نسخة غير معروفة من كشف الظنون يختصرها بغدادي من القرن الثالث عشر

نسخة غير معروفة من كشف الظنون

يختصرها بغدادي من القرن الثالث عشر

لم يَنل كتاب ببليوغرافي عربي من الشهرة والثقة، منذ أن ألف ابن النديم (فهرسته) في القرن الثالث الهجري، ما ناله كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) لمصطفى بن عبدالله المعروف بحاجي خليفة وبكاتب جلبي (المتوفى في القسطنطينية سنة 1067هـ/1656م). وعلى الرغم من أن محاولات مختلفة سبقت تأليف الحاج خليفة كتابه هذا، فإن الكتاب جاء نقلة كبيرة وواضحة في مجالات علم الببليوغرافيا. وذلك لما حشد به مؤلفه من عنوانات جمهرة ضخمة من الكتب والرسائل، وبما ألزم به نفسه من وصفها، وذكر مؤلفيها، وشرَّاحها، ومُحشِّيها، وما عليها من علامات فارقة، كالعبارات التي تبتدئ بها أوائلها، وبعض من خطبها، وتحديد فنونها، وتقويم لبعضها، حتى غدا لا يستغني عنه محقق أو مفهرس، أو أي باحث في مجال تصنيف الكتب والمكتبات، ويمكن القول بأنه أول وليد لهذا العلم الحيوي يحمل سمات العصر الحديث، دقة وضبطاً وإحاطة.

وكان من آثار اهتمام الباحثين بهذا الكتاب، تعدد تذييلاتهم عليه، واستدراكاتهم ما فاته من عنوانات الكتب والرسائل المختلفة، أمثال حسن العباسي النبهاني الحلبي (1096هـ/1685م) ومحمد عزتي الإسلامبولي زاده (ت 1092هـ/1681م)، ونوعي أفندي (ت 1201هـ/1786م)، وأحمد طاهر حنفي زاده (ت 1217هـ/1802م)، ومحمد الأرضروملي، وعارف حكمت (ت 1275هـ/1858م)، وإسماعيل باشا البغدادي (ت 1339هـ/1920م)[1].

ومن الباحثين الذين أولوا الكتاب عنايتهم، عالم بغدادي من أهل القرن الثالث عشر للهجرة (القرن التاسع عشر للميلاد)، دعا نفسه بـ (الحاج لطف الله بن عبدالله الخزندار)، وليست لدينا معلومات كافية عن حياة هذا العالم، إلا أننا نعلم أنه كان من فئة المماليك ببغداد، الذين استجلبوا إليها من جورجيا ليعملوا في الجيش والإدارة، وتوصلوا إلى حكم بغداد وتوابعها منذ سنة 1162هـ/1748م إلى سنة 1247هـ/1831م، ومنهم من نال حظاً جيداً من التعليم، ذلك إنه وصف نفسه بالكوله عند تملكه أحد المخطوطات[2]، وهي كلمة تركية بمعنى المملوك، كما أننا نعلم أنه زار استانبول في بعض شؤونه سنة 1230هـ/1814م بدلالة شرائه مخطوطة منها في ذلك العام[3]، ثم قصد مكة حاجاً لتلقيبه نفسه بعد ذلك التاريخ بالحاج، وأنه تولى منصب (خزندار) في حكومة المماليك على عهد والي بغداد محمد سعيد باشا (1228-1232هـ/1812- 1816م) لإشارته إلى ذلك على ظهر بعض مخطوطاته[4]، ومنصب كهذا كان كفيلا بتيسير سُبُل معيشة مريحة، لذا فقد كان لا يبخل في الانفاق على شراء الكتب، من ذلك أنه سجل على مخطوط اشتراه من استانبول قيمته[5]، وتبلغ160 قرشاً روميا، وهي قيمة عالية جدا قياسا إلى مستوى أسعار ذلك العصر. ولا نعلم تاريخ وفاته، إلا أنه كان حياً سنة 1245هـ/1829م، فإنه فرغ من تأليف بعض كتبه في هذا العام[6].

واهتمامات الخزندار العلمية متنوعة، تشهد له بذلك مؤلفاته الباقية، فمما وصلنا من آثاره كتابه (زبدة الطب) وهو في الأمراض والعلاجات، ويقع في 210 ورقة، فرغ منه في بغداد سنة 1239هـ/1823م[7]، وكتابه (خزانات الروايات) في الفقه الحنفي، وهو في مجلدين كبيرين عدد أوراقهما 785 ورقة، فرغ من تصنيفه في شعبان 1243هـ/1827م، ويظهر منه أنه كان من أتباع مذهب الإمام أبي حنيفة، ويدل هذان الكتابان على طول باعه في البحث ودقته في ضبط الروايات وحسن اطلاعه عليها باللغتين العربية والتركية.

وقد تجلى اهتمامه بعلم الببليوغرافيا بتأليفه مختصرًا دقيقًا لكتاب كشف الظنون للحاج خليفة، وهذا المختصر هو موضوع دراستنا هذه[8]، ومن الملاحظ أن الكتاب، كسابقيه، لم ينل اهتمام أحد من الباحثين، مع أنه خليق بالعناية نظراً لما يحتويه من فوائد جمّة.

ويفهم مما أورده في مقدمة كتابه أنه ألفه تلبية لرغبة أحد كبار رجال عصره، ولا يستبعد أنه عنى والي بغداد آنذاك داود باشا (1232-1247هـ/1816-1831م)، فإنه كان موظفاً عنده، قال "قد سألني بعض من لا يسعني مخالفته ولا يمكنني مدافعته أن استخرج من كتاب كشف الظنون في أسماء الكتب والفنون لكاتب جلبي الرومي الإسلامبولي نبذة يسيرة فيما يتعلق بكتب الفقه والنحو والصرف والتفسير والتواريخ وغيرها على ترتيب حروف الهجاء، فأجبته إلى ذلك". وليس ببعيد أن يكون قد اقتنى نسخة من الكشف في أثناء إقامته باستانبول سنة 1230هـ/1814م، لكننا لم نقف على هذه النسخة في خزائن المخطوطات في بغداد، وكان تاريخ إنجازه لهذا العمل سنة 1244هـ/1828م على ما صرح بذلك في آخر النسخة الوحيدة من الكتاب، المحفوظة في مكتبة الأوقاف المركزية في بغداد، وهي مُسَوَّدته بخطه، حيث قال "وفرغت من تسويده سنة ألف ومائتين وأربع وأربعين من الهجرة النبوية عليه أفضل الصلاة وأكمل التحية".

وعلى الرغم من تصريح المؤلف بأن عمله لم يكن يتجاوز استخراج نبذة من الأصل، أي تلخيصه، نافياً بذلك أي إضافة من نفسه، فإن مقابلتنا المختصر الذي وضعه على الأصل المطبوع، أظهرت لنا جملة من اختلافات مهمة بينهما، مما يبعث على الظن أحد الاحتمالين الآتيين:

الأول: أن تكون هذه الاختلافات، وبضمنها إضافات، من عمل المُختصِر البغدادي، أصلح بها الأصل، وأضاف عليه، بما اتصل به من معلومات في هذا المجال.

الثاني: أن تكون النسخة التي اعتمدها الخزندار تختلف بعض الاختلاف عن النسخ الخطية التي اعتمدها طابعو كشف الظنون.

والاحتمال الأخير أدنى إلى الصواب، وذلك لأن مؤلف المختصر لم يُشر- مطلقا- إلى نيِّته وضع أية إضافة أو تعليق، بل أن هذه الإضافات وغيرها من تغييرات جاءت ضمن مَتن الكتاب ووفقاً لسياقه، وليس فيها ما يشعر بأنها مُدخَلة على نصه.

ومن ناحية أخرى، فإن إشارة مؤلف المختصر إلى خطته في استخراج ما كتب في الفنون المختلفة "على ترتيب حروف الهجاء" قد يفهم منها أن النسخة التي اعتمدها من كشف الظنون لم تكن كذلك، أي غير مرتبة على الحروف أصلاً، وبما أن النسخة المطبوعة مرتبة على هذا الأساس فعلا، فينبغي إذن أن تكون النسخة التي اعتمدها المؤلف البغدادي هي غير النسخ التي اعتمدها طابعو الكتاب فيما بعد[9].

وسوف نورد فيما يأتي نماذج مما تحفل به النسخة الخطية التي اعتمدها لطف الله الخزندار ببغداد، من زيادات وتعليقات وتغييرات، لا وجود لها في النسخة المطبوعة من هذا الكتاب الببلوغرافي المهم.

ولا يخلو المختصر من تعليقات مفيدة استدرك فيها مؤلفه على أصل الكتاب في بعض مواضعه، كقوله عند الكلام على مادة (الأشباه والنظائر) في الفروع للفقيه زين الدين ابن نجيم "قلت: ومن حواشيها المُدوَّنة عليها الحاشية المتأخرة عن حواشيها، وهي أحسنها وأنفعها وأفيدها جداً للسيد أحمد بن محمد الحنفي الحموي، أولها: لك الحمد يا من تنزهت ذاته عن الأشباه والنظائر".

وقوله عند الكلام على شروح القدوري "قلت: وشرح مختصر القدوري الشيخ قاسم بن قطلوبغا. وذكر فيه من أين أخذوا علمهم كذا في تاج التراجم للشيخ المذكور".

وقوله عند الكلام على المقدمة الأزهرية في علم العربية "قلت: وشرحه أيضاً الشيخ العلامة علي بن إبراهيم الحلبي الشافعي شرحاً وسطاً ممزوجاً في مجلد سماه فرائد العقود العلوية لحل ألفاظ شرح الأزهرية، أوله: حمداً لمن رفع من انتصب لخدمة الفنون العربية".

وهكذا فإن الكتاب بعد ما سقناه من نماذج جدير باهتمام المشتغلين في مجالات الببليوغرافيا، فهو من ناحية يقدم إضافات جديدة على كتاب موسوعي قديم، ومن ناحية أخرى يبرز جهد مؤلفه، ذلك الباحث البغدادي غير المعروف الذي غمطه عصره حقه من المعرفة والاشتهار.