويلغيه في حالة وجوده؟ أعني: أن نحكم بأن تحقيق المسودة إذا ما وجدت المبيضة يعد نوعًا من العبث غير العلمي، وهو ما ذهب إليه السامرائي.

 

في رأيي أن تحقيق المسودات بوصفها نصوصًا لغوية صرفة ترتبط بالدراسات الفيلولوجية لا يقل أهمية عن تحقيق المبيَّضات، وليس هذا تضخيمًا للمسألة، ويكفي أن نثير سؤالاً: ألا تستحقُّ آراء المؤلف العلمية المتصلة بالفرع المعرفي الذي يبحث فيه أن تدرس؟ وأليس هناك احتمال أن يكون صاحب رأي في المسودة، وقد عدل عنه بعد ذلك في المبيضة؟ وما هي أسباب ذلك؟ ولا شك أن وسيلتنا لذلك هي إصدار المسودة وإصدار المبيضة، وعندما يكون النَّصَّان أمام أعين الباحثين تنكشف جوانب علمية كثيرة، وتنفتح آفاق ليس هذا مجال الخوض فيها.

 

مسألة د. بنبين وتحقيق النسخة الفريدة:

يرى د. أحمد شوقي بنبين أن اعتماد نسخة واحدة في التحقيق شيء يرفضه علماء الفيلولوجيا اليوم، فالأَوْلى بعمل من هذا القبيل أن يسمى تصحيحًا؛ لأن النسخة الفريدة ليس من شأنها أن تخضع للأساليب الحديثة في نقد النصوص[43]، كما أن الاعتماد على نسخة واحدة، أو عِدَّة نسخ لم يَعُد مقبولاً علميًّا في عملية نقد النصوص، مهما كانت الطرق والمناهج المطبقة في التناول[44].

 

ولم يعجب هذا الرأي السامرائي؛ لأنه يفترض أن يكون المحقق سندبادًا يشُدُّ الرِّحال، ويكثر التسيار والأسفار بحثًا عن النسخ، وهذا شيء مستحيل، [هناك سطر مختفي] وما قاله بنبين يعني: العزوف عن تحقيق النسخ الفريدة، والنتيجة أن جانبًا مهمًّا من تراثنا يبقى مدفونًا مجهولاً.

 

إن كلاًّ من الرجلين على حق، والخلاف في جانبٍ منه لفظي، وفي جانبٍ آخر محكوم بالزاوية التي نُظر من خلالها، فالتحقيق العلمي في صورته المُثْلى يتطلب جمع النسخ ودراستها وإخضاعها للتقويم والتقييم، وإفراغ الوسع في ذلك، أمَّا أولئك الذين يقدمون على تحقيق أول نسخة يرونها، ولا يرجعون إلى الفهارس، ولا يتتبَّعون المصادر، فليسوا «محققين» بالمفهوم العلمي، وسرعان ما تقصر قاماتهم، وهذا فحوى كلام د. بنبين.

 

ولكن إذا بذل المحقق الطاقة بحثًا عن النسخ ولم يجد، هل يضع النسخة أو النسخ التي وجدها جانبًا، في انتظار أن تظهر نسخة جديدة؟ هذا في الحقيقة غيرُ مقبول؛ إذ قد لا تظهر تلك المخبآت، فإذا ما ظهرت فلا بأس من إعادة النظر والتحقيق والدرس، وذلك شأن العلم، تراكمي بطبعه، لا يولد كاملاً، ولا توجد فيه أحكام قطعية، ويمكن أن نفهم كلام السامرائي من هذه الزاوية.

 

آخر الأسئلة:

لم يكن هذا السؤال واردًا وأنا أخطُّ الكلمات الأولى مما كتبتُ، ثم إني تركتُه غفلاً مما يوضح طبيعته، أو يربطه بقضيةٍ ما؛ لأني قصدت أن أجمع فيه تلك الأسئلة الصغيرة التي لم أرد أن أُقحِمها في ما مضى وإن كانت على صلة ما به، حتى أحافظ على استقلالية تلك الأسئلة الأساسية، بوصفها صلب هذه القراءة وجوهرها.

