• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات   بحوث ودراسات   الملف الصحفي   مواد مترجمة   كتب   صوتيات  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    ملف تفاعلي لكل بيت مسلم (PDF)
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    بطاقة: الرقية بالقرآن الكريم
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    بطاقة: أذكار الصباح والمساء
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    بطاقة: الرقية بالسنة النبوية
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    تيسير السيرة على صاحبها أزكى الصلاة وأتم السلام ...
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    القيادة الإدارية من المنظور الإسلامي والإداري ...
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    دليل المعتمر (PDF)
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    الرقية الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية ...
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    خلق المسلم (PDF)
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    أخلاقيات الإدارة من المنظور الإسلامي والإداري ...
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    الرقية الشرعية الموجزة
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    الرقية الشرعية المتوسطة
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    دليل الحاج، ويليه: دليل الحاج المصور (PDF)
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    ورد اليوم والليلة (PDF)
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    الجريسي: سيرة ومسيرة عبدالرحمن بن علي الجريسي ...
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
  •  
    الرقية الشرعية من القرآن الكريم
    د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / د. محمد بريش / مقالات
علامة باركود

تأزيم المستقبل: الثقافة والمستقبل التنموي المفقود

د. محمد بريش


تاريخ الإضافة: 22/6/2009 ميلادي - 28/6/1430 هجري

الزيارات: 16253

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تأزيم المستقبل

الثقافة والمستقبل التنموي المفقود[1]

 

من مضاعفات الأزمة التي نعيشها أنها أصبحت - إن لم تكن من البداية - تشمل مستقبلنا بعد أن هيمنت على واقعنا؛ فمنعتنا من حسن تشخيصه، وغيبت حرية حركتنا في الماضي فسجنت بعضنا ومنعت آخرين من حسن الدخول، بل أصبحت الأزمة تشل كل مشروع مستقبلي عبر تغييب الوعي بأولوية العناصر الفاعلة، وإغراق المشروع بتحليلات وتفاصيل عناصر لا دور حقيقياً لها في صياغة المستقبل أو الوعي بغدٍ يُراد، بحيث تأتي الأزمة على الجينات المبشرة أو الواعدة، أو على عناصر انبثاق المستقبل لتنقله من المستقبل المنشود إلى المستقبل المفقود.

بدايةً أبدأ ببعض التعاريف، وأنا لن أرجع فيها إلى القواميس فلست بصدد بحث مصطلحي يغرق الموضوع في الدلالات اللغوية، بقدر ما أريد فقط أن أقرِّب بعض المفاهيم حسب التصورات التي أراها.

1 - التأزيم: هو فن صناعة مستقبلات واعدة للأزمة ضامنة البقاء والتعقيد، وهذه هي الصناعة المستقبلية التي أرى فعلاً أننا نتقنها، وهو أن نصوغ مستقبلات قوية وواعدة للأزمة وتضمن استمراريتها.

2 - الأزمة: هي - بالنسبة لي - هدر الطاقات وتتجلى دائماً في نتائجها، وهي عدم تحقيق الأهداف، وهي ضياع الرسالة الحضارية، وهي ضلال السعي والظن بإحسان الصُنع، وهي توقف آليات الدفع المستقبلي وانتقال المركبة من المركبة القاطرة إلى المركبة المقطورة إلى المركبة التائهة إلى المركبة الضالة.

3 - المستقبل: لن أدخل في اصطلاحات خبراء الدراسات المستقبلية، وأقول إن المستقبل هو الغد الصادق الذي يحتاج ويستدعي العمل الآن وفوراً، هذا هو المستقبل، والمستقبل هو الغد صادق الظن، وأنتم بالفعل تعرفون كلمة صادق الظن وصادق الوعد الذي يحتاج ويستدعي العمل الآني الحالي والفوري، فأن نجلس في صالات الفكر ونسأل ماذا سيحدث بعد 30 سنة أو 300 سنة ليس من صناعة المستقبل في شيء، ولا يعنيني ولا يعني خبراء الدراسات المستقبلية، فالمستقبل يصاغ الآن، لكن المقاربات يستفيد منها الإنسان ليشحذ نفسه ويراجع ذاته ليقوم بفن الدراسات الاستراتيجية التي تحتاج إلى فنون التعبئة والمراجعة والمواجهة.

4 - التنمية: وأختار تعريفاً لرونيمال - الذي كان من أفضل مديري منظمة اليونسكو - وعنده تعبير "التنمية هي العلم حين يصبح ثقافة"؛ فالتنمية هي علم حين يصبح ثقافة، وحين يصبح فهذا برنامج مستقبلي، وهذه الأداة للتحريك الزمني والصهر المرحلي وتحويل الطاقات من علم ومعارف إلى ثقافة وتعبير حضاري يستجيب لحاجيات الرفاهية وللعيش الرغيد للنفس هو ما نسميه سياسة، فلا سياسة بدون علم، ولا تنمية ولا حضارة بدون تسخير المنظومة السياسية إلى أداة لصهر تلك العلوم وتحويلها إلى شيء مشاع بين الناس في سلوكهم وعاداتهم وتعبيرهم الحضاري ومادة لمخزون ذاكرتهم التراثية والذي نسميه ثقافة. إذاً فالتنمية هي العلوم والمعارف حين تصبح بفعل المنظومة السياسية - التي هي مجموعة من الإجراءات ومجموعة من الاتجاهات - مجموعةً من الأدوات المنهاجية والسلوكية وغيرها وتحويل تلك المعارف إلى شيء يتجسد في ثقافة النفس.

كما أننا يمكن أن نقول: إن الشريعة الإسلامية هي القرآن حين يصبح حياة، وحين يصبح ثقافة، أي إنزال النص القرآني إلى سلوك الناس وعاداتهم وتحويله إلى ممارسة على منهاج السيرة النبوية، وعلى منهاج القدوة، وهذا يكون حينها معبراً عن الثقافة الإسلامية. ولا نريد أن نخوض في التعريف أكثر من ذلك.

السؤال هو: ما هي دوافع التأزيم؟
الأهم في المركبة القاطرة - وليس المقطورة - ليس هو السرعة - وإن كانت مهمة - وإنما استقلالية المحرك، وهنا سأستشهد بآيات بينات دالة على حتمية الاستقلال في الحركة والسير على الهدى لمن يريد حضوراً مستقبلياً مشهوداً، علماً بأنني ما سمعت وما التقيت بباحث مستقبلي راسخ العلم في هذا الفن لا عقيدة له، فما رأيت خبراء مستقبليات مشهود لهم بالرسوخ في هذا العلم إلا ولهم عقيدة ولهم انتماء ديني واضح جلي، وإن كانوا لا يعبرون عنه.
يقول الله - عز وجل - في سورة النحل: {فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 74].

فلا تحتجُّوا ولا تقولوا: روما فعلت وجيش روما احتل، ولا تقولوا: ليس لنا ولم نكن ولو أنه كان لنا، {فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

ويضرب الله لنا مثلين:
المثل الأول: يقول الله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 75]، و"العبد" هي صفة أبقت له نوعاً من التصرف في أن يخدم نفسه بعد أن يخدم سيده، و"مملوك" ألغت إمكانية الخدمة الذاتية وأبقت جوانب الاستفادة من خدمة السيد لتحقيق بعض المصالح الشخصية، "لا يقدر على شيء" أغلقت الباب تماماً، وجعلت الرِّق كلياً وشمولياً بحيث لا يمكن للعبد أن يخدم في كل حركاته إلا السيد، "الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون"، هي الشهادة الإلهية بغياب العلم عند غياب الوعي بأهمية الإنفاق من الرزق الحسن لإزالة كل أثر للعبودية، والرِّق المفقد للقدرة.

فهذه المقابلة بين صنفين من الناس، لم تأتِ عبثاً في القرآن الكريم بمعنى أن زيت المحرك الدافع لتفكيك عملية التأزيم يبدأ من الإنفاق ومن الرزق الحسن؛ فالوعي الجماعي بضرورة الإنفاق على العلم وعلى آليات صهره، إلى أن يتحول إلى ثقافة هذه لا يتقنها إلا هذا الصنف المالك للحرية. أما الذي هو منغمس في أن يكون عبداً لذاته أو لشهواته أو لغيره أو مملوكاً للسائدة وعديم القدرة حينما يريد أن ينتقل إلى شيء جديد، فهذا لا يتم الحديث عنه، وليس من الذين يعلمون لأن بضاعة العلم عنده لا يمكن أن تقاس بمعايير العلم الحقيقي.

المثل الثاني: في الآية التالية: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لاَ يَأْتِي بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِيْ هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ}.

في المثل الأول عندنا فاقد القدرة على خدمة نفسه لكنه يسخر طاقاته لخدمة غيره، فالأول هو فاقد القدرة على التغيير ومنساق من حيث الحركة، منمط على حركة معينة تخدم وتفيد سيده، أما المثل الثاني فهو لفاقد التعبير وفاقد القدرة، لأنه أبكم لا يستطيع الجهر بما يريد أو بما يعانيه، فاقد القدرة "لا يقدر على شيء" عديم المنفعة وعديم الفائدة "كَلّ على مولاه" ونحن هنا أمام مستويات عليا من الرِّق؛ فالإنسان يمتاز بقبوله وشوقه للرِّق مع زهد سيده فيه لكلفته وعدم منفعته.

فالمثل الأول إذاً يشير إلى الفرد وتصرفاته، والثاني يشير إلى الأمة بمدلولها لأنه جاء في مقابلها العدل والسير على الصراط المستقيم، فغياب العدل يصيب الأمة بالبكم، وهو أول صفة جاءت في الآية، والعلاقة واضحة في الآيات في المقابلة بين العدل وبين البكم، لأن الأمة التي يتطور فيها الاستبداد ويكون فيها ظلم اجتماعي تصاب بالبكم الجماعي ربما وليس بالبكم الإنساني، فلا تستطيع الكلام، وحتى إذا تكلمت لا يُسمع لها، فهي في حكم الأبكم.

والآية واضحة جلية، وربما تكون تتمطع في قيودها وتهتز لكنها لا تستطيع أن تقوم بشيء ممكن في مجال القدرة كي يثمن ويقدر بتقدير يسمح بأن يقال إنه أعطى شيئاً إيجابياً، بل هو يجعلها عالة على الأمم "كَلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأتى بخير"، أي أن ضياع المستقبلات المرجوة للخير واشتداد واحتقار لوم السيد للعبد المولع بالعبودية تشعر به من هذه الآية، وأنا ما أردت أن أفصِّل كثيراً في دوافع التأزيم فاخترت هذه الآيات التي يخاطبنا بها الله سبحانه وتعالى ويقول إن أعذاركم والقضايا التي تعلقون عليها كونكم لم تفعلوا ولم تقدموا كلها أعذار واهية، فأنا أضرب لكم الأمثال، {فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

نحن نحيل كثيراً من الأشياء إلى الولايات المتحدة، ونحيل أشياء إلى صنيعة إسرائيل، ولو أزلنا الولايات المتحدة وإسرائيل وتصورنا مشهداً ليس فيه هذين العنصرين ما خرجنا من التخلف، لأننا لو رجعنا لقرنين سابقين لا نجد أثراً لهذين العنصرين، ومع ذلك نجد أننا كنا في قعر التخلف السحيق، فكيف يتعلم الأبكم فقد قلنا: {الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}، إذاً كيف يتعلم هذا الذي هو أبكم عديم القدرة ولا يُرتقب منه خيرٌ.

أنا عندي نظرية كانت قد تبلورت في نهاية الثمانينيات والتسعينيات أسميها: "نظرية الغراب"؛ أن يبعث الله غرباناً تبحث في الأرض لترينا كيف نواري سوءاتنا بعد أن قتلنا ذواتنا؛ فهذا الأبكم عديم القدرة كثُر الغربان على ساحاته، تعلِّمُه كيف يوارى سوءة قتل نفسه.. غراب حقوق الإنسان، وغراب الشورى والديموقراطية، وغراب حقوق المرأة، وغراب العولمة، لكن بدل أن نقول "يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، بفعل عوامل التأزيم ينصرف ما بقي حياً في الذاكرة إلى الحديث عن شكل الغراب وسوداويته والإعجاب بحنكته وتقديس نباهته وما إلى ذلك، لكن لم يحدث أن ألقينا بما في أيدينا واستفدنا وقلنا "يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب". وأقول ستستمر الغربان تتراً على ساحة الذكرى لعل درسها يُستوعب يوماً ما، ويقول المستهدف "يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِيْ كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126].

كيف يتم هذا التأزيم لخلق المستقبلات المرجوة، وكيف أننا حينما ننظر إلى العشرين سنة القادمة نرى واقعنا مأزوماً، برغم أن الطفل يولد على الفطرة ويكون مهيئاً لكافة عناصر التجديد والتوليد والانتقال من مرحلة إلى أخرى، ولكنه يخضع لآليات التأزيم والتشويه فيكون المستقبل المنشود والمراد مفقوداً، بحيث تكون الأزمة قد سبقته إلى العقود القادمة واحتلت أماكنها بحيث يطمئن إليها، ويقع نوع من التطبيع بين الفرد وبين هذه الأزمة بحيث تصبح وكأنها جزء من الذات. وشيء طبيعي أن يقع التغيير وندخل في منهاج العمل بالإدارة بالكوارث بدل الإدارة بالأهداف. والإدارة بالكوارث هي أن تنشغل الناس بكارثة إلى أن تحدث كارثة أخرى تنسيها الكارثة الأولى.

والإعلام الآن وما فيه من لغو إعلامي يساعد على هذا النوع من التسلسل؛ فبالأمس كان الحديث عن هزيمة 1967، ثم انتقلنا إلى بلاء ومصائب أخرى بين العراق وإيران، ثم العراق والكويت، ثم انتقلنا إلى أحداث 11 سبتمبر، ثم بعد ذلك الحرب على أفغانستان، ثم نحن الآن في مرحلة احتلال العراق، ولا ندرى ما هي الكوارث التي سينشغل بها الذهن بدل ان ينصرف إلى لوازم الزرع لحصاد يراد بدل الانشغال بحصاد الآخرين. وفي سياق التدافع السنني شيء طبيعي أن يتغلب الواعي بجذب الأيام جهته، وبإحسان فن جلب التداول، والاستجابة لشروطه {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الذِيْنَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِيْنَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الذِيْنَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِيْنَ} [آل عمران: 140، 141].

فإذاً أنا أرى أن عندنا القابلية لاستمرار التأزيم، بل ومنع المستقبلات المرجوة للتنمية التي تتجلى في شكلها الثقافي وليس في الشكل العمراني، فنحن لا نفتقر إلى العمران وليس عيباً ألا يكون عندك سكن من النوع الفاخر، لكن من العيب ألا تكون هناك أخلاق دالة على تلك الحضارة، والأخلاق هي الصورة الراقية للتعبير الثقافي، فأنت حينما تذهب إلى الحج مثلاً أو تذهب إلى موسم من المواسم التي تجتمع فيها الأمة الإسلامية، يمكن أن تلمس اللون الثقافي من خلال التعبير باللباس والأكل وغيره، ويمكن أن تلمس الناس في سلوكهم وأخلاقياتهم.

وأنا أرى أن مكوِّن الأخلاق هو الأساس في داخل المنظومة الثقافية، ولهذا حينما تناول أحد الباحثين[2] رأي ماكس فيبر الذي يعتبر أن الرأسمالية حصيلة الأخلاق البروتستانتية، فالثقافة التي جاءت تحررية نوعاً ما بالنسبة إلى المنظومة المسيحية حيث تمت الاستفادة من الابتكارات والتجارب التي كانت تجري في ذلك الوقت، ومنذ احتكاكها بالأندلس إلى أن جاءت القطيعة مع السلطة الدنيوية للمنظومة البابوية سارت الأحداث باتجاه تكوين المذهب الرأسمالي الليبرالي.

أما في واقعنا فهناك ثلاثة أشياء: التأزيم، ومنع التنمية الايجابية، وسوء التقدير لله عز وجل؛ فنحن ما قدرنا الله حق قدره، وفي منظومتنا وثقافتنا العامة هناك سوء تقدير للذات الإلهية، فمثلاً قد يُسرق من الإنسان شيء ثمين أو غير ثمين فيسأل الله عز وجل أيقطع رقبة السارق وأن يدكه دكاً، وبقدر ما يكون المسروق ثميناً بقدر ما يكون الدعاء كبيراً بالهلاك والويل. وهذا نراه في مختلف الشرائح المجتمعية من المثقفين إلى العامة، ولو عُرض هذا السارق على محكمة وطلب من المُعتدَى عليه تحديد العقاب الذي يريده على المعتدي فلن يتجرأ بأن يطلب الإعدام والقتل على سرقة متاع أو شيء مهما غلا ثمنه، فكيف يتجرأ مثل هذا الشخص - وهو يسبح في ثقافة دينية متميزة - ويطلب من الله العدل الرحيم صاحب الموازين القسط أن يبعد موازين القسط ويلغي معايير العدل ويحكم بالقسوة على ذنب لا يستحق ذلك اللون من العذاب، فهذا تناقض كبير نشهده فعلاً.

دعك من هذا وخذ مثالاً في دعاء القنوت في رمضان، وفيه نطلب من الله عز وجل أن يلغي موازينه ويبطل سننه ونسأله أن يبيد النصارى ولا يبقي منهم أحداً، وينتشل اليهود من الأرض فلا نسمع لهم ركزاً... فهذه أشياء تتناقض مع كينونتنا، وإلا فلماذا لا نسأل الله أن يزيل إبليس فلعله يبطل الوعد له.

فسوء التقدير لله - عز وجل، وسوء التقدير لديننا هو أمر مستقر في داخل الكينونة الثقافية لأفراد الأمة، وفي كثير من حركتنا يغيب عنا حضور الفعل الإلهي، ونتكلم أحياناً عن أمريكا وكأنها مطلقة اليد في أن تفعل ما تريد، ونصوغ نظريات المؤامرة وكأن الله عز وجل خلق السماوات والأرض وسخرها للإنسان ثم تركه، وتشعر بهذا حينما تقرأ بروتوكولات حكماء صهيون وكتابات أخرى تشعر فيها أن الجانب السنني غائب، فالكلام عن الساعة وإكثار الحديث عن الفتنة، كل هذا تجده واضحاً جلياً في سوء التقدير السنني، والذي يتضح حتى في صياغة تشخيص الواقع فنضخم بعض العوامل التي ليست عوامل فاعلة.

وهناك ما يسمى عند المستقبليين (أو المختصين بدراسة علم المستقبل) بأثر الإعلان فأنت حينما تعلن عن شيء يصبح في غير ملكك، وقد يؤثر على الناس مثلما تؤثر الأحداث الآن على الناس. قد يصعب أن نعطي أمثلة مما يجرى الآن، لكننا نستطيع أن نعطي أمثلة مما جرى في الماضي القريب؛ فقد كانت الشيوعية تحتل في الذاكرة حيزاً كبيراً، فتجد الناس حينما يكتبون إما أن يظهروا أن ما لديهم متميز عما في الشيوعية، أو يريدون أن يظهروا أن ما في الشيوعية هو ما يجر الويلات وغيره.

أما المنبهرون بالشيوعية يريدون أن يظهروا أن آخر ما وصل إليه الإنتاج الإنساني هو التبشير بشيوعية جماعية والانتقال إلى مجتمع الرفاهية، وعندما تقرأ كتاباً يحاول أن يشرح لك الاشتراكية في الإسلام تشعر بشيء من عدم التجانس مع ما تعانيه الأمة اليوم من قضايا، وانشغل جزء من الأمة بمسائل فرعية.
وهناك سوء تقدير كذلك في التعامل مع القرآن الكريم، فالتفاسير عندنا بها العديد من المشكلات، فلو أننا أخذنا تفسير الإمام القرطبي في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِيْنَ} [المائدة: 27].

فتجد القرطبي - رحمه الله - يفتح دفتر الأحوال المدنية لأُمِّنا حواء فيجعلها تلد توأمين، وفي مرة يسمي التوأمين، وكان آدم يزوج كل واحد من غير البطن الذي ولد منه، ثم في قابيل الذي رفض إلا التي ولد معها ويسمي أخته التي يريد أن يتزوجها، ثم يقول: إن الله أنزل واحدة من الحور العين ليتزوجها قابيل، وجعل الله لها - الحور العين - رحماً حتى تلد.

وأنا أتساءل: من أين مستندها؟ والهدف الأساسي في الآيات الخاصة بالصيام الحث على صيام دائم من نوع آخر وهو عدم أكل أموال الناس بالباطل: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيْقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

فهذه الآية لم تأتِ عبثاً في آخر الآيات الخاصة بشكل العبادة، فهناك فسحة ورفع حرج كبير جداً إلى أن وصلنا إلى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ}، فهذا الصيام الدائم هو الذي يجب أن يتدرب عليه الناس في ترك الشهوات. وحينما تقرأ كتب الفقه تجد الأحكام بدون هذه الإشارة، وكأنها منفصلة عنها، وأنا لا أقول إننا قرأنا القرآن عضين ولكننا كدنا أن نفعل ذلك، وهذا من سوء التقدير.

واختصاراً أقول إن هناك سوء تدبير وولوعاً بالتخدير، لكن كيف الخروج من ذلك؟ الخروج يكون بالاهتمام بأصوات الحق على مختلف أشكالها وعلى مختلف ألوانها الثقافية والفكرية والعلمية والإنسانية الموجودة فينا وفي غيرنا؛ فالراشد من أصوات الحق ينبغي أن يحفظ، والقاصر منها ينبغي أن يُرشَّد، والمعوج منها ينبغي أن يُقوَّم والغائب منها ينبغي أن يوجد، وإلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.

المصدر: موقع: ببليو إسلام. نت.

 

ــــــــــــ
[1] نشر ضمن مطبوعات مؤتمر : الأمة وأزمة الثقافة والتنمية، القاهرة، 2004م، من صفحة 265 إلى صفحة 271.
[2] يشير المتحدث إلى الدكتور على ليلة.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


مختارات من الشبكة

  • مستقبل العربية(مقالة - حضارة الكلمة)
  • المستقبل(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • توطيد الأسلمة في أوساط معلمنة: المستقبل مجال الفعل(مقالة - موقع د. محمد بريش)
  • واقعنا بين المستقبل المفقود والغد المنشود(مادة مرئية - موقع د. محمد بريش)
  • صناعة قادة المستقبل(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • استشراف مستقبل الإشراف التربوي(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • في سبيل استشراف محكم لمستقبل الثقافة في العالم الإسلامي (PDF)(كتاب - موقع د. محمد بريش)
  • تأمين المستقبل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • استشراف المستقبل(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • النجاح والتغيير: مفتاح المستقبل(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 


تعليقات الزوار
1- موضوع مفيد
الهم اجزى هذا المتبرع بالصفحة خير الجزاء - مصر 06-01-2012 08:10 AM

نرجو من سيادتكم تقديم المزيد من وافر علمكم الى الطلاب اللذين يحتاجون لهذا العلم وان لم تكونوا تعرفوا قدر القيمة البالغة لهذة العلوم فأبشركم أن جيع دول العالم تطلع وتستفيد واللهم اجعل ذلك فى ميزان حسناتكم

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 14/11/1446هـ - الساعة: 17:59
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب