أريد أن أنسى آلامي وأتخلص من الماضي

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فلا أعتقد أن الكلمات ستسعفني في التعبير عن المشاركة الوجدانية لمعاناتك، ولكنْ عزاؤك أن الله سبحانه وتعالى مُطلِعٌ على تفاصيل ظروفك، ومقدار معاناتك وآلامك، فأسأله سبحانه وتعالى أن يفرج همَّك، ويرفع ضرك، وأن يُعوِّضك في قادم حياتك ما تقر به عينك.

قد يتعرَّض الإنسانُ لظروفٍ قاسيةٍ ومؤلمة تزداد قسوة وألمًا إذا كان مصدرُها أقرب الناس، ومنبع الحنان والعطف والحماية، وأعني بذلك: الوالدين، وقد يواجه الإنسانُ أيضًا جفوةً وظلمًا ممن تربطه معه رابطة الأخوة والصداقة، فيشعره ذلك بالنبذ والدونية وفقدان الثقة، وكل هذه الظروف العصيبة تفعل فعلها في نظرة الإنسان وتقديره لذاته.

يبدو مِن وصفك أنك لو التفتِّ يمينةً ويسرة فلن تجدي إلا ما يزيدك تحطيمًا لذاتك وكرهًا لها، ولكن ألَمْ تُجَرِّبي أن ترفعي رأسك إلى الأعلى؟! فسوف تجدين ما يثلج صدرك.

لقد كرَّم الله بني آدم، وزاد المؤمن كرامةً، وقد جعلك مِن خير أمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهل هذا التشريف وتلك الكرامة والمكانة العالية يمكن أن تمسَّ أو تتأثَّر بقسوة تعامل الوالدين، أو سوء تصرفات الأصدقاء؟!

بلا شك أنَّ الإنسان ببشَريَّته يُؤثر ويتأثر بتصرُّفات مَن حوله ونظرتهم له، لكن ما قصدته أن عليك أن تتذكري أنك مهما أحسستِ بهوانٍ وذلٍّ ونبذٍ، فتذكري أن الكرامة الحقيقية والأساسية هي أن تكوني كريمةً عند الله، وكل الذي فوق التراب تراب، فإذا استحضرتِ مثل هذه المعاني النبيلة أصبح لديك شعورٌ جميل بالعزة والكرامة يُقلِّل من حساسيتك المفرطة مِن نقد الآخرين، ويجعلك أيضًا تنظرين إلى الحياة بمنظارٍ إيجابيٍّ فترين كل ما حولك جميلًا حتى ما تُواجهينه مِن مصائبَ سترينها تحديات تحاولين تجاوزها، وسترينها عقبات تحاولين تخطيها، وسترينها ابتلاءات مِن الله ليرى كيفية تعاملك معها.

لقد ابتُلي حبيبك صلى الله عليه وسلم بأشد البلاء، أتعلمين ممن؟ مِن أقرب الناس إليه؛ مِن قومه، فبدلًا مِن أن يتبعوه ويُفاخروا الناس به - فهو سيدُ الأولين والآخرين - ضيَّقوا عليه، وضربوه وجرحوه، وسبُّوه وطردوه، ومع ذلك يقول: ((اللهم اغفِر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))، فصلى الله عليه وآله وسلم.

‎لقد اشتكيت كثيرًا مِن فقد الحنان والعطف ممن حولك، ويحق لك ذلك ولأيِّ إنسان؛ صغيرًا كان أم كبيرًا، لكن طريقة الحصول عليه - أعني: الحنان - لا تكون بالاستِجداء؛ لأن هذا الحنان إن توفَّرَ من الآخرين بطريقة الاستجداء فسيكون مصحوبًا بالشعور بالذل والهوان وتحقير الذات، وبما أنك قد تجاوزت فترة المراهقة، فطريقةُ حصولك على الحنان والتعاطف من الآخرين هي بمنحها لهم.

إنَّ الباذلين للحب والرحمة للآخرين يجدون لذة ذلك، فجربي أن تزوري مثلًا دارًا للأيتام، وتذكري ما مررتِ به في مثل أعمارهم مِن قسوة من أبويك، وهؤلاء الأيتام قد فقدوا الأبوين أصلًا، فامنحيهم عطفك، أو شاركي مثلًا في دار لتحفيظ القرآن لصغار السنِّ، واصنعي نفس الشيء، فستجدين شعورًا لا يُوصَف فجربيه بنفسك.

‎مِن الأساليب التي يمكن أن تُحدثَ تغييرًا كبيرًا في حياتك النفسية والاجتماعية، ويستفاد مِن تجاربك السابقة: ألاَّ تعتقدي أن كل ما حصل من مشكلات سواء مِن قِبَل والديك أو صديقاتك أنها بسببهم هم فقط، بل راجعي نفسك؛ فحتمًا ستجدين أن لك دورًا في ذلك، فالتعامل مع الآخرين يحتاج إلى مرونة وتغافل عن الزلات أحيانًا، كما يتطلب أيضًا قبول الآخرين كما هم بما لديهم مِن قصور، وتطبيقُ هذه الأساليب يتطلب تغييرًا مِن قِبَلك قبل إلقاء اللوم على الآخرين؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].

إنَّ مما يُساعدك في إصلاح علاقتك بالآخرين أن تَقرئي عنْ كيفية بناء علاقات اجتماعية ناجحة، أو طرُق فاعلة في التعامل مع الآخرين، وأن تقومي بتجربة تطبيق الأساليب التي ذكرتها في التعامُل مع الآخرين، وستقابلك بعض الصعوبات لأنها تُخالف بعض سمات شخصيتك التي نشأت عليها، ولكن ستجدين مِن ردة فعل الآخرين وارتياحك في العلاقة ما يُعزِّز هذا الأسلوب، وشيئًا فشيئًا تتكيَّف شخصيتك مع هذه الطريقة.

وأخيرًا، اعلمي أن المؤمنَ مُطالَب بالصبر مع حسن الظن والرجاء، فلا تظني أن الله حين قدَّر على عباده البلاء إنما قدره ليضيق عليهم، بل على العكس مِن ذلك فقد قدَّره ليرفع الدرجات ويكفر به السيئات، قدَّره ليفتح لهم أبوابًا ما كانتْ ستُفتح لولا ذلك، قدَّره ليسمع أصوات مناجاتهم، ويكفي بذلك شرفًا.

أسأل الله أن يفرج همك، ويصلح حالك، ويرضى عنك ويرضيك