التسعير والاحتكار

التسعير والاحتكار

المرتع المشبع في مواضع من الروض المربع

قوله: (ويَحرم التسعير والاحتكار في قوت آدمي، ويُجبر على بيعه كما يبيع الناس، ولا يُكره ادِّخار قوت أهله ودوابه [1].

قال في «الفروع»: «يَحرم التسعير، ويُكره الشراء به، وإن هدد من خالفه حرم وبَطَلَ في الأصح، مأخذهما: هل الوعيد إكراه؟ ويحرم (بعْ كالناس)، وفيه وجه وفاقاً لمالك[2].

وأوجب شيخنا إلزامهم[3] المعاوضة بثمن المِثل خلافاً للشافعي[4]، وأنه لا نِزاع فيه؛ لأنها مصلحة عامة لحقِّ الله، فهي أولى من تكميل الحرية[5]، قال: ولهذا حرَّم أبو حنيفة وأصحابه[6] من يقسم بالأجر الشركةَ[7]؛ لئلا يغلو على الناس، فمنع البائعين والمشترين والمتعاطين أولى، وإنه أَولى من تلقِّي الركُّبان.

وحرم[8] غيره خلافاً لمالك في رواية[9]، وألزم بصنعة الفِلَاحة للجند، وكذا بقية الصنائع، وأن ابن الجوزي وغيره ذكروا ذلك؛ لأن مصلحة الناس لا تتم إلا بها، كالجهاد وطلب العلم إذا لم يتعيَّنا.

وكره أحمد[10] البيعَ والشراء من مكان أُلْزِمَ الناسُ بهما فيه، لا الشراء ممن يشتري منه، وكره الشراء بلا حاجة من جالس على الطريق، ومن بائع مضطر ونحوه، قال في «المنتخب»: لبيعه بدون ثمنه.

ويحرم الاحتكار في المنصوص في قُوت آدمي.

وعنه[11]: وما يأكله الناس.

وعنه[12]: أو يضرُّهم ادخاره بشرائه في ضيق.

وقال الشيخ: من بلده[13] لا جالباً.

والأول قاله القاضي وغيره.

ونقل حنبل: الجالب مرزوق إذا لم يحتكر.

وكرهه في رواية صالح فيه.

ويصح شراء محتكر، وفي «الترغيب» احتمال.

وفي كراهة التجارة في الطعام إذا لم يرد الحُكْرَة روايتان[14].

قال القاضي[15]: يُكره أن يتربَّص به السعر، لا جالباً يبيع بسعر يومه، نقل عبد الله وحنبل: الجَالِب أحسن حالاً، وأرجو أن لا بأس ما لم يحتكر.

قال أحمد[16]: لا ينبغي أن يتمنَّى الغلاء.

وفي «الرعاية»: يُكره - واختاره شيخُنا - ويجبر المحتكر على بيعه كما يبيع الناس خلافاً للشافعي[17]، فإن أبى وخِيفَ التلف فرَّقه الإمام، ويردون مثله، ويَتَوَجَّه: قيمته، وكذا سلاح لحاجة.

قال[18] شيخُنا: ولا يكره ادخار قوت أهله ودوابه، نصَّ عليه.

ونقل جعفر [349أ]: سنة أو سنتين، ولا ينوي التجارة، فأرجو ألاّ يضيق، وذكر في رواية ابن مشيش حديث عمر: أنه عليه السلام أحرز لأهله قوت سنة[19]»[20].

وقال في «الإفصاح»: «واتفقوا على كراهية التسعير للناس، وأنه لا يجوز[21].

وقال مالك[22]: إذا حطَّ أحد أهل السوق في السعر حطّاً يستدعي به الزبون إليه ويضر بأهل الأسواق، أو زاد في السعر زيادة لا يزيدها غيره قيل له: إما أن تلحق بأهل السوق أو تنعزل عنهم.

واتفقوا على كراهية الاحتكار[23]»[24].

«واختلفوا في صفته:

فقال أبو حنيفة[25]: الممنوع منه أن يبتاع طعاماً من مِصْرٍ أو من مكان قريب من المِصر يحمل طعامه إلى المِصر، وذلك مِصر صغير يضر به هذا، فإن كان مِصراً كبيراً لا يتضرر بذلك لم يمنع منه.

وقال مالك[26]: لا يجوز احتكار ما يضر بالمسلمين في أسواقهم من الطعام وغير ذلك، ذكره ابن الجلاب مطلقاً من غير تقييد بصغر مِصر وكبره.

وقال أحمد[27]: هو أن يشتري الطعام من المِصر ويمتنع من بيعه، ويكون ذلك مضرّاً بأهل المِصر صغيراً أو كبيراً وكان الجلب بعيداً منه أو قريباً.

وقال الشافعي[28]: صفة الاحتكار: أن يشتري من الطعام ما لا يحتاج إليه في الحال ضيقه وغلائه على الناس فيحبسه عنهم، فأما إذا اشترى في حال سعته وحبسه ليزيد، أو كان له طعام من زرعه فحبسه جاز ما لم يكن بالناس ضرورة»[29].

وقال البخاري: «باب: ما يُذكر في بيع الطعام والحُكْرَة.

وذكر حديث سالم، عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت الذين يشترون الطعام مُجَازَفَة يُضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رِحَالِهم[30].

وحديث طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل طعاماً حتى يستوفيه، قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مُرْجَأ[31].

وحديث ابن عمر رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ابْتاعَ طعاماً فلا يبيعْهُ حتى يقبضه)[32].

وحديث الزهري، عن مالك بن أوس: أنه قال: من عنده صرف؟ فقال طلحة: أنا، حتى يجيء خازننا من الغابة، وفيه: فقال: أخبرني [349ب] مالك بن أوس، سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (الذهب بالذهب رِباً؛ إلا هاء وهاء، والبر بالبر رِباً؛ إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رِباً؛ إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رِباً؛ إلا هاء وهاء)[33]».

قال الحافظ: «قوله: (باب: ما يذكر في بيع الطعام والحُكْرة) أي: حبس السلع عن البيع، هذا مقتضى اللغة، وليس في أحاديث الباب للحُكْرة ذِكر، كما قال الإسماعيلي.

وكأن المصنف استنبط ذلك من الأمر بنقل الطعام إلى الرِّحَال، ومنع بيع الطعام قبل استيفائه، فلو كان الاحتكار حراماً لم يأمر بما يؤول إليه، وكأنه لم يثبت عنده حديث معمر بن عبد الله مرفوعاً: (لا يحتكر إلا خاطئ) أخرجه مسلم[34].

لكن مجرد إيواء الطعام إلى الرحِّال لا يستلزم الاحتكار الشرعي؛ لأن الاحتكار الشرعي إمساك الطعام عن البيع وانتظار الغلاء مع الاستغناء عنه وحاجة الناس إليه، وبهذا فسَّره مالك[35] عن أبي الزناد، عن سعيد بن المسيب.

وقال مالك[36] في من رفع طعاماً من ضيعته إلى بيته: ليست هذه بحُكْرة.

وعن أحمد[37]: إنما يحرم احتكار الطعام المُقْتَات دون غيره من الأشياء.

ويحتمل أن يكون البخاري أراد بالترجمة بيان تعريف الحُكْرة التي نهي عنها في غير هذا الحديث، وأن المراد بها قدر زائد على ما يفسره أهل اللغة، فَسَاقَ الأحاديث التي فيها تمكين الناس من شراء الطعام ونقله، ولو كان الاحتكار ممنوعاً لمنعوا من نقله أو لبُيِّن لهم عند نقله الأمد الذي ينتهون إليه، أو الأخذ على أيديهم من شراء الشيء الكثير الذي هو مَظِنَّة الاحتكار،،كل ذلك مشعر بأن الاحتكار إنما يمنع في حالة مخصوصة بشروط مخصوصة.

وقد ورد في ذَمِّ الاحتكار أحاديث، منها:

1 - حديث معمر المذكور أولاً.

2 - وحديث عمر مرفوعاً: (من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجُذَام والإفلاس) رواه ابن ماجه، وإسناده حسن[38].

3 - وعنه مرفوعاً، قال: (الجالب مرزوق والمحتكِر ملعون) أخرجه ابن ماجه والحاكم، وإسناده ضعيف[39].

4 - وعن ابن عمر مرفوعاً: (من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ منه) [350أ]، أخرجه أحمد والحاكم، وفي إسناده مقال[40].

5 - وعن أبي هريرة مرفوعاً: (من احتكر حُكْرة يريد أن يغالي بها على المسلمين فهو خاطئ) أخرجه الحاكم[41].

ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث...

إلى أن قال: الرابع: حديث عمر: (الذهب بالوَرق رباً)، ومطابقته للترجمة؛ لما فيه من اشتراط قبض الشعير وغيره من الرِّبَوِيّات في المجلس، فإنه داخل في قبض الطعام بغير شرط آخر»[42] انتهى مُلخصاً، والله أعلم.