عشرة النساء (3)

برنامج فقه الأسرة

الحلقة السابعة والعشرون

(عشرة النساء 3)

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمَّا بعدُ:

فمستمعيَّ الكرام، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بكم في حلقةٍ جديدة من حلقات برنامجكم "فقه الأسرة"، وفيها وفي حلقاتٍ تَلِيها نُواصل الحديث - بإذن الله تعالى - عن أحكام العِشرة بين الزوجين، وسبَق ذكر خمس مَسائل، واليوم أشرعُ في المسألة السادسة مستعينًا بالله تعالى.

المسألة السادسة:

لَمَّا كان الاستمتاع بين الزوجَيْن وإعفافُ نفسيهما من أعظم مقاصد الشريعة الإسلاميَّة في النكاح اعتنت الشريعة بهذا الجانب وأولَتْه عنايةً كبيرة؛ تحقيقًا للمصلحة ودفعًا للمفسدة؛ ولذا جاءت النصوص الشرعية مبيحة الاستمتاع بين الزوجَيْن.

ففي القُرآن الكريم قال الله تعالى في صفات من أفلح من المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [المؤمنون: 5، 6]، وقال تعالى: ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ [البقرة: 223]، وقال - جَلَّ شأنُه -: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ... ﴾ [البقرة: 187] الآية.

وفي السُّنَّة النبويَّة:

قال - صلى الله عليه وسلم -: ((استَوصُوا بالنساء خيرًا؛ فإنهن عَوانٌ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتُم فروجهنَّ بكلمة الله))؛ رواه مسلم.

وفي الحديث الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباء فليتزوَّج؛ فإنَّه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرْج))، ولا يكون أحصن للفرج إلا بجماع الزوجة؛ ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم بسنده عن جابر: (إذا أحدُكم أعجبَتْه المرأةُ فوقعَتْ في قلبه فليعمد إلى امرأته فليُواقِعها؛ فإنَّ ذلك يردُّ ما في نفسه)).

وقد شرَع الله ذلك لكسْر حدَّة الشَّهوة وإرضاء الغريزة الجنسيَّة التي أودَعَها الله بني الإنسان من ذكرٍ وأنثى؛ حمايةً للزوجَيْن من الوُقوع في الفاحشة، وسبيلاً لإنجاب نسل طاهر نظيف لم يلوثْ بدنس الرَّذيلة.

وذكر الإمام ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - أنَّ جماع[1] الزوجَيْن يحفَظُ الصحَّة، وتتمُّ به اللذَّة، وسُرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وُضِعَ لأجلها من حِفظ النسل وقضاء الوطر، ونيل اللذَّة، والتمتُّع بالنِّعمة، وغض البصر، وكف النفس، والقُدرة على العفَّة عن الحرام.

بل إنَّ الشرع المطهَّر يسمو بهذه العلاقة الجسديَّة بين الزوجَيْن، ويرفعها من كونها عادةً مباحة إلى عبادةٍ يُثاب عليها المسلم؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ)) قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: ((أرأيتُم لو وضَعَها في حرامٍ أكان عليه وِزْرٌ؟ فكذلك إذا وضَعَها في الحلال كان له أجرٌ))؛ رواه مسلم.

ولَمَّا كان الاستِمتاع بين الزوجَيْن وإعفاف نفسيهما من أعظم مَقاصد الشريعة الإسلاميَّة في النِّكاح جاءت النُّصوص الشرعيَّة مُوجِبةً لحقِّ الزوجَيْن في الاستِمتاع.

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعا الرجُلُ امرأتَه إلى فِراشه فأبَتْ فباتَ غضبان عليها لعنَتْها الملائكة حتى تصبح))؛ البخاري.

وعن أبى هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده ما من رجلٍ يدعو امرأتَه إلى فِراشها فتأبَى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها)).

وعن طلق بن علي - رضِي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دعا الرجلُ زوجتَه لحاجتِهِ فَلْتَأْتِهِ وإن كانتْ على التَّنُّورِ))؛ أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي وغيرُهما.

ولعلَّ من حِكمة التَّأكيد على حقِّ الزوج في الاستِمتاع تحصيل العفَّة وقَضاء الوطَر في الحِلال وقطع السبيل إلى الطرق المحرَّمة، فالشهوة غريزةٌ مُركَّبة في البشر ولا مجال لتصريفها إلا بالمعاشرة؛ ولذا أباح الله تعالى الاستِمتاع بين الزوجَيْن، وقد يكون في امتِناع الزوجة عن تلبية طلب زوجِها تعريض له للمحرَّم.

ولذا فليس من العقل ولا من المصلحة أنْ تمتنع الزوجة عن ذلك حتى وإن كانت ساخطةً على زوجها أو بينهما من الخلاف والشِّقاق شيء، فالاستمتاع حقٌّ مستقلٌّ بذاتِه، ولا يمنع من أنْ تفي الزوجة لزوجها بهذا الحقِّ، وتُطالبه بما لها عليه من حُقوقٍ أخرى كي تطيب عِشرتهما.

وقد ذكر العلماء أنَّ للزوج حقَّ الاستمتاع بزوجتِه في أيِّ وقتٍ وحالٍ، إلا في الأماكن والأحوال التي حرَّمَها الشرع؛ فلا يطَؤُها مثلاً في الدُّبر، ولا يطَؤُها في حال الحيض والنِّفاس، ولا يطَؤُها وهي صائمةٌ صومًا واجبًا، أو تطوُّعًا بإذنِه.

وإنْ كانت تتضرَّر بالمعاشرة في بدنها أو مالها حرُم عليه أنْ يُعاشرها رفعًا للضرر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾ [البقرة: 231]، وهذا في الرَّجعيَّات، فإذا كان الإمساكُ بها محرَّمًا في حال الإضرار، فكذلك الاستمتاعُ بها في حال الإضرار.

ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا ضِرار))؛ [أخرجه الإمام أحمد (5/326)، وابن ماجه في الأحكام باب من بنى في حقه ما يضرُّ بجارِه (2340) عن عبادة بن الصامت - رضِي الله عنه - وأخرجه مالكٌ (2/745) مرسلاً، وللحديث طُرُقٌ كثيرة يتقوَّى بها؛ ولذلك حسَّنَه النوويُّ في "الأربعين" (32)، وابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/210)، والألباني في "الإرواء" (876)].

ومن صُوَرِ تضرُّرها بالمعاشرة:

لو فرض أنَّ المرأة حاملٌ، والاستمتاع بها يشقُّ عليها مشقَّةً عظيمة، إمَّا على نفسها، أو جنينها، أو ما أَشْبَهَ ذلك، أو فرَضْنا أنها أجرت عمليَّةً جراحيَّة، فإنَّه في هذه الحال لا يجوزُ له مُباشَرتها؛ لأنَّه يحرُم عليه الإضرارُ بها، والواجب تجنُّب ما يضرُّ بها.

وكذا لو أشغَلَها عن واجبٍ ضاقَ وقتُه؛ كما لو طلَب منها الاستمتاع وهي لم تصلِّ، وقد ضاقَ الوقت، وكذلك لو شغَلَها عن فرضٍ آخَر غير الصلاة؛ مثل أنْ يمنعها من صِيام قَضاء رمضان مع ضِيق الوقت، وذلك بأنْ يَبقَى من شعبان بقدرِ ما عليها من الصيام.

وكذا لو لحق الضَّرر بمالها؛ كما لو كانت المرأة ذات غنمٍ، وقد ضاعت غنمُها أو هربت، وتحتاج أنْ تلحق بالغنم لتردَّها، وهو يريدُ الاستمتاع بها، فيُقال هنا: لا يجوز؛ لأنَّ فيه إضرارًا بها، (ابن عثيمين).

وكذا لو كانت موظَّفةً وطلب الاستمتاعَ بها في وقت وظيفتها فليس له ذلك؛ لأنَّ الشريعة الإسلاميَّة جاءت برفع الضَّرر.

مستمعيَّ الكرام:

هذا ما تيسَّر ذِكرُه من مسائل العِشرة بين الزوجين في هذه الحلقة، ولنا لقاءٌ - بإذن الله تعالى - في حلقة قادمةٍ نُواصِلُ فيها الحديث عن مسائل العِشرة الزوجيَّة وأهم أحكامها، وسنبدأ - بإذن الله تعالى - بالحديث عن حقِّ الزوجة في الاستمتاع.

نسأل الله تعالى بمنِّه وكرمه أنْ يرزُقنا السعادة في الدُّنيا والآخِرة، ونسأله - جلَّ جلالُه - أنْ يهب لنا من أزواجنا وذريَّاتنا قرَّة أعيُن، إنَّه سميعٌ مجيب.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.