 

وهذه الأسئلة بتركيز شديد هي:

أ- أن كتابًا عنوانه مخترع، ويعكس رؤية خاصة لصاحبه، ومادته تهدف إلى التأسيس لعلم، وبناء مفهوم خاص به - لا يجوز أن يخلو من خيوط رئيسة في نسيج هذا العلم، بحُجَّة أنه كتاب صغير، وأن "من الأشياء ما يحيط به العلم ولا تؤديه الصفة"، وأن "ما كل ما يعرف يمكن أن يوصف، وما كل ما يوصف يمكن أن يعرف"، أو بدعوى أن صاحبه لم يرد أن يثقله بالشروح والتفاصيل والجداول، فيعزف عنه القارئ الجاد.

 

وإذا كانت الكوديكولوجيا هي: "العلم الذي موضوعه دراسة المخطوطات في ذاتها"[45]، أو بعبارة أخرى هي ضرب من الحفر عن المكونات المادية للمخطوطات تلك التي لا تتعانق البتَّة مع محتوى المخطوطة، وهذا الحفر يشمل ما هو تقني (صناعة مواد الكتابة، والطي، وصناعة الملازم، والترتيب، وتركيب الصفحات، والتجليد)، كما يشمل ما هو نَسَقِي (النساخة وما يتَّصل بها، والوقف، وبداية المخطوطة ونهايتها، وحرد المتن، والتشطيب، والحك، والكشط، والمحو، ونظام الإحالات)[46]، وإذا كانت الكوديكولوجيا هي نصيف علم الاكتناه، فإن موضوعات كثيرة لم يعرض لها السامرائي، فممَّا هو تقني غابت صناعة التجليد (التسفير)، ومما هو نسقي غابت الوِراقة والوراقون، والمجموعات الخطية وتاريخها، وهواة الكتب، وطرق التأليف أو أشكاله، وحرود المتن، وغير ذلك.

 

ب- إن عنوان الكتاب رسمه مؤلفه هكذا:

"علم الاكتناه العربي الإسلامي"

(Arabic Islamic Palaeography Codicology)

وتحدث عن موضوعات لا علاقة لها بالباليوغرافيا ولا بالكوديكولوجيا مثل موضوعات التحقيق التي صبها تحت ستة عناوين.

 

جـ- يبدو أن السامرائي انطلق في صياغة مادة الكتاب من منطلقات تقليدية، فقد شغله همَّان: الفهرسة والتحقيق، ونظر إلى موضوعات الباليوغرافيا والكوديكولوجيا المتصلة بالمخطوطات من ثقبين صغيرين إذا ما صح التعبير، وهذا ما يفسر كلامه في مختلف الموضوعات من زاوية كونها مشكلات للمفهرس أو المحقق، فهو عندما يتحدث مثلاً عن النسخة الفريدة يبدأ: أما النسخة التي لا ثانية لها فإن الإقدام على تحقيقها مجازفة (ص 87)، ويقول عن المسودة: إن بعض المحققين أفني وقته في تحقيق بعض المسودات (ص 91)، وعن طراز الخط: ومن مشكلات الفهرسة: التعرف على خط المخطوطة، وعن تقييدات التملك: ويلحق بتقييدات الوقف ما يجده المفهرس: (ص 133)، وعن الإجازات: ومن مشكلات الفهرسة: الإجازات.. إلخ (159).

 

إن هذه الموضوعات جميعًا هي ظواهر علمية تحتاج إلى دراسة ينتج عنها قوانين كوديكولوجية تفسر خصائص المخطوطات العربية، وكونها مشكلة من مشكلات الفهرسة مسألة هامشية تعرض في سياق مختلف.

 

د- بعض موضوعات الكتاب قامت على أساس جمع بعض الحكايات والأخبار، ويبدو أن ذلك يرجع إلى كم المعرفة التي يحتفظ بها السامرائي، على أن ذلك لا يصح في كتاب يريد أن يبني ويؤسس علمًا، وشاهد ما أقول ذلك الموضوع الذي عنونه "التزوير في الوثائق والمخطوطات" فقد بدأه بالقول: "هذه حفنة من حكايات طريفة وأخبار ظريفة، وهي بعد ليست بحثًا شاملاً في التزوير، بل هي لملمات من بعض التجارب[47]... إلخ، وقد صدق ما ذكر، فالبحث كله حكايات وأخبار، وأضف إلى الشاهد السابق موضوعات: تعتيق الكاغد، وتزوير السماعات، وصناعة الكتاب الإسلامي[48].

 

هـ- كثيرًا ما تغري السامرائي معلوماته، فيستطرد لذكر أمور لا علاقة لها بموضوع كتابه، ومن ذلك أن يتحدث عن تزوير اللوحات الزيتية والتماثيل الفرعونية والإفريقية، والساعات والكراسي والموائد[49]!

 

وأخيرًا:

فإني أرجو أن أكون قد قدمت قراءةً شبه وافية لكتاب لا شكَّ أنه يعدُّ إضافة للمكتبة العربية الإسلامية في ميدان معرفي أصيل، لكنَّه فقير، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى أن نغنيه حتى يعلو صرحه، وإذ كنا قد سجلنا بعض الملاحظات ورصدنا بعض الهنات، فإن ذلك يأتي من باب الغيرة على التراث، والاهتمام بالكتاب، والمحبة لمؤلفه، مطمئنين إلى سعة صدر أهل العلم، وإيمانهم بأن العلم لا ينمو إلا بالاختلاف وأن الاختلاف - كما قالوا قديمًا - لا يفسد للود قضية.

 

المصادر والمراجع:

• أساس البلاغة، للزمخشري، تقديم: محمود فهمي حجازي، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2003.

• جمهرة اللغة، لابن دريد، بيروت، دار صادر، د. ت.

• دراسات في علم المخطوطات والبحث البيليوغرافي، أحمد شوقي بنبين، الرباط، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، 1993.

• الصحاح، للجوهري، بيروت، دار العلم للملايين، د. ت.

• القاموس المحيط، للفيروزآبادي، ط2، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1407هـ- 1987م.

• لسان العرب، لابن منظور، ط1، بيروت، دار صادر، 1997م.

• المحكم والمحيط الأعظم في اللغة، لابن سيده، تحقيق مجموعة من الأساتذة، القاهرة، معهد المخطوطات العربية، 1958- 1999م.

• المخطوط العربي، عبد الستار الحلوجي، ط3، الإسكندرية، دار الثقافة العلمية، 1418هـ- 1998م.

• المخطوطات العربية في الغرب الإسلامي، تنسيق وتحرير أحمد شوقي بنبين، الدار البيضاء، مؤسسة الملك عبد العزيز، 1990م.

• المعجم الكبير، مجمع اللغة العربية، القاهرة، مطبعة دار الكتب.

• معجم مصطلحات المخطوط العربي (قاموس كوديكولوجيا)، أحمد شوقي بنبين، مصطفى طوبي، مراكش، المطبعة الوراقية الوطنية، 2003م.

• المعجم الوسيط، ط2، القاهرة، مجمع اللغة العربية، 1392هـ- 1972م.

• المفصل في علم العربية، للزمخشري، ط2، بيروت، دار الجبل.

• مقالات في علم المخطوطات، مصطفى الطوبي، الرباط، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، 2000م.

• الممتع في التصريف، لابن عصفور، تحقيق د. فخر الدين قباوة، ط4، بيروت، دار الآفاق الجديدة، 1979.

 

 

ـــــــــــــــــــــــ

[1] "علم الاكتناه": ص 9.

[2] المصدر السابق: ص 9، 10.

[3] المصدر السابق: ص 10.

[4] المصدر السابق: ص 11- 14.

[5] "علم الاكتناه": ص 14.

[6] المصدر السابق: ص 14.

[7] المصدر السابق: ص 9، 15، 16.

[8] "علم الاكتناه": ص 17.

[9] المصدر السابق: ص 9.

[10] المصدر السابق: ص 9.

[11] "علم الاكتناه": ص 20.

[12] المصدر السابق: ص 14، 15.

[13] انظر: "المحكم": 4/104، و"الصحاح": (2/414)، و"أساس البلاغة" (كنه).

[14] "جمهرة اللغة": 3/137.

[15] "القاموس المحيط": (كنه).

[16] "تهذيب اللغة": 6/23.

[17] انظر الدلالات الصرفية لـ(افتعل): "مفصل الزمخشري": 282، و"الممتع في التصريف": 1/193، 194.

[18] "دراسات في علم المخطوطات والبحث الببليوغرافي": ص 11.

[19] "دراسات في علم المخطوطات والبحث الببليوغرافي": ص 14.

[20] "المخطوطات العربية في الغرب الإسلامي": ص 319.

[21] "معجم مصطلحات المخطوط العربي": ص 163.

[22] "علم الاكتناه": ص 17.

[23] المصدر السابق: ص 18.

[24] المصدر السابق: ص 19.

[25] "علم الاكتناه": ص 19، 20.

[26] المصدر السابق: ص 20.

[27] المصدر السابق: ص 20.

[28] (فضلاً) لا تستخدم غالبًا إلا بعد النفي، تقول: "ما رأيته فضلاً عن أن أكلمه"، والصواب في سياق كلامه استخدم كلمة (بالإضافة) مثلاً.

[29] "علم الاكتناه": ص 21.

[30] المصدر السابق: ص 21.

[31] المصدر السابق: ص 347.

[32] "دراسات في علم المخطوطات والبحث الببليوغرافي": ص 11، 12.

[33] "مقالات في علم المخطوطات": ص 14.

[34] "دراسات في علم المخطوطات": ص 23 وما بعدها.

[35] "علم الاكتناه": ص 10، 11.

[36] تفصيل رأيه في كتابه: "المخطوط العربي": ص 151.

[37] المصدر السابق: ص 91، 92.

[38] "المخطوط العربي": ص 167.

[39] "علم الاكتناه": ص 182، 195، وإنما ذيَّلت عبارته بـ (كذا)؛ لأنه استخدم (قط) مع المضارع المنفي بـ (لا) وحقها أن ترد في سياق الماضي المنفي عمومًا، الماضي لفظًا: ما رأيته قط، أو معنى: لم أره قط، فهي مقابل (عَوْضُ) و (أبدًا)، والأفصحُ أن يقول: لم يستند قط، أو لا يستند أبدًا.

[40] "المخطوط العربي": ص 167.

[41] "علم الاكتناه": ص 197، 195.

[42] "دراسات في علم المخطوطات": ص 76، 77.

[43] "دراسات في علم المخطوطات": ص 24.

[44] المصدر السابق: ص 25.

[45] هذا تعريف ألفونس دان نقلاً عن "مقالات في علم المخطوطات": ص 15.

[46] "مقالات في علم المخطوطات": ص 8.

[47] "علم الاكتناه": ص 251.

[48] المصدر السابق: ص 341.

[49] علم الاكتناه": ص 382.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


مختارات من الشبكة

  • حث الطلاب على الجمع بين علم التفسير والحديث والفقه(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (3) علم أصول الفقه علم إسلامي خالص(مقالة - آفاق الشريعة)
  • البحث في علم الترجمة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • علم المصطلح وعلم اللغة: أبعاد العلاقة بينهما(مقالة - حضارة الكلمة)
  • طبيعة العلم من المنظور الإسلامي(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)
  • نصف العلم لطالب العلم: بحث في علم الفرائض يشتمل على فقه المواريث وحساب المواريث (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • علم الماهية والعلوم المطلوبة للأغراض المحمودة وعلم الظاهر من الحياة الدنيا(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عرض كتاب معجم أعلام التعمية واستخراج المعمى في التراث العربي والإسلامي (معجم أعلام الشفرة وكسرها)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من أقوال السلف في عمل طالب العلم بعلمه ونشره بين الناس(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من أقوال السلف في أفضل العلوم وأنفعها وأشرفها(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 14/11/1446هـ - الساعة: 17:59
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